خوري مُسَرح
في القرى مآسٍ ومهازل تمثَّل كل حين، ولا تنصب لها أخشاب ولا تُرخَى ستائر. إنها تمثَّل في كل مكان: في البيت، في الكنيسة، وفي الحقل، أبطالها كأبطال الروايات والروائع وإن ظلَّت شهرتها محلية. إن حياة الخوري يوسف بطرس أبي إبراهيم، المشهور بالخوري مسرح، نسبة إلى قريته، مأساة ومهزلة في وقت معًا. تراه فتحس أنك أمام مهرِّج وممثل جدِّي في وقت واحد.
المعروف عنه أنه خوري بتول، عفيف طاهر الذيل، ومنهم من زعم أنه لم ينظر إلى امرأة قط، حتى امرأة أخيه التي كانت تقيم وإياه تحت سقف واحد. ولما أنس من نفسه ضعفًا بشريًّا، كما يسمِّي الغريزةَ رجالُ الدين، وخاف من نفسه الأمَّارة بالسوء، قعد الخوري وحده في بيته الذي ورثه عن أبيه؛ ابتعد عن أهله الأدْنَيْنِ خوفًا من أن يجرِّبه إبليس الملعون، ويعمل بشريعة موسى فيقيم سهوًا زرعًا لأخيه … انفرد خشية أن يتهمه الناس بما كان يتهم هو غيره من الكهنة المتبتلين، وكان إذا سُئِلَ عن سبب عزلته عن الناس سالت الآية الإنجيلية على لسانه: «الويل للعالم من الشكوك …» عُرف المحترم — كما قلنا — بنسبته إلى «مسرح» وهي قرية منعزلة هادئة مطمئنة، ولكن الهدوء فارقها حين حلَّت نعمة الروح القدس على هامة الخوري يوسف، تلك الهامة المستطيلة كالكوساية الهَرِمَة التي غفل البستاني عن قطافها.
يسمُّون الكهنوت عندنا «دعوة» من الله، ولكن المرجَّح أن الله بريء من كهنوت هذا الخوري وغيره من الكهنة، فكهنوته كهنوت خبز كجميع الكهنة إلَّا نفرًا قليلًا، وما كذب من قال عن أحد هؤلاء حين سيم كاهنًا: فتح دكان خوري. وقد صدق في الأكثرين؛ لأن لِلَابس هذا الثوب، بضاعة لا تبور، يرافق الإنسان قبل الولادة ويلحقه إلى القبر.
ويهرول الخوري حتى يشرف على قبو الفرس وبناتها، ويصيح بصوت جهوري، واقفًا على كل كلمة: رفُّول … يا رفُّول … هات سعده …
فيرد عليه رفول بصوت لا يفسَّر: الله لا يسعدك.
وتمشي سعده تنظر إلى الخوري نظرة فيها دلال وشوق، فما تكاد تصل حتى يتعلَّق بقربتها الطويلة ويضحك لها ضحكة أبوية. وتحمحم سعده فيصيح بها صيحة فيها غنج كثير: اسكتي «ولِيهْ».
أما نياشين النحس فلم تمنح العزة الإلهية فرسه شيئًا منها ليدُلَّك عليها، ويختصر الكلام عنها بقوله: هل ترى على الفخذ شيئًا؟ تأمل جيدًا، فأسوأ النياشين نيشان الفخذ.
– الحمد لله. وألف شكر.
واطَّلَعَ في إحدى ليلاته السود على حكاية «البرَّاق» حصان النبي، الذي عرج وهو راكبه على السماء، فزعم أنه جد سعده الأعلى، وأن خضرة دياب بن غانم، بنت عم ستها.
هذه حكاية فرس الخوري يوسف. أما وقفيَّة مسرح فعقارات مِغلال في قرية عين كفاع، وولاية الخوري يوسف عليها خربت ضيعتين: عين كفاع ومسرح، كما قرأ وتقرأ خبر أحداث عين كفاع. أما أخبار مسرح فلا محل لها في قصتنا.
أذكر ولا أنسى يوم قال لي والدي: رُحْ تعلَّم عند خوري مسرح، هذا من أقاربنا، وهو من الملافنة. ورحت إلى عليَّة العلَّامة الملفان في عرف والدي؛ فأعطاني كتاب مغني المتعلم عن المعلم، لعلَّامة عصره المطران يوسف الدبس، صاحب تاريخ سوريا. وطاب لي التعلُّم عند خوري مسرح لخفَّة روحه وحرية فكره، فبضاعته غير بضاعة جدي الخوري حنا، المتزمِّت المتشدِّد.
وقرأنا معًا — أي أنا والخوري يوسف — مسألة عودة الضمير إلى متأخر لفظًا ورتبة، وكان المثل على ذلك: وكلَّم موسى ربه؛ فإذا بالخوري يفاجئني بقهقهة قرد عتيق، ويقول: صدَّقت يا ابن عمي؟ إياك أن تصدِّق. الله لا يكلِّم أحدًا. هذي خلطة من خلطات التوراة، ولو كان لي سلطان على الكتبة والفريسيين لمنعت قراءتها. فإن التوراة تدخل الشباب في التجارب … وتعلمهم ما لا يعرفون من قصص الزنا والسادومية.
قلت: وما هي السادومية؟
فقفز الخوري فوق سؤالي كما تقفز السيارة فوق خط الترام، وقال: أتعرف كيف فسَّر ذلك علماءُ الكنيسة؟ قالوا: كان الملاك يكلِّم موسى لا الله، وهذي خرطة أيضًا، ولكنها أصغر من هاتيك.
فقلت: لتصير مقبولة.
فصاح: لا مقبولة ولا شيء. لا تصدِّق يا مارون.
وفي المساء سألت جدِّي عن معنى كلمة «السادومية»، فاضطرب وقال: وممن سمعتها؟
فقلت: من خوري مسرح، ورويت له ما سمعت منه حرفًا حرفًا.
لم يقل لي جدي أين قرأتها؛ لأنها لفظة لا يقع عليها إلا الراسخون في علم اللاهوت، وأنَّى لمراهق مثلي أن تصل يده إلى خبايا كتاب اللاهوت الأدبي وما فيه من أخبار نظيفة … ثم اختصر جدي الحديث، ولم يزِد على قوله: إياك تروح صوبه بعد، أنا أعلمك وأبعتك بعد حين إلى أكبر مدرسة. وقام وهو يقول: زعزع الخوري إيمان الصبي، وعلَّمه ما لا يعلمه من أخبار الفسق والفجور والكفر. ماذا تنفع خوري مسرح بتوليته ومعرفته علم الشريعة إذا كان بلا إيمان ولا يقدِّر العواقب ويشكِّك الناس.
أما الخوري فهو لم يتعلِّم الحقوق ليتعيَّش بعلمه، بل ليدافع عن وقفيته التي أضاف إليها جميع أملاكه الخاصة، وجعل الجميع تحت سلطة البابا ليتخلَّص من البطرك الماروني وتسلطه عليه.
وعلى ذكر الحقوق نروي هنا عنه نادرة تدلُّ على قلة كياسته. قيل إنه كان مرة عند البطرك بولس مسعد المؤرخ اللبناني، مؤصل الأسر اللبنانية، فسأل البطرك الخوري يوسف عن حاله، وكيف هو وعلم الشريعة؟ فأجاب الخوري البطريرك: علم الشريعة هيِّن جدًّا. لا يصعب على غبطتك، إذا قصدت أن تتعلمه. فزأره البطريرك ثم صرفه من حضرته بلباقة وكياسة.
وظل خوري مسرح صديقًا للبطرك حنا الحاج طوال أيام رئاسته، وصادق بعده المطران يوسف بو نجم، داهية الموارنة الإكليريكيين. كان يعلِّق الخوري يوسف على تلك الصداقة آمالًا كبارًا … إلَّا أن أمله خاب إذ مات البطرك يوحنا، وفاز المطران إلياس الحويك بالبطركية، وبايعه أبو نحم وإن لم يَحُزْ ثلثي الأصوات؛ خوفًا من تدخل رومية الذي يجيزه لها المجمع اللبناني عند وقوع الخلاف على انتخاب البطريرك، وتعيين من تريد هي بطريركًا، وتلك مشكلة الموارنة الأبدية. نزاع دائم على الحقوق بين البابا أسقف رومية وبين البطريرك الماروني أسقف أنطاكية.
كان إذا قصد بكركي يدخل من باب سري يؤدي إلى غرفة المطران بو نجم، لم يكن يعرج على البطرك إلياس إلَّا إذا وقعت العين على العين واضطر إلى ذلك. ففي كرسي بكركي مراقبون للوجوه والأعيان، ولكل وجيه أو إكليريكي متنفذ، مرجع في ذاك المقام، قد يزوره ولا يزور سواه من سادات الكرسي، والخوري يوسف كان من حزب المطران أبي نجم ولا يزور غيره.
لم يكن البطرك إلياس يستمرئ حديث الخوري مسرح، ويعتقد أنه خفيف العقل، وهو كذلك. كان يعرفه لأنه ابن حلتا، وحلتا ليست بعيدة عن مسرح. كان يعرف عقله وميوله، فقَلَّمَا كان يُسمع للخوري يوسف كلمة، والخوري يوسف كان غير هيِّن، يحب المعاكسة، فكان يقف دائمًا في صف المعارضة. فعندما حمي الشَّرُّ بين رستم باشا والإكليروس الماروني كان الخوري يوسف مع رستم ضد أحبار الطائفة، والخوري إلياس الحويك — البطرك إلياس — كان حامل العلم في تلك المعركة، يناصب رستم العداء بالنيابة عن سيده البطرك مسعد.
فابتسم الحاضرون، وقال الخوري يوسف: يظهر يا سيدنا أنها صارت تأخذ ثأرها بيدها، ولم تبق لنا حاجة إلى الحكومة.
وأراد الخوري يوسف أن يستلم حديث الحمراء الأصيلة ونياشينها، فقال له البطرك: هات أخبار سيدتك أولًا. ماذا عملت عجائب طازة؟
فضحك البطرك، وقال: بالرزق ولا بصحابه.
– وأين ضربك؟
– على كعب ظهري …
فقال جناد أحد شمامسة غبطته: الذي يضربك يربح غفران سنة كاملة.
وضحك الخوري اسطفان الدويهي، وقال: رأسك مكرَّس لا قفاك يا خوري يوسف.
فكتم البطرك ضحكته تحت رفرافي حاجبيه، وقال: رفُّول أخوك، ما كان معك لما ضربك الكريدي؟
فقال الخوري: رفول الهبيل! اسمع ما قال للكريدي: اضربه يا سركيس، ولكن لا توجعه كثيرًا حتى يتربَّى ويتعلم كيف يجوِّعني.
فقال البطرك: يا ويلاه يا حالاه! وآخر عجيبة يا خوري يوسف.
فعقد البطرك جفونه، واستفزته كلمة الخوري، فقال له: المسيح، يا خوري يوسف، افتدى الناس بدمه، وأمه التي تسميها سيدتك تقتل زلمي بورقة توت في أيام تشرين؟ هذه ضبعة لا سيدة، يقلع لك ولسيدتك، قم برَّه. أي اخرج.
وترك البطرك قاعة السهرة، وقال للخوري وهو ذاهب: صلِّ يا خوري يوسف حتى يهديك الله، ويستريح أهالي عين كفاع ومسرح من شرِّك، أقلقتهم وأنت وحدك، واليوم صارت معك سيدتك تسند لها حتى تحمِّل لك. أنت لو شبَّعت أخاك رفول لردَّ عنك الناس، وما كلَّفت السيدة. أنا أعرف رفول، رفول عملاق، يقاوم طابور عسكر.
وذهب البطرك إلى جناحه في بكركي، وبقي الكهنة والشمامسة يتنادرون على الخوري. يمجدون فرسه الحمراء الأصيلة ويبجِّلون تتنه الطيِّب، وظلوا يلفون السكاير ويعبئون الغلايين؛ حتى كادت ضبوته تفرغ، فأمسك.
وهرع الخوري وهو يصفِّق بيديه على ركبتيه، ويقول: من لا يؤمن بعد اليوم بقدرة سيدتي!
ومن أضاحيكه التي لا يسعها مجلد ضخم أنه كان يقدِّس يومًا … وقطعت فرسه رسنها، وخاف أن ترعى الخضار الذي حول الحارة، فخرج من الكابلا تاركًا الكأس والقربان على المذبح، وشرع يركض خلف الحمرا وعليه ثياب التقديس …
تصوَّر كاهنًا عليه حلة القداس وهو يركض خلف بهيمة، ولا يتذكر أنه ترك الذبيحة الإلهية؛ ليخلص عشبة من فَمِ فرسه، وما حسب أن الهر قد يدخل ويأكل جسد الرب …
فالخوري يوسف على ما فيه من هنات غير هيِّنات، كان يظن نفسه نابغة عصره لا يعجبه أحد، ولا شك أن القارئ يتوق إلى صورة له كاملة، تامة الخطوط والألوان، وها نحن نرسم له بعض نواحٍ من تلك الصورة، كما كنا نراه في مباذله.
•••
على غنبازه بقع متعددة الأشكال والألوان، وعلى صدره يتدلى بند حريري لمعته الأوساخ، يربط في آخر آخره ساعة ليبية يتدلى مفتاحها بخيط غليظ على زناره.
كان الكهنة الموارنة القدماء يحذفون شرابة الطربوش، أما الخوري يوسف الشاذ فأبقاها، حتى أنه لم يكن يُعرف وهو على ظهر فرسه، أخوري هو أم أنه من المغاربة الدجالين الذين ينادون على ما في خرجهم من أدوية: دوا للعين، دوا لوجع الضهر، دوا لوجع البطن. معنا لكل شيء دوا.
أما حفافي ذلك الطربوش المغربي فتصلح للزراعة لكثرة الوسخ الذي عقَّد عليه، فلو زرعت الفجل في ذلك الهلال الخصيب لغرز فيه ونما، ومع كل هذه القذارة كان الخوري مترفِّضًا، ما رأيناه يأكل أو يشرب عند أحد.
فأجاب الخوري وهو واثق بكل كلمة يقولها: سيدتي غير سيدات العالم.
وعندما طالت إقامته في الفاتيكان رأى حلمًا، فحمله على كفه، وهرع إلى كردينال المجمع الشرقي يقصه عليه: يا سيدنا في هذه الليلة زارتني سيدتي وأمرتني بالرجوع إلى لبنان.
فقاطعه الكردينال قائلًا: هذا عجيب! سيدة تجيء إلى الفاتيكان بالليل. كيف دخلت؟!
فقال الخوري مسرح بالعربية: هذا أضرب من البطرك إلياس!
ثم حدَّق إلى الكردينال ليقول له: دخلت مثلما دخل الملاك عليها ليبشِّرها.
فأدرك الكاردينال ما يعني الخوري، وقال له: الأمور تطول مدتها في الفاتيكان.
فنبر الخوري بالكردينال، وقال: لا أقدر أن أبقى أكثر ممَّا بقيت. هي أمرتني بالرجوع ولا مردَّ لأمرها، سأعود غدًا.
فقهقه الخوري قائلًا: قدَّمتها من زمان، ولو كان عمل لي شيئًا ما كنت تعذَّبت ولا جيت.
– كان الأحسن ألا تتعذب يا أبتِ المحترم؛ فالدعاوى في رومية لا تنتهي …
فقال الخوري للكردينال بوقاحة: يظهر أنك شرقي.
فضحك الكردينال، وقال: ولو لم أكن من الشرق لم أحسن تأجيل الأمور وتطويل مدتها.
•••
ليس في بيته قدح أو كباية، فهناك إبريق بلا رقبة، بلبلته مقرومة. فإذا ما زرته شتاء، وهو يقتني أجود أنواع الخمور، فكَّ طاسة كأس التقديس من شمعدانها، وأغرقها في الخابية بإصبعيه المسمَّدين وسقاك على ذكر المسيح مدامة … وفي الصيف يسقيك من ماء بئره البارد بطاسته الفضية المزرقَّة.
عند النصارى لا يجوز إلَّا لمن يأذنه الأسقف أو الخوري أن يمس كأس التقديس، فقصد يومًا واحد من عندنا الخوري يوسف، والتمس منه الإذن بإمساك الكأس، فأجابه الخوري على الفور: أمسكه.
فقال ذلك الرجل: أعطني الإذن أولًا.
فقهقه الخوري وقال: أعطيتك، أمسكه، هذا هو …
فاستغربت المرأة ذلك، ولم يعجبها هذا الدخول، فقال لها الخوري: يا أم إلياس، إذا كنت نجسة لأنك وضعت ونزفت فالخوري لا يقدر أن يطهرك بما يثرثره لك؛ طهِّري قلبك أولًا وما تطلبينه من طهارة فوق ذلك يأتيك من عند الله لا من عندنا.
هذي غرائب وعجائب خوري مسرح، وإذا فاتني منها شيء في هذا الفصل فستأتيك بعدئذٍ أشياء من أشيائه في سياق الكلام.
أما أشهر مزاياه فهي أنه برِّيٌّ غير داجن، لا يزور ولا يُزار، ما خالَلَ وصادَق غير قرياقوس، ولعلَّ ذلك ناتج عن تطيُّر. كان الخوري يتشاءم، وكان يقول عن صبيٍّ كريه الطلعة: هذا شيطان أزرعه يفرِّخ.
وبيت الخوري على دربٍ عام، والناس تَمُرُّ من قدامه أفواجًا، فكان يصرخ كلما استبشع واحدًا، ويصفق على فخِذيه ويصيح: يا الله! أشكال وألوان خلائقك يا آدم!