تحصيل الميرة
أكل المزارعون مواسمهم قبلما نضجت، فماذا يقولون للذين سلَّفوهم على حاصلاتهم؟ فما قبضوه ثمن شرانق قد طار، فكيف يسددون ما يصيبهم من مال الأرزاق ومال الأعناق عن الأحياء والموتى … كان موسم الموت مقبلًا هذا العام، فقد زار الجدري الضيعة، وكان أثقل عليهم من فارس آغا، ودابته التي لا يعلق لها إلا الشعير المغربل. وهناك مالت الطرقات والضرائب والمحصول والمصارفات، فهو فوق الطاقة.
صحيح أنها نتف، ولكن القلم جمَّاع، والشيوخ الذين يعفيهم الشرع من التكاليف كثار؛ ولهذا قال الشاعر:
الآغا غاب … ولكنه راح وسوف يعود بعد أسبوع، فمن أين يجد المعسور مالًا ليؤدي ما عليه للحكومة، وممَّن يقترض وكلهم في الهوا سوا؟ ضيق وعسر. ولذلك ترى الذين يدهم قصيرة في وجوم، يخافون الأحد القادم خوفهم من عزرائيل قبَّاض الأرواح.
وقال آخر: ولا يتروَّق إلا قهوة بحليب.
وقال ثانٍ: ولا بد من فنجان شاي وبسكوتة قبل النوم.
وأتم الشاب الأول حديثه: ولا يعلق لدابته إلا الشعير المغربل، ولا ينام إلى على فراشين خوفًا من أن ينقعر ظهره.
فقال شيخ: ماذا تعملون؟ وإلى أين تصل يدكم؟ رجل كافر! ابن حكومي ضابطي، إذا قلتم له كلمة يخزق ثيابه ويقيم الدعوى على مَن شاء، يتعلق عليكم بكلمة ليتهمكم بسب دين السلطان.
فقال واحد: علقوه بقرياقوس والخوري مسرح، ولا تنسوا أم فارس ياقوت، واقعدوا تفرَّجوا، فالمثل يقول: إذا أردت إهانة رجل فحرِّش به مرأة. وبدلًا من أن تكونوا ضباعًا كونوا ثعالب … هذا إذا سمعتم مني وعملتم برأيي.
فهدأت فورة الشباب وبدأوا يفكرون — فهزَّ أحدهم برأسه، وكان يدَّعي العلم والمعرفة؛ لأنه مرَّ في مطلع شبابه من قدام المدرسة — وقال: الرأي قبل شجاعة الشجعان.
وزاد عليه الآغا قوله: إذا حولنا عليكم فلا نخرج من عندكم إلَّا قابضين، نظل نحن في ضيافتكم، وتظل دوابنا على معالفكم حتى تدفعوا وترتاحوا منا. نطعمها القمح إذا لم يكن عندكم شعير، وندبِّح البقر والغنم متى نفدت الدجاج والأرانب.
فقال واحد: نعرف أنك واوي عتيق.
ولم يفهم الآغا ما قال فتابع خطبته: نحاسًا نأخذ، وثيابًا نبيع بالمزاد. نعرِّي الذي لا يدفع حتى لا يبقى على جلده قميص، هذا عدا الضرب والحبس.
ومضت الأربع والعشرون ساعة وتفرَّق عسكر الآغا في الضيعة، وعلا الصياح والصراخ من هنا وهناك، فمنهم من دفع بعد قتلة، ومنهم ما اقتضى له أكثر من كف حتى بقَّ الميرة. كانوا يعترضون على الزوائد والآغا يريد الزوائد قبل الميرة المقننة؛ لأن جُعله من هذه الزوائد، فالميرة الأصلية يحبس جباتها إذا غلطوا بالجمع، ولو كان الغلط قرشًا واحدًا، والشيخ يعزل من وظيفته الأبدية إذا ارتكب ذلك.
وهكذا جُمعت الميرة في خلال يوم واحد، وما بقي إلَّا الذين تعودوا ألَّا يدفعوا على الهينة أو الذين لهم اعتراض على بعض أرقام.
وعمل الآغا حسابه عند المساء، وقال بصوته العريض: الحاضر يخبر الغائب: نتحاسب غدًا. ما صبح إلا فتح!
فقال قرياقوس: من هلَّق للظهر يفرجها بو عيسى يا درويش.
فقال درويش: الحكومة لا تعرف أحدًا، لا بو عيسى ولا بو موسى. وإذا هربت واختفيت عن العيان، فنحن لا ننتظرك على الهينة، نذبح العنزة ونأكل معلاقها.
فقال قرياقوس: إذا فعلت ذلك أكون أنا مت. أنا لا أهرب، أنا أقابل الرجال ولا أتخبأ، تعال الظهر أنت والفرقة كلها، أهلًا وسهلًا بكم.
فأجاب درويش: تتهددنا يا قرياقوس؟
فشخر قرياقوس ونخر وصاح: الذي يقول أهلًا وسهلًا لا يتهدد، العين لا تقاوم المخرز يا درويش! الحكومة مخرز والأهالي عين ضعيفة.
فقال درويش: فإذن نرجع حوالي الظهر.
فأجاب قرياقوس: قلنا من هلَّق للظهر يفرجها ربك.
وكان اللامحترم يغربل معلف الفرس، فهو يخشى على سعده أن تقرط لسانها إذا لم ينقِّ الشعير من الحصى، وكان الغبار على غنبازه، المجهول اللون، سمك الأصبع، وهو عالق بأهدابه وجفونه ولحيته، ويهر منها على صدره كلما تحرَّك.
وسمع الخوري صوتًا يناديه، فالتفت وردَّد: بسم الأب والابن، الله يخزي الشيطان، ثم عاد ينقِّي المعلف ولم يجب.
فصاح الآغا: يا خوري يوسف، اكسر الشر وردَّ علينا، ادفع ما عليك من الميرة أشرف لك.
فكزَّ الخوري، فبانت أسنانه من وراء لحيته، وقال للآغا: أنا معفي من الميرة.
فقال الآغا: هذا حكي يا خوري يوسف، أفندينا ومولانا السلطان والبطرك والبابا برومية يدفع الميرة.
فنبر الخوري وقال: حاكيني أنا. منو أفنديك ولاه!
فأجاب الآغا بتفخيم وتعظيم: دولتلو، أفندم، حضرتلري، يوسف باشا فرنقو.
فانتهره الآغا صائحًا: وآخرتها معك! تريد أن تدفع الميري يا خوري مسرح؟
فنادى أحد الأهالي خوري مسرح قائلًا له: الميرة لا مهرب منها يا معلمي، ادفعها واكسر الشر. رد على الآغا بكلمة مليحة على الأقل.
فأجاب الخوري: منو الآغا حتى يتنازل الخوري يوسف بطرس ويرد عليه؟!
فقال الآغا من علٍ: تندم يا خوري مسرح!
فأجابه الخوري: تحتي تسبح.
فقهقه الآغا وقال بلهجته البلدية: أنا وثلاثة من ضيعتنا. (أي: أربعتهم يحملون نعشه.)
– لعنة الله عليك ما أرذلك!
فاحتدم عندئذٍ غيظ الآغا من هذه الإهانة، وغاظته اللعنة التي مسَّت أبَّهته وشرف السلطان الذي يمثله.
– وإذا هوَّلت ما يصير؟
– تقع في الحرم بمجرَّد الفعل.
– طز. ثم تضاحك إذ تذكَّر أن عليه التظاهر بالتقوى، وقال: إذا ضربتك على رأسك أقع في الحرم؛ لأن رأسك مكرَّس، ولكننا لا نضرب إلَّا على قفاك.
فصرخ الخوري وهرول إلى بيته وأغلق الباب، فلبطه الآغا فانفتح عن الخوري الذي كان يرتجف كالقصبة. فرقَّ الآغا لشيخوخته على خلاف عادته وراح يطايبه، ولكن الخوري كالهرِّ كلما حككت ظهره كلما عقد ذنبه كقوس قزح.
فتناوله الآغا من طوقه، وهزَّه قائلًا: قلت لك اكسر الشر وادفع الميرة.
فقال الخوري: وأنا قلت لك إني معفي من الميرة، وهذا أمر رستم باشا.
واشتدَّ صراخ الخوري وشرع يستفزُّ الآغا بكلامه المر، فأهوى بكرباجه على إليته وهو يقول: رأسك مكرس، قفاك مكرس.
وبعد أن أشبعه الآغا كرابيج سخنة، وأسمع الخوري كلامًا هراء وفشارًا، تحوَّل الآغا وفصيلته إلى بيت آخر، فوقف الخوري قدام بابه وصاح: يا سامعين الصوت، يا هو. اشهدوا، فارس آغا ضربني في بيتي، دخل بيتي بالقوة، خلع الباب كسر السكَّرة.
وأسرع الخوري وألجم فرسه وأسرجها، وانطلق كالريح في طريق بعبدا ليشكو الآغا الذي دخل بيته عنوة وخرَّبه، وادَّعى عليه أنه انتشل مصرَّه المحتوي على واحد وعشرين ليرة ذهبية، وبعض ريالات مجيدية وبشالك وزهراويات، قال إنه يجهل مقدارها ولا يحمِّل ذمته.
ومرَّ موكب الخوري المؤلف منه ومن فرسه وفلوها وسائر أسرتها وأخيه رفول، فأمر الآغا النفر درويش بوشلحة أن يؤدي التحية للخوري، فهرول صوبه بكرباجه فلم يصب الغرض، فثنَّى وثلَّث فلم يدركه؛ لأن الخوري شمَّع الخيط وأطلق لفرسه العنان، فصاح به أخوه رفول: على مهلك يا خيي خوري يوسف، الفرس معشَّرة — أي حبلى في شهرها الأخير — على مهلك حتى أقدر ألحقك.
ومرَّ عسكر الآغا ببيوت، سكانها أدوا ما عليهم من الميرة خوفًا من الإهانة والضرب وذبح الدجاج، فحيَّاهم شاكرًا نخوتهم ومروتهم بخطبة قصيرة من خطبه المشهورة.
وظل الموكب سائرًا حتى بلغ بيت إلياس يعقوب، فلاقته زوجته هاشَّة باشَّة، فقال لها الآغا: ادفعي الميرة أولًا، وبعدئذٍ اصرفينا بالطريقة التي تريدين.
فقالت: إلياس غائب، وأنا من أين لي حتى أدفع؟
فقال الآغا بتفخيمه الألفاظ: هذي حجة لا تقلي عجة، الميرة يا ست.
فتضاحك الآغا وغمز، وهو يقول: إذن معك كنز لا يفنى!
وغمرها، فبطحته وأخذت تصفعه: هذي تنفعك وهذه تضرك، وظلت وإياه على تلك الحال حتى أقبل الجيران وأقاموها عنه.
وعلا الصراخ في الحارة؛ فتكاثرت الناس واستحى الآغا، فقعد على الديوان ينفض ثيابه، ويفتل شاربيه طالبًا السترة، ولكن جار ياقوت النبيه أنقذ الموقف، فقال للآغا: يا آغا هذه مَرَه، وحامل السيف، والذي عليه شرف الدولة مثل جنابك يا آغا لا يمد يده إلى أنثى؛ أهكذا تشبعها قتلًا؟
ورأى الآغا المنفذ موافقًا ففتل شاربيه ورفعهما؛ حتى صارا في خط الاستواء، ثم وقف يلقي خطبة بجَّل فيها أهالي عين كفاع، وانتهى إلى القول: أنا ابن حكومي، ومن يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه. والذي يأكل مال أفندينا آكل رقبته؛ لا فرق إذا كان رجلًا أو امرأة.
قال هذا، ونفض الغبار عن ثوبه الجوخ الرصاصي، بعدما لفت نظره إلى ذلك أحد الحاضرين.
وفهمت ياقوت ماذا يقصد جارها، فتقدَّمت من الآغا وفي يدها برشيمة عتيقة، وأخذت تزيل الغبار العالق بثوب الآغا، والآغا مسترخٍ لها حتى انتهت المهمة التي كان مسك ختامها قول ياقوت: ضربتني يا آغا، الله يغفر لك! تفضل لف سيكارة، دخاناتنا على ذوقك.
فأجاب الآغا وهو ويأخذ وعاء التبغ المفروم: وأنا أسامحك بالميرة، أدفعها عنك. أنت بطل يا ياقوت، ما وقفت بوجهي أحد قبلك.
وفي تلك الساعة اللاهبة أقبل درويش ليقبض الميرة في الموعد المعين، فأرشدوه إلى قرياقوس حيث كان يكافح الزنابير، فذهب درويش، وفي وجهه الشر، فصرخ: يا قرياقوس هات الميرة.
فصاح به قرياقوس: إياك تقرب؛ النحل هائج، كبس البيوت عمل واطي.
فقال درويش: قرياقوس حذرك! مستعد أدعس رقبتك.
فنادى فارس آغا درويش قائلًا: درويش! أنت من بيت بوشلحة، تهجم على طابور، وتخاف من نحلات قرياقوس؟ اكسر رأس الضبع، وتعالى تمسَّح بكبراني.
وتماسك قرياقوس ودرويش، وسقطا كلاهما في جرة النحل؛ فانكسرت وفاع النحل، ولم ينفع الآغا، الواقف على الرجمة هربه، فوقع على رأسه فرخ النحل وأخذ يلذعه؛ حتى اختفت عيناه من الورم بعد قليل.
وأكثر من ذلك: جاء كلب قرياقوس على صوت صاحبه، فأقبل يعاونه فعضَّ العسكري ومزَّق ثيابه الرسمية.
وهكذا انكشف المعركة في ذلك اليوم عن دعويين: واحدة أقامها الخوري مسرح على فارس آغا، وثانية أقامها فارس آغا على قرياقوس.
ودخلت قوة الحكومة عين كفاع يوم الأحد مع الفجر قبل خروج الناس من بيوتها إلى القداس.