النِّهَاية السَّوْداء
وتحيَّر خوري مسرح أين يقدِّس، بعدما خرج من كنيسة عين كفاع مغاضبًا، فلم يجد أنسب من القبو القائمة عليه حارته الجديدة، فسعى لدى مطرانه كي يحصل على الإذن بالقداس في بيته. ضنَّ الخوري على سيده يسوع المسيح بغرفة من تلك الحارة، فأنزله في القبو الذي كان زريبة لسعدى وسلالتها؛ فصحَّ في السيد ما قاله في إنجيله عن نفسه: ليس لابن الإنسان مكان يسند إليه رأسه. وأعاد التاريخ نفسه؛ لأنه وُلِدَ في مكان مثله.
وبعد قداس الأحد تشاور وجوه القرية على عادتهم، وفكَّروا بالخلاص من خوري مسرح بعد أن كبر شيطانه جدًّا وأمسى لا يطاق، وثاني يوم اجتمعوا في بيت خوري الضيعة وتداولوا في الأمر، واستعانوا برأيه الصائب؛ فقرَّ الرأي على أن يلتمسوا من غبطة البطريرك إلياس الحويك عزل الخوري من وكالة الوقفية وإخراجه من عين كفاع.
وجاء دور كتابة العريضة، فتداعَوْا إلى كتابتها، وتعازموا مجاملة على طريقتهم عند أخذ القهوة، أو عند دخول البيت.
ورضخ طنُّوس لأمر المحترم، وانقطع سيل تفضل، وتفضل حضرتك، ولا نتقدم عليك. فقال الخوري: ينص تلك العريضة:
لمقام صاحب السُّدَّة الرسولية، راعي الرعاة، المغبوط سيدنا وأبينا مار إلياس بطرس الحويك، بطرك أنطاكية وسائر المشرق الكلي القداسة والطوبى أيَّده الله.
قدس الأب الأقدس.
غب لثم ثرى مواطئ أقدامكم الطاهرة والتماس بركتكم الرسولية نعرض نحن أولادكم أهالي عين كفاع:
تعددت شكاوينا من الخوري يوسف بطرس مسرح، وكيل وقفية سيدة البياض، في قريتنا عين كفاع. فلما ضاقت قرية مسرح عليه، ولم يحتمله أقاربه فيها، رحل عنها وأقام عندنا لسوء حظنا. وها قد مضى عليه أكثر من ستين سنة، ولا شغل له إلا كتابة العرائض وتقديمها للحكومة، ثم تمييز الدعاوى إلى إسطنبول لتتعقبا الحكومة وتطاردنا بدعاوى كاذبة لا نهاية لها. فإذا لم يصبِّحه الناس شكاهم، وإن رفعوا صوتهم بالسلام عليه اتهمهم بالهجوم عليه، وأحيانًا بضربه. وها قد مضت أعوام وأعوام، وهذه الحية الرقطاء لا تخرج من هذا الوكر، إلا لتنفخ وتبخ سمها، ثم تعود إليه وتتلذذ برؤية ضحاياها.
يقول المثل: من أدرى بأخبارك غير ربك وجارك، فابن حلتا مثل غبطتكم أخبر منا بجاره ابن مسرح. ولما كان ليس للأولاد إلا والدهم؛ لهذا لجأنا إليكم اليوم بعدما عجزنا عن تحمل جور وظلم هذا الخوري الشرير. فنلتمس الآن من غبطتكم، إذا لم تكفوا يده وتعزلوه، فعلى الأقل نرجو أن تحتموا عليه بالإقامة في بيته، بقريته مسرح.
شبعت عين كفاع مصائب ودعاوى من هذا الخوري المتمرد، الذي يدَّعي أنه لا يخضع إلَّا لرومية فقط، وإن وقفيته تحت سلطة البابا، ونحن لا نعرف أن لرومية سلطة التدخل في أوقافنا مباشرة، وإذا كان لها شبه الحق، فلا نظن أن رومية تحمي الفرد وتترك المئات والألوف.
لا نريد أن نسرد ما يقوله كل يوم هذا الخوري؛ لئلَّا نعكِّر صفو خاطركم، ولعلمنا من المثل: إن الذي ينقل السب كأنه يسب ثاني مرة، فارحمونا وأبعدوا هذا الشقي عنا.
لا نطلب أن تنزعوا عنه شرف الكهنوت، ولا أن تأمروا بجزِّ لحيته؛ لأن هذا لا يعنينا، كما أنه لا يفيدنا أبدًا. المهم أن تكفونا شره، ولكم الأجر عند الله والدعاء من أبنائكم المؤمنين.
وختامًا نسأل الله أن يديمكم فخرًا للطائفة، وتكرارًا نطلب بخشوع منحنون على أقدامكم، البركةَ الرسولية من فمكم الطاهر أيها الأب الأقدس.
وصُرف للرسول الذي حمل العريضة ريال مجيدي من مال الوقف، فأدى الرسالة في حينها. وبعد أيام أجرى البطريرك تحقيقًا قانونيًّا، وإن كانت لا تخفى عليه سيرة الخوري مسرح، وهو يعرف قصصه عن ظهر قلب.
كان يقف إلى جانب الخوري مسرح أحد أساقفة بكركي، وهذا الأسقف كان قد مات. وكان يدعمه أيضًا القاصد الرسولي، خصم البطريرك التقليدي، والقاصد قد نُقِلَ. فلم يبقَ من ثَمَّ ما يحول دون عزله وتعيين وكيل آخر من الأسرة الواقفة. وهكذا طلب رئيس الديوان البطريركي من قائمقام كسروان أن ينفذ قرار البطرك إلياس الحويك، فكتب القائمقام إلى مدير جبيل، الشيخ بان الخازن. وهذا أمر فارس آغا ومعه أحد رجاله، درويش بوشلحة، بالتوجه إلى عين كفاع، ونزع يد الخوري مسرح، وطرده طردًا إذا رفض الامتثال لأمر الحكومة والبطرك.
ولما تناول فارس آغا هذا الأمر جاءته شحمة على فطيرة، فركب دابته الشهيرة، ومضى في طريق عين كفاع، ولما بلغها ولم يعثر على الخوري في بيته؛ لأنه كان لائذًا ببيت أحد أقاربه، صاح بصوته الجهوري من بعيد: اليوم يوم الدينونة يا خوري يوسف! والله العظيم وبالغ كل يمين؛ لأنزع لحمك عن عظمك.
وثنَّى درويش على كلام الآغا بقوله: معنا أوامر أن نحشَّ لحيتك إذا اقتضى الأمر، فسلِّم تسلم.
وقام الخوري إلى الفراش ليتوارى عن نظر الآغا، ولكنه لم يملك قواه الطبيعية فارتجل حاجته، قبل أن يصل إلى فراشه، فزعًا. وما أن طلع الصبح حتى كان الخوري يسير في طريق جبيل.
واستدعى الآغا شيخ الصلح والولي الجديد فسلمهما البيت، وذهب الخوري مسرح شريدًا طريدًا كاليهودي التائه.
أما عقارات الوقف كلها فأجَّرها الولي الجديد، الخوري لويس إبراهيم، إلى اثنين من أهالي عين كفاع هما: يعقوب أرسانيوس، وطنوس فارس عبد الله. ثم تفرَّغ أحد الاثنين إلى الآخر، فأصبح طنوس فارس عبد الله — سيد حارة خوري مسرح — نصير قرياقوس على طنوس فارس.
وكانت الوقفية سبب شقاء هذا الأخير، فمات قطيعه المائة رأس عن آخره، ولم يبقَ منه رأس واحد، ثم دُعِيَ هو إلى المجلس العرفي ظلمًا وبهتانًا؛ حيث سُجِنَ مع بعض أولاده.
ولم يطل الحين على دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا في حرب سنة ١٤، حتى عزل أوهانس باشا آخر حاكم دستوري على لبنان، ودخل العسكر التركي الجبل، وقُضِيَ على استقلال لبنان الصغير.
أما ما حصل بعد هذا الفتح العظيم — فتح لبنان — فأخذ البطرك الحويك من مقره في الديمان كالأسير؛ ليقابل جمال باشا في صوفر. وفي آخر ساعة عدل جمال عن تسييره مع قافلة الشهداء، واكتفى بنفيه المعنوي إلى قرنة شهوان. وأعطى جمال البطرك، غصبًا عنه، فرمانًا سلطانيًّا كان قد امتنع عن أخذه جميع بطاركة الموارنة منذ وجد الحكم العثماني.
وعندما حاول موارنة الشمال أن يحولوا دون ذهاب غبطته إلى صوفر قال لهم البطرك: كل مكان يأخذوني إليه فيه الله.
أكبر الموارنة خرق امتيازهم المدني، وأكبروا أكثر خرقَ امتيازاتهم الطائفية؛ لأنهم كانوا دولة في قلب الدولة. فماذا يعملون وقد جاء من الطبل ما أسكت الزمر! فالحصار البحري مضروب عليهم، والحصار البري يحول دون وصول القوت إليهم؛ فمات نصفهم جوعًا.
لا أريد ان أتحدَّث عن ويلات الحرب الأولى إلَّا بمقدار ما تتصل بحكاية أبطالنا الثلاثة: الخوري، والآغا، وملك العسل.
كانت تتهم المسيحيين باتصالهم السري بالحلفاء، فتسوق إلى سجونها من تأخذهم بالظِّنَّة، ومنعت الأنوار أن تطل من الشبابيك؛ لأنها ظنت أن المسيحيين يتصلون بدوارع الحلفاء بلغة الأضواء. وأخيرًا انتهت إلى منع قرع الأجراس، ثم أمرت بإنزالها عن قبابها وتكسيرها ولكنها لم تكسر.
ولما نفي البطريرك وماتت امتيازات جبل لبنان صارت شئون الأوقاف في لبنان مثلها في الولايات المحيطة به؛ فاستيقظ ضمير خوري مسرح المنتقم، فشكا إلى الديوان العرفي في عاليه طنوس فارس، متهمًا إياه أنه أخذ له ٤٠ زير زيت. الزير يسع ٨٠ رطلًا شاميًّا من الزيت. وأنه وأنه … إلخ.
ثم استيقظت فيه شهوة الولاية على الوقف التي فقدها، فالتجأ إلى بعض وجوه بيروت النافذين عند رئيس الديوان العرفي رضا باشا، وكذب على أصحابنا، الطيبي القلب، فظنوه مظلومًا فأنجدوه ببعض المال، وانتهى الأمر عند الاستيفاء بالالتجاء إلى قاضي الشرع، بعد سقوط ولاية البطرك، فباع الخوري مسرح الوقف إلى الحاج حسين خريرو، وسجَّل البيع عند قاضي الشرع في برج البراجنة.
وما تنعَّم الخوري بضعة أسابيع بمال الأيتام؛ حتى أصيب بالزنطاري وقُضِيَ عليه في بيته بضيعته مسرح، ودفن في ذلك البيت دفنة غير مكرمة … لم يحضرها غير أخيه، الذي طمره طمرًا في قرنة بيته، ولم يعاونه أحد من أهل القرية على مواراة جثته، وما سبب قلة هذه المروءة إلَّا لأن أحدًا منهم لم يسلم من شظايا دعاويه الزورية في الديوان العرفي.
أما قرياقوس، فبعد أن خربت مملكته وباع كل ما يملك في عين كفاع، نقل إلى البترون حيث عاله الذي اشترى عقاراته كلها حتى بيت السكن، ثم مات محترقًا في غرفة أسكنه فيها دائنه.
وأما فارس آغا، أحد فرسان حكايتنا الثلاثة، فوشى به أيضًا الخوري مسرح مستندًا من منعه من المرور بلبنان، فأخذه عسكر الدراغون مكبَّلًا إلى القشلي في بيروت.
وانتظر الناس عودته كغيره من الذين شرَّدتهم ويلات الحرب العظمى الأولى، ولكنه حتى الآن لم يعد …