ملِك العَسل والدعاوى
في الضِّيَاع أحزاب وفيها نضال، وفي القرى تطاحُن وفيها اقتتال. القرية دويلة يتنازع زعماؤها نفوذًا أقرع، وسيطرة مُقعَدة، جارِّين خلفهم من العوامِّ أذنابًا أطول وأكثر ألوانًا من أذناب طيارات الصبيان، وإذا فتشت عن أسباب تشاحُنِهم وجدتَها أنت تافهةً، أما هم فيرونها نقطة استراتيجية جليلة القدر. ومتى حَمِيَتْ حرب القرية وطار غبارها امتدت إليها بد الأحلاف الخارجيين ودبوا لنارها بالحطب.
كانت «المشيخة» قطبًا تدور حوله رحى «الأيام» القروية، ينفق الرجل ثروة ضخمة ليخاطبه الناس بيا شيخ، أما اليوم فتقوم قيامتهم على المختارية وولاية الوقف، وعلى الناطور ومعلم المدرسة، وعلى رئاسة البلدية وعضويتها، وعلى المقابر والمشاع … إلخ. وإذا فرغوا من تلك الشئون الداخلية تألَّبَتْ أحزابهم حول المديرية والقائمَّقامية والنيابة.
ولي قائمقامية كسروان شخصٌ، فأطلق أحد القرويين الأسهم النارية إعلانًا لابتهاجه و«غرضه»، فسأله أحدهم: أتعرف القائمقام الجديد؟ فقال: لا، ولكني عملت ما عملت نكاية بابن عمي واستفزازًا لخصومي.
مَن تأمَّل القرية رآها صورة مصغَّرة للعالم الأكبر؛ طورًا يسفر احترابها عن جرحى، وأحيانًا عن قتلى، وفي الحالين عن قوى عسكرية تحتل الضيعة؛ فتأكل دجاجها، والمعلوف من غنمها، والعجول المسمنة من بقرها، ويفنى مالها الناطق والصامت.
رسمت لك صورة قرياقوس ضاهر، بطل حرب القرية العلماني — وهناك بطل إكليريكي سيأتي دوره — وفي نيتي الآن أن أعمل على إبرازها.
لم تنقضِ سنوات حتى صار لقرياقوس بيت وقبو وبئر، بناها بما قلع من حجارة، ولم ينزل عن حقه في الآبار القديمة الموروثة؛ ليظل باب الخصام مفتوحًا … أجال قرياقوس يد العمارة في الأرض الموات التي أحياها، فأمست توتًا يربي عليه ثلاث علب من بزر القزِّ، ويقبض في كل موسم عشرات الدنانير.
واشرأب قرياقوس إلى سياسة القرية حين بات في بحبوحة. انغمس في تلك البورصة المدمرة؛ فجاءته النكبات من كل فج عميق، وقضى عمره يدَّعي ويُدعى عليه وهو يستعين بالدَّين على حل مشاكله …
ورأى أن النحل دخل بلا أكل، فجعل وُكْدَهُ فيه حتى أربى عدد مدينة النحل عنده على ثلاثمائة جرَّة؛ فكان العسل عنده قناطير في عام الإقبال، وقد أغنى كنائس البلاد عن شراء الشمع العسلي الأوروبي، وإن كان لم يتبرَّع لكنيسة بشمعة. وإذا سأله وكيل وقف ذلك، أجابه ساخرًا: مساكين أولاد الوقف، ناموا أمس بلا عشا! وقفي أكبر من وقفك. ويشير إلى بطنه.
قلَّما سلم جار لقرياقوس من تعدٍّ وعداوة، فهو لا يعرف حَدَّهُ فيقف عنده، والخصومة مع قرياقوس أدت إلى خيرٍ إن كان ما ستعلمه خيرًا. التجأ أحد ضاربيه إلى مدرسة إكليريكية هربًا من السجن، فحمته المدرسة والثوب الإكليريكي في ذلك الزمان، فصار كاهنًا، وهاجر ضارب آخر إلى أمريكا فأثرى، وعندما عاد من خطرته الأولى أهدى إلى قرياقوس موسى أميركانيًّا فقبله … ثم شمَّر إلى الغد إلى بعبدا يطلب تنفيذ الحكم. ولكن الوقت كان قد فات، فالأحكام كالبارود يمسي بلا مفعول إذا طال عليه الزمن.
•••
سواء عند قرياقوس، أغالبًا عاد إلى بيته أم مغلوبًا، فشعاره: الله يدبر، أنت تريد ربك ما يريد. وكثيرًا ما كان يعود محكومًا عليه، فينبطح على فراشه في الخيمة، ويهدُّ على الزناتي خليفة، فكان ينكي بذلك خصومه ويمسي هو الغالب وهم المغلوبين.
إذا كنت تعلم أن عمرو بن معديكرب كان يأكل جديًا، فقرياقوس كان يأكل تيسًا ولا يحس أنه أكل. إنه يأكل بلا مقدار، فكان عنده مطحنة لا معدة. خاطروه مرة على وزنتي بطيخ، عشرة أرطال راجحة، فأكل ذلك. وخاطروه مرة على ثلاث إقات حلاوة، فأكلها وربح ما خاطروه عليه، وأكل مرة رطل حنكليس مع بضعة عشر رغيفًا، وتحلَّى بعد هذه الوجبة بنحو أقة من العسل.
ومع كل ما عند قرياقوس من عسل كان يشتهي الحلو في كانون؛ لأنه لا يعف عن شيء، لم أرَ فَمَه غير متحرِّك، وأي فَمٍ فَمُ قرياقوس! أدركته في مطلع شيخوخته، وقد سقطت أضراسه وأنيابه وأسنانه، وتجعَّد وجهه، فكنت إذا رأيته آكلًا، تخالك أمام كير دهري؛ فهو ينهش ويلهث، فلا تسمع إلَّا فحيحًا وغطيطًا. وإذا دعاك إلى الطعام يومئ إليك إيماء؛ لأن فمه يظل محشوكًا.
فصاح قرياقوس، وهو يكاد ينشقُّ من الغيظ: من عينيكِ، يقبر عيونك تينك … قال هذا وانصرف مغاضبًا.
وتَدلَّى التين القزي كالأكواز الفيروزية، فشرع قرياقوس يصبِّح التينة ويمسيها، ويناديها متضرعًا: عجلي يا مباركة، أنتِ خير من أوادم الضيعة …
فلمَّ جناديوس شباكه وانصرف، وشيَّعه قرياقوس بضحكة لولبية، وظل يقول له: ارجع كُلْ. وجناديوس منهزم يلعن صباح قرياقوس، وقرياقوس يهدُّ على الزير:
هذه إحدى قصصه مع عمي جناديوس، أما قصته معي فهي من لون آخر. كنت منذ الصغر — كما أنا اليوم — مولعًا بالعصي والقضبان، وكنت أتردد على قرياقوس يغريني به شكله الغريب وحركاته، ويلذ لي حديثه. وكان قرياقوس أكولًا كما عرفت، يحب كل شيء وخصوصًا البيض المقلي مبردًا باللبن مع ورق البصل، ولا دجاج عند قرياقوس؛ لأن غارات الثعالب على بيته المنفرد لا تنقطع.
جئته يومًا وفي يدي قضيب زعرور مُحرَّق، فقال لي: هذا قضيب يا مارون؟ قضبان عمك قرياقوس قضبان … في كل قضيب ألف نقطة ونقطة، ولا نقطة مثل نقطة.
قال هذا ومعوله يشقُّ صدر الأرض شقًّا، فهيَّجني وأغراني، فتعلَّقت بذيل قميصه الخلفاني أترجاه وأستعطفه. فصرخ بي: ابعد، توقَّ حالك، ثم انطلق عيار خفيف من قلعته المحروسة، فتراجعت مذعورًا، فضحك والتفت إليَّ، وقال: قضيب من هذا الشكل يلزم لتنقيطه عشر بيضات، وقنينة زيت، وسماق ناعم مثل الكحل، وتين مطبوخ، وبصل وتوم، وعب تتن من تتنات بومارون، وكلما كثرت الأشكال، وتبحبحت الكمية، كان القضيب أحلى. فهمت يا عيني؟
– تسلم عينك. نعم فهمت.
وسرت في طريق البيت، وقرياقوس يناديني: خذه يبص مثل قشرة الحية. وجئته بما طلب فتغدَّى أحسن غداء، ثم مسَّد على بطنه، وقال لي: اغدُ عليَّ خذ القضيب.
فعبست وأجهشت بالبكاء، ولكني خفت الفضيحة فتجلَّدت وحبست دمعتي، وحان موعد العشاء السرِّي فلم تجد أمي بيضًا لتعشِّينا، فاستعارت من عند الجيران وسكتت.
– أهلًا وسهلًا بأم مارون. يشهد عليَّ ربي ما قصدي الضحك على الصبي. ضاعت ولقيناها يا أم مارون، ما صار شيء إلا صار مثله، يفرجها الله، العسل قريب. يا ويل الذي عنده وما عند جاره.
وجاء الآغا على رأس فصيلته يهزُّ الكرباج، يتهدد ويتوعَّد، سوف يعمل ويسوِّي … وقرياقوس ساكت لا يزيد على قوله: الحق يحق … الله موجود.
إذا سمعت كلام قرياقوس ظننته رجلًا تقيًّا مفكرًا، مع أنه لا يحس إلَّا الساعة التي هو فيها، كان قليل الاتصال بالناس، لا يؤاسي ولا يسلي ولا يتوجع، كما قال بشَّار. وعاقبوه على هذه القطيعة، فلم يدفنوا ابنه الذي مات جوعًا في زمن الحرب، فاستأجر مَن دفنه ودفع الأربعة بشالك أجرة نقل ودفن، أما التابوت فلم يعد في الحساب، فتابوت الإنسان ثيابه إن كان بقي عليه ثياب.
وجرى استنطاق قرياقوس في جو مكهرب، فريق يسانده وفريق يضغط عليه، ولكنه كان رابط الجأش، لا يزيد على قوله جوابًا على كل سؤال: ما عندي علم ولا خبر.
فقال قرياقوس: يدك وما تعطيك يا آغا، هات كل ما عندك. لا تخلِّ من جهدك، إياك تقصِّر …
فانتفض الآغا، ورمى بالقلم، فكبَّ المرملة وقلب الدواة، واستوى على قدميه صارخًا: تتهددني يا قرياقوس! أنا ابن حكومة، تعارضني في مأموريتي؟!
– مرحبًا بك يا آغا. افتكر مثلما تريد. يا بحر ما يهزك ريح. الحبس للرجال يا فارس.
فصخب الآغا وعربد وكاد يخرج من ثيابه؛ ساءه ترك اللقب، أكثر مما ساءه الازدراء، فصاح: أنت رجل؟ أنت وحش دب!
– الكرامة لثوبك يا فارس.
فأرغى الآغا وأزبد، ولوَّح بكرباجه، فقال قرياقوس: لا تعرِّض نفسك، إن مددت يدك أكسرها من الكوع.
وظل الآغا يتبختر ويتنمر منتظرًا هبوب الزوبعة من الكيس.
فعوى الآغا كالذئب: كلب، كتِّفوه.
وجدَّ الجد، فلعبت الفلوس دورها، فانفك كتاف قرياقوس لقاء خمسة عشر ريالًا مجيديًّا قبضها الآغا نقدًا.
وعاد وجنوده إلى جبيل بعدما وعد أخصام قرياقوس «بملحوظات» محلية، تحرق دين قرياقوس من تسع وتسعين جهة … وتهتك حريمه، ولو شهد عليه واحد فقط أخذه مكتفًا إلى جبيل، وربطه في ذنب الحصان، ولكن …
كانت مقاومة قرياقوس في كل أزمة كمقاومة زهرة اللوز لعواصف شباط، تأخذ منها كل شيء إلَّا الجرثومة، لم يكن قرياقوس زهرة بل شوكة، لا يدري متى ترفع رأسها لتدمي.
وبينما كان يلبس ثياب «الشريعة» كانت زوجته تغسل السطل، وهو يحثها مناديًا: عجِّلي يا أم يوسف، تحرَّكي يا حرمة، ثم يخاطب نفسه بصوت مسموع: الهدية مفتاح الباب.
ثم يعود إلى مخاطبة زوجته: لا تنهمِّي يا مرين، أنا قرياقوس أنا! وحق القربان الطاهر، وحق مار روحانا إن بقي الآغا في جبيل أحش شواربي.
– نعم، خط مقوم، انظر، عين كفاع قبالتك، وجهك والدرب. قال له كل هذا وهو يفكِّر في مصيره، وما تقتضيه الدعوى.
وما ابتعد الرجل عنه مقدار رمية حجر حتى استوقفه قائلًا: يا عم، مَن تقصد من عين كفاع؟
– الخوري يوسف مسرح.
– بالبيت، حظك طيِّب.
وتوجَّه كل منهما في سبيله: قرياقوس يزحف ليبلغ جبيل مع الغروب، وتفتح له هديته الباب كما زعم، والرسول ليؤدي الرسالة في حينها. الرسول يغني العتابا والميجانا، وقرياقوس يشكو إلى نفسه خفة كيسه. لم يبقَ لديه غير ثلاثمائة قرش والموسم بعيد. الدعوى كبيرة، جناية يحتاج النفوذ في مضيقها إلى ألوف، ومن أين له الألوف؟ واشتدَّت عليه وطأة ذلك الحلم الواعي، فصاح: القرش الأبيض لليوم الأسود، بالمال ولا بالرجال، بيني وبينهم إسطنبول.
ثم هرول لا يلوي على شيء، كأن أحدًا يسوقه بسوط.
•••
وقصد الآغا قلعة جبيل، مقر المدير؛ ليقصَّ على عزتلو أفندم حضرتلري حكاية جناية عين كفاع. قصَّها بصيغة خطابية مفخمة، قال فيها «يا افندم» سبعين مرة وأكثر، والمدير صابر عليه. وأخيرًا قال له بسخر لاذع: وأين قرياقوس؟!
فقال الآغا: مريض يا افندم، كفله أحد أوادم الضيعة وخلَّينا سبيله.
وانجلت المعركة عن فصل الآغا إلى جونيه، وعودة قرياقوس إلى البيت بشفاعة سيادة المطران، وسعادة سطل العسل؛ وقديمًا قالوا: لله جنود من العسل.