حفلة استِقبال
صباح النوري ولا صباح الخوري، هكذا قال فارس آغا حين التقى بخوري مسرح وهو راجع من جونيه إلى مركز جبيل. أما الخوري فقال ما قال، كما جاء في الفصل الأسبق.
فنهض الرجال الثلاثة، ووقفوا في وجه الفرس فمالت عنهم، وقبل أن يسألهم الخوري عمَّا يبغون أحاطوا ثلاثتهم بالفرس يتأملونها، فقال واحد منهم: صقلاوية.
وقال الثاني: معنَّقية.
وقال الثالث: الحق مع الذين قالوا إنها أصيلة من سلالة كحيلة العجوز. قد وجدنا غرضنا، ولكن الأوفق أن نتابع طريقنا حتى لا يطمع فينا.
والتفت قيدومهم إلى الخوري وقال له: لا تؤاخذنا، ألهتنا كحيلتك يا شيخ، فتحدَّثنا معك بلا سلام ولا كلام. كيف حال جنابك يا شيخ؟ ومن أين أنت قادم من غير شر؟
فقال خوري مسرح: من جبيل، غدوت من جبيل على أمل أن أقدِّس في بكركي.
فهزَّ أحدهم برأسه، وقال: لا تؤاخذنا يا محترم، خمَّناك من مشايخ اللقوق. هل تعرف الخوري … الخوري … الخوري؟
فقال الثاني: يوسف، وغاب عنه ما بقي، فأدخل الثالث يده في عِبِّهِ، وأخرج دفترًا صغيرًا قرأ فيه: الخوري يوسف مسرح في عين كفاع بيته في نِصفِ الضيعة حد الكنيسة.
فبشَّ لهم الخوري، وحاول أن ينزل عن سرج الفرس، ولكنهم تعلَّقوا ثلاثتهم به: هذا بيده وذاك برجله، وأقسموا ألَّا ينزل.
قال الأول: لا تكلِّف نفسك، نحن نريد منك سؤالًا وجوابه. هل تعرف الخوري مسرح.
فضحك الخوري وقال: وصلتم، أنا هو خوري مسرح.
فالتفت واحد إلى رفيقيه وقال: يا سبحان الله! قلبي دلَّني، وقال لي إنه خوري مسرح.
– نعم يا أولادي، أنا هو الخوري مسرح بعينه. ماذا تريدون؟ ومن أين أنتم؟ عرِّفونا بحضرتكم.
فقال الثاني: وأنا أبصرت في نومي أنني التقيت به اليوم، ونسيت أقول لكم.
فقال الخوري: ما عرفت بعد ماذا تريدون منه.
فقال الثالث: نريد منك … إذا كنت تريد بيع فرسك؛ فهذه الكحيلة الأصيلة مطلوبنا.
فقال الأول: هذا مفهوم في شريعة الخيل الأصيلة، بقي أن نعرف الثمن.
فابتسم الخوري وهشَّ وقال: ادفعوا لي مبلغ ثمانمائة ليرة عسملِّيَّة ثمن ثلاثة أرباعها.
فقال الثاني: هذا كثير، ما معنا إلَّا أربعمائة.
فكخَّ الخوري، وقال بهزء: خيِّطوا بغير هذي المسلَّة، ما معكم إلا أربعمائة! الذي يريد أن يقتني فرسًا ستها كحيلة العجوز، يجب أن يكون معه ألوف.
فقال الثالث: وأنا معي مائة ليرة فما قولتك؟
فضحك الخوري ضحكته الاحتفالية الصارخة، وقال للرجل: اثقبها واعمل منها رشمة لسعده إذا اشتريتها، أما الثمن فلا ينقص بارة.
فقال الرجل: بلا طول سيرة، هل تبيعها يابونا بسبعمائة؟
– لا. لا. ادفعوا لي سبعمائة وخمسين وما بعتها.
– وإذا دفعت لك سبعمائة وخمسة وسبعين ألا تعوِّضنا البركة؟
– لا يا ابني لا.
فقال رفُّول: بيعها يا خيي خوري يوسف. بيعها قبلما تموت مثل أمها. أولادها ثلاثة خلفها وهي حامل.
فصاح به أخوه الخوري: اسكت يا بهلول؛ أمي خلَّفتك قبل الوقت فطلعت نصف مجذوب.
فابتعد رفول عن مرمى الكرباج الذي بيد أخيه، ووقف ليقول للثلاثة: روحوا يا عمي روحوا، هذي فرس تكدش وتلبط وتنام تحت خيَّالها.
هذا فصل من فصول مهازله؛ فهو لم يبع من خيله لا فرسًا ولا مهرة ولا مهرًا. كان يثمِّنها كما يبدو له أنها تساوي، ولا يبيع قط، حتى قال فيه شاعر عامي:
وعرف الناس فيه هذا الضعف فكانوا يهزءون به كلما مرَّ بخيله على سيف البحر.
•••
قد تقول: وما قيمة خروج قرياقوس من الحبس؟ وهل قرياقوس نابليون العائد من جزيرة ألبا؟ ولكن العجب يزول حين تعرف نفسية القرويين في ذلك الزمان، أما اليوم فيدخل أحدهم السجن، وكأنه مدعو إلى حفلة تكريم … صاروا يقولون: الحبس للرجال، وقتلة الرجل عندهم كشربة الماء. كان البطل يقتل واحدًا بعد ألف جهد، أما اليوم فصار النذل الجبان يقتل الناس بالجملة، ولا يكلِّفه ذلك من العناء أكثر من هز يده ورمي قنبلة خفيفة لطيفة.
وتحسَّب الخوري لأمر يأتي، فأرخى لفرسه العِنان، فتمسك بعرفها كأنه من خَيَّالَةِ العرب، أو شيخ من فرسان اللقلوق، كما أراد أن يوهمه أولئك الثلاثة، فطلعت الفرس في ميدان دلَّ بعض الدلالة على أصلها الذي كان قد تبجَّح به الخوري، محاولًا أن يدل على الأوسمة التي يتخيلها في جلدها.
لا تستغرب كلمة نياشين؛ فالخيل الأصيلة تعلَّق لها الأوسمة وهي في البطن، وليست تتوسل للحصول عليها بإرضاء الوزراء والرؤساء كما يتوسل الناس. وسامات البشر عارية تشك بدبوس، ونياشين الخيل المعقود بنواصيها الخير، تدل عليه هذه النياشين وهي ثابتة في جلدها لا تزول.
لم تقف الفرس إلا على معلفها قدام باب حارة الخوري الذي وصل مكشوف الرأس؛ لأن طربوشه علق بذيل زيتونة، ولم ينزل يلمه خوفًا من أن يحيق به المتربصون.
وبعد غيبة قصيرة رجع يوسف بذاك الطربوش الطويل العمر سالمًا. لقد أعطينا هذا الطربوش بطاقة هوية تظهر شكله، وأصله وفصله، في الفصل السابق. ومن أهم ميزاته: أنك تحسب دائرته مطينة بتربة رصاصية اللون، كالأوحال التي تخرج من بئر الخوري في تشرين قبل استقبال مياه الشتاء الجديدة التي تستقر في الصهريج ممزوجة بالحوَّارى.
وأقبول الموالون للمحترم والتفوا حوله يدعون له بالنصر وطول العمر؛ لأنه رفع رأسهم، وشال الزيز من البير، ودعس رقبة الآغا نصير خصومهم.
وأخيرًا طلَّ القميِّر، وصل قرياقوس وهو يهدج كالقنفذ، وأطلق صوته العريض وكركر في قهقهته القردية، فتطايرت شظاياها من زوايا البيت الأربع، فاستفز الآخرين الذين كانوا يسرقون الحديث ونَوَوْا على الشر.
وبعد التحيَّات الحارَّة وبث الأشواق في سهرة طويلة الذيول، شجونية الأحاديث، انصرف الناس من عند الخوري الزعيم، القليل الاحترام، فاندسَّ في فراشه. وما هدأت الرِّجْل وغفا حتى استيقظ على طقطقة حجارة، تسقط على القرميد كأنها تكركر في الضحك.
بيت قرياقوس بعيد، وهو في منحنى، يشرف عليه من موقع استراتيجي بيت طنوس فارس خصم الخوري مسرح وقرياقوس. كان جيران الخوري أعداء له، وهو غريب غير أديب، وليس له بينهم نصير، فإلى أين المفزع؟ إذن فليصبر حتى تحلَّ الأمور بعضها. إلا أن الحل لم يكن في جانب الخوري، فهاهم يحاولون فتح الباب.
قال الخوري في نفسه: إذا صرخت هاجموني وأطبقوا عليَّ، ومَنْ يعلم ما تكون النهاية؟ فأقرَّ أن يتركهم يفعلون ما يشاءون.
ها هم قد دخلوا البيت فرأوا الخوري جامدًا منتصبًا في وسط غرفته كالشبح، فقال له أحدهم: يا لحية الكلب من الذي دعاك لمساعدة قرياقوس علينا. خذ هذي تنفعك، وهذي تضرك … والخوري ككل ضعيف كان يودِّع الضربة الرائحة بكلمة آخ، ويستقبل الآتية بصبر وجلَد، وهو صامت كالسمكة، وكأنه يعمل بقول سيده يسوع المسيح: من ضربك على خدك الأيمن فحوِّل له الأيسر.
وأخيرًا سال الدَّمُ من أنفه، فظنَّ أنهم أصابوا منه مقتلًا. وهاله مشهد الدم، فصرخ، فانهالت عليه العصي كندف القطن، واحدة طالعة وواحدة نازلة؛ وهكذا دواليك.
وما انفكُّوا عنه حتى سمع الجيران خوار الخوري، وأقبلوا على الصوت؛ ففرَّ المعتدون كل واحد إلى بيته، ومنهم من لم يفرَّ، بل خرج من الشباك ليعود من الباب مع القادمين يسأل ما الخبر؟ …
– سلامتك يا خوري يوسف. بسيطة إن شاء الله.
وجاء جار الرضا جرجس طنوس، ولما رأى الخوري مدمى أسرع وجاء بالإبريق ليغسل جُرحه وينظِّف لحيته التي صارت قرمزية، فقال له الخوري: ابعد، خلِّ الدم، هذه شهادة لا تُرَدُّ، واللهِ لأجرُّهم كلبًا خلف كلب إلى بعبدا بخيط قطن.
وحاول بعضهم أن يردُّوا الباب إلى ما كان، فصاح الخوري: لا، لا، اتركوه على ما هو. ثم صرخ: رفُّول أسرج الفرس والجمها حالًا.
فقال رفول بلهجته الرخوة: إلى أين من غير شر؟ ما طلع علينا الضو بعد!
فقال الخوري لأخيه المعتوه: ما سمعت الخبيط والضرب والقرقعة!
– لو كنت سمعت كنت قمت.
– بلى سمعت، ولكنك فزعت وربما قضيتها في الفراش … أسرج الفرس والجمها حالًا.
فصاح رفول: الفرس هلكت من التعب. ريِّحْها يا خوري يوسف.
– الفرس أعز مني يا جحش! قلت لك شد على الفرس.
وأخذ الخوري يلبس ثيابه، وهو يوصي جاره يوسف زغنا أن يجعل عينه على البيت دون أن يدخل ولا يغير شيئًا من الأواني، بل يتركها مبعثرة كما هي.
وكانت كلمة رودس محط كلام الخوري، وكلما غاظه أحد تهدده بالسركلة — النفي — إلى رودس، وأبى سركيس الكريدي الذي كان مارًّا على الطريق، إلا أن يرد على التحدي فقال للخوري: هذي كلمة سمعناها كثيرًا من بوزك الطاهر يا ذقن التيتي.
فأجابه الخوري وهو يتراجع ليتوارى خلف الباب: هذي المرَّة من جد يا سركيس.
فأجابه سركيس: يا هم أنفه من هدير البحر. هات ما عندك. أنت تشتكي للحكومة وأنا أحكِّم العصا في رقبتك في ساحة مار صوما. خوري يوسف إذا كان جلدك يرعاك رح تشكي.
واستيقظ من بقي نائمًا من أهالي عين كفاع، وتجمَّع هناك أعداء الخوري قبل أنصاره، وكان مجيء بعض هؤلاء لنفي الشبهة عنهم.
كان التحقيق في عليَّة الخوري، ومستودع الموقوفين في قبو معصرة الزيت الذي تحتها. وأخيرًا انتقلت المحكمة إلى الكنيسة، واستحال القبو الذي تجاهها حبسًا للموقوفين على ذمة التحقيق، فأوقف أكثر الذين حقق معهم الضابط، رئيس الكتيبة …
وكان الكريدي أول الموقوفين: فوصلت إلى أنفه رائحة الخمرة، فهتف بالضابط: دخيلك يا خليل بك كباية واحدة واحبسني شهرين …
وبعد تلك السكرة كانت التطبيقات دائرة، فجمع أخصام الخوري للقوة خمسين ريالًا مجيديًّا عدا البشالك والزهراويات، وأخذوها على شرط أن يكون التحقيق كما كنا نتهجى صغارًا: ألف لا شيء عليه، والباء نقطة من تحت. أي إن كان ولا بد من سوق أحد إلى حبس غزير؛ فليكن الكريدي الذي ألف ذاك المكان، وهم يقدمون له مصروفه حتى العرق والنبيذ. فالكريدي رجل عزب لا خلفه ولا قدامه.
وقبل الانصراف اجتمع قائد الفرقة بالخوري يوسف، وقال له: أنت رجل دارس الشريعة، وتعرف قانون الجزاء بالتمرين، لا شاهد يمكننا الاعتماد على كلامه حتى نسوق هذا الجمهور إلى سجن بعبدا، كما أوصى أفندينا، نصره الله. ومع ذلك حتى لا نذهب بلا أحد نأخذ الكريدي؛ لأنه مشهود عليه أنه حكى كم كلمة.
فقال الخوري: الكريدي هذي المرة بريء، والمجرم طنوس فارس.
فأجابه الضابط: ربما كان طنوس فارس مجرمًا، ولكن لا شهود عليه، فلا يمكن تكتيفه وأخذه إلى ذلك الجانب حسب أمر سعادة القائمقام.
ولما يئسَ الخوري من الضابط ركب الفرس كعادته، وسبق العسكر إلى المركز المتصرفي يشكوهم ويجرح تحقيقهم.
وما خرج الكريدي من القبو وشدَّ كتافه حتى سمع يقول: هنيئًا للمتهم وهو بريء، ثم صرَّ أصابعه، وأومأ إلى الخوري يوسف متهددًا.
فأجاب: أحسن من أن تكون بيضا ولا تحمل الوسخ.
وفيما هم يتناقشون أطلَّت دابَّة الآغا من رأس العقبة، وقد انتصب ميزان أذنيها حتى صار القب على العاتق، فقال الخوري حنا صادق: يخطر ببالي أن أطلب نقل عين كفاع إلى غزير، ونقل مركز القائمقامية إلى عين كفاع. كل يوم عسكرية، كل يوم مذكرات جلب ومذكرات إحضار، لا يروح غاوٍ حتى يجيء مشتاق.
ووصل الآغا وأحكم وقفته ليؤدي التحية للضباط بإجلال ووقار، وردَّت الأنفار التحية، فتقنفش الآغا في الساحة كالديك الرومي يلقي نظراته على الأهالي إذا كانوا لحظوا ذلك المجد، وتلك الأبَّهة، وإن تلك التحية هي للآغا لا لغيره … وعلى الأثر مشت الفرقة تسوق الكريدي؛ فابتسم فارس الآغا ابتسامة صفراء داكنة، وهزَّ برأسه.
وقال له أحد أصدقائه: ما رأيك؟
فأجاب الآغا: أيش هو رأيي؟ ثم عرَّض صوته وفخَّم ألفاظه، وقال: المشترع ما اعتمد على ملحوظات الأونباشي، المأمور المحلي، إلَّا لسبب وجيه لا يعرفه إلا الراسخون في العلم، فعسكر المتصرفية أو خيَّالة القائمقامية اسم يفزِّع، أما الحقيقة فهو لا شيء. نحن نعرف الناس في بلدتنا حلةً ونسبًا ولا يضيع ظننا أبدًا، أما هؤلاء فمن يعرفون! يه، يه، يه. فرقة عسكر تأخذ سركيس الكريدي! ثم راح يخبط على فخذيه بيديه الثنتين، ويقول: كل عمري أكربله وأمشيه قدام الدابة مثل التوتو … ولكن خوري مسرح أراد أن يكبِّرها فصغَّرها.
فقال له الخوري: وأنت يا آغا، الله يعطينا خيرك اليوم.
فأجاب: ابن حكومي ومعه خير للناس! صدرت الأوامر بتحصيل مال الميري وجينا نبلغكم.
وقام إلى أنبوبة صنعها من تنك ليلفَّ فيها الأوامر الحكومية، وأخرجها من الخرج، وأخرج منها أمر المدير، وبلَّغه لشيخ الصلح، ثم علَّق على ذلك بقوله: عليك يا شيخ أن تبدأ بتحصيل الميري وتسدِّدها في ظرف شهر.
وهذا الاستعجال بقصد منه أن تقبض الضرائب قبل أن تنظف جيوب الأهالي، مما قبضوا من ثمن شرانقهم! وغب مرور نصف شهر يستحق سند الحكومة على الأهالي، فيأتي فارس آغا وفصيلته للتحصيل الإجباري. أما كيف؟ فللبنان شريعة خاصة لا ندركها ما لم نعرف الضرائب المفروضة على المواطن، والتي لأجلها ولأجل شيء آخر، قيلت الكلمة المأثورة: هنيئًا للذي له مرقد عنزة في لبنان.
وفيما كان الآغا يحدِّث بعض الأهالي ويجاوب على سؤالات البعض الآخر بلطف وإيناس قال واحد: يا ألف صلاة وسلام على فارس آغا، فارس آغا ما مد يده لأحد. العسكر الغريب ضربة، وخصوصًا إذا كان من الدراغون …
وتنحنح الآغا وسعل، ثم تعالى على كرسيه وتمثل: زوان بلدك ولا القمح الصليبي. نحن منكم وفيكم؛ وإذا تشددنا مرة فلأننا مثل الوتد: قال الحيط للوتد لماذا تشقُّني، فجاوبه: اسأل الذي يدقُّني.
ابن الحكومي مثلي عليه أن ينفذ أوامر أفندينا، كما علينا أن نترفق برعايانا ما قدرنا. فهمت يا طنوس؟ إذا ذكرتني ثاني مرة مع هؤلاء الأغراب، فقل: بعيد الشبه. أنا معروف ابن مَن ومِن أي ضيعة، أما هؤلاء فمن يعرف قرعة جدهم من أين؟! ومع كل تصرفنا الطيب لا نعجب قرياقوس.
فضحك قرياقوس ضحكة، لا هي كبيرة ولا هي صغيرة، وقال: لنا دالة عليك يا سيضنا (يا سيدنا) الآغا.
فأجابه الآغا: عسى ألَّا يكونوا ضايقوكم.
فقال قرياقوس ممازحًا الآغا: طبعًا أنت أرحم منهم، وإن كان فيك البركة.
فنهض الآغا، وقال وهو يفك رسن دابته: الملتقى يا قرياقوس في أوائل تموز، يوم تحصيل الميرة. استعد، هَيِّئْ حالك. ثم مشى وهو يودع قرياقوس بجميع أصابعه، ويده على قفاه.
أما قرياقوس فلوَّح بكف كالمدرى، وعرَّض صوته وصاح: يا مرحبًا بك كل ساعة. أي وقت تريد أنا بين الأيادي.
فأجاب الآغا، وقد أدرك التحدِّي: نحن رجال الحكومة يجب أن نكون واسعي الصدر لنمثل الراعي الصالح، ولا تنسَ يا قرياقوس أني أهجم على طابور، وأني أنا وحدي وقفت بوجه عسكر مولانا السلطان، ومنعتهم من تخطِّي حدود الولاية، ودخول فرن الشباك، والمرور في أرض لبنان بدون إذن. لا تنسَ أني أنا فارس آغا طوَّعت الفارِّين من وجه الحكومة وسلمتهم لأفندينا، خاضعة رقابهم، وعيونهم في الأرض.
ثم استراح قليلًا، وعاد يقول: ضحكنا لك يا قرياقوس فصدَّقت، وجررت سلاحك علينا. يفرجها الله يا قرياقوس. الآن «محضورة» والملتقى كما قلت لك، وفي هاتيك الساعة تُعرف القرعا من أم قرون.
وانصرف الحاضرون، وهم يرددون بينهم: قرياقوس رجَّال، جاوب الآغا.