داهية غير منتظرة
كان ذلك سنة ١٨٩٧ عندما رأيت الأونباشي فارس آغا ثاني مرة. حلَّت بالقرية نكبة مروِّعة، وأمسى الناس ليصبحوا وقد قضى أحد عشر نفرًا منهم، وصاروا من سكان ديار البلى. وإليك الخبر.
كان للضيعة مرفعان: مرفع شتوي في شباط، ومرفع يودعون به الصيف ويستقبلون الخريف. يقدِّدون اللحم ويُودِعونه البراني والقطارميز؛ وهكذا يُمسِي لكل بيت ملحمة شتوية. ولكن الناس أقبلوا على لحم إلياس «مجابرة»، فكان يخرج من بيوت الجميع مجبور الخاطر، فنفق لحمه، إلَّا لدى جناب الوالد الذي لم يكن عند ظن إلياس به، فقابله بوجه حامض ولم يشترِ منه درهمًا واحدًا؛ ولذلك سبب أبوح به لك على شرط أن يبقى بيني وبينك.
وقف إلياس الزغيِّر بالباب فملأه وأظلم البيت. وما حيَّا العم أبا مارون بلهجته الرخوة حتَّى مدَّ القدر إصبعه المدبَّرة، واستبقت الوالدة الحديث، وأهَّلت بإلياس ورحَّبت ضاحكة قائلة: منذ زمان هذا القمر ما بان، أيش حامل على ظهرك يا إلياس؟
– يا حينها! يا خسارتها يا إلياس! الله يعوِّضك عليك، بالرزق ولا بصحابه يا بو ناصيف. خذ لك إقة يا حنا، اجبر عنه، مسكين إلياس، كان يترك عنزاته ترعى ويساعدنا في مشق ورق القز …
أما الوالد فتجبر ولم يجبر عثرة جارنا الماعز، لا بخلًا ولا شحًّا، ولكن … بما أنَّ الوالدة قالت: نعم، فعليه إذن أن يقول لا. تلك كانت خطته معها. فليس للمرأة أن تسبق الرجل إلى شيء.
فصاح الوالد: لا تطوِّليها ولا تقصِّريها. وحين حسم الوالد بعناده المشهور ما اشتهينا، انقبضتُ أنا تأييدًا لوالدتي وإجابة لداعي بطني، وبكى إخوتي الصغار عندما سمعوا أوركسترا الكبَّة تعزف في بيوت الجيران. فقالت الوالدة: ما أهون كسر الخواطر عندك!
فانتفضت كأنه قال لها: اذبحي ولدًا من الأولاد، ثم قالت: كل دجاجاتنا تبيض، ذبحها كفر. فقال هازئًا: لا يا مرة، توقي جهنم.
فقالت: في نفسنا شهوة كبة.
قال: اعمليها كبة، الدجاج أطيب. فأجابت: عال! عال! ما سمعنا بكبة الدجاج إلَّا منك. والتفتت إلينا قائلة: أبوكم معلم ماهر في الطبخ.
فصرف على أسنانه، وكاد يتناولها بضربة لو لم تتقيها بالابتسام، فاكتفى بقوله: يقصف عمرك، ما أبلدك!
المناحة قائمة، والوالد كما يقول المثل: يا جبل ما يهزَّك ريح، يسلخ ضحيته مستضحكًا. تارة يصرخ بي: شد يا صبي. وطورًا يقول نكاية بها على مسمع: تسلم يمينك يا أم مارون. هذا لحم يشبع ويلذ، لا أكل لحم عنزة مهوَّرة، تقبر ذقن صاحبها.
تعجَّب الجيران، كيف ذبح أبو مارون السكَّا، ولكن العجب زال حين تذكروا أنها ثنية مدللة تحبها أم مارون ولا تردها عن شيء. فدى عيني السكَّا خليَّة البرغل والطحين ومعجن الخبز، وكل ما في البيت من زبيب وتين، وأبو مارون يرى ورقة التوت تسوي خروف البيعة، ناهيك أنه مشهور بالعناد والمشاكسة.
وفي أول السهرة تعالى الصريخ المؤلم في الضيعة، هذا يشمر راكضًا إلى الطبيب، وذاك إلى بيت الخوري. اللحم مسموم، وفي كل بيت، إلا من وقى الله، منازع أو مريض يشرف على القبر؛ مات عبود وماتت كنته العروس وابنته وبنت ابنته. وعبود هذا ابن عم والدنا لحًّا.
وهرول والدي ليرى ما حلَّ بابن عمه، ولكنه عاد فوقف، بعد أن ابتعد عن البيت، ليقول لوالدتنا في تلك الأزمة: أم مارون، اشتري لأولادك لحمًا من إلياس الزغير إذا جاء صوبنا … لم تُجِبْ تلك المسكينة إلا بالركوع أمام صورة العذراء، وقرع الصدر وذرف الدموع؛ وهكذا جبر الله خاطرها بعد انكساره بذبح السكاء العزيزة.
حقًّا إنه لمشهد يفزع البطل، فكيف بصبي مثلي. أربع جثث ممدَّدة تحت سقف بيت واحد، كهل وعروس وبنت مراهقة إلى جانب أمها الشابة. أربعة توابيت مصطفة كأنها نواويس المومياءات؛ منظر اقشعرَّ له بدني، وأخافني مع أنني كنت ابن عشر لا أحفل بالموت، ولا أحسب له حسابًا.
وتجمَّع الناسُ فتشاوروا بالأمر، فقال شيخ القرية: لا بد من إشعار الحكومة بالمصيبة؛ وهكذا كان.
وعصر النهار أقبل فارس آغا ومعه فرقته، فألقى خطبة قصيرة فور وصوله، وتهدد المجرم وتوعَّده بالعقاب الشديد. وإذا لم يستطع القبض على الجاني، قبض على ضحاياه، وحال دون دفنها قبل أن يأتي المستنطق وطبيب القضاء جرجي مارون ليشرِّح الجثث، فَعَلَا صراخ لا يوصف؛ لأن الناس في ذلك الزمان لم يتعوَّدوا أن يشقوا بطن ميت.
وأقبل الناس على المدير مسلِّمين، هذا بيد وذاك بالثنتين، وكان الشيخ طالب يلهث ويسلم وعينه شائحة، وما وقف بباب بيت الضحايا حتى علت الصرخة؛ فطيَّب الخواطر وعزَّى المصابين، وأكَّد لهم أن العدل طويل الباع.
فقال له أحدهم، وهو أمير الكلام في المواقف الحرجة: يا سيدنا الشيخ، لا يضيع حقٌّ ووراءه طالب.
فأعجب المدير كلامه واستفزته التورية البديعة، فدعا الأونباشي، وقال له: ماذا عملت يا آغا؟
فتماسك الآغا وضبَّ بردي كبرانه، وأحكم وقفته، وشرع يلقي خطبة كعادته. فقال المدير: لا تطوِّلها يا آغا، اختصر، قل لي أيش عملت؟
فأجاب الآغا: الغريم يا افندم في بلاد البترون، والقانون يا افندم لا …
– أمركم أفندم، ولكن إذا هرب؟
– وأين يهرب الذئب من عين الشمس. اضرب، اذبح البقر، اقتل المعزى، اعمل البيوت مراح خيل، يجب أن تحضره الليلة.
فالتفت الآغا صوب الجنود وعجَّ: سلاح أومزه.
فقال المدير: الْحَقْهُ إلى القبر.
فقال الآغا: وإذا تخبَّا، مَن نحضر؟
– الموجود يا آغا؛ إخوته، أولاد عمه، أولاده، كل ما عنده.
– نعم، نعم، فهمت.
فتنهَّد المدير وقال: نشكر الله، فهم الآغا أخيرًا!
ولا تسل عن سروري إذ رأيت أن في الدنيا مَن هو أكبر من فارس آغا، بعدما قام في ذهني أن ليس لأحدٍ عليه سلطان.
ثم أمر المدير بتشريح الجثث فاستنكر الناس ذلك، وكانت جلبة وضوضى، وتوسَّلوا إليه ألَّا يهين الموتى، فضرب صفحًا عن ذلك وأمر بالدفن؛ فكان أفجع مأتم شهدته في حياتي.
وشق الفجر استيقظ الناس على مشهد مضحك، الأونباشي ورجاله يسوقون قطيعًا من المعزى يبلغ المائة عدًّا، ومعه زوجة المعَّاز وطفل على زندها. فأخذ الشيخ يسبُّ الدين.
فقال المدير: كان جاء إلى هنا، عين كفاع أقرب من جبيل.
فقالت المرأة: خاف من الضيعة تتعدَّى عليه.
ثم خلَّى سبيل المرأة وقطيعها وركب إلى جبيل، مركز مديريته.
•••
فوقف الآغا، وقال: دولتلو أفندم حضرتلري أفندينا نعوم باشا، سمع بمصيبة عين كفاع فرقَّ قلبه …
فقال أكثر الجمهور: الله يطوِّل عمره.
فقال الآغا: وأعماركم تطول. لا تقاطعونا، خلونا نكمل كلمتنا.
فقال واحد: اسمعوا يا ناس.
وقال ثانٍ: اسكتوا يا بشر.
وقال كثيرون: هس. وقالت واحدة لا تعجب الآغا ولا يعجبها: بَس يا هو.
فصرخ بها الآغا: اسكتي أنتِ، سدي بوزك، العمى في قلبك.
وسكت الناس، فأعاد الآغا كلمته الأولى بحروفها، فقال ابن المرأة: سمعناها يا آغا، هات غيرها إن كان عندك.
فاغتاظ الآغا وسكت الجميع، هم يريدون أن يعرفوا ماذا بعد رقة قلب أفندينا الباشا، وطال سكوت الآغا، كأنه نسي ما أعدَّ من كلمات لهذا الموقف، فقال أخيرًا: خبرني سعادة المدير أن الباشا بكى لهذه المصيبة الثخينة.
فقاطعه شيخ الضيعة قائلًا: قل الكلام الجوهري يا آغا.
فقال الآغا: دولتلو أفندم حضرتلري الباشا … يا جماعة، بعث مائة ريال مجيدي إعانة للموتى.
فضحك الناس، وانتهت الخطبة بلا تصفيق، بل بعمل القسمة، وأخذ كل من المنكوبين ما أصابه، ودعوا للباشا بالعمر الطويل.
قلنا إنه زعيم المعارضة، ولكن العم قرياقوس لا يتزعم غير نفسه والنَّحْلَ الذي عنده، فقد كان ملك العسل في زمانه. رأى قرياقوس أن الإعانة لا تُذكر فقال: إما أنه باشا خسيس، وإما أنهم «قرطوا» حصتهم من الإعانة.