الفصل الثالث
مار قبريانوس ومار شليطا
تقع عين كفاع على رابية كأنها عقب البيضة. بيوتها كالمدرج تقوم على جانبي درب، يمتد
من الوطا
١ إلى القرقفة،
٢ مسافتها كيلومتر وأكثر. على هذه الطريق كانت تسير فرقتنا العسكرية وسيوفها من
خشب، وبنادقها من قصب. بَقِينَا أيامًا بعد تلك الفاجعة نقلِّد فارس آغا وفرقته حتى مللنا
وملَّ الناسُ حركاتنا وأزعجتهم ضوضاؤنا. كُنَّا نجعل منَّا شقيًّا تطارده الجنود، حتى
إذا
قبضنا عليه يأمر المدير بحبسه، فندخله قبوًا يقف على بابه أحدنا خفيرًا، ولم تسترح القرية
من سماجتنا البريئة حتى كان ما يأتي:
سَجَنَّا أحدنا بعد محاكمته، فصرخ الفتى بعد قليل صرخة قهقهنا لها، ثم تعالى صراخه
المفزع
ونحن لا نفتح له الباب؛ فذعر جارنا طنوس حبقوق وأقبل على استغاثته، فإذا بالولد مغمًى
عليه
حدَّ حية تبتلع جرذًا، فقتل الرجل الحية، وحمل الولد إلى بيته، وعاد يتعقبنا واحدًا واحدًا،
فكانت تلك الفاجعة آخر العهد بتجارب الحكم …
ومرَّ عيد مار روحانا — عيد الضيعة في ٢٩ أيلول — صامتًا. لا قرع جرس ولا قيم أجران،
٣ لا غناء ولا سُكر، ولا حلقات قول ولا ولا … الضيعة محزونة والحداد شامل، وبعد
أيام كان الأحد الأول من تشرين، وهو العيد السنوي لأم يسوع — أحد الوردية الكبيرة — يُطَافُ
به بأيقونتها حول الكنيسة باحتفال عظيم. اجتمع الناس للصلاة، وهي أطول صلاة عرفتها، خمسة
عشر بيتًا مقسمة ثلاثة أقسام: خمسة أبيات للفرح، وخمسة للحزن، وخمسة للمجد. ولكل بيت
من
الخمسة عشر نشيد خاص به، ويلي ذلك ما يليه، ويسبقه من صلوات ودعوات والتماسات، وأخيرًا
الزياح الاحتفالي.
٤
لفت نظري في هذا الموسم شكل الحلة البيعية:
٥ غفَّارة
٦ مخملية مزركشة بالقصب الذهبي، ومثلها بهاءً ما يتبعها من ثياب التقديس؛ أعجبني
المشهد فوجدت فيه مرعًى جديدًا لصَبْوَتِي وأمانيَّ المتوثبة. علقت أعمل الفكرة في إخراج
هذا المشروع إخراجًا لائقًا، كما أخرجت من قبلُ النظام العسكري، فانتهى بفاجعة كادت تكون
أليمة.
فما انتهى مشهد الكنيسة البهيج حتى كنت بعد الظهر، وحولي مَن أعوِّل عليهم في المهمات
الكبرى، نبني كنيسة عند بيتنا. ولكنها — ويا للأسف — ما قامت حتى أعيت وسجدت كإمام العصبة
النواسية؛
٧ فنمنا على كدر، وقمت في الغد أجهد فكرتي، فرأيت قدَّام بيتنا صخرًا مجوَّفًا،
ما زال هذا الأثر التذكاري مصونًا حتى ابتلعته طريق السيارات كأنه حنية مذبح
٨ فتحقق أملي المنشود.
فبنيت على مقربة منه دعامتين سميتهما قبة، وجعلت في القبة جرسًا على شاكلتها — تنكة
كاز —
وقرعنا الجرس والناس يضحكون لنا، والوالد يبتسم نصف ابتسامة، قائلًا: صبي شيطان، لا يهدأ
أبدًا.
ونادى أم مارون لترى عبقرية المحروس، فعادت منبسطة الوجه تردِّد: اسم الله حوله، يقبر
أمه
ما أحلاه! والقرد بعين أمه غزال، كما يقول المثل.
الكنيسة تمت والجرس تهيأ، أما الأواني الكنسية فأين نجدها يا ترى؟ المبخرة لا يصلح
لها
إلا علبة البرشان لجدي الخوري؛ فانتظرت الغد، موعد قطاف الزيتون، فخلا البيت إلَّا مني،
فثقبت علبة البرشان ثلاثة ثقوب، علَّقت في كل ثقب خيطًا من القنب؛ فصارت مبخرة … وَأَغَرْتُ
على الكنيسة فجئت بحَفنة بخور، ورأيت المذبح يحتاج إلى تصاوير لم أجدها إلَّا في التوراة،
الكتاب العزيز على قلب جدي، فانتزعت صور المجلد الأول جميعها، وألصقتها بالعجين على صدر
تلك
الحنية. بقيت الغفَّارة، فتراءت لي في فسطان أمي المخملي — فسطان عرسها — فانقضضت على
صندوقها وانتزعته من بقج ثيابها؛ فصَّلتُ منه غفَّارة
٩ وبطرشيلًا
١٠ ومنصفة
١١ وكُمَّيْنِ، وجعلت تنورتها البيضاء كتونة،
١٢ وأقمت زياحًا احتفاليًّا كان شمامسته رفاقي، والشعب صبيان الضيعة
وبناتها.
كان طوافنا حافلًا صارخًا، بلغ به صياحنا مسامع القرى المجاورة، وعاد جدي من الحقل،
فرآني
أحتفل احتفالًا عظيمًا بتقوى وخشوع، كأنني ذاك، كما يقول الأخطل. عزَّ عليه جدًّا أن
يقلده
حفيده ووارث مجده المنتظر، الأسرار
١٣ والاحتفالات البيعية؛ فتضاحك حتى أركنت إليه، وما أن وقعت بين يديه حتى أهوى
عليَّ بعصاه السنديانية، طفق ينفضني تنفيض الشيح،
١٤ وإن شئت تعبيرًا جاهليًّا، فقل: يعصبني عصب السلمة، كما وعد الحجاج أصحابه في الأهواز.
١٥
وعجز أخيرًا عن الضرب، وهو يحبو إلى التسعين؛ فجعل يركلني، ثم أخذ يدعس ويعرك. قتلة
لا
يزال طعمها تحت أضراسي كما نقول. فعل كل هذا، وهو لا يدري أن علبة البرشان قد تغمدها
الله
برحمته ورضوانه، وأن صورة التوراة وميزان الزمان
١٦ صارت زينة لهيكلي.
وعادت الوالدة إلى البيت، فرأتني ممرَّغًا بالتراب باكيًا، ورأت صندوقها مفتوحًا
ففزعت،
وغضبت لما رأت بقايا غفارتي، وعرفت بها قماش فسطانها، وأراد الوالد أن يبلَّ يده بي،
فقال
جدي: اتركه، أنا شبعته. قلت لكم هذا مجنون، خذوه إلى قصحيا.
١٧
وبعدما استراح من عناء معركته التفت إليَّ وقال: كلب! ما قدامك غير الحبس، الحبس أحسن
دوا
لك. إن رجع فارس آغا … طيب طيب! شر الصباح ولا خير المساء.
أما أنا فلم أجد مهربًا أسلم عاقبةً من النوم. تعشَّوْا ولم أتعشَّ، ثم جلسوا ثلاثتهم
صامتين، كلٌّ يغنِّي على ليلاه: جدي يندب علبة البرشان
١٨ وصور التوراة وميزان الزمان، والوالدة فسطانها وتنورتها المخططة، والوالد يسائل
جدي: قولتك صبي أخوتْ؟ فيجيب جدي، وهو يفكِّر من أين يأتي بالبرشان ليقدس في الغد: الله
يلطف يا حنا، هذا الظاهر، الله يرد غضب السيدة عنه. لو عرف سيدنا البطرك؟ فهوت والدتي
على
يدي عَمِّهَا تقبلهما باكية قائلة: بحياتك يا عمي، لا تفزِّع الصبي.
وقرب الساعة الثامنة بعد الغروب وصل الآغا؛ فاستعاذ جدي بالشيطان — هكا يعبر العوام
— حين
رآه، وقبل أن يسلم الآغا، بادره جدي قائلًا: خير إن شاء الله يا آغا، دعوى مَن اليوم،
دعوى
خوري مسرح أم دعوى قرياقوس؟
فقال الآغا: أمهلنا حتى نقبِّل أياديك. وبعد الواجب، قال: لا هذا ولا هذاك، شيء جديد
يا
محترم، دعوى تضحك وتبكي، فقال جدي: ما أكثر فنون الحكومة! قل يا آغا، خبرنا، شغلت
بالنا.
– الله لا يشغل لك بال، دعوى سخنة وعاقبتها بشعة.
فصلَّب جدِّي على وجهه، وتأفَّف وتأوَّه، وعيناه عالقتان بوجه الآغا المغلق كأنه لوح
نورج؛ فظن والدي وجدي أن هناك دعوى خطيرة جدًّا، وظننت أنا أن ساعتي قد دنت، وأنه إنما
جاء
لأجلي، وقد وصل خبري للبطرك.
وأخيرًا قال جدي: هات خبِّرنَا القصة. فقال الآغا: زمان فاسد يا خوري حنا، الناس ذئاب
كاسرة. تقاتل حنا ديب وبطرس موسى على درب جبيل، وصدر أمر عزلتو مدير الناحية للتحقيق،
وأنا
جئت وحققت، وهذا هو الأمر.
وتناوله الآغا من جيب «كوبرانه» ونشره، ثم أحكم مقعد نظارتيه فوق سنام أنفه، ومشى
إلى
القنديل يتغربل، وما أن رفع فتيلته أكثر من المعتاد حتى صرخت الوالدة: توقَّ يا آغا تكسر
القزازة، ما عندنا غيرها. أما الآغا فقرأ دون أن يبالي:
إلى فتوَّتلو الأونباشي فارس آغا
…
طقطقت الزجاجة، فقالت أمي: وجه نحس، ما منه غير الخسارة.
أما الآغا فتابع قراءته:
توجهوا حالًا إلى قرية غلبون، وحققوا بدعوى بطرس موسى على غريمه
حنا ديب من محلِّه، وأحضروا الغريم مكتوفًا لهذا الجانب إذا ثبت عليه الجرم، نؤكد عليكم
كل
التأكيد.
مدير ناحية جبيل
فقال جدي: يهمنا أمر الاثنين. هذا من أقاربنا، وهذاك عزيز علينا، أبوه صاحبنا.
فقال الآغا: وأنا — إكرامًا لقدسك — حضَّرته إلى عين كفاع. وإلا كنا في جبيل قبل الغياب،
ونام حنا ديب في بيت خالته — أي السجن — فشكر جدي الآغا، وقال: أنت يا آغا منا وفينا،
وغيرتك مشهورة.
– مرباك يا محترم، اسمح لي بكلمة. نحن أبناء الحكومة علينا واجب مقدس، وهو المحافظة
على
أرواح العباد، ولا مانع إذا عاملنا الرعية باللطف وراعينا الأوادم مثل حضرة أبينا
الخوري.
فقاطعه جدي، قبل أن يعبئ نفسًا، فقال: كلام مثل السكر يا آغا.
فصاح الآغا: اسألني يا محترم، عن سبب المقاتلة.
– تفضَّل، خبِّرنا.
– الخلاف على مار شليطا
١٩ وما قبريانوس
٢٠ كلمة منك وكلمة مني؛ وكان جرح طوله فتر وعمقه أكثر من قيراط، مع رابور طبي
بخمسة عشر يومًا، والرابور مفتوح.
وأبدى جدِّي إشارة استفهام بيده، فقال الآغا: مفتوح، يعني يقدر الطبيب فيما بعدُ تطويل
المدة، فتصير دعوى جناية.
فاغتمَّ جدي وقال: الله ينجينا، اختلاف على القديسين، هذا فن جديد، صح المثل: تقاتلت
الفيران على كشك الجيران. فقال الآغا بصوته العريض: الجنازة حامية والميت …
فصاح جدِّي كمن رأى قربه حية: سلام الله على اسمهم، لا تكمل يا آغا.
ودخل حنا ديب فرأيته مشدود الساعدين بمرسة، فتوقعت هذا المصير إذا اتبعت قباحاتي،
فقال
جدي لحنا ديب: يا حنا، يا ابني، اتركوا السما لأهلها، وعيشوا مع بعضكم بمحبة الله. مار
قبريانوس ومار شليطا! …
فقاطع الآغا جدي، وقال: الحكومة تربي الأرض، والعصا علَّمت الدب الرقص. أسلم لك ولغيرك
يا
حنا، الهدوء والسكينة. مَن يقاوم الحكومة؟ تعرف مدة حبسك؟ على الأقل سنة، ما عدا — ومدَّ
أصابع كالمدرى،
٢١ وأخذ يعدد عليها — الجزا النقدي، والعطل والضرر، وأجرة «البوكاتي»،
٢٢ ومصاريف الشهود والدرب. وختم بقوله: وبرطيل الآغا.
وتضاحك ثم قال: إذا حبسوك جمعتين يخرب بيتك، فكيف إذا حبسوك سنة. اشكر ربك، المحترم
مهتم
بقضيتك، وإكرامه واجب علينا، هذا بركة الجميع. سيدنا البطرك يعد خاطره. وتنحنح وسعل ليصفو
صوته، ثم قال: قل نشكر الله، وقعتك سليمة، اسمع من المحترم، وادفع الذي يفرضه عليك مع
حبة
مسك.
فأطرق جدي قليلًا، ولكن الآغا ما انتهى. ظل يحكي ساعة، وكلما أراد جدي أن يقاطعه يقول:
«دستور» بإذنك يا معلمي … وأخيرًا كفل جدي حنا، ففك الآغا كتَّافه على أن يطلبوا في الغد
غريمه بطرس، وينظروا في عقد صلح بينهما.
وانصرف جدي إلى مخدعه، وبقي الوالد والآغا يتسامران، فقال والدي: أيش قول الآغا في
كاس
عرق؟
– كاترينا، لقمة عشا للآغا، من الحواضر.
فحلف الآغا أنه تعشَّى من خير الوالد، وافتدى العشاء بقنينة العرق التي كان يسميها
المرحوم: ستَّارة العيوب وفضَّاضة المشاكل … ودار على الشراب حديث ستظهر نتيجته في مجلس
الصلح …
وجاء بطرس موسى غدوة، فخفَّ الآغا لمقابلة جدي، ثم جاءا معًا، فقال جدي لبطرس: أتعرف
«الأبانا»؟
٢٣
فاستغرب بطرس أولًا هذا السؤال، وقال: والو! يا عمي الخوري، أنت مربينا.
فقال جدي: ما فهمت قصدي يا ابني. ثم أدرك بطرس ما أراده جدي، فقال: ولكن يا عمِّي،
ما قال
ربنا اغفر لمن ضربنا وشق رأسنا؟
فأجابه: بلى يا ابني. كلمة أخطأ إلينا، تحتمل أكثر من الضرب والجرح. ضاعت ولقيناها
يا
بطرس، المصارين في البطن تتقاتل. مَنْ قارب الحكومة، وظل على جلده قميص؟
وبعد جدال طويل انفرد والدي ببطرس ثم رجعا، وتداول مع غريمه هنيهة وعادا، فإذا بالعقدة
انفكت، يدفع حنا ديب لبطرس موسى ثلاث ذهبات عثمانية بدل عطل وضرر.
ووقف جدي ووقف الجميع. أما الخصمان فركعا، فتمتم جدي بعض كلمات واضعًا يده على رأسيهما،
ثم رفعها ورسم في الهواء شكل صليب، فنهضا عند ذلك يتعانقان، وهتف الحاضرون بصوت واحد:
صلح
مبارك.
أما الآغا فاقعنسس
٢٤ على الصفَّة،
٢٥ وقال: الصلح سيد الأحكام، ونحن — رجال الحكومة — علينا تحصيل حقوق الناس،
والتوفير عليهم إذا قدرنا. لم يطوِّل في الكلام؛ لأنه مشغول البال ينتظر النتيجة … ولذلك
قام إلى الخُرج وأخذ منه كف ورق، واستلَّ دواته النحاسية من زنَّاره وشرع يكتب:
لجانب مديرية ناحية جبيل البهية
عزتلو أفندم
حضرتلري
يعرض مقدمه بطرس موسى الماروني العثماني من قرية غلبون في مديرتكم التابعة قضاء
كسروان، حيث كنت شكوت إلى عزتكم حنا ديب من محلي بدعوى ضرب وجرح، والآن ألتمس قبول
رجوعي عن دعواي الفورية، وإسقاط جميع حقوقي عن حنا المذكور. والأمر لمن له الأمر
أفندم.
بنده
بطرس موسى
ثم نفض رماد سيكارته على الحبر الطري، ووضع العريضة بجانبه، وملَّس شاربيه بسبابته
وإبهامه، وتمددت أصابعه الأخرى على ذقنه كأنها أصابع الأخطبوط، وطال السكوت، فتحلحل جدي
رويدًا رويدًا، وقام قائلًا: كلمة يا آغا.
وخرجا من الباب الشمالي، وهناك فكَّ جدي مصرَّه،
٢٦ وأخرج منه ريالين مجيديين دفعهما للآغا، فما لمسَا كفَّه؛ حتى أجفل كمن لدغته
عقرب، وصرخ: تعطيني مجيديين يا معلمي، أنا لمَّام!
٢٧
وقطب جدي حاجبيه، فخفف الآغا من رعونته،
٢٨ وقال بنعومة: طوَّل الله عمرك يا محترم، هذي دعوى فيها ما فيها، نحن نأخذ على
ضربة كف ريالين وثلاثة. بالنادر «يعلِّم» المدير هذا التعليم ويشدِّد هذا التشديد؛ المدعي
ظهره قوي. اقرأ يا خوري حنا، هذا مكتوب توصية من وكيل البطرك الخوري ب. الدعوى جناية،
ضرب
على السكة السلطانية، رابور بخمسة عشر يومًا قابل الزيادة … زِدْ له نصف مجيدي يزد لك
خمسة
أيام، ونحن قطعنا رأس الحية نأخذ مجيديين؟!
بُهِتْ جدي، ثم أعاد المجيديين إلى مصرِّه، وأخرج ليرة فرنساوية، فما إن رآها الآغا
حتى
أشرق وجهه، وصاح: هات «عسملية» يا بونا، الله ينصر السلطان، ليرته حلوة.
فقالت الوالدة، وكانت تتسمع: حكومة نهب وبلص. فأجابها الآغا: نحن نرضى بليرة يا أم
مارون،
جرِّبوا غيرنا تعرفونا.
وقال بطرس الآغا: وأنا لأي حساب أعطيتك ستة بشالك؟ فلم يَرُدَّ عليه الآغا، وأخذ يتأهَّب
للرحيل، فأسرَّ والدي في أذن جدي كلمة قال على أثرها: والجرنال يا آغا؟
فصرخ الآغا: على راسي ثم عيني، هذا الجرنال.
٢٩ اقرأ الملحوظات يا بطرس تعرف أن ستة بشالك ما ضاعت.
ودفع إلى جدِّي كرَّاسًا وجدته بين أوراقه الهرمة، وهو يتضمن الاستنطاق الذي أجراه
الآغا،
وقد ربط به عريضة الشكوى وتأشير المدير عليها بما سبق ذكره، وإليك شذرة من هذا الكرَّاس
الذي يسميه العوام: «الجرنال المحلي»:
•••
في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول سنة ١٨٩٧ حضرت أنا فارس الآغا أونباشي مركز
مديرية جبيل إلى قرية غ. لإجراء التحقيق بدعوى بطرس موسى على حنا ديب من محله على الوجه
الآتي:
استنطاق المدعي
س: ما اسمك؟
س: اسم والدك؟
س: اسم أمك؟
س: قدمت دعوى لعزتلو أفندم حضرتلري؟
ج: لا يا سيدي، تشكيت لمدير جبيل.
س: امهل عليَّ يا ابني؛ نحن لا نقول مدير جبيل، اللقب محفوظ عندنا. هذا
إمضاؤك؟
ج: أنا لا أقرأ ولا أكتب، رجب أفندي عمل لي المعروض.
س: إذن صحيح أنك مقيم دعوى على حنا ديب؟
س: ماذا تدَّعي عليه.
س: احكِ الواقع، قل: واللهِ العظيم لا أقول غير الصحيح.
وحلف الرجل، فسأله الآغا: لماذا ضربك حنا ديب؟
ج: كنا على الطريق رائحين إلى جبيل، حنا «يزتُّ عَتَابَا»
٣٠ وأنا «أكسر له على الميجانا»،
٣١ ولما صرنا في عقبة حبالين
٣٢ تعست
٣٣ دابتي، فقال حنا: دابتي لا تتعس.
تعجَّبت أنا، فقال: لا تتعجب، في رقبتها كتاب مار شليطا؛ مستحيل تصيبها مصيبة.
فقلت: سلام الله على اسم مار شليطا، ولكن أنا متعبد لمار قبريانوس، وهذا كتابه في
رقبتي
يحرسني ليل نهار.
فهزَّ برأسه، وقال: رح أنت ومارقبريانسك، اسأل يوسف أندراوس يخبرك عن عجائب مار
شليطا.
وقع بغله مرة من علو عشر قامات؛ فصرخ: بحياتك يا مار شليطا، فقام البغل، وحمله نصف
قنطار،
ولاقى صاحبه مثل النمر.
وأخذ يعد عجائب عجائب وأنا ساكت. وأخيرًا قال: مِنو مار قبريانسك يا بطرس؟ ما سمعت
السنكسار!
٣٤ اسمعه بعد جمعة، يوم عيد مار شليطا. مار شليطا كان ابن عم الملك قسطنطين،
وشليطا معناها المسلط. أيش معنى قبريانوس؟ أظن المقبور. مار شليطا جلدوه بأعصاب البقر
وما
مات. أدخلوه في الأتون
٣٥ وما احترق. جرُّوه بذنب الخيل في أرض مصر وبقي حيًّا، ثم أخذوه — يا رب تذكرني
— نعم تذكرت: إلى أنطاكية، ومزقوا ظهره بأمشاط من حديد، وشقوا جنبه وأعصاب عينه، ووضعوه
بين
صخرتين عظيمتين؛ فخرجت أمعاؤه وقطعوا رأسه.
مسكين مار قبريانوس! ما كلف قتله أكثر من كلمة. قتلة أم نوح
٣٦ أصعب من قتلة شفيعك، سحبوا رقبته مثل الفجلة.
كل هذا وأنا ساكت، فقال: احكِ، لا تسكت. تأمل صورة مار شليطا، رقبة حصانه مثل العضاضة.
٣٧ مار قبريانوس حافٍ بلا نعل، ينوس
٣٨ مثل المسلول.
وبقيت ساكتًا، فاقترب مني، وهزني بيده، وقال: احكِ يا آدمي، الحديث أخذٌ وعطا.
فقلت: الفرق بعيد يا حنَّا، الذي ينفع الناس مثل الذي ينفع الدواب؟ كم رجل ما عاش
له
أولاد حتَّى علَّق كتاب مار قبريانوس في السرير؟ فلان وفلان وفلان خنقت «القرينة»
٣٩ أولادهم. خذ خليل ضاهر، لبطته تهدُّ الحيط، لولا كتاب مار قبريانوس كان بالقبر،
أيٌّ هو أفضل: الذي يخلِّص الناس، أم الذي يخلص البغل والجحش والتيس؟ أنا يا حنا شفيعي
مار
قبريانوس، وأنت الله يبارك لك في مار شليطا. فهجم عليَّ قائلًا: يعني أنا بهيم؟ فقلت
له:
حاشاك. فخمَّنَ أني قلت له وحش؛ فضربني بالعصا وشقَّ رأسي.
س: هل تدَّعي بشيء غير الضرب؟
س: هل بينك وبين حنا ديب عداوة سابقة؟
ج: بالعكس، كنا مثل السمن والعسل.
س: هل عندك شهود على ما تدَّعي؟
ج: نعم، فلان وفلان وفلان.
ويلي هذا استنطاق الشهود والمدعى عليه، لم نطلع القارئ عليها؛ لأن الفحوى واحد، ولكننا
لا
نحرمه من مطالعات فارس آغا في الدعوى، وهي ما يسميها القرويون «ملحوظات»، ويبذل كل من
الخصمين الغالي والرخيص لتكون معه لا عليه، وإليك ملحوظات الآغا على علاتها:
عزتلو أفندم حضرتلري
بناء على أمر عزتكم توجَّهت حالًا لقرية غلبون، وحققت في دعوى بطرس موسى على حنا
ديب، الباين
٤٠ من تقرير المدعى عليه وشهادة الشهود إنو وحش، والدعوى صحيحة ما فيَّا
شك. حنا ديب المعروف عنو إنو زلمي
٤١ قاباضاي مناقرجي
٤٢ بريمو. مشهدلو بالتعدي بضيعتو وجواريا
٤٣ يتعدا عالناس، ولم كان حَدَا يربيه التربايي اللازمي.
إن شاء الله بيدوق المغرايي
٤٤ هلمرة.
وجب عرض الكيفية لعزتكم والأمر لمن له الأمر أفندم.
بنده
فارس …
أونباشي مركز جبيل