خوري الضَّيعة
وتذكر الخوري انتهاك العسكر حرمة قريته بدعوى الخوري مسرح على فارس آغا، ودعوى فارس آغا على قرياقوس، فقال يحدِّث نفسه: ثلاثتهم أشرار كاذبون، منافقون معتدون، ولكن قرياقوس كما قيل، ما كان معتديًا هذه المرة، أما خوري مسرح فهو قط شر، يخلق الدعوى من غيمة، وإذا لم يجدها فتَّش عنها بالفتيلة والسراج. الآغا حبَّاب فلوس لا يعنيه إلا أن يقبض، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق. يتعلَّق بالناس مثل العليقة، ويفتح جيوبهم مرة باسم الحق العام، ومرات بالتهويل والتخويف باسم السلطان.
ثم رفع عينيه إلى فوق، وقال: ما العمل يا ربي؟ ألا تطالبني غدًا، يا الله، يوم الدين؟ ساعدْني إذن الآن على هؤلاء الشياطين الثلاثة، حتى أطردهم فيكف شرهم عن رعيتي؛ فهذا الثالوث الشيطاني: الخوري مسرح، وفارس آغا، وقرياقوس ضاهر، كل واحد منهم، لا يستريح ولا يدع الضيعة تستريح.
ثم عاد الخوري إلى نجواه، فقال: لم يكتفِ ذاك الخوري بضابطية جبيل، بل شكا إلى الباشا، فأرسل الباشا فرقة عسكرية إلى ضيعة صغيرة مثل عين كفاع.
وانفتح لقرياقوس باب المجون، فضحك ضحكته المأنوسة، وأجاب بلطف: من أين عرفت يا معلمي إني قاصد حرش الناس؟!
فقال الخوري: لأن المنجل في يدك وأنت غادٍ.
فقال قرياقوس: وهل أن حمل الآلة دليل على أن نية حاملها سوداء.
فقال الخوري: في الغالب هكذا.
فقال قرياقوس: أنا وأنت نحمل آلة الزنا، من ساعة خرجنا من بطن أمنا، فهل معنى ذلك أني زانٍ، وأنك زانٍ؟
وضاقت حجة الخوري فتسلَّح باسم الأب والابن، وأجاب قرياقوس: انقبر، سد بوزك بلا طق حنك. اقعد حدي يا بشع اللسان، الآن انتهت دعوى الآغا عليك وتصالحت وإياه، فقل لي كيف كسرت جرة النحل وتركته يعقص الآغا؟
فقال الخوري: يظهر أن عندك حيلة لتطييره وتهجيجه.
فأجاب قرياقوس: النحل في الشوب لا يحتاج إلى تهجيج، ولا تنسَ يا معلمي أن الله موجود، وهو مع الضعيف حتى يعتبر القوي، أنا متكل عليه وهو لا يخيبني … ثم سكت وقال بعد هنيهة استراحة: قل لي معك وقت حتى أكمل حديثي وأخبرك عن خواص النحل؟
– كمِّل يا قرياقوس واختصر، جاء وقت القداس.
فقال قرياقوس: النحل كافاني على قتل أعدائه الزنابير، ولا رأس إلَّا وفيه حكمة. إذا كانت النحلة تروح إلى جبل جاج وترجع إلى وادي عين كفاع ولا تضيِّع دربها، ألا تكون تعرف الحق؟!
فقال الخوري: يا سبحان الله! أين تعلمت الفلسفة يا بو يوسف؟
– وصرت تتصيد الدعاوى.
– لا تقاطعني: أكون محرومًا من شركة أمنا الكنيسة البطرسية إذا كنت أقول غير ما أعتقد. بحياة قدسك لا تقاطعني.
وأطرق قرياقوس، وحكَّ رأسه قليلًا، ومسح شاربيه من الريلة المنهالة عليهما، وعاد من حيث كان: سمعت شيخ الجامع يقول: وأوحى ربك إلى النحل، ألا يكون معنى هذا أن النحل نبي، وهو يعلم خبث نية البشر؛ ولهذا عمل ما عمل بالآغا.
فقال الخوري: وكلبك غبار هو صاحب إلهام أيضًا.
فضحك قرياقوس بملء فمه حتى بدا ناباه، وقال: هذا كلبٌ رُبِّيَ على معجني وهو صغير، كنت ولا أزال أعزه وأحبه، أقاسمه اللقمة لينجدني متى كبسوا بيتي. وهو يرافقني دائمًا، وإذا تماسكت ولو مع ابني يوسف يركض غبار مثل هبوب الريح ليساعدني عليه، فعضة الكلب شهادة لي لا عليَّ. هه هه هه. أنا قلت للنحل اعقص، وللكلب عض! والله ثم والله ثم والله، لو لم أعرف أن الآغا يخزِّق ثيابه، ويدَّعي عليَّ بالزور أني أهنت شرف الحكومة، وتتخ عظامي في الحبس، كنت خلعت رقبته وقبرته حد بيتي.
اسأل عن ماضيه يا محترم، أما علَّم امرأة فلان حتى اتهمت سلفها أنه سبَّ دين السلطان، ولا يزال في الحبس إلى اليوم. خافوا ربكم! صحيح أنني قضيت عمري على درب الشريعة، ولكني ما ادَّعيت على أحد بالزور ولا شهدت بالزور.
فقال الخوري: ولماذا شهد عليك جرجس طنوس أنك كنت تراشق بالحجارة؟
أظن يا معلمي خوري بطرس أن النحل يعاقب ناكري الجميل، فكم مرة ومرَّات قعد الآغا على صينيتي وأكل عشرة أرغفة، وتحلَّى بإقة عسل، وحطَّيت له مطربان في الخرج. العسكري يا معلمي ملحه على ركابه، وليس في بلادنا عدل ولمَنْ نشتكي؟ عوجا من إسطنبول يا بونا، وأيش العمل؟ الآغا نقَّال حكي، أراد أن يسوِّد وجهي مع الرهبان، وأنا ربيت عندهم في حنوش.
فقال الخوري: أيش الحكاية، هاتها باختصار.
– الحكاية يا سيضنا الأكرم — سيدنا — لا تؤاخذني قلت يا سيضنا الأكرم، والواجب أن أقول: قدس أبينا المحترم.
فقال: كمِّل، لا بأس.
– قال لي الآغا في سياق الحديث عن دابته المرخمة الأذنين أنها من رءوس الدواب: أمها فلانة، وأبوها جحش الدير؛ فلا تتعجب إن دفعوا لي حقها خمسين عسملية.
فقلت له على سبيل النكتة المضاحكة: لو كان والدها المحترم هو رئيس دير معاد، لا أدفع ثمنها أكثر من عشر ليرات. دابة بخمسين ليرة! أيش خلينا للفرس؟
فحملها الآغا باردة سخنة إلى رئيس الدير، وباع صداقتي بعشا من مخلوطة الرهبان.
فنهض الخوري وهو يقول: ارحمني يا الله أنت حجتك قوية يا ابن عمي. بلا طول سيرة رح دق الجرس، وإياك أن لا تحضر القداس، فاليوم مهيئ لكم وعظة حلوة.
ودق قرياقوس الجرس وذهب، وعندما قرع الجرس آخر مرة كان قرياقوس داخلًا الكنيسة، وكان الخوري مسرح قاعدًا من عن يمين المذبح، فقال خوري الضيعة في قلبه: توفيقة، عصفوران على فرد قضيب.
ببساطة كلية أحكي لكم. فالله، آمنت باسمه، يفهم البسيط والمركَّب. قال داود النبي: قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا الله، ورُوحًا مستقيمًا جدِّد في حشاي، فالله تعالى لا يطلب منَّا أجسادنا وما علينا من ثياب مزركشة ومبرقشة، بل كل ما طلبه داود من ربه أن ينقي قلبه من الأقذار. فإذا لم تنظفوا قلوبكم من أوساخ الحقد والبغض، فلا سلام ولا أمان لهذه القرية التي كانت مباركة، حين كانت خالية من الشِّقَاق والخصام، كانت ضيعة حلوة فصارت شنيعة؛ لأنها صارت ضيعة شريعة ودعاوى.
فبانت سن الخوري، ورد عليه بقوله: واحدة من عشرين، ثم قال: الله الله كيف تبدَّلت الأيام وتغيَّرت البشر!
فتعالى الضحك، وحاول الخوري ألَّا تبرز ابتسامته كل البروز، فقال للرجل بنكتة بسيطة: أهلًا وسهلًا. تفضل اقعد، واسمح لزوج خالتك أن يكمِّل كلامه.
يا بحر الله خذ عبد الله.
أولادي الأعزاء.
رعيتي كانت آباء قِدِّيسين فصارت قرودًا وشياطين. يا ربي أستغفر الله، نزل إلى رعيتي وحش من الجرد، وطلع إليها تنين من البحر، وصار كل واحد منهم يحرُّ في الضيعة حتى صيَّروها مثل جهنم الحمرا …
واستراح هنيهة واتكأ على المذبح، ثم ابتسم وقال: لا تتلفتوا صوب أحد ولا ينشغل بالكم، أنا أدلكم على المقصودين من كلامي. فالوحش الجردي أخونا بالله خوري مسرح، والتنين البحري هو ابن عمنا قرياقوس ضاهر، والذبَّان يعرف دقن اللبان.
فقال الخوري: لا، أنت هذي مهنتك، ولا أطلب منك إلا أن تعمل الحق وتحضر القداس والصلاة حتى يلهمك الله عمل الخير، ولا يخطر ببالك أن تقيم عليَّ دعوى بإهانة الحكومة.
فأومأ الآغا إلى الخوري بمسبحته الوردية الطويلة، فقال الخوري: لا أتعجب من طولها؛ فابن عمك مطران …
ثم تنهَّد وقال: يا فارس، الملبوس لا يعمل القسوس، وليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، ولكن لا بد من هذه لتذكرنا بواجبنا نحو الله والقريب.
أما خوري الضيعة فشيَّعه بنبرة: روحة بلا رجعة، ثم أطرق وهو يقول: أين كنا وأين صرنا؟ ثم تذكَّر موضوعه فعاد إليه قائلًا:
يا أحبائي!
لو قاموا جدودنا القدماء من القبور وزاروا عين كفاع، لما عرفوا أحدًا منَّا. فعودوا إلى سيرة الجدود يتجدد فيكم الإيمان ويفيض عليكم الخير.
الحرب يا أولادي على أبوابنا، فأصلحوا سيرتكم ليرد الله عنكم هذه الشرور، الويل للشعب المخطئ؛ فهذا آخر زمان، أما سمعنا الإنجيل يقول: تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة، ويصير جوع وطاعون وأوبئة، وهو هذا آخر الأزمنة. نعم هذا هو الوقت الذي قيل عنه: تتعلق فيه امرأتان برجل، وتقولان له: ارفع عنا عارنا.
ربما قال بعضكم ما هذا التفزيع، فالحق يا أولادي أقول لكم كما قال سيدي يسوع المسيح: ملعون كل كلب لا ينبح. فقد نبحنا، ولكن صوتنا ذهب مع الدوي، كما قال النبي داود.
وأخيرًا أسألكم المغفرة إذا كنت أسأت إليكم أو جرحت بكلمة كرامتكم؛ فهذا واجبي المقدس، وكما أن الآغا لا يأكل خبزه حلالًا إذا لم يعدل ويرحم الأجساد، كذلك نحن لا نكون مستحقين نعمة درجة الكهنوت إذا لم نسهر على خلاص نفوسكم.
وانتهى القداس والزياح ولم يحصل لا شجار ولا نقار على دق الجرس، كما يحدث غالبًا في نهاية القداس والزياح وعقب كل اجتماع عند الكنيسة.
ومشت الأمور على هينتها أسابيع، ولكنها لم تستمر لأن القرية لا تهدأ كل الهدوء، فشرارتها لا تنطفي، بل تظل نارها متقدة تحت الرماد.