الفصل الثامن
أجمل الشهُور
خرج قرياقوس من السجن ووقف في ساحة السراي وقفة من لم يصدِّق أنه حر، وشبك عشره
١ فوق حاجبيه ليرى ماذا من النهار بعد، ثم استضحك وحيَّا الشمس قائلًا: اشتقنا
إليك يا مباركة. قال هذا وأخذ يتهيأ للسير، فأدخل ذيل شرواله تحت زناره من وراء، ولما
اطمأنَّ إلى تمكنه، هملج
٢ كأنه بغلة الدير. وما كاد يبلغ جسر المعاملتين.
٣ حتى أدركته عربة فيها مقعد فارغ. المقعد حذاء السائق، وقرياقوس ليس ممن يحملون
الهم، فما انتصب على تلك الدكة
٤ العالية ووقعت عينه على البحر الساجي
٥ في تلك الأمسية البرَّاقة، كأنه بساط من كرمسوت،
٦ حتى تحرَّكت الموسيقى المهلهلية في صدره العريض، فعجَّ:
وإن لان الحديد ما لان قلبي
وقلبي من حديد
القاسيينا
فتعالى ضحك رفقائه من ورائه، فتمادى في غنائه المزعج، ولكنهم أسكتوه … لا نعجب أن
هيَّج
منظر البحر أبا يوسف؛ فهو ربيب شط حنوش.
٧ نشأ فتى في ظل جبل النورية،
٨ وعاش شابًّا وكهلًا يعاين كل حين جبل القطين،
٩ وكلاهما رائع رهيب، والإنسان ابن المربى.
دخل قرياقوس جبيل على صوت المؤذِّن، وهو يترنم بأذان المغرب، فنزل ضيفًا ضخمًا في
خانها
الأكبر، كان مغتبطًا جدًّا وهو يحيِّي زخيا القرموط، صاحب الخان، وازداد اغتباطًا إذ
رأى
فيه صديقه الحميم الخوري يوسف مسرح، فهجم عليه بلهفة المشتاق وهو يهتف: صدفة خير من ميعاد
يا خوري يوسف! فأشرق وجه المحترم وابتسم ابتسامة مقطومة
١٠ وقال: هذا أنت يا قرياقوس؟ ما طالت الغيبة. كيف كنت في بيت خالتك …
فقهقه قرياقوس وأجاب: كنا نشتهيك يا محترم.
– تشتهيك العافية، يا مقصوف العمر.
كانت قهقهة قرياقوس غير مكتنزة ولا سمينة، لم تكن تلك القهقهة الشائكة التي تُشبه
صياح
ديك الحبش؛ فأدرك ذلك الخوري، مع أنه قليل الملاحظة، فقال له: تغيَّرت يا قرياقوس، قلَّ
عرض
ضحكتك. ربَّاك الحبس!
– كان خلفي ثلاثون خيَّالًا تحمي ظهري، فما بقي معي غير ثلاثة، ومن ليس له ظهر مقطوع
الظهر.
لم يفهم الخوري مراد أبي يوسف، فأجابه: أنا قدامك في المركزين: المتصرفية والبطركية.
قل،
أنا مستعد.
– ما نفعني غير الخيالة يا معلمي.
– طيب، خذ فرسي وبنتها وابنها. أحسن رسن في المسكونة، ثم قهقه قهقهته الطائرة الصيت،
وقال: تريد تحارب نعوم باشا يا يوسف بك كرم؟ طنوس فارس حط أربعك
١١ بالمد!
فامتعض قرياقوس، وبان الاشمئزاز في وجهه، وقال لصاحبه متمثلًا بقول الزير:
والله ثم والله ثم والله
ثلاث أيمان في رب السماه
أنا محتار يا محترم فيك، كيف تعلمت اللاهوت
١٢ والشريعة؟ الذي لا يرى من المنخل، الأعمى خير منه. الخيَّالة ليرات الإنكليز.
أنا لا أطلب فرسك وعيلتها الكريمة، فهمت أم لا!
فأطرق الخوري كمن أدرك شيئًا فاته، وقال: هَمْ. ومطَّ الميم مطًّا طويلًا جدًّا، ثم
التفت
إلى قرياقوس، وقال: فهمت، نعم! ما معي غير ستة، خذ ثلاثة وأنا تكفيني ثلاثة، وأدخل يده
في
جيبه، وأخرج من عبِّه مصرًّا مخمليًّا.
وأخذها قرياقوس بعدما قبَّل اليد الطاهرة قائلًا: كفًّا لا تُعدم.
وانتفض الخوري انتفاضة من وجد مفقودًا غاليًا. همَّ بإسراج فرسه، فتولَّى ذلك أبو
يوسف
عنه، ولكنه روَّع الفرس ووضع السرج
١٣ بالمقلوب، فشبَّت
١٤ الفرس وحمحمت،
١٥ فلذَّت للخوري حركتها تلك، فصاح بها يغازلها: اسكتي، سدِّي بوزك.
١٦ ثم نحى قرياقوس بظاهر يده، وابتسم ابتسامة فاترة، وقال: بعاد
١٧ يا قرياقوس، أنت تفزِّع الغول.
ولما صار الخوري في السرج انحنى قليلًا، ورقصت لحيته من الغضب، وقال لقرياقوس: كلاب،
أولاد كلاب، أما إنهم يرحِّلوني عن عين كفاع أو أني أرحِّلهم. قبل الظهر، إن شاء الله،
أكون
في المتصرفية، عند «الباشا».
فأرهبت كلمة الباشا والمتصرفية قرياقوس، ولم يَفُهْ بكلمة، بل اكتفى بفتح فمه نصف
فتحة،
وظل ينظر إلى الخوري حتى غاب عن عينيه. بات الخوري ليلته في نهر إبراهيم،
١٨ أما قرياقوس فتعشَّى وتمشَّى إلى جسر الدجاج،
١٩ ومنها صعد إلى إده
٢٠ ليبيت ليلته عند نسيبة له.
كان أبو يوسف مفكِّرًا على خلاف عادته. فستة خيَّالة لا تحمي بطنه، فكيف بظهره. لا
موسم
حرير يرتجى، والنحل يعلم الله كيف يكون … فاتح نسيبته حنة لعلها ترشده إلى من يديِّنه
مبلغ
ثلاثين ليرة، فأجابته بكل سذاجة: شر الصباح ولا خير المسا.
انبسط وجه قرياقوس في الحال، وشرع يعرض عليها فصول روايته مشهدًا مشهدًا، أخذت المرأة
تهوِّم
٢١ وقرياقوس يثرثر؛ حتى أطارت نعاسها إحدى نبراته الصاعقة، فنهضت فجأة متمنية له
ليلة سعيدة.
وانبطح قرياقوس على فراشه ولكنه لم يَغْفُ، طفق يفكِّر في أولئك الذين سيشكوهم الخوري
إلى
«الباشا»، فلم يَشُكَّ قط في أن خصمه أولهم، فاستراح باله ونعس. وبعد هنيهة شخر ونخر،
وغط
غطيط البكر
٢٢ شُدَّ خناقُه، فحرم أهلَ البيت النومَ، لا يستغرب هذا ممَّن تعشى قدرًا محشوة
ورق عنب، ونصف إقةِ سمك ومثلها أو أكثر حلاوة، أما الخبز فلا يعد.
وعند الفجر الكاذب
٢٣ كان الخوري يوسف يرقِّص فرسه وراء العقيبة
٢٤ على مقربة من مار ضومط البوار.
٢٥ أجفلت الفرس فتماسك الخوري في السرج، وحدَّق النظر فإذا بفارس آغا يصلِّب يده
على وجهه كعادة أكثر النصارى متى قابلوا كنيسة، فصاح به الخوري وقد ظن أنه صلَّب تشاؤمًا
به: الله يخزيك أنت!
فصاح فارس آغا: لا أنا ولا أنت، صباح الخير يا محترم.
فعرف الخوري صوت الآغا فهتف: هذا أنت يا ملعون! إلى أين؟
فقال الآغا بصوته الفخم الأجش: راجع إلى بلادي، طالت الغيبة يا خوري يوسف.
لم تسرَّ الخوري هذه البشرى؛ لأنه يمقت الآغا مقتًا شديدًا، فأنحى على رقبة فرسه
بالقضيب
وأرخى لها العِنان، ولكنها لا تسبق الأتان مهما حثَّها، لم يتيمَّن
٢٦ أحد من هذين القطبين. قال الخوري في قلبه: ما أبشع هذا الصباح! هذا يوم نحس.
وقال الآغا: ما أبشع صباح الفرد — أي: من الغربان — صباح النوري ولا صباح الخوري. أما
القرية فهتفت دائمًا في كل صباح ومساء: الله ينجينا منهم ثلاثتهم.
•••
القرية — عين كفاع — هادئة مطمئنة، فدودة القز تشغل الضيعة، بل لبنان بأسره. الناس
جميعًا
على المصاطب قدام البيوت، فلا ترى إلا عرم
٢٧ ورق التوت وحزم القضبان المقشَّرة، كل من فيه حياة وقدرة على العمل يشتغل.
يتعاونون كلهم على إطعام القز؛ فهي نهمة ولا تشبع وخصوصًا إذا كان الطقس حارًّا، وكانت
مقبلة سليمة. لا يتعشون قبل أن يعشوها، وبعد الفراغ من العشاءين يستحيل كل بيت معبدًا.
شهر
نوار هو شهر العذراء مريم، أم المخلص ومعونة النصارى، ومعزية الحزانى وسلطانة السماوات
والأرض. حسبك أن تسمع الترتيل في كل فَمٍ يوم يطل عليهم هذا الشهر السعيد:
يا أولاد مريم وافوا للسرور
في شهرٍ تكرَّم من بين الشهور
إنه شهر مكرَّم حقًّا في لبنان. فيه — وحده — تقام الصلوات لمريم في كل بيت، وفي هذا
دليل
على وحدة الحال ورفع الكلفة. هي سيدة كل بيت، كبيرًا كان أو صغيرًا، بل سيدة كل قرية،
فقَلَّمَا تخلو مزرعة لبنانية من كنيسة على اسم السيدة. هي في عين كفاع سيدة القرقفة،
وسيدة
القطين التي تعرف أيضًا بسيدة البزاز. وفي بجه سيدة المزرعة، وفي غلبون سيدة الحوش، وفي
غرزوز سيدة الغارة، وفي جبيل سيدة البوابة. حتى الخوري يوسف مسرح له سيدة خاصة تعرف بسيدة
البياض، ولها عجائب غريبة يؤمن بها الخوري وسيأتيك حديث بعضها. لا تنسَ أن عجائب السيدة،
عليها السلام، تختلف في كل قرية. وبعض هذه الكنائس السيدية عجائبي وبعضها غير عجائبي،
وأشهرهنَّ سيدة البوابة التي لا يجرؤ أحد على الحلف بها كذبًا غير الآغا …
كانت القز مفطرة الرابع، وهو الطور الأخير من حياتها. هي في هذا الطور أخت قرياقوس
لا
تعرف الشبع. وكان الناس مستبشرين بإقبالها فكانت صلواتهم حارَّة جدًّا. شموع مضاءة في
كل
بيت، وبخور يفوح من هنا وهناك وهنالك، فكأنما الضيعة أمست هيكلًا. الترانيم والصلوات
والطلبات تتصاعد من كل ناحية وصوب، كل إنسان يصلي في بيته وحوله عيلته، وحيث توجد غرفة
يُستغنى عنها، تجتمع الجيرة بأسرها، فيصلون صلاة كاملة؛ أي يقرءون تأمُّلًا — فصلًا —
خاصًّا بكل يوم.
لكل إنسان مكان خاصٌّ به يصلي فيه إلا الهركولة، فإنها كابن الإنسان ليس لها مكان
تسند
إليه رأسها. تراها تكرج دائمًا على الطريق رائحة جائية، في يدها سبحة وردية،
٢٨ تجرُّها على الأرض؛ لأنها هي قصيرة ضخمة، فصارت كأنها مربعة. مسلف
٢٩ ترهَّل جسمها، فبدت عجوزًا درداء
٣٠ مع أنه لم تسقط لها سن. تبشِّر سعلتها الناس بقدومها، فهي وحدها من بين نساء
ذلك الزمان، كانت تُدخِّن. تملك من حطام الدنيا غرفة اختصها بها أبوها، وموقعها قبالة
الكنيسة والمقبرة؛ ولذلك كانت تُحدِّثُنا عن الكواكب التي رأتها تسقط على قبر فلان وقبر
فلانة.
تعيش حنة من مهنتها، فهي قابلة
٣١ مشهورة تُدعَى كالأطباء إلى القرى المجاورة. تحدثك عن الحبالى كلما اجتمعت بها
كما يحدثك الفلاح عَمَّا يرقب من غلال، والخوري عن مرضى، ينتظر رقادهم بالرب ليصلي عليهم
ويقبض المعلوم. تصف لك بخل فلان وكرم فلان. وأخيرًا تختم حديثها بكلمة لا تنفك تردِّدها:
العبد لا يغني العبد، الغنى من عند الفوقاني، وتشير إلى السماء.
كان صباغ وجهها زاكيًا، وكانت فينانة
٣٢ الذقن والشوارب؛ فسموها «عنابة»، وكثيرًا ما كانت تغتاظ إذا ناديناها بهذا
اللقب المطاط. لا نصرخ يا عنَّابة حتى تلحِّسنا ما تحت ذَنَبِ الدابة. سجعة هيَّأتها
لتدافع
بها عن نفسها، فالذي لا يكفيه لحس الذَّنَب فما عليه إلا أن يعيد الكَرَّةَ فيفوز بكل
ما
تحته من مستودعات.
كان للهركولة خطة سير معلومة لا تحيد عنها. تكنكن
٣٣ أكثر النهار في غرفتها، ولا تتحرك ركابها إلَّا عند الغروب، ولكن ببطء
السلحفاة. تخالها تفكر وتتأمل وهي لا تفعل شيئًا من هذا. حتى إذا قابلت زاوية الكنيسة
الشرقية ترامت عليها بشوق ولذة، «تقبل ذا الجدار وذا الجدارا» كما قال الشاعر، ثم تتلو
الأبانا والسلام مرتين، ولكن هذه الصلاة التقليدية لا تروي غليلها، فتلجأ إلى بلاغتها
هي،
وتخاطب مار روحانا بلغتها، قائلة: يا حبيب قلبي يا مار روحانا، أنا متَّكلة عليك يا قدِّيس
الله، احرسني، سهِّل أموري، بحياتك تغنيني عن الناس. رزقي عليك وحدك، أنا بنت مقطوعة
ما لي
غير الله وغيرك.
إن حنة تعتقد اعتقادًا لا يتزعزع أن مار روحانا يسهِّل أمورها؛ ولهذا لم تُفجَع بعدُ
بامرأة نفساء. وعرفانًا لجميل القديس تفرض النذر على الحبالى فرضًا، وقبل أن تضع يدها
على
حبلى تقول لها: اسمعي يا أختي، شرط في الحقلة ولا قتال على البيدر. أيش عندك للجار؟ لا
تقول
لمار روحانا؛ لأنه أصبح معروفًا. فموقفها منه كموقف أبي العلاء من أبي الطيب إذ قال
«الشاعر»؛ عرفنا من يعني، يستحيل أن تخلِّص الهركولة ولدًا ما لم تأخذ من أمه شيئًا
لجارها.
وبعد تلك النجوى الحارة تُخرِج سُبحتها الوردية من جيبها، وتنطلق فارهة
٣٤ نشيطة متأكدة أنها ضمنت معاشها، وكلما قاربت بيتًا عرفوها من زحفها وسعلتها
وتمتمتها؛ فتتعالى الأصوات من البيوت: تفضلي يا حنة، خشِّي،
٣٥ ومنهم من يدللها ويغنجها فيقول: يا حنينة، وإذا دخلت وكانوا على الأكل، وقيل
لها: انطحي الزاد،
٣٦ تنطحه بعشرة قرون … ولكن نطحات قرونها العشرة لا تعادل نطحة واحدة من نطحات
الوحيد القرن قرياقوس.
كلهم يعزمون عليها لأنها جريدة الضيعة الناطقة. تحمل في كل ساعة خبرًا جديدًا. وهب
أنهم
نَسُوا وأعجبها الطعام؛ فهي لا تعدم خطة تهاجمه بها. تتوسل كل يوم بوسيلة، منها تعليم
الصغار كيف يأكلون بالمثل، فتأكل ما شاءت والناس يضحكون، وتوبخهم لأنهم لا يعلِّمون أولادهم
الأكل الحسن. وبعد أن تشبع تلتفت وتقول للصغار: هكذا كلوا المجدرة يا عمتي.
ما بلغت حنة بيت الخوري مسرح حتى طبطبت: إخيه، الدار خالية والضيعة مستريحة. ثم قرعت
صدرها، وقالت: ليتها روحة بلا رجعة. الله يسعده ويبعده. والتفتت صوب الكنيسة، وقالت:
بجاهك
يا حبيب قلبي. وبينا هي مستغرقة في هذه الصلاة العقلية … سمعت صوت المصلين، فصاحت: يحرز
دينك يا عين كفاع، ما أحلاك! ضيعة مثل السما في غيبة خوري مسرح وقرياقوس.
وتقدَّمت قليلًا حتى تجاوزت مار صوما — برصوما؛ كنيسة متهدمة قديمة جدًّا — لم تصلِّ
لها
كالعادة؛ لأن خوري الضيعة أفهمها أنها كنيسة يعاقبة — هراطقة يقولون: إن في المسيح طبيعة
واحدة — ولكنها تذكرت صلواتها وتأسَّفت على ضياعها. وتقدَّمت قليلًا فاشتمَّت رائحة البخور،
ففتحت منخريها وشهقت كأنها تتغذَّى من تلك الرائحة الذكية، ثم صرخت من أعماق قلبها تناجي
المصلِّين: الله يقبل منكم، ويبارك في مواسمكم. ثم اندفعت في طريقها تصلي بحرارة وإيمان
دونهما الوقيد.
٣٧
وارتفع من أحد البيوت صوت آنسة تنشد: يا أم الله. فردَّدت حنة: يا حنونة، ومن أحنَّ
منها!
لا يعرفها إلا من التجأ إليها. أنا أعرفها، خلصت بشفاعتها مئات من الأمات. هي أم، ولا
يعرف
ما عند الأم إلا الأم.
وما بلغت المرتِّلة
٣٨ المقطع الأخير الذي ينشدونه بأقصى ما في الصوت من مدى: تشفَّعي فينا يا عذرا،
حتى قرعت حنة صدرها قرع مهدَّة لصخر أصم، وهي تقول للمرتِّلة من بعيد: شدِّي شدِّي، الله
معك. يسلم لي صوتك الحلو.
وعندما بلغت رأس الضيعة دخلت بيتًا تعوَّدت أن تدخله كل مساء لتسمع التأمل. كان في
تأمل
ذاك اليوم حكاية غريبة، فأصغت حنة جيدًا؛ لأنها ميَّالة طبعًا إلى الأخبار الغريبة. ولا
بدع، فهي نفسها عجيبة، ذات شاربين طارين وفَمٍ ينفتح نحوًا من فتر، وساقٍ ليست أكثر من
شبر،
وكان لها أخٌ أمسخُ منها يمشي على العكاكيز.
دخلت حنة فاستفزَّتها كثرة المصلِّين، فقالت: شيء يفرح القلب، بيت محشوك مثل الرمانة.
ثم
قعدت على عتبة الباب تسمع.
قال القارئ: خبر. فقالت حنة لجارتها: اسمعي اسمعي، أخبار أورياما حلوة.
«إنه في سنة ١٧١٤ كان شابان يدرسان العلوم في فياندرا،
٣٩ كانا ثاقبي العقل غير أنهما كانا سائرين سيرة رديئة جدًّا. صرفا نهارهما في
اللعب والنهم والشراهة، وعند المساء ذهبا إلى بيت لإهانة الله. وبعد مُضِيِّ قسم من الليل
رجع أحدهما إلى مسكنه وبقي الثاني ليشبع شهواته ويشرب كأس بابل
٤٠ حتى آخرها.
انتبه الذي عاد إلى البيت، وتلا كعادته، ولكن بضجر كُلِّيٍّ بعض مرَّاتٍ السلامَ
الملائكي، ثم استغرق بالنوم، فسمع باب غرفته يُقرع بشدة، وقبل أن ينهض ليفتح الباب رأى
رفيقه داخلًا الغرفة بصورة مرعبة، فانذهل وسأله كيف دخل والباب مقفل، فأجابت تلك النفس
التعيسة: كان يجب أن نُرسَل كلانا إلى جهنم في هذه الليلة بحكم الله العادل، أما أنت
فقد
خلصتك البتول؛ لأنك صلَّيت لها. أما أنا فقد قتل جسدي من الشيطان، وهو مطروح في السوق
الفلاني.»
فصاحت الهركولة إهيك، يا ديك الحطب، كنت صلَّيت مثله يا جحش.
فضحك الجميع، ودروا أن حنة معهم، واستبشروا بخبر جديد.
وتابع القارئ قائلًا: «ولتحقق ذلك كشف له رداءه، وأراه النار وكثرة الأفاعي، التي
كانت
تعذِّبه. قال هذا وغاب عنه.»
فقرعت الهركولة صدرها وقالت: يا عضرا نجِّينَا.
وفي نهاية الفصل عبارة وجيزة يسمُّونَهَا نافذة، يكرِّرها العباد ثلاث مرَّات. أما
نافذة
هذا اليوم فكانت: الشكر لك أيتها البتول لأني لا أحترق.
فردَّدوها ثلاثًا، وكان أبرز الأصوات صوت الهركولة، ولكنها قالت في النهاية بدون وعي:
قرياقوس جا. فضحك فريق وتوقَّر آخرون، وطار الخبر في الضيعة، فظن الخصوم أن الخوري يوسف
مسرح هو الذي سعى لإخلاء سبيله، فأعدُّوا العدة لاستقبال الخوري عند عودته استقبالًا
لائقًا.