توزيع المِيرَة
أما الضجة الكبرى فكانت تقوم حول راتب الناطور؛ لأنه من النادر جدًّا أن يعيَّن ناطور باتفاق عام، فكأن عصا الناطور في القرية صولجان احشوروش.
إن ميرة لبنان في عهد المتصرفية كانت ذات رقم معين لا يزيد ولا ينقص، وفي مراكز القائمقاميات سجلات مُدَوَّنَةٌ فيها أرقام مال الميرة مفصَّلة، فمال الأرزاق لا مجال للبحث فيه؛ لأن العقار يظل حيث هو. أما مال الأعناق فيوزع على الرءوس التي عدَّت سنة الستين، فالمال المفروض يظل هو إياه؛ ولهذا تختلف الفريضة بحسب السنين، فإذا كثرت الوفيات في قرية ما، فعلى الأحياء الباقين أن يدفعوا الميرة عن الذين ماتوا، وإذا ما زاد عدد الأحياء نقصت الفريضة. وهناك مال الربع المجيدي، فهذا يجبى مع التسعة قروش صاغ إلا ربعًا، ومال الميرة يجبى على حساب أن الليرة العثمانية الذهبية تقوم بمائة قرش صاغ، بينما هي في البندر بمائة وأربعة وعشرين قرشًا وخمسة وعشرين بارة (القرش ٤٠ بارة). والليرة يختلف سعرها في كل قضاء من أقضية لبنان السبعة المستقل كل منها استقلالًا داخليًّا، وإذا سألت ما هذا الربع المجيدي؟ أجبناك أنه مال فرض على الأهالي، وهو مخصص لإصلاح الطرق العامة وترميمها. وهناك أيضًا مصارفات عسكرية تُضَافُ إلى حساب الميرة؛ لأن الشيخ يطعم هؤلاء الجباة، ويسقيهم أثناء مأمورياتهم العامة، ويقيِّد ما ينفق على حساب الضيعة. فإذا كان من أصحاب الضمير الحي سلمت الجرة، وإلَّا فإنه يعلق الشر وتخطب العصي، وهناك أيضًا اشتراك الجريدة الرسمية، وغير ذلك من النفقات، كالإعانات في سني النكبات.
كل هذه الأموال والنفقات تدخل في حساب الميرة؛ ولذلك كان يوم توزيعها يومًا مشهودًا في كل ضيعة، وترى كل واحد من القارئين والكاتبين يحمل لائحة؛ ليدقق مع المدققين في هذا الحساب العظيم … وكثيرًا ما تقوم قيامة الضيعة بسبب زيادة بارتين على الرأس أو على الدرهم.
إن أول ما تفتتح به الجلسة هو إحصاء الأحياء من ذكور الضيعة، الذين يتراوح عمرهم بين الخمس عشرة سنة والستين، ثم ينظر في رقم المال المقنن، ويقسم على الحاصل من عدد الرءوس.
ورُبَّ قرية نمت وتكاثر سكانها بعد إحصاء سنة الستين لا يدفع الرأس من أهلها إلا ربع التسعة إلا ربعًا أو أقل، وربَّ ضيعة أخرى قلَّت مواليدها، أو أصابها وباء كالجدري وغيره؛ فكثرت على أثره الوَفَيَات، تضاعفت فيها الفريضة. وأعرف مزرعة دفع ثلاثة من الأحياء فيها عن جميع موتاها.
إن من قرأ رواية النفوس الميتة لغوغول القصصي الروسي يكوِّن فكرة عن خطة الجباية في لبنان المتصرفية.
وكانت الحكومة تجمع الميرة في أول الصيف، أي: بعد موسم الحرير؛ لأنه الزمن المناسب للدفع، وإذا كانت المواسم غير مقبلة أو ماحلة لاقت الحكومة مصاعب جَمَّةً حالت دون التحصيل، واضطر الضابطية إلى القسوة والضرب الموجع والحبس موقتًا في أقبية البقر وحجز الفرشات، وبيع الطناجر بالمزاد لتحصيل المال الذي يسدد معاشات المأمورين كما سترى.
وتذكَّر قرياقوس أن الأحد هو موعد توزيع الميرة، فذهب إلى الكنيسة مع الصبح قبل قرع جرس القداس، وقعد في لحف سنديانة الكنيسة ومعه أوراق اعتماده … كان يقلِّب تلك الأوراق التي يعرفها من شكلها الخارجي ويحدِّث نفسه: هذا كوشان عام أول، وهذا وصل السنة التي قبله، وهذا علم وخبر بالأموال الزائدة عن المال الأصلي.
قد تقول: وما هو المال الزائد عن المال الأصلي؟ هو مال المصارفات والإعانات الذي لا يذكره شيخ الصلح في الكوشان؛ الوصل.
قال قرياقوس حين رآه: هذا هو، وظني في محله. وبعدما قذف ألف مسبة في بطنه صاح: يسعد صباحك من الله يا آغا.
فهتف الآغا: احكِ الصحيح يا قرياقوس، ماذا قلت في قلبك؟ ما قلت يا صباح الشوم صبحتنا اليوم!
فغمز الآغا بطرف شفته العليا، وأخذت عروقه تضرب، وزوى عينه اليسرى وقال: وأنت يا قرياقوس أي خازوق دبَّرته لميرة هذه السنة؟ ففي كل عرس لك قرص.
– العلم عند الله يا آغا، الظلم ما حبه الله، والضحك على الذقون مبغوض، والفلاح مثلنا فقير، والحاكم مثل حضرتك عليه لا معه. كل يوم بلصة، ناس تأكل الدجاج، وناس تقع في السياج. نحن صرنا مأكلة للحكام.
فتقنفش الآغا حين سمع كلمة حاكم وحكام وتواضع لقرياقوس، وقال له: احكِ، خذ حريتك.
فقال قرياقوس: يا آغا، أنا لا اعرف لماذا لا تحب قرياقوس؟ مع أن ضيفي مقرى، وعسلي أحسن عسل في هذه البلاد، ما عدا العاقورة، وكيسي فيه ما أحتاج إليه لتنفيذ مشاريعي …
فابتسم الآغا حين سمع كلمة الكيس، وترجَّى الخير، وفكَّر بهذه المناسبة أن يراود قرياقوس عن سطل عسل، وحجته أن العسل الأسمر موصوف له، وهو صحي أكثر من عسل الجرد الأبيض.
وأتم قرياقوس: وأنا رجل مشاغب في ضيعة تنساق مثل المعزى، وهي مقسومة قسمين، وكل قسم أقسام وإن حشرتني قلت لك: كلُّهم دجاج مناقيرها بولاد … سألتني ماذا هيأت لحفلة ميرة هذه السنة؟ تفضل حط عويناتك واقرأ.
قال هذا وأخرج من ضبوته مجموعة أوراق، وانتقى من بينها واحدة قرأ فيها الآغا ما يأتي: حضرة …
فصاح قرياقوس: جلِّس عويناتك مليح، نسيت الأجلُّ الأمجد.
تناولت بيد الأكرام خطابك اللطيف، الذي طلبت به منَّا علمًا بالأموال التي وضعت في الأصل على قريتكم عين كفاع، ومساحة أرزاقها وعدد مكلفيها، ومقدار الأموال الموضوعة على الأرزاق والأعناق … إلخ، فأجيب حضرتكم:
إني بحثت في قيود خصوصية للمرحوم والدي أيام كان موظفًا في بلوك — هيئة — مساحل جبل لبنان؛ فتبين أن مقدار مساحة أرزاق عين كفاع قيراط ٤ ودرهم ١٠٣، وعدد المكلفين ٦٤ مكلفًا. وضع على الدرهم ٢١ قرشًا، وعلى المكلف ثمانية قروش وثلاثة أرباع القرش صاغ المجيدي؛ فعلى هذا الترتيب يكون مال أرزاق وأعناق قرية عين كفاع ٢٧٢٦ ونصف القرش عملة صاغ. مع العلم بأن درهم المساحة ٢٤ قيراط، والقيراط ٢٤ حبة.
٢١٦٦٫٥ | مال أرزاق عن قيراط ٤ درهم ١٠٣ |
٥٦٠ | مال الأعناق ٦٤ مكلفًا |
٢٧٢٦٫٥ | يكون |
أما مال الطرق فيطلب من المكلف سنويًّا ربع مجيدي، وأحيانًا نصف مجيدي حسبما يقرر مجلس إدارة جبلبنان.
ودمتم محترمين.
فانتفض قرياقوس وقال: هذا كشف! هذا مكتوب. الكشف يبتدئ بحضرة الأجلِّ الأمجد، يا آغا! فقال الآغا: وكيف حصلت عليه؟
فأجاب قرياقوس: الله لا يخلي الدنيا من الصلَّاح والذين يساعدون الفقير. عباس أفندي ابن أصل، والفضل للحق.
فضحك الآغا وقال: والعسل يا قرياقوس، فكَّاك المشاكل.
فقال قرياقوس: لا يا آغا، عباس أفندي لا يتبرطل، وإن كان العسل يطرِّي جميع القلوب …
وبينما كان الآغا مرتاحًا إلى مراودة قرياقوس عن العسل وملحقاته، أطل المختار أرسانيوس المكلف بتوزيع الميرة وجمعها.
وفيما كان الآغا والمختار يتبادلان التحيات ويبثَّان الأشواق مرَّ بعض صبيان القرية، فرأوهما في تلك الحماسة، فانتشروا ينشرون الخبر: جا، جا الآغا، ومعه عسكرية … فتوارى عن العِيان كل مطلوب من الحكومة، ولو لأمر تافه.
إن أهل القرى متى وقع الخصام يكونون على حذر، وهما فريقان دائمًا: فريق يحذِّر، وفريقٌ يدلُّ بحسب الهوى والمآرب، ولما علموا أن الغاية من قدوم العسكرية هي توزيع الميرة قبل القداس، لبس الناس ثياب الأحد من البابوج إلى الطربوش، وأخذوا يتوافدون وفي رأس كل منهم كلمة يريد أن يقولها في المجمع، شأنهم شأن النواب في الجلسات الحامية.
ودخل قرياقوس إلى الكنيسة بخفة الغزال، وإن كان هيكله هيكل دب، ثم عاد يحمل كرسيًّا هو من أتراب كنيسة عين كفاع الدهرية.
وجلس الآغا على كرسي مجده يلوِّح بكرباجه تارة، وحينًا ينقر به على جزمته، وأقبل الناس عليه مسلِّمين واحدًا إثر واحد، فكان يسلِّم على هذا غير مكترث، وعلى هذا بنصف بسمة، وعلى الآخر بربع أو ثلث. كان يوزع تحياته على كل واحد بمقدار أهميته: بو يوسف أهلًا وسهلًا! بو أنطوان كيف حالك؟ … كان إذا أقبل للسلام عليه مواطن ضعيف، صافحه بسرعة سحرية وسحب أصابعه من يده بخفة عجيبة؛ ليوهم الجمهور أنه لا يعطي يده أحدًا حتى يقبِّلها، مع أن تقبيل يد الآغا لا يجيء على بال.
إن عند الآغا أساليب أرستوقراطية؛ لأنه ابن عائلة متوسطة الشرف، وهو يعطي الوظيفة حقها من المهابة، فهو متى حلَّت ركابه قريةً ما، كان فيها ممثل أفندينا الباشا، بل جلالة السلطان. ومن أساليبه السلامية أنه قد لا يسمح بيده لمن يكون زَرِيَّ المظهر، وإذا أقبل عليه بشوق، حرمه من تقبيلها ولم يُعطِه منها إلا رأس أصبع من أصابعه العشر. كان لا يصافح إلَّا أكابر الضيعة ووجوهها الذين يذبحون له الدجاج متى زارهم، وقبل أن يتناول ويتغدَّى أو يتعشَّى عندهم، ويقدمون له ما عندهم من العَرَق والنبيذ الفاخرين.
فأجاب المختار: نعم، هكذا اتفقنا.
فتناظر المستعدون للمشاكسة، ووجموا آسفين لغياب الشيخ، وقال قرياقوس بصوت أجش: ولماظا (لماذا)؟
أما الآغا فقال: الشيخ أراد أن يرتاح من لسانك يا قرياقوس، ومن مؤامراتك مع خوري مسرح، فكلَّف المختار أرسانيوس بلمِّ الميرة، فهل لك اعتراض؟
فقال قرياقوس: لا اعتراض على المختار إلَّا إذا زلَّ.
فقال الآغا: وعلى مَن؟ قل.
فكشَّر الآغا، وقال: يظهر أن نبضك قوي اليوم. القانون يطبَّق على الأوادم بلا صغره، أما الذي لا يدفع الميرة إلا بعد قتله، أو دك في قبو البقر، فماذا نعمل فيه يا قرياقوس؟ هل نطلب فرقة دراغون؟ الدراغون لا يحق له أن يتخطَّى حدود لبنان. وقد حاولت فرقة في فرن الشباك أن تمر إلى الشام بدون إجازة مجلس الإدارة، فأوقفتها أنا العبد الحقير عند حدِّها.
فضحك قرياقوس، وقال: فيك البركة يا آغا، واسمك فارس … هناك كان معك حق، والقانون الذي مكَّنك من الوقوف بوجه عسكر الدولة، فيه مادة تقف بوجهك … أيام الحواليه ألغاها نظام لبنان.
فهزَّ الآغا كرباجه، ورفع يديه، واشرأب وعرَّ: عسكرية! سلاح باشينا. فتكتكت ديوك بواريدهم، فقال الآغا: كتِّفوا قرياقوس.
فهرَّ قرياقوس: اصح يا آغا، اوع هاه. وقال إلى العسكرية: لا تمدوا أيديكم. لا تعرفون ماذا يصير؟
فقال الآغا: نحن أبناء الحكومة أحرار في تحصيل الميرة، ومعنا أوامر من سعادة القائمقام تحرق العشب.
فقال قرياقوس: يمكن أن تحرق الشياطين، ولكنها لا تحرق قرياقوس.
فنطَّ الآغا عن كرسيه، وهجم به على قرياقوس، فوقف المختار وغيره بينهما، ووقف كل فريق مع قطيعه، واستعدوا للمعركة ووقف الشباب على سلاحهم، وهو لا يكون من الآلات الجارحة إلَّا نادرًا جدًّا.
وعلى العياط خرج الخوري من كرسي الاعتراف، وأصلح ما بين قرياقوس والآغا، ثم جلس بين الأهالي استعدادًا للطوارئ وكسر الشر.
وبعد هنيهة قال الخوري: رخِّص لي بكلمة يا آغا، لا تؤاخذني إذا قلت لك: نحن نقطِّع مشاكلنا، وحضرتك حافظ على الأمن.
والتفت صوب قرياقوس وقال له: يا قرياقوس، لا تكبِّرها؛ الحكم ملح الأرض.
فسكت قرياقوس وخضع، وقعد الآغا قعدته البروتوكولية ينتظر واجمًا الساعةَ التي تُمكِّنه من بلِّ يده بقرياقوس.
قال الخوري: يا مختار، عد المكلفين. ومدَّ يده إلى عبه، وأخرج سبحته ليعد عليها، وأخذ كل واحد، إلا القليل، مسبحته وراح المختار يعد.
وبلغ عدد المكلفين الاثنين والأربعين، فقال الخوري: الضيعة غير نامية، مات عندنا كثير هذه السنة، صار نقص في الأنفُس. عدُّوا البالغين.
وراحوا يعدُّون الذين بلغوا الخامسة عشرة، ووقع خلاف على بعض المعدودين فجاء الخوري بدفتر العماد، ولما حققوا عدد البالغين، عادوا إلى إحصاء الذين جازوا الستين وأسقطوهم من الحساب، فبقي على الضيعة اثنا عشر متكلفًا، فضموهم إلى رقم المكلَّفين الأحياء؛ فزادت الفريضة عن التسعة إلَّا ربعًا، فقال واحد: ما سمعنا بعدُ أن الموتى يدفعون ميرة!
فأجابه آخر من طرف الحلقة: ندفع عن الموتى لأننا موتى!
وأجاب قرياقوس: هذي نعمة من الدولة العلية … الله ينصر السلطان.
فانتصب الآغا حد كرسيه، وصاح بأعلى صوته: تسبُّ الدولة يا كلب، وصل موسك للحية مولانا السلطان، ولي نعمتنا بلا امتنان، وظل الله على الأرض …
فقاطعه قرياقوس: على مهلك يا آغا، احتشم! نسيت كلمة الله ينصر مولانا السلطان، خليني أكمل كلامي: المتكلف في الولايات يدفع أضعاف الأضعاف، ونحن بموجب نظام لبنان تدفع الدولة المكسور علينا.
فتعجَّب الجمهور من حيلة قرياقوس، وبرد الآغا واستكان غصبًا عنه وهو آسف؛ لأنه عجز عن تصيُّد قرياقوس.
وبعدما رصدوا المال الأصلي للمتكلفين عادوا إلى مال الأعناق والأرزاق، فأضافوا بعض الإعانات وأجرة الناطور وبعض البلصات، كما أضافوا أيضًا إلى مال الأعناق بعض المصاريف، مثل: اشتراك الجريدة الرسمية، ومصاريف العسكرية الذين يحملون تبليغات الحكومة، وغير ذلك.
وأخيرًا ذكر المختار رقمًا زهيدًا، وهو بخشيش لنَوَرْ قصدوا الضيعة، وطبَّلوا وزمَّروا وأرقصوا دبهم وسعدانهم، فقال أحدهم: هذا حق.
فقال قرياقوس: ما سمعناهم يقولون على شان أهالي عين كفاع، بل كانوا يصرخون على شان الشيخ.
فقال واحد من الماجنين: قرياقوس، ترى لو سألوا سعدانهم أين قيمة قرياقوس أين كان يحط يده سعدانهم؟
فأجابه قرياقوس على الفور: على رأسك.
فضحك قرياقوس، وقال: هذا خوري لا تقدر تمد يدك إليه.
فأجاب الآغا بنكتته المعهودة: أنا أعرف شغلي، إذا كان رأسه مكرسًا فقفاه غير مكرس.
فأعجبت الآغا كلمة جناب، وإن آلمته كلمة المقرود، ولكنه قال: أنا تلميذ عين ورقه، ولولا القليل كنت خوري، ثم تحلحل عن كرسيه، وقال بابتسامة صفراء: خلِّصونا، حميت عليَّ الشمس، صار الظهر وعندي تحصيل ديون أكثر من ألف عسملِّية، علينا أن نلحق الناس في بيوتها.
ولو عرفت أن الآغا كان يحصِّل ديون الدفاتر والقرضة والسندات بموجب قائمة من القائمقام، يزيد عليها «المحصول» الباهظ، ولو عرفت كيف كان الآغا يحمد هذا العمل ويعدُّه توفيرًا على الناس وتخميرًا لما في جيوبهم من فلوس؛ لصدَّقت أنه يقول الحق. فالآغا يزعم أنه يحصل الألوف في ظرف جمعة، ويريح المديونين من المحاكم وجلساتها ومصاريف المحاماة ونفقات الانتقال لقاء محصول زهيد يقتسمه هو والقائمقام، قرشان ونصف بالمائة، وكان الله يحب المحسنين.
ولما هدأت المعركة، واستقر كل شيء، قال الآغا: بعد أسبوع يا مختار نحظى بلقياكم لقبض ما تحصَّل من مال الميرة، وجمع الباقي من الأهالي، فالأحسن يا صحابي الذين بيني وبينكم خبز وملح أن تدفعوا قبل حضوري؛ فتوفروا الدجاج والشعير الذي نعلِّقه لدوابنا، عدا الضرب والإهانة وتحصيل الجزاء.
ثم أحَّ أحَّته الشهيرة، وقال: سمعنا بحدوث قتال في قرية بجه، فالذهاب واجب قبل أن يتفاقم الشر.
فقال له المختار: هل تقدَّمت لك شكوى؟
فقال: نحن نحقق بشكوى وبلا شكوى، فالحق العام لا يعني أحدًا غيرنا.
فقال قرياقوس: وإذا تصالحوا؟
فأجاب الآغا: نخلفهم، ونأخذ مجعولنا لنصالحهم. ثم أطرق قليلًا، وقال: على فوقه وأين الخوري مسرح؟
فأجابه الرسول الذي أمر باستدعاء الخوري: قال إنه لا يرد على البطرك، وليس لك معه شغل.
فهجم الآغا متظاهرًا بالذهاب إلى بيت الخوري، فحال بعضهم دون ذهابه بالرجاء، فهدأ وقال: نؤجلها ليوم التحصيل، وإن هوَّنها الله ووقع خوري مسرح في يدنا عرَّفناه قيمة نفسه، وخلِّيناه يعرف أن فارس آغا ابن حكومة لا يعصى عليه أحد، وأن البطرك سلطته روحانية، أما فارس آغا فسلطته شاهانية.
فتقدم منه صديق له وقال: لا تذهب بلا فطور!
– أشكرك، مشغول جدًّا …
فقال الرجل: ذبحنا الديك، وهو يغلي على النار.
فصاح الآغا: لأيش كلَّفت نفسك؟
فرد الرجل: تغيير العادة صعب.
– وأنا كذلك، وتوقف كأنه نسي ما يريد أن يقوله، ثم مشى الآغا مع الذي دعاه وهو يقول: لا تحابيني. طيب ناكل لقمة على الماشي.
وبعدما عرَّق عظام الفرُّوج ومصمصها، حتى لم يبقَ عليها أثر لحم نهض كالمتعجِّل، وأشار إلى الطست والإبريق إشارة تعني إبعاده، ثم شمَّ ريحه يديه، وقال وهو يودع: خيركم لا يتغسل.