ما التعددية الثقافية؟
ربما يكون أوضح ما تتسم به النقاشات العامة حول التعددية الثقافية في الآونة الأخيرة هو الافتقار للوضوح فيما يتعلق بالمصطلحات الرئيسية المتصلة بها، فتعريف التعددية الثقافية تعريفًا مقبولًا كان دائمًا أمرًا صعب المنال، وظلت البدائل المقترحة مثل «الاندماج» مبهمة هي الأخرى بدورها؛ لذا فمن الأصوب البدء ببعض المقدمات التاريخية والاصطلاحية الموجزة التي ستعود إليها المناقشة في مواضع عدة من الكتاب.
(١) التنوع الثقافي والتعددية الثقافية
ظهرت «التعددية الثقافية» في الخطابات العامة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، عندما بدأت كل من أستراليا وكندا في التصريح بتأييدها لها. وإنَّ في شعور هذين البلدين آنئذٍ بالحاجة إلى تبنِّي الهوية «متعددة الثقافات» وإلى إعلان تأييدهما للتعددية الثقافية أدلة مهمة على المغزى والدلالة العامَّين لهذين المصطلحين.
تلك هي الفترة التي كانت فيها أستراليا وكندا قد شرعتا في السماح بهجرة جديدة راحت حينها «تضفي الصبغة الآسيوية» على هاتين الأمتين، فحتى ذلك الحين، كانت أستراليا تطبِّق سياسة تقصِر الهجرة على البيض طبقًا لنص قانون تقييد الهجرة لعام ۱۹۰۱، واعتُبِر الآسيويون واليهود على حد السواء غير قابلين للاستيعاب. وفي عام ۱۹۷۱ كان ثمة اعتراف رسمي بالحاجة إلى المساعدة في تكوين مجتمع «متعدد الثقافات»، مما مَهَّد الطريق أمام إلغاء تام للشروط «العنصرية» عام ۱۹۷۳.
وقد حُثَّ المهاجرون على «الاندماج» بدلًا من مطالبتهم بالخضوع للاستيعاب؛ أي إنهم أصبح في مقدورهم الاحتفاظ ببعض مكونات «ثقافتهم الوطنية»، واعتُبِرت جمعيات الجاليات العرقية وسيطًا مهمًّا للاندماج.
وقد سلطتُ الضوء على عنصر الاندماج في إطار التعددية الثقافية، وسأفعل ذلك فيما بعد، تأكيدًا على أن التعددية الثقافية لم تتعلق قط بالتشجيع على الفصل والعزل، وإنما تضمَّنت تشكيل كيانات يشارك فيها المهاجرون والأقليات العرقية مشاركةً منصفة مع الإقرار بمعقولية رغبتهم في الاحتفاظ بجوانب من ثقافاتهم، وبأن التنوع الثقافي أمر مستحسن في حد ذاته ويعود بالنفع على الأمة من نواحٍ عدة. وللتعددية الثقافية — فضلًا عن ذلك، كما سنرى — جانب يدعو إلى تكافؤ الفرص ومناهضة التمييز، الذي غالبًا ما تغفله النقاشات المتعلقة بمعنى التعددية الثقافية وفاعليتها.
في كندا، بدأ النقاش بالعلاقات المضطربة بين الإقليمين الناطقين بالإنجليزية والفرنسية في ستينيات القرن العشرين، فأوصت لجنة مَلَكية معنية بثنائية اللغة وثنائية الثقافة بضرورة اعتبار الإنجليزية والفرنسية لغتين رسميتين، إلا أن قانون ثنائية الثقافة وثنائية اللغة لعام ۱۹٦٩ أثار أيضًا مسألة الأقليات الأخرى في كندا، واعتُمِدت التوصية الأخرى للجنة الملكية الداعية إلى ضرورة توسيع نطاق التعددية الثقافية في الهوية الكندية كسياسة رسمية، وكان هذا مقبولًا في البداية في إطار ثنائي اللغة يشمل اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لكن بحلول عام ۱٩٨٨ صدر قانون للتعددية الثقافية وسَّع نطاق شروط التضمين.
ربما تكون لفظة الاندماج فضفاضة إلى حد بعيد؛ فأنا لا أراها تعني فقدان المهاجرين لخصائصهم وثقافتهم القومية، ولا أظننا في هذا البلد بحاجة إلى «بوتقة» تُشَكِّل كل فرد في قالب مشترك، كنسخة ضمن سلسلة من نسخ كربونية من تَصَوُّر خاطئ عن الرجل الإنجليزي النمطي. لذا فأنا أُعرِّف الاندماج ليس على أنه عملية تسطيحية تهدف إلى التجانس، بل إلى التنوع الثقافي، الذي يصحبه تكافؤ الفرص في ظل مناخ من التسامح المتبادل. وإن كان لنا أن نحتفظ بأي نوع من المكانة العالمية المرموقة فيما يتعلَّق بالمعيشة المتحضرة والترابط الاجتماعي، فعلينا أن نقترب من تحقيق الاندماج بقدر يفوق كثيًرا ما عليه الحال في الوقت الحالي.
ولك أن تلاحظ التأكيد على كلٍّ من التنوع الثقافي وتكافؤ الفرص.
(٢) التعددية الثقافية وإضفاء الصبغة العرقية
بالرغم من الصيغة التي جاء عليها بيان جنكينز، فمن الضروري التنويه إلى أن رد الفعل تجاه السكان الوافدين إلى جميع أنحاء أوروبا الغربية، فضلًا عن أستراليا وكندا، كان النظر بصفة عامة إلى المهاجرين على أنهم مختلفون «عرقيًّا» عن أغلبية السكان البيض، على الرغم من أنه حينئذ كانت مشروعية فكرة «العِرق» قد أصبحت فعليًّا محل اعتراض جاد. وقد اتسمت قضية التعددية الثقافية بالصبغة «العرقية» منذ نشأتها. وتستمد التعددية الثقافية جذورها — إلى حد بعيد — من الاستجابة للشعوب التي أقامت سابقًا في مستعمرات أوروبا التي جرت العادة على النظر إليها على أنها أعراق دُنيا بطبيعتها.
وما زال من الشائع — لا سيما في بريطانيا — استخدام مصطلحَيْ «متعدد الأعراق» و«متعدد الثقافات» باعتبارهما وصفين متبادلين، على الرغم من أنه في ألمانيا أدى الكابوس العنصري المتمثل في الفترة النازية إلى خطاب عام ناقش القضايا — على الأقل رسميًّا — من منطلق «الأجنبي».
ويكون العِرق في معظم النقاشات الدائرة حول التعددية الثقافية — لا سيما في أوروبا — هو المشكلة الكبيرة التي يغض الجميع الطرف عنها. وعادة ما تكون العنصرية هي الشبح المخيف غير المذكور الذي بالنسبة للكثيرين لا يمكن ذكره، والذي عادة ما يصاحب الهجوم على التعددية الثقافية، حتى إن نقد «التعددية الثقافية» في وسائل الإعلام الشعبية والثقافة الشعبية كثيرًا ما يقوم مقام تعبير مُلطَّف لمعاداة «هجرة الملوَّنين» و«المهاجرين الملوَّنين» ذوي الأصول الجنوب آسيوية والكاريبية الأفريقية والشمال أفريقية والتركية. ويمكن اعتبار الكيان شديد الرسوخ لعدم المساواة على الصعيد العالمي المشكلةَ الكبيرة الثانية التي يغض الجميع الطرف عنها؛ فقد كان عدم المساواة هذا هو الدافع وراء الهجرة إلى أوروبا الغربية.
أيضًا، وهو ما جاء إلى حدٍّ ما نتيجة إضفاء الصبغة العرقية، ترجع أصول نقاشات التعددية الثقافية إلى الصعوبات المُدرَكَة في «استيعاب» هذه الجاليات الأحدث في ثقافات الدول المضيفة.
واعتُبِر «الاستيعاب» صعبًا — وإن لم يكن مستحيلًا — لثلاثة أسباب: الخصوصية العرقية المفترضة، التي تعلقت في الواقع باختلافات فسيولوجية سطحية مثل لون البشرة، لكنها بدت معبِّرة عن حاجز بيولوجي وثقافي يستحيل تخطيه، وإن اختُرِق فسينتهي به الأمر إلى تغيير الشخصية الوطنية بالكامل. وثانيًا: العداء الواضح الذي أبداه السكان «البيض» المضيفون إزاء «الملوَّنين». وأخيرًا: عدم استعداد جاليات المهاجرين ذاتها للتخلي ببساطة عن جميع أوجه خصوصيتها الثقافية — على سبيل المثال: اللغة والدين — ومضاهاة الشعوب المضيفة بطريقة أو بأخرى في جميع النواحي الثقافية.
وقد كان ثمة اتجاه سياسي وثقافي آخر عضَّد تطوُّر التعددية الثقافية، وهو القبول المتنامي داخل الدول الديمقراطية الليبرالية الغربية بأحقية الأقليات العرقية في الحفاظ على ثقافاتها المميّزة، وإن كان ذلك دائمًا ضمن حدود معينة. وقد تصدَّر الجدل الدائر حول ما ينبغي أن تكون عليه تلك الحدود بالضبط العديد من النقاشات المتعلقة بالتعددية الثقافية. وتشكِّل فكرة «الحقوق الثقافية» — كما سنرى — جزءًا من قصة أكبر تتعلق بنشأة أجندة دولية لحقوق الإنسان.
ففي الولايات المتحدة، تحوَّلت معركة الأمريكيين الأفارقة ضد التفرقة العنصرية إلى نضال ثقافي أيضًا، بإصرارهم على إضفاء سمة ثقافية على السواد وحسِّ احترام للذات مميَّزَين جسَّدهما شعار «الأسود جميل». وسرعان ما طالب كذلك الأمريكيون من أصل مكسيكي وغيرهم من «الأمريكيين من أصل إسباني»، والسكان الأصليون من الهنود الأمريكيين الذين طال قهرهم (الذين سُمُّوا بذلك خطأً ظنًّا من كولومبوس أنه قد وصل إلى الجزر الهندية) بمنحهم اعترافًا ثقافيًّا معلنًا بوصفهم جاليات مميَّزة منفصلة عن المزيج الأنجلو أوروبي الأبيض السائد الذي بات يحدد الهوية الأمريكية. ولم تدخل التعددية الثقافية قاموس المفردات العام إلا في تسعينيات القرن العشرين مصحوبةً بمطالبات هذه الجماعات العرقية غير البيضاء بالاعتراف الثقافي بها في مناهج المدارس والجامعات. ومن ثم، فقد احتلت القضايا العرقية مركزًا مهمًّا — وأحيانًا المركز الأكثر أهمية — في النقاشات الدائرة بالولايات المتحدة حول التعددية الثقافية.
(٣) معنى التعددية الثقافية: تقدير أوَّلي
إدراك التعدد الثقافي وتعزيزه … فالتعددية الثقافية تحتفي بالتنوع الثقافي وتسعى إلى تعزيزه، على سبيل المثال: تشجيع لغات الأقليات. وهي تركِّز في الوقت ذاته على العلاقة غير المتكافئة بين الأقلية والثقافات السائدة.
إذن لدينا كذلك نقاط أخرى مهمة نَلحَظها فضلًا عن القضايا المتعلقة بإضفاء الصبغة العرقية وقضايا الاستيعاب، فمسائل التعددية الثقافية ترتبط كذلك بالاحتفاء بالتنوع والتعدد الثقافيَّين، وبمعالجة أوجه عدم المساواة بين الأغلبيات والأقليات. وهذه مسائل تتعلق بالأغلبيات والأقليات «العرقية» في الدول القومية الحديثة.
إذن فالتعددية الثقافية عادة ما تشير إلى السياسات التي تضعها الدول المركزية والسلطات المحلية لتنظيم وإدارة التعددية العرقية الجديدة التي أحدثها وجود السكان المهاجرين غير البيض بعد الحرب العالمية الثانية. ومما يسبب الحيرة أن مصطلح «متعدِّد الثقافات» يُستخدَم استخدامًا وصفيًّا أيضًا، للإشارة إلى المجتمعات متعددة العرقيات، إلا أن النقاشات المطروحة في هذا الكتاب تتعلق بالتعددية الثقافية؛ أي الاستجابة السياسية للتنوع الناشئ لدى مجتمعات تزداد تعدديةً ثقافية (تعدديةً عرقية) باطِّراد.
(٤) توسيع مفهوم التعددية الثقافية
أشرتُ في معرِض الحديث عما يمكن تسميته «التحوُّل إلى التعددية الثقافية» إلى عدة أنواع من الأقليات التي أدى وجودها ونموها، وكذلك — في أغلب الأحيان — مطالبها ودعاواها، إلى نشأة التعددية الثقافية في الدول القومية الغربية الحديثة، وقد تناولت إلى الآن الأقليات «المهاجرة» في المقام الأول — التي تتضمن جماعات مثل الأتراك في ألمانيا، والجنوب آسيويين والكاريبيين الأفارقة في المملكة المتحدة — إضافةً إلى ما يطلق عليها «أقلية قومية دون مستوى الدولة» مثل سكان مقاطعة كيبيك، أو الكنديين الفرنسيين، وكذلك الأمريكيون الأفارقة، وهم ليسوا أقلية قومية دون مستوى الدولة، وإنما فئة سكانية متفرقة تتسم بصبغة عرقية عاصرت بالفعل مولد الدولة القومية الأمريكية، ولذا فأصولها تختلف إلى حد بعيد عن المهاجرين إلى أوروبا الغربية أو أمريكا الشمالية. وإضافةً إلى ذلك ثمة أنواع أخرى من الأقليات ذات صلة أيضًا بالتحوُّل العام صوب التعددية الثقافية، ولا سيما «الشعوب الأصلية» مثل الماوري في نيوزيلندا، والإنويت والأمم الأولى في كندا، والسكان الأصليين في أستراليا، والأمم الأولى في الولايات المتحدة.
لذا، ففي حين عُنِيَ آخر النقاشات المتعلقة بالتعددية الثقافية بالمهاجرين حديثًا إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول — والأمريكيين الأفارقة إلى حد ما — يدل ارتباط الشعوب الأصلية والأقليات دون مستوى الدولة بتلك النقاشات أيضًا على أن وصف التعددية الثقافية بأنها تتضمن العلاقات بين الأغلبية والأقلية لا بد من تفصيله لكي يعكس تشابكها الحقيقي.
أقصد من ذلك أن تاريخ أنواع «الأقليات العرقية» المختلفة ومطالبها يتباينان إلى حد بعيد؛ فمطالب الأقليات الوطنية دون مستوى الدولة مثل سكان مقاطعة كيبيك في كندا، والاسكتلنديين والويلزيين في المملكة المتحدة، والكاتالونيين والباسكيين في إسبانيا، والفلمنكيين في بلجيكا، والشعوب الأصلية المذكورة سابقًا، تختلف عن مطالب المهاجرين حديثًا مثل الباكستانيين والبنغال في المملكة المتحدة، أو المغاربة في هولندا، أو الأتراك في ألمانيا. وتختلف التسويات الوطنية التي تم التوصل إليها بشأن أقاليم الحكم الذاتي والحقوق المتعلقة بالأراضي والنظم القانونية والتعليمية المنفصلة وغير ذلك فيما يتعلق بالأقليات دون مستوى الدولة، من عدة أوجه، عن طرق استيعاب الأقليات المهاجرة حديثًا لدى أوروبا الغربية وأستراليا وكندا.
ونظرًا لقيود المساحة — والاختلاف البيِّن بين تاريخ أوروبا الغربية وتاريخ أمريكا الشمالية — سأُعنَى في المقام الأول بالقضايا والنقاشات المتعلقة بالمهاجرين الذين ارتحلوا إلى أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد استتبعت شروط التسوية التي أُشرِكَت بها شرائح السكان الدينية والعرقية الأقدم في الدولة القومية في تكوين أُطُر وطنية مختلفة للأقليات في المجالات الثقافية والقانونية والمؤسسية، التي كان لها تأثير باقٍ على استقبال المهاجرين حديثًا نسبيًّا، والتعامل معهم واستيعابهم، وقد أسفرت تلك المسارات الوطنية المتفرقة عن تشَكُّل صور متباينة إلى حد ما من التعددية الثقافية. وفي حين أنه ليس من الملائم الإشارة إلى «نماذج قومية» تامة الاختلاف للتعددية الثقافية، فإنَّ تسويات التعددية الثقافية في مختلف الدول الأوروبية وفي أمريكا الشمالية تحظى بترتيبات مؤسسية مميزة.
(٥) التعددية الثقافية والأجندة الدولية لحقوق الإنسان
يشير الدور الذي يضطلع به كفاح الشعوب الأصلية والأقليات الوطنية دون مستوى الدولة في نقاشات التعددية الثقافية أيضًا إلى أهمية تراث أكبر مرتبط بتطور التعددية الثقافية، فمن الممكن رؤية أصول التعددية الثقافية ضمن كفاح أوسع نطاقًا من أجل تحقيق المساواة بين البشر عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أشار كيمليكا على وجه الخصوص.
وقد استهلَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام ۱۹٤٨ حقبة جديدة نَأَت بنفسها من حيث المبدأ عن أفكار ما قبل عام ۱۹٤٥ المتعلقة بالتفوق والدونية من النواحي العرقية والقومية، التي جسَّدها — وارتبط بها على نحو خاص — النازيون الذين قاتلهم الحلفاء الغربيون في حربهم ضد ألمانيا تحت حكم هتلر.
وينبغي الإقرار بأن هذا المبدأ المتعلق بالمساواة بين البشر جديد بحق؛ ففي عام ۱۹۱۹، حين حاولت اليابان إدخال عبارة تتعلق بالمساواة بين البشر في عهد عصبة الأمم، رفضته الدول الغربية على الفور. وليس في ذلك ما يثير الدهشة؛ فقد كان الأوروبيون، على أي حال، ضالعين في حماية إمبراطوريات تحتل أجزاءً كبيرة من آسيا وأفريقيا ترتكز علنًا على مبادئ عنصرية تعتبر البيض متفوقين على «الأعراق» الأخرى.
وكما ذكرتُ ببعض التفصيل في كتابي عن العنصرية ضمن هذه السلسلة، كان تقويض الأفكار العنصرية قد بدأ في فترة ما بين الحربين في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين — ولا سيما على يد علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين — وهي عملية أكسبتها الاكتشافات التي تمت في مجال علوم الأحياء — ولا سيما علم الجينات — قوة دفع هائلة، إلا أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثَّل تغيرًا رمزيًّا كبيرًا للأيديولوجيات العنصرية وصدًّا سياسيًّا عالميًّا للحركات المناصرة للسياسات العنصرية.
إلا أن تهيئة مناخ ثقافي دولي متعاطف مع حقوق الإنسان والمساواة بين البشر لم تتحقق إلا عَقِب معارك مستمرة قادتها مختَلَف الجماعات الخاضعة، بما فيها سكان المستعمرات الأوروبية.
ولا ريب في أن الفترة الممتدة منذ ستينيات القرن العشرين زخرت بعدد لا حصر له من الحركات الاجتماعية ومعارك الحملات الدعائية التي خلَّفت عميق الأثر في الثقافة السياسية والمدنية للديمقراطيات الغربية؛ فقد تلاقت الحركة النسائية والحملة المعنية بتغيير أوضاع المثليين والحماية البيئية المتزايدة — على سبيل المثال لا الحصر — مع اتجاهَيْ مناهضة العنصرية والتعددية الثقافية لتشكيل ما سماه نقادها على وجه التحديد فترة «سياسات الهوية»، ورُفِعَت مطالب الاعتراف الثقافي، التي قد تكون أتَمَّت الكفاح اليساري والليبرالي السابق من أجل إعادة توزيع الثروة، أو تجاوزته واستنزفت طاقاته، حسب وجهات النظر المختلفة، التي نتناولها بالمناقشة في وقت لاحق.
(٦) أنواع التعددية الثقافية
على الرغم من عدم ملاءمة الحديث عن «نماذج» وطنية متباينة للتعددية الثقافية — وهو ما يرجع جزئيًّا إلى ما ينطوي عليه هذا الحديث من وجود تباينات قومية مدروسة دراسة وافية — فالواقع أن المسارات التي سلكتها التعددية الثقافية في البلدان المختلفة تباينت للعديد من الأسباب، وقبل أن نشرع في عرض موجز لأوجه التباين، من المهم أيضًا أن نبني أساسًا للمقارنة عن طريق وضع قائمة بالسياسات التي تُعَرَّف عادةً بأنها سياسات التعددية الثقافية. وقد أجرى كيمليكا والمؤلفون المشتركون معه حصرًا مفيدًا في تحديد درجة اعتبار البلدان «متعددة الثقافات»؛ أي مدى تبنِّيها لسياسات التعددية الثقافية.
- (١)
التأكيد الدستوري أو التشريعي أو البرلماني على التعددية الثقافية على المستويين المركزي والإقليمي، أو أيهما، وعلى مستوى البلديات.
- (٢)
تبنِّي التعددية الثقافية في المنهج المدرسي.
- (٣)
إدراج تمثيل الأقليات العرقية ومراعاتها في إطار مهام وسائل الإعلام العامة أو إصدار التراخيص لها.
- (٤)
الإعفاء من قواعد الملبس — على سبيل المثال: السماح للسيخ بارتداء العمامات بدلًا من الخوذات الواقية أو القبعات المدرسية — والإعفاء من القوانين التي تمنع الاتجار أيام الآحاد وما إلى ذلك.
- (٥)
السماح بازدواجية الجنسية.
- (٦)
تمويل تنظيمات الجماعات العرقية من أجل تشجيع الأنشطة الثقافية.
- (٧)
تمويل التعليم ثنائي اللغة أو التعليم باللغة الأم.
- (٨)
اتخاذ إجراءات إيجابية لمصلحة الجماعات المحرومة.
ليست هذه القائمة محل اتفاق، وينبغي بالأخصِّ تسمية البند الأخير بمسمى أصوب: صياغة تشريعات مناهضة للعنصرية، على غرار سلسلة القوانين البريطانية المسماة قوانين العلاقات العنصرية التي جَرَّمت على نحو متزايد التمييز ضد الأقليات «الملوَّنة» في التوظيف والإسكان ودخول الحانات والمطاعم، والحصول على غير ذلك من الموارد وسبل الراحة والترفيه.
ومع ذلك، تتيح القائمة مقارنة معقولة بين البلدان المختلفة من حيث قوة التزامها بسياسات التعددية الثقافية، وعلى هذا الأساس، يذهب كيمليكا والمؤلفون المشتركون معه إلى أنه ينبغي تصنيف أولئك الذين يتبنون ٦ من السياسات الثماني ضمن التبني «القوي» للتعددية الثقافية، في حين يُعتَبَر الذين يحققون ما بين ۳ و٥٫٥ درجة (تشير نصف الدرجة إلى تبني السياسات وتطبيقها تطبيقًا أكثر صورية) ضمن التبني «المتوسط»، والذين يقلُّون عن ۳ درجات ضمن التبني «الضعيف» لسياسات التعددية الثقافية.
- قوي: أستراليا وكندا.
- متوسط: بلجيكا وهولندا ونيوزيلندا والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
- ضعيف: النمسا والدنمارك وفنلندا وألمانيا واليونان وأيرلندا وإيطاليا والنرويج والبرتغال وإسبانيا وسويسرا.
إلا أن القائمة لا تشير سوى إشارة بالغة الإيجاز إلى الاستجابات الصادرة عن الدول القومية المختلفة تجاه أقلياتها العرقية الأحدث؛ فهي — على وجه التحديد — تحجب اختلافات مؤسسية مهمة بين سياسات الدول داخل التصنيف الواحد وبين التصنيفات، وكذلك لا تلقي الضوء على المسارات التاريخية المختلفة للتعددية الثقافية، ومن ثم فالقائمة لا تصلح أيضًا كأساس لتفسير الاختلافات. والاختلافات — وأسباب تلك التباينات — ذات دلالة مهمة. وقد كان المؤثران الرئيسيان في تطوُّر الأنماط المختلفة للتعددية الثقافية في الدول القومية الأوروبية هما: العلاقات القائمة بين الكنيسة والدولة، وما سُمِّيَ «نُظُم المواطنة»، كما سنرى.
ويُعزَى التبنِّي الأوسع انتشارًا للتعددية الثقافية في أستراليا وكندا إلى بحثهما عمَّا يُدعى «أسطورة تأسيسية» من النوع المتوافر في سائر الأنحاء، والموجود مثلًا في تصور الولايات المتحدة لذاتها كأُمَّة من المهاجرين، أو الهويات العرقية والدينية التي تشكِّل جزءًا كبيرًا من التراث الوطني لدول أخرى مثل المملكة المتحدة وهولندا والسويد. واستتبَع هذا أيضًا أن نُمِّي في كندا وأستراليا مفهوم الأمة ذات التعدد العرقي والثقافي الأكيد ليمثِّل هوية البلد بأسره. وعلى النقيض من ذلك، كانت التعددية الثقافية لدى معظم الدول الأوروبية ترمي بالمقام الأول في أغلب الأحيان إلى دمج الأقليات العرقية باعتبارها جزءًا تابعًا — وأحيانًا شديد الثانوية — من التراث القومي. وفي بعض البلدان، يكون ذلك بلا شك جزءًا من تراث استعماري لطالما — على الرغم من العلاقة الوثيقة القائمة بين رعايا المستعمرات والمدن الكبرى في تكوين الدولة القومية الحَضَريَّة — انتُقِص فيه من دور المستعمرات الاقتصادي ودورها في الحروب الرئيسية وفي الثقافة وغيرهما انتقاصًا بالغًا، وهو ما أنوي العودة إليه.
وإنَّ دراسة المسارات التاريخية المختلفة للتعددية الثقافية في بريطانيا وهولندا — على سبيل المثال — في سياق تاريخ كلٍّ منهما قبل الهجرة إليهما في النصف الثاني من القرن العشرين لَأمر في غاية الأهمية في سبيل إتاحة استيعاب سليم للاختلافات بينهما، تلك الاختلافات التي يحجبها تلقيب كلٍّ منهما ببساطة بالمتبنِّي «المتوسط» للتعددية الثقافية، كما جاء في التمرين التصنيفي الذي حاول كيمليكا، ضمن آخرين، أن يجريه.
(٧) هولندا: «التقسيم العمودي» والاستقطاب والاندماج
أسس الهولنديون نظامًا مُنِحَت فيه الأقليات العرقية الأحدث — التي جاءت من المستعمرات السابقة في إندونيسيا وسورينام فضلًا عن تركيا والمغرب — استقلالًا ثقافيًّا جديرًا بالاعتبار، وموارد تتيح لهم الحفاظ على هوياتهم الثقافية. وبحلول عام ۲۰۰۰، كان ما يقرب من ٩٪ من السكان مولودين بالخارج، وكان أحد أبوَيْ ١٧٪ من السكان على الأقل مولودًا بالخارج. وبحلول عام ۱۹٨۰ كان قد اتضح بالفعل أن أغلبية المهاجرين ينوون البقاء، مخيِّبين الأمل في كونهم «عمَّالًا زائرين» يمكن أن يعودوا لديارهم في نهاية الأمر، ووضعت الحكومة الهولندية ما سمته برنامج سياسات «الأقليات العرقية». ومُنِحَت الأقليات المزيد من الموارد للحفاظ على لغاتها الأم وثقافاتها عن طريق دعم إنشاء صحف وقنوات تليفزيونية خاصة بها. وكان الهولنديون بذلك يسلكون دربًا وطنيًّا مطروقًا في حكم الجماعات الثقافية المختلفة داخل الدولة، وكان لديهم هيكل «تقسيم عمودي» مؤسَّس بالفعل — يتضمَّن دوائر ثقافية منفصلة — أتاح منذ القرن التاسع عشر للبروتستانت والكاثوليك واليهود والجماعات مختلفة الميول السياسية — الليبراليين والاشتراكيين — أن يتعايشوا معًا في سلام، لكن في إطار الحد الأدنى من الاتصال بينهم. على أنه بحلول ستينيات القرن العشرين، كان التقسيم العمودي قد فقد الكثير من أهميته — كما أشار إنتسينجر — بسبب قُوَى العَلْمَنَة تحديدًا، وأيضًا بسبب الاتجاه العام صوب مراعاة الفردية، لكن أثره ظل بالغ القوة في مجال التعليم؛ فحتى في الوقت الراهن لا يتبع الدولة سوى ثلث المدراس الابتدائية الهولندية، وتخضع بقية المدارس لإدارة خاصة؛ إما لجماعات دينية، أو جماعات ذات رؤى تعليمية محددة.
وقد استهدفت السياسة الأكثر وضوحًا تجاه الأقليات العرقية المستجدة بدءًا من عام ۱۹٨۳ فصاعدًا «إنشاء مجتمع يحظى فيه جميع الأفراد المنتمين إلى الأقليات في هولندا — سواء أكانوا أفرادًا أم ضمن جماعات — بالمساواة وفرص التطور الكاملة»، أو ما شاعت تسميته «الاندماج مع الاحتفاظ بالهوية».
بيْد أن تاريخ «التقسيم العمودي» في هولندا يدل في حد ذاته على أن سياسة الأقليات أدت بالفعل إلى فصل مؤسسي رسمي أكثر مما في غيرها من البلدان، بإعطاء الأقليات قدرًا أكبر من الحرية والموارد لإنشاء مدارسها الخاصة وصُحُفها وإذاعاتها وجمعياتها الثقافية.
نادرًا ما يشير الهولنديون إلى سياساتهم بوصفها «متعددة الثقافات»، وهو ما أكَّده حديثي الخاص مع الباحث المميز هان إنتسينجر. حتى في ثمانينيات القرن العشرين، ومع التشجيع على التعددية على نحو أكثر صراحة فيما يتعلق بالأقليات الأحدث، سُمِّيت المبادرات سياسات «الأقليات العرقية»، ولم يُشَر إليها بوصف سياسات «التعددية الثقافية» إلا بأثر رجعي، وفي أغلب الأحيان من خارج هولندا. ومن المفارقات أن الصيغة الهولندية التي تأثرت بقوة بتاريخها السابق القائم على الديمقراطية التوافقية أو التقسيم العمودي، هي الوحيدة ضمن صِيَغ التعددية الثقافية الأوروبية كافة التي يمكن أن تُتَّهم عن حق بتعزيز الفصل بين الجماعات العرقية، وهو الاتِّهام الذي جرت العادة على توجيهه إلى جميع أشكال التعددية الثقافية هذه الأيام.
وقد تنبأ شكل رد الفعل العنيف في هولندا ضد سياسات الأقليات العرقية في تسعينيات القرن العشرين بالصورة التي جاء عليها رد الفعل في البلدان الأوروبية الأخرى؛ فقد انتُقِدَت تلك السياسات بصفة عامة لعجزها عن دمج الأقليات العرقية سواء من الناحية الاقتصادية أو الثقافية، واستُشعِر أن عدم الإجادة الكافية للغة الهولندية والافتقار إلى المعرفة بالمجتمع الهولندي كانا عقبتين منيعتين على وجه الخصوص، واستتبع ذلك أنْ كان على المهاجرين الجدد أخذ دورات جديدة في اللغة والاندماج المدني، صارت شروطها أكثر تعسُّفًا في القرن الجديد؛ بإلزام المهاجرين بتمويل الدورات على نفقتهم الخاصة، وتحويل مسئولية الاندماج على نحو أكثر حِدَّة تجاه المهاجرين أنفسهم، إلا أنه — في الوقت ذاته — كان ثمة اعتراف رسمي بهولندا كبلد هجرة ومجتمع متعدد الثقافات.
استهلَّ النقَّاد أيضًا — كما أشار برينز وساهارسو — ما بات يُعَدُّ «واقعية جديدة» جاءت في حينها، وصيغَت تلك الواقعية الجديدة وفق منظور افترض وجود فرق شاسع بين الليبرالية الغربية، بمبادئها الداعية إلى حرية التعبير والعلمانية، والكبت الذي تمارسه ثقافات الأقليات الإسلامية خاصةً. وقد تأثَّر هذا جزئيًّا بأحداث وقعت خارج هولندا، لا سيما قضية سلمان رشدي في بريطانيا. وصاحَب ذلك الاستقطاب الاتهام القائل إن التساهل مع ثقافات الأقليات أتاح لها الانفصال عن عموم المجتمع الهولندي — وهي مرثاة ترددت فيما بعد في أكثر أنحاء أوروبا — وجعلتها أيضًا أكثر اعتمادًا على الرعاية الاجتماعية.
وقد استجمع رد الفعل المضاد لسياسة الأقليات العرقية قواه — كما في سائر الأنحاء — بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١. وفي هولندا، اكتسب زخمًا خاصًّا في البداية بصعود حزب بيم فُورْتُوين «هولندا القابلة للعيش» والهجمات التي شنَّها على دولة الرفاه والوحدة الأوروبية والإسلام والتسامح الليبرالي وليبرالية الكنيسة والتوافد المستمر للمزيد من المهاجرين وطالبي اللجوء. وفيما بعد تأججت نيران الجدل التي أشعلتها تدخلات فُورْتُوين الشهيرة باغتيال أحد المسلمين للمخرج ثيو فان جوخ (سنتعرَّض له فيما بعد) في نوفمبر عام ۲۰۰٤، والتهديدات الموجَّهة إلى أيان حرسي علي شريكته في صُنع الفيلم الوثائقي ونائبة البرلمان، وهي ذاتها مهاجرة مسلمة وناقدة شرسة للإسلام.
إلا أن لهجة الخطاب المعادي للهجرة والإسلام خفَّت حدَّتها منذ عام ۲۰۰۷، وظهرت سياسة أكثر تعاطفًا تجاه طالبي اللجوء، تأثرت بلا شك بتنديد المجلس الأوروبي وهيومن رايتس ووتش بهولندا لانتهاكها حقوق طالبي اللجوء والمهاجرين، إلا أن صعود «حزب الحرية» شديد المعاداة للإسلام أدخل على السياسة الهولندية ديناميكية أخرى مزعزعة للاستقرار.
(٨) المملكة المتحدة: «العِرق» و«الجوهرية» والسياسة المتغيرة للاعتراف
حكمت بريطانيا تاركة المواطنين كما كانوا، مهذِّبة إياهم عن طريق … مؤسسات كانت … في كثير من الأحيان صِيَغًا معدَّلة لتلك القائمة في الثقافة الوطنية … وكانت بريطانيا ترى إمبراطوريتها ملكوتًا للحضارة البريطانية الجامعة يمكن فيه لجميع حضارات العالم أن تزدهر تحت الشمس التي لا تغيب.
إلا أن المعلِّقين الأكثر تشكُّكًا أضافوا أيضًا أن بريطانيا تعلَّمت الكثير عن سياسات فرِّق تَسُد في غزو الهند وأفريقيا، وعن مزايا استمالة القيادات المحلية بغية إخضاع الشعوب المستعمَرة، ثم ترويض مهاجري مرحلة الاستعمار وما بعدها الذين استوردتهم تعزيزًا لقوة العمل في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب. وإضافةً إلى ذلك، نمَّت الإمبراطورية البريطانية أيضًا المفاهيم التي صوَّرت بريطانيا على أنها «البلد الأم»، وهو ما آمن به إيمانًا ساذجًا العديد من مواطني جزر الهند الغربية تحديدًا عند ركوبهم سفينة «إس إس ويندرَش» أولًا عام ۱۹٤٨، ثُمَّ غيرها من السفن لشغل وظائف العمالة غير الماهرة — لا سيما في مجال الصناعات المتدهورة — التي كان البريطانيون البيض قد بدءوا يتهرَّبون منها من أجل وظائف أعلى راتبًا وأقل إجهادًا وتتطلَّب مهارة أعلى.
وبدا أن تصوُّر بريطانيا أُمًّا ترحب بأبنائها في الخارج ثبتت صحته بصدور «قانون الجنسية» لعام ۱۹٤٨، الذي منح المواطنة وحرية الدخول لجميع القادمين من المستعمرات وولايات الكومنولث البيضاء المتمتعة بالحكم الذاتي، وهي: أستراليا ونيوزيلندا وكندا.
لكن هيئة الخدمات الصحية الوطنية المتنامية الحجم وإدارة المواصلات بلندن سرعان ما بدأتا حملات توظيف بجزر الهند الغربية والهند، واقتنص أصحاب الصناعات التحويلية المتلهفون في الشمال وميدلاندز ولندن العمال المهاجرين أيضًا، مما أدَّى إلى «سلسلة» من الهجرات لدى وصول أنباء إلى جزر الهند الغربية والهند وباكستان عن وجود فرص عمل. وكما هو الحال بالنسبة إلى الهجرات المشابهة في المرحلة الاستعمارية وما بعدها إلى هولندا وفرنسا، حتى العمال المَهَرَة اضطُرُّوا إلى القبول بوظائف العمالة غير الماهرة التي تتسم بالقذارة والخطورة، وتتضمن نوبات عمل ليلية، والتي استطاع العمال البريطانيون البيض أن يهجروها في ظل اقتصاد مزدهر. وعثر المهاجرون «الملوَّنون» على السكن الرخيص في الأحياء الأفقر، حيث لم تُقَيَّد خياراتهم بالدخل والرغبة في إرسال النقود إلى بلادهم فحسب، وإنما أيضًا بالتمييز المباشر الذي مارسه ملَّاك العقارات الخاصة والسلطات العامة ضدهم.
يدل الاستخدام الشائع لوصفَيْ «ملوَّن» و«أسود» في المملكة المتحدة — ناهيك عن الإشارات الأكثر إهانةً مثل لفظ «ووج» (الذي يُطلق على المُلوَّنين من أصل أفريقي أو آسيوي) — على إضفاء الصبغة العرقية إضفاءً أكثر صراحة على المفردات والأساليب التي حُكِمَت بها الأقليات الأحدث، مقارنة بسائر أنحاء أوروبا. وخلافًا لهولندا، التي طالما كان عندها سياسة أقليات عرقية، صاغ البريطانيون تلك القضايا من منطلق «العلاقات العرقية». وفي عام ۱۹٦٩ صدر تقرير مهم لروز تحت عنوان لم يلقَ خلافًا، هو: «اللون والمواطنة: تقرير بشأن العلاقات العرقية البريطانية». وما زالت صفتا «متعدد الأعراق» و«متعدد الثقافات» تُستخدَمان استخدام المترادفات.
غير أن إضفاء الصبغة العرقية على الخطاب العام — الذي يترتب عليه الأثر المؤسف المتعلق بمنح الشرعية لفكرة «العرق» المشكوك تمامًا في صحتها، والذي يفسح المجال أمام بقاء مخلَّفات الأيديولوجية العِرقية القائلة بالتفوق الطبيعي للبيض على مقربة — صحبته أيضًا تدابير متزايدة القوة ضد التمييز، عُرِفَت باسم قوانين العلاقات العرقية (أوَّلها صدر عام ۱۹٦٥)، سبقت مثيلاتها في سائر أنحاء أوروبا بعدة خطوات، وكان أحد أهم تلك القوانين قانون العلاقات العِرقية لعام ۱۹۷٦، الذي أقرَّ بحاجة التمييز غير المقصود وغير المباشر إلى الإصلاح والمعالجة. ومما لا شك فيه — علمًا بأنه ليس ثمة وجود فعلي للأعراق — أن التشريع المناهض للعنصرية يواجه معضلات مستعصية فيما يتعلق بكيفية تعريف «الجماعات العرقية»، ويجدر الإشارة إلى أنه — تحت تأثير معارك الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية — تبنَّى الناشطون المناهضون للعنصرية في بريطانيا دون تردد تصنيف «الأسود» ذي الصبغة العرقية لتوحيد كلٍّ من الجنوب آسيويين والكاريبيين الأفارقة في إطار كفاح مشترك من أجل محاربة التمييز في التوظيف وفي مجال الخدمات العامة، وهي استراتيجية انهارت في النهاية بإنشاء الآسيويين عددًا لا حصر له من الجمعيات العرقية، وتناوُلهم القضايا المتعلِّقة بالهجرة وتوفير الخدمات التي كانت تشغلهم على نحو أكبر.
نُفِّذَت أخيرًا الخطط التي طال بحثها بشأن تقييد هجرة «الملونين» بدءًا من عام ۱۹٦۲ فصاعدًا، بصدور قوانين الهجرة من الكومنولث والتشريع المعني بالجنسية والمواطنة؛ تلك القوانين التي وضعت حدًّا لأي هجرات أخرى — فيما عدا جمع شمل الأُسَر — من الكومنولث الجديد المزعوم. وميَّز هذا في الأساس بين «الملوَّنين» القادمين من المستعمرات السابقة والبيض من ولايات الكومنولث؛ أستراليا ونيوزيلندا وكندا. وكان قانون الجنسية لعام ۱٩٨۱ مهمًّا كذلك لإلغائه ممارسة «حق الأرض»؛ أي منح الجنسية تلقائيًّا للأطفال المولودين في المملكة المتحدة لآباء غير مواطنين.
إذن التعددية الثقافية البريطانية دائمًا ما انطوت على نهج واضح الازدواجية جمع بين «اندماج» المهاجرين الموجودين داخل البلد بالفعل ووضع قيود صارمة على مزيد من هجرة «الملونين».
لَقِي القول بأن الهوية البريطانية تنطوي على مضمون عنصري أبيض معارضة عنيفة من وسائل الإعلام الرئيسية — المعادية أصلًا للتعددية الثقافية — وحتى من رجال السياسة المنتمين ليسار الوَسَط والمتعاطفين بصفة عامة مع مبادرات التعددية الثقافية. وتجلَّى هذا في السخط العام الذي ثار بشأن مجرد الإشارة إلى ذلك في تقرير باريك عن «بريطانيا متعددة العرقيات» الذي نُشِر عام ۲۰۰۰، لكن ثمة حقيقة مهمة تكمن في هذه المعلومة؛ فدولة بريطانيا المتعددة القوميات — التي توحِّد الإنجليز والاسكتلنديين والويلزيين والأيرلنديين الشماليين تحت مظلة الهيمنة الثقافية الإنجليزية — دائمًا ما استصعبت منح مكانة «الإنجليزي» أو «الاسكتلندي» أو «الويلزي» أو «الأيرلندي الشمالي» لمواطنيها غير البيض، الذين يُضطرون إلى البحث عن هوية ما في إطار «الهوية البريطانية» غير محددة المعالم. ويبقى الآسيويون البريطانيون والكاريبيون الأفارقة البريطانيون على وعي تام بهذا الرفض من خلال السؤال الذي يواجهه الشخص ذو البشرة السمراء أو الداكنة بصفة روتينية: «لكن من أين جئت في الواقع/الأصل؟» أو «من أين جاء أسلافك؟» وتُبطِل هويةُ «الزنجي» أو «الباكي» (التي تُطلق على المواطنين البريطانيين ذوي الأصول الممتدة إلى جنوب آسيا وشبه القارة الهندية) بطلانًا منتظمًا وفظًّا الادعاءات القائلة بانتماء الأشخاص ذوي الأصول الآسيوية والأفريقية انتماءً حقيقيًّا، ويعني الخلط بين «متعدد العرقيات» و«متعدد الثقافات» أن في بريطانيا يُعبَّر عن معارضة المهاجرين والهجرة في كثير من الأحيان من خلال معارضة «التعددية الثقافية».
لكن بدأ وجود مبادرات التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية في المدارس، ووصول خدمات السلطات المحلية بالأخص، مصحوبًا بإنشاء جمعيات أهلية للأقليات العرقية — كثيرًا ما حصلت على تمويل كلي أو جزئي من تلك الأقليات، والعديد منها تعاطفت معه السلطات المحلية مانحةً إياه المباني — يشير إلى أن تحولات ثقافية مهمة ربما تكون في سبيلها إلى مد جذورها. فعلى الصعيد الوطني، تحوَّل ما بدأ بتقرير رامبتون بشأن ضعف تحصيل مهاجري جزر الهند الغربية في المدارس إلى تقرير سوان لعام ۱٩٨۲ الذي أوصى بتطبيق التعليم متعدد الثقافات على الجميع. وقد وضعت اضطرابات المناطق الحَضَريَّة التي ضَلَعَ فيها الشباب السُّود في لندن وميدلاندز إبَّان ثمانينيات القرن العشرين القضايا المتعلقة بالمناطق الحضارية المحرومة التي يقطن بها السود وضعف تحصيلهم وبطالتهم، ولا سيما أن تقرير سكارمن عن اضطرابات بريكستون في لندن ألقى باللوم على الحرمان وأوجه عدم المساواة بصفة عامة — لا العنصرية المؤسسية بين أفراد الشرطة وغيرها من الهيئات — لإثارتهما الإحباط والغضب لدى الشباب الأسود.
وقد تعرَّضت آمال التطور الجدِّي للتعددية الثقافية لضربات قاصمة في ظل حكومة تاتشر التي انتُخِبَت عام ۱٩۷٩؛ إذ أُرجِئت توصيات تقرير سوان، وفُرِض «منهج وطني» يركِّز بشدة على التاريخ البريطاني الأبيض وعلى المبادئ المسيحية. وأسفر الهجوم المتكرر من الحكومة المركزية ووسائل الإعلام على السلطات المحلية التابعة لحزب العمال ذات الالتزام المعلَن القَوي بالتعددية الثقافية — لا سيما في لندن — التي عادةً ما حظيت بقيادات ذات ميول يسارية عن ترسُّخ عبارة «مجالس اليسار الخرقاء» في الوعي الوطني تعبيرًا عمَّا يفترض كونه مقترحات مجنونة تبتغي فَرْض أشكال «اللياقة الأدبية»، حتى إن الصحف الصفراء — كما ذكر الباحثون الإعلاميون لاحقًا — نَسَجَت قصصًا مثل القصص المتعلقة باقتراحات منع عبارة «أكياس القمامة السوداء» أو أغنية الأطفال «الخروف الأسود».
ومما ينطوي على أهمية رمزية، أن أقوى خطوة اتُّخِذت ضد مبادرات التعدد الثقافي ومناهضة العنصرية كانت إلغاء حكومة تاتشر عام ۱٩٨٦ لمجلس لندن الكبرى اليساري الاتجاه برئاسة كين ليفينجستون، الذي كان قد وضع رسميًّا مبادئ مناهضة للعنصرية في مركز الصدارة بأجندته الراديكالية الرامية إلى تعزيز المساواة — لا سيما في مجال التعليم — مقترنةً بمبادرات متأثِّرة بالحركة النسائية وبصيغة من المساواتية أكثر صرامة فيما يتعلق بالتفاوت الطَّبَقي.
إلا أن الصيغة الأكثر راديكالية لمناهضة العنصرية التي اعتمدها مجلس لندن الكبرى بدأت أيضًا في تنفير الليبراليين، وحدث شقاق بين من يدعون أنفسهم «مناهضي العنصرية» ومن يسمونهم هازئين «أنصار التعددية الثقافية»، ظهر جليًّا مرة أخرى في وجهات النظر المتضاربة بشأن التدخل في المدارس. وشكَّك مناهضو العنصرية — الذين غالبًا ما يُقرَنون بمعهد العلاقات العرقية — في مدى قدرة السياسة الليبرالية للتعددية الثقافية المتعلقة بتدريس «الثقافات الأخرى» على التصدي الفعَّال المباشر للأساليب والممارسات العنصرية يومًا ما، مضيفين أن المعرفة بثقافات الأقليات لا تعالج قضية العنصرية الكامنة في ثقافة الأغلبية. وعلى أي حال — وكما يذهب النقَّاد — كان التدريس المتعلق بثقافات الأقليات باليًا وسطحيًّا، بتركيزه على تعريف الأطفال البيض بفنون الطهي والموسيقى والأزياء السائدة في الهند وجزر الهند الغربية، وهو ما صار يُعرف بمتلازمة «الساري والسمبوسة والطبل الفولاذي». وكان مناهضو العنصرية يعتبرون هذا مجرَّد نشاط تضليلي.
إضافةً إلى ذلك — وكما أشار نقاد تلك المحاولات المبكِّرة لإدخال التعددية الثقافية — فقد ارتكزت على قدر غير مقبول من «الجوهرية».
بات معظم دارسي التعددية الثقافية يدركون الآن أن الجوهرية الثقافية واحدة من العقبات الكبرى أمام إقامة نقاش بنَّاء بشأن التعددية الثقافية، وهي تعيق كذلك صنع سياسات التعددية الثقافية وتطبيقها. ولقد سلكت الكثير من صور التعددية الثقافية — بما فيها تلك التي كانت تنشأ في المدارس البريطانية وفي مجال توفير الخدمات الاجتماعية — منحًى «جوهريًّا»؛ أي وفق صِيَغ مبَسَّطة لثقافات الأقليات العرقية وميلٍ لاعتبارها تتسم بعدد قليل من الخصائص الرئيسية الثابتة، واعتبارها كيانات مُحكَمة الحدود، وهو ما أُطلق عليه لقب «متلازمة كرة البلياردو». وكان مناهضو العنصرية وغيرهم من النقاد على جانب كبير من الصواب في إبراز هذا القصور. ومن ناحية أخرى، عمل النقاد المحافظون الذين تبنَّوا وجهة نظر أكثر استيعابية وفق صِيَغٍ جوهرية للهوية البريطانية التي كان من المفترض استيعاب المهاجرين فيها، وهي قضية نتناولها في الفصل الخامس بالأساس.
وعلى صعيدٍ وطني، استمر صدُّ مبادرات التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية طوال فترة تسعينيات القرن العشرين إبَّان إمساك المحافظين بزمام السلطة في بريطانيا. على سبيل المثال: في يناير لعام ۱٩٩۷ اعترضت حكومة جون ميجور على خطط الاتحاد الأوروبي لإنشاء مركز أوروبي لرصد العنصرية وكراهية الأجانب، كان سيسجِّل بدء السنة الأوروبية لمكافحة العنصرية. وتزامن مجيء حكومة حزب العمال في وقت لاحق من العام مع إحراز بعض التقدُّم إزاء تلك القضايا. وسمحت الحكومة الجديدة لبريطانيا كذلك بإصدار تشريعات متعلِّقة بحقوق الإنسان موافَق عليها أوروبيًّا، وفَتْح التحقيق في مقتل المراهق الأسود ستيفِن لورنس، الذي كشف عن ثقافات وممارسات عنصرية متأصِّلة داخل هيئة شرطة العاصمة لندن التي كانت قد سمحت للقَتَلَة بالإفلات من المحاكمة.
إلا أن الموقف كان مختلفًا على مستويات محلية متعددة؛ ففي حين لم تحقق العديد من المدن في شمال إنجلترا الكثير فيما يتعلق بالتعددية الثقافية إبان سنوات حكم المحافظين — وهو إهمال سرعان ما انكشف جليًّا في أعقاب الاضطرابات التي انتشرت في المناطق الحَضَرِيَّة عام ۲۰۰۱ — واصلت مدن مثل ليستر استثمار طاقاتها بهدوء في اتخاذ حِزمة واسعة من التدابير المدرسية والمجتمعية أصبحت الآن مثار الإعجاب باعتبارها نموذجًا يُحتَذى به، واستمرت العديد من بلديات لندن أيضًا في اتخاذ تدابير التعددية الثقافية؛ مثل طباعة النشرات بعدة لغات، ومواصلة ما سُمِّيَ «الوعي العرقي»، أو تدريب العمال في مرافق الصحة والخدمات على «التنوع». وثمة أدلة تفيد بأن بعض السلطات المحلية التابعة لحزب العمال في لندن وبرمنجهام وليدز — على وجه التحديد — كانت تقدِّم موارد مجتمعية إلى الأقليات ضمانًا لأصواتها في الانتخابات، وأن تلك الأقليات كانت على دراية بثِقَلها الانتخابي واستغلته، وأدَّى ذلك أيضًا إلى ترسيخ الانقسامات داخل المجتمعات، وأعطى سلطة محسوبية مفرطة لأولئك الذين قُبِلوا لعدة أسباب بصفتهم «قادة المجتمع المحلي». وقد سلَّط نقَّاد التعددية الثقافية في بريطانيا — مثل مالِك وحَسَن — الضوء على هذه العملية المتفاوتة محاولين تقويض التعددية الثقافية برمَّتها باعتبارها تصرف الانتباه عن المعارك الحقيقية الرامية إلى معالجة التفاوت العرقي وغيره من أوجه التفاوت الأشمل، لكن من الواضح أيضًا أنه كان ثمة التزام حقيقي، وإن كان متقطِّعًا، بكفالة معالجة الحرمان العرقي ودمج الأقليات العرقية عبر الجمعيات المحلية المزدهرة وغيرها من أشكال ما سماه الفيلسوف الكَنَدي البارز تشارلز تايلور «سياسات الاعتراف» في عام ۱٩٩۲.
اقترنت المخاوف المتعلقة بالجوهرية في أوساط العديد من مناهضي العنصرية والمنتمين إلى فِكْر المساواتية العامة في كثير من الأحيان بالنقد الذي ربما يكون أبلَغ مَن عبَّر عنه هو الكاتب الأمريكي تُود جيتلين، القائل إنَّ الدفع من أجل إقامة التعددية الثقافية — مصحوبًا بظهور «حركات اجتماعية جديدة» أخرى مثل الحركة النسائية وحركات حقوق المثليين وحقوق الحيوان وحماية البيئة — أدَّى إلى ظهور نوع من «سياسة الهوية» صَرَفَت الانتباه والطاقات عن المعركة «الحقيقية» المتمثلة في الحدِّ من أوجه التفاوت الطَّبَقي. وأحيانًا كان الحوار يُدار بلغة مختلفة قليلًا عن طريق الاتهام — الذي كان أشهر من وجَّهه أمريكية أخرى هي نانسي فريزر — ومفاده أن التعددية الثقافية ومناهضة العنصرية كانتا معركتين من أجل «الاعتراف الثقافي» في المقام الأول، مما قوَّض الحاجة الأكثر إلحاحًا للقتال من أجل إعادة توزيع الموارد المادية أو تعارض معها، وهي مخاوف ترددت في بريطانيا على لسان معلِّقين مثل مالك. إلا أن كلا الاتهامين مُضَلِّل؛ فالانتقادات من نوعية رأي جيتلين لم تعجز عن استيعاب فكرة أنه حتى الصراع الطبقي ينطوي على هويات اجتماعية فحسب، بل أيضًا عن استيعاب أنه كان ثمة اهتمام مُفرِط في الماضي بالطبقات على حساب أوجه عدم المساواة المتعلقة بالنوع والحياة الجنسية والانتماء العرقي، وأن تلك ليست قضايا جانبية تافهة، وإنما تتطلَّب سرعة المعالجة وأن من شأنها أن تُوَلِّد المزيد من الديمقراطية والعلاقات الاجتماعية القائمة على المساواة بصفة عامة. وفي الوقت ذاته، كما أشار العديد من المعلِّقين — ربما يكون باريك أكثرهم بلاغة — فإن إعادة التوزيع والاعتراف ليسا على طرفي النقيض، بل هما متشابكان بطبيعتهما، ويلزم كلٌّ منهما الآخر لتعزيز الأهداف الشاملة المتعلقة بتحقيق المزيد من المساواة الاقتصادية ونطاق أوسع من التعبير الثقافي والتنوع.
أيضًا أفرط من يدعون أنفسهم مناهضي العنصرية البريطانيين — كما أشرتُ في مقالة كتبتها في أوائل تسعينيات القرن العشرين — في الاعتماد على اختزال أوجه عدم المساواة ذات الصبغة العرقية واختزال العنصرية في مسألة الطبقات بمختلف صورها، ومَفاد ذلك أنه على الرغم من رجاحة النقد الذي وجَّهوه إلى الجوهرية، كان لا بد أيضًا من الابتعاد عن نزعتهم للاختزال الطبقي إذا كان لنا أن نستبدل استراتيجيات أكثر رقيًّا بالانقسامات الضارة التي وقعت بين معسكرَيْ أنصار التعددية الثقافية ومناهضي العنصرية. وقلتُ أيضًا إنه ينبغي تناول القضايا المتعلقة بالنوع — بما في ذلك قضايا الذكورة — عن طريق إدراج اهتمامات الحركات النسائية. وكان تقرير عام ۱٩٨٩ بشأن التحقيق في مقتل طالب المدرسة الآسيوي بمدرسة بِرنيج الثانوية في مانشستر إيذانًا ببعض تلك الانتقادات، وفيه انتُقِدَت سياسة مناهضة العنصرية الخاصة بالمدرسة لتحلِّيها بنزعة أخلاقية مفرطة، وإغفالها إشراك أولياء الأمور البيض من الطبقة العاملة في سياساتها، وعجزها عن التصدي لثقافة العنف الذكورية المتفشية، وكل ذلك أسهم في تشكيل موقف أسفر عن القتل. وقد أسفر عدم إشراك البيض بصفة عامة عن سخط بالغ في نهاية الأمر، إذ اعتُبِرَت التعددية الثقافية بمنزلة امتيازات تُمنَح للسود والآسيويين على حساب البيض، بدلًا من كونها محاولة لمحاربة الحِرْمان الاقتصادي والاجتماعي العرقي فضلًا عن الإقصاء الثقافي من الهوية الذاتية للأمة.
مثَّل اندلاع أعمال العنف واسعة النطاق في مدن شمال إنجلترا عام ۲۰۰۱ نقطة تحول، وكان له عظيم الأثر على حكومات حزب العمال المتوالية، التي انتُخبت أُولاها عام ۱٩٩۷. وأُلقِيَت المسئولية عن الاضطرابات إلى حد بعيد على عاتق التعددية الثقافية وآثارها المفترضة من حيث السماح للأقليات العرقية بأنْ تسلك «معايش متوازية».
وسادت بريطانيا على نحو متزايد نزعة إدماجية جديدة، مشابهة من عدة جوانب للتحوُّل الهولندي الكامل الذي تعرضنا له سابقًا، وبدأت حقبة جديدة من «الترابط المجتمعي» — المفترض أن يكون على النقيض من التعددية الثقافية — تتضح معالِمها، وهو ما سأتعرَّض له في الفصل الرابع ببعض التفصيل.
لقد خذلتِ النخبةُ السياسية البريطانيين البيض على مدى التاريخ؛ إذ لم تُعدَّهم للتغيُّرات التي جاءت بعد الحرب، وما زالت تصدر عنها آراءٌ متضاربة فيما يتعلق بمسألة هل الهجرة أمر محمود لهذه الأمة. فتارة يُلَقَّن الناس في بريطانيا أنهم السادة الاستعماريون الذين حُمِّلوا مسئولية إلهية عن تهذيب من يحكمون من هَمَج، وتارة أخرى يجدون أولئك السود والآسيويين في مقصف العمل مطالبين بالمعاملة على قدم المساواة. وقيل للبريطانيين البيض إن الهجرة السوداء والآسيوية مصدر تهديد، لكن في نفس الوقت تَلَقَّوا تعليمات بمعاملة المهاجرين الموجودين بالفعل على قدم المساواة.
(٩) فرنسا: العلمانية والهجرة والتعددية الثقافية بحكم الواقع
تتسم الواجهة المعلنة للدولة الفرنسية وسُلْطاتها المحلية بعدائية متصلِّبة إزاء النهج المسمَّى — تسمية خاطئة وغريبة — النهج «الأنجلو ساكسوني»، الذي يُفتَرَض أن تُجَسِّده الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، والمتعلق بالاعتراف المعلن بالأقليات العرقية، والالتزام بتنمية ثقافات الأقليات، والاحتفاء عمومًا بالتنوع الثقافي والتعددية العرقية.
ويتأثر النهج الفرنسي إلى حد بعيد بمفهومه عن العلمانية، وقد شهدت العلمانية الفرنسية — التي تتضمَّن الفصل الرسمي بين الكنيسة والدولة — تقنينًا مهمًّا بصدور «قانون الفصل» الشهير لعام ۱۹۰٥ بعد مسيرة ملتوية خاضتها عملية العلْمَنَة التي كَفَلَت حرية العبادة، وإنْ مَنَعَت وضع أي «رمز أو علامة» دينية على الآثار العامة، على الرغم من قبول الدولة تمويل مكاتب القساوسة في المدارس والسجون. ولطالما تباينت تأويلات العلمانية الفرنسية — كجميع صور العلمانية — والأساليب المؤسسية للتعبير عنها، فيميِّز فيتزر وسوبِر بين الصيغة «المتشددة» والصيغة «المتساهلة» اللتين سادتا في فترات مختلفة وفي قطاعات الدولة المختلفة وبين رجال الدين والتربويين والساسة، فطبقًا للصيغة المتشددة — التي تحظى بتأييد نقابات المعلِّمين والحركات النسائية و«اليسار الجمهوري» — يُعتبَر كلٌّ من الصلاة في العَلَن والامتناع عن تناول أطعِمة معيَّنة في مقصف المدرسة وارتداء ملابس أو حُلِيٍّ ذات طابع ديني انتهاكًا للعلمانية. أما الصيغة الأكثر تساهلًا — السائدة في أوساط «اليساريين المناصرين للتعددية الثقافية» وناشطي حقوق الإنسان والعديد من الزعماء المسيحيين واليهود والمسلمين — فتدعم تمويل الدولة للمدارس الدينية أو العقائدية، وتُشَجِّع إقامة الحوار بين الأديان، وتناصر حرية الطلاب في التعبير عن هوياتهم الدينية في المدارس ما داموا يحترمون تعدد الأديان. ويذهب أيضًا مؤيدو هذه الصيغة إلى أن نظيرتها المتشددة تنتهك القانون الدولي والعهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان.
وفي السنوات الأخيرة وضعت الصِّيَغ المختلفة للعلمانية الفرنسية في دائرة الضوء، وذلك في إطار الخلافات المتعلقة بالحجاب الإسلامي، وهو ما سأتناوله ببعض التفصيل في الفصل القادم.
شهدت فرنسا معدلات هجرة مرتفعة من بلدان أوروبية أخرى مثل بولندا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال طوال الفترة السابقة على نهاية الحرب العالمية الثانية، بل شجعت عليها، واتَّسَمَت تلك الموجات من الهجرة بسمتين ميَّزتاها عن تدفقات الهجرة الوافدة من المستعمرات الفرنسية السابقة في شمال أفريقيا بعد عام ۱۹٤٥؛ أولًا: لم تُلصق الصبغة العرقية بالمهاجرين الأوروبيين؛ ولذا لم يُعتَبَروا مسبِّبين لأي مشكلات فيما يتعلق بالاستيعاب، وأتاح ذلك لفرنسا أن تستمر في اعتبار نفسها دولة لا تلعب فيها الهجرة دورًا في تكوين هويتها الذاتية. وثانيًا: اضطلع «الحزب الشيوعي» والنقابات العمَّالية التابعة له بدور مهم في تنظيم صفوف المهاجرين ودمجهم؛ مُشَجِّعًا بذلك تشكيل تجَمُّعات عرقية منفصلة وآليات سياسية عرقية صَمَدَت طويلًا حتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
إلا أن المهاجرين غير الأوروبيين وغير المسيحيين من مستعمرات المغرب العربي عُومِلوا باعتبارهم مختلفين عرقيًّا وبطريقة أو بأخرى غير قابلين للاستيعاب. وقد أوصى تقرير كالفيه المُقَدَّم إلى «المجلس الاقتصادي والاجتماعي» في وقت ليس ببعيد — هو عام ۱۹٦۹ — بأنه ينبغي على الدولة أن تتصرَّف مع العُمَّال القادمين من المغرب العربي باعتبارهم عمالًا «مؤقَّتين» مرتبطين باحتياجات معيَّنة لسوق العمل فحسب، وأنه لا بد من التحكُّم في دخولهم من خلال عملية تتضمَّن تعاونًا رسميًّا مع بلد المنشأ. وإضافةً إلى ذلك، نظرت البلديات التابعة للحزب الشيوعي — التي كانت تعامل المهاجرين الأوروبيين سابقًا وفق «تقاليد التضامن» — إلى المهاجرين الجُدُد على أنهم سكان مؤقتون لا بد من تشجيعهم على العودة إلى أوطانهم، وامتدَّ ذلك — كما أشار هارجريفز وتشين وغيرهما — ليشمل الممارسة المتعلقة بتخصيص حصص من المساكن والمدارس لذوي الأصول الشمال أفريقية. إذن — على حد قول تشين — ظلَّ الشيوعيون يعاملون المهاجرين باعتبارهم كتلة واحدة، لكنهم متبعون «أسلوبًا إقصائيًّا» هذه المرة. وانطبق مصطلح «مهاجر» على غير البيض وحدهم، وأُعِدَّت حصص لتعليم اللغة العربية في المدارس من خلال اتفاقات عُقِدَت مع بلدان المنشأ. وفي يونيو عام ۱۹۷٤ أُوقِفَت جميع الهجرات من خارج المجموعة الأوروبية، وإنْ سُمِحَ بجمع شمل الأُسَر كما في التدابير التقييدية المُتَّخَذة في المملكة المتحدة.
إلا أن العداء إزاء المهاجرين لطَّفَته المحاولات التي قام بها «اليسار» لإشراك الدولة في الاعتراف بالجماعات العرقية وفي التعبئة العرقية في ثمانينيات القرن العشرين. لكن النموذج الجمهوري ظل قائمًا بصفة عامة، وكانت إحدى النتائج المترتبة على ذلك هي بقاء سياسة عدم منح الأقليات العرقية اعترافًا رسميًّا، في إحصاءات تعداد السكان على سبيل المثال.
كان السواد الأعظم من الوافدين من المغرب العربي مسلمين، فوجدوا أنفسهم مقيَّدين تقييدًا مضاعفًا؛ فقد أضفى الفرنسيون عليهم صبغة عرقية، وكذلك كان للفرنسيين تقليد قوي من التناقض والعداء إزاء التعبير الصريح عن الهوية الدينية، وهو ما تعارض مع ممارسات التديُّن العلنية في الإسلام.
على أن الدولة الفرنسية عمليًّا مارست بدورها شكلًا من أشكال «التعددية الثقافية» بحكم الواقع، بصرف النظر عن مدى بُغضها لذلك المصطلح. ففي عام ۱۹٨۱ رَفَع أحد القوانين القيود عن مهاجري شمال أفريقيا التي كانت تمنعهم من تأسيس رابطات عرقية سيرًا على نهج المهاجرين الأوروبيين، فانتشرت تلك التنظيمات، وبحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين كان ثمة ما لا يقل عن ٣ آلاف منها، تقوم مقام الوسيط لدى النقابات العمالية والسلطات المحلية والأحزاب السياسية، وكان ما لا يقل عن ألف من تلك التنظيمات إسلاميًّا صريحًا، واتسمت التنظيمات الأخرى — مثل «إس أو إس راسيزم» — بقاعدة أوسع، وأنشأت الدولة كذلك مناطق ذات أولوية تعليمية في المناطق الحَضَرِيَّة الأفقر التي — كما في هولندا وبريطانيا وغيرهما — اضطُرَّ المهاجرون إلى الاستقرار فيها أيضًا، والتي قامت فيها سلسلة من الاضطرابات شملت شبابًا من المهاجرين في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
ولم يبدُ التناقض — بين الخطاب العام الداعي للعالمية ومعارضة التعددية الثقافية من ناحية والممارسة الفعلية للدولة من ناحية أخرى — أوضح مما في الدعوة التي وُجِّهت عام ۱۹۹۰ إلى ممثلي المنظمات الإسلامية لتشكيل مجلس تشاوري بشأن مستقبل الإسلام في فرنسا، وتلا ذلك تمويل الحكومة لإنشاء معاهد تدريبية للأئمة في محاولة لتهيئة إسلام فرنسي متحرر من المؤثرات الخارجية. وفي عام ۲۰۰۳ تأسس مجلس إسلامي مركزي ذو تمثيل وطني؛ هو «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية».
ويشير الجدل الدائر حول مسألة «الحجاب» إلى التوتر القائم في إطار الثقافة الشعبية الفرنسية بين التنازلات البرجماتية المقَدَّمة للانتماء العرقي ومظاهر التديُّن العلني من ناحية والرغبة في صَوْن تقاليد «النظام الجمهوري الجاكوبي» من ناحية أخرى، إلا أن صعود الإسلام الدولي المتشدد وانتشار الاضطرابات في المناطق الحضرية في القرن الحادي والعشرين متضمِّنة الشباب من سلالة مهاجري شمال أفريقيا — وأغلبه مسلم — احتجاجًا على البطالة واستخدام الشرطة للقوة الغاشمة — التي سنتناولها بمزيد من التفصيل فيما بعد — والحاجة إلى الاتصال بالرابطات العرقية المزدهرة، كل ذلك أبقى عدة أشكال من التعددية الثقافية القائمة «بحكم الواقع» على قيد الحياة.
ويبدو جليًّا أن حكومات كلٍّ من «اليسار» و«اليمين» خَلُصَت إلى أن أفضل سبيل أمام فرنسا هو إيجاد وسيلة للجمع بين الاعتراف بالتباين الثقافي وتقاليد «النظام الجمهوري الفرنسي»، غير أن ذلك التنازل ما زال لا يتَضمَّن طرح أسئلة عرقية في تعداد السكان، وما زال العدد الحقيقي للمواطنين من الأقليات العرقية رهن التخمين المدروس. ويظل السؤال هل ذلك يشكِّل أساسًا صالحًا لوضع السياسة الاجتماعية سؤالًا مثيرًا للشِّقاق في الحياة العامة الفرنسية.
وقد شهد نوفمبر لعام ۲۰۱۰ تطورًا من المحتمل أن يكون ذا أهمية؛ إذ أصدر مكتب الإحصاءات الوطنية الفرنسي أول أرقام رسمية تتعلق باختلالات في أنماط التوظيف بين المواطنين الفرنسيين لآباء من المهاجرين، وأولئك ذوي الآباء الفرنسيين؛ فبلغت نسبة تعيين الرجال الفرنسيين لآباء قادمين من المغرب العربي ٦٥٪ مقارنةً بنسبة ٨٦٪ لذوي الآباء الفرنسيين، وبلغت النسب المقابلة لدى النساء ٥٦٪ و۷٤٪. وأقرَّ مكتب الإحصاءات بأنَّه من المحتمل أن يكون التمييز قد اضطلع بدور كبير في إحداث ذلك الفَرْق. وفي خطوة لا تقل أهمية، أعلن الرئيس ساركوزي إلغاء «وزارة الهجرة والهوية الوطنية»، مُقِرًّا بأنها أدت إلى «التوتر وسوء الفهم»، وكان إنشاء تلك الوزارة مثار نقد المؤرِّخين وغيرهم من المثقَّفين — واليساريين — لأنها تصِم المهاجرين وتشير إلى أن المواطنين ذوي الآباء الأجانب يمثِّلون نوعًا من التهديد على الدولة. وقد جاءت هذه الخطوة بعد فترة وجيزة من إقرار تشريع يمنع النقاب في جميع الأماكن العامة.
(١٠) ألمانيا: أمة «عرقية» ترضخ لمطالب المواطنة
ورثت ألمانيا عن أوائل القرن التاسع عشر، وإلى حد أكبر عن الوطنية «العضوية» الوحشية للفترة النازية، تصوُّرًا للمواطنة الرسمية فضلًا عن حس ثقافي أشمَل، مفادهما أنه لا ينتمي انتماءً حقيقيًّا إلى الأمة سوى من ينحدر من أصل ألماني خالص. وطوال الفترة ما بين الخمسينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، في الوقت الذي توافد فيه ملايين العمال الأجانب من إيطاليا واليونان والبرتغال وتركيا ويوغوسلافيا إلى ألمانيا، ظلت سياسة المواطنة صارمة في أخذها بمبدأ «حق الدم»، وكان هذا يعني أن الملايين من «ذوي الأصول الألمانية» في جميع أنحاء العالم مُنِحوا حقوق المواطنة تلقائيًّا، في حين لم يَكُن للعمَّال الأجانب من سبيل إلى المواطنة، واكتسبت ألمانيا سمعة مشينة بسبب سياسة «العمالة الزائرة» التي تبنَّتها في تسفير العمال الأجانب جيئةً وذهابًا حسب متطلبات السوق. فمن أصل ۱٤ مليون «عامل زائر» عام ۱۹۷۳، رحل حوالي ۱۱ مليونًا في أعقاب أزمة النفط والركود، لكن حوالي ۳ ملايين عامل تركي بقوا وتمكَّنوا — بمساعدة المحاكم الألمانية والدولية — من إحضار أُسَرهم لينضموا إليهم. ويقيم في ألمانيا الآن حوالي سبعة ملايين ونصف مليون شخص من أصل أجنبي — أي ٩٪ من السكان — و۱٤ مليونًا وفقًا لبعض التقديرات.
وبدأ إحداث بعض التغييرات المبدئية في قانون المواطنة في تسعينيات القرن العشرين، مصحوبةً باعتراف جاء متأخرًا بأنَّ على ألمانيا التخلي عن زعمها بأنها ليست بلد هجرة، وقد أحدث التشريع الخاص بالمواطنة عام ۲۰۰۰ وقانون الهجرة لعام ۲۰۰٥ تغييرات أكثر جوهرية، مسجلين قبولًا أكثر صراحة باعتبار العمال الزائرين ألمانًا.
ليس من المستغرب أن التعددية الثقافية لم تحظَ قط بتأييد رسمي صادق ولا دعم شعبي ذي بال لدى أمة تتمتع بمثل هذا التصور الذاتي العرقي القوي؛ فكثيرًا ما دعا الأتراك الألمان إلى اتخاذ خطوات أوسع تجاه التعددية الثقافية والاحتفاء بالتنوع، لكن حتى «الخُضْر» — الذين تعاطفوا في البداية — أداروا ظهورهم لتلك الفكرة فيما يبدو، وإنْ ظلوا يحتجُّون بمزايا الهجرة والتنوع. وفي أكتوبر عام ۲۰۱۰ صَرَّحَت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن التعددية الثقافية «مُنيت بفشل ذريع»، وهو أمر يدعو إلى السخرية، على اعتبار أن سياسات التعددية الثقافية لم تَكَد تُخْتَبَر.
إلا أن بعض التنازلات قُدِّمَت على أرض الواقع، استجابةً للظروف المحلية، ولا سيما في مدن مثل فرانكفورت وشتوتجارت، حيث الكثير من السكان ينحدرون من أصول مهاجرة. فقد حظيت فرانكفورت بمكتب مختص بشئون التعددية الثقافية منذ عام ۱۹٨۹، قام مقام النصير للتدابير المناهضة للتمييز لدى السلطات المحلية، وقاد الحملات التي تروج للتسامح وقبول التنوع، وقدَّم خدماته في مجال الوساطة وحل النزاعات. وعلى صعيد الدولة، اتُّخِذَت تدابير ترمي إلى تحسين الأداء التعليمي للأطفال ذوي الأصول المهاجرة، ولا سيما تيسير تعلُّم اللغة الألمانية، إلا أن التدريس باللغة الأم للأقليات ما زال مشروعًا هامشيًّا في إطار نظام التعليم. وقد أتاح الضمان الدستوري للحرية الدينية والهيكل الفيدرالي حيِّزًا لبعض التباين في السياسات، وإنْ كان بناء المساجد وارتداء المسلمات الحجاب ما زالا يثيران مشاعر العداء والمعارضة. ويعتبر المعلِّقون مثل كارين شُونفيلدر زيادة نسبة زواج الألمان من حاملي الجنسيات الأجنبية — التي بلغت ۱٦٪ عام ۲۰۰۰ مقارنةً بنسبة ٤٪ عام ۱۹٦۰ — مؤشرًا يبعث على الأمل بصفة عامة في نشأة قبول بالتنوع الثقافي نابع من القاعدة تجاه القمة.
وقد اكتسب مفهوم «التواصل الثقافي» قدرًا من الرواج في ألمانيا — يفوق كثيرًا التعددية الثقافية — مع ظهور محاولات لتشجيع التفاعل والحوار بين الأقليات والأغلبية، وهو تطور أعتزم الحديث عنه أكثر في خاتمة هذا الكتاب.
لا تتوافر لي هنا المساحة لتقديم مواد للمقارنة بين النمسا والدنمارك والسويد وإيطاليا وإسبانيا، فمجموعة «رد الفعل العنيف ضد التعددية الثقافية» لفيرتوفيك وفيسيندورف ذات فائدة كبيرة من حيث تقديمها المعلومات عن هذه البلدان.
(١١) الاستنتاجات
تبرز عدة استنتاجات من أي دراسة مُطَّلِعة للهجرة والتعددية الثقافية في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين. فالحقيقة الصارخة والمزعجة، بالنسبة للكثيرين، هي أن المهاجرين غير البيض من المناطق الأكثر فقرًا في العالم — ومعظمها مستعمرات حالية وسابقة للقوى الاستعمارية الغربية — لم يكونوا موضع ترحاب ولا حسن وفادة؛ فحكومة حزب العمال المتسمة بالراديكالية فيما عدا هذا الأمر، التي انتُخِبَت في بريطانيا عام ۱۹٤٥، انزعجت من الأنباء الصادرة بقرب إبحار سفينة «إس إس ويندرَش» إلى بريطانيا، حاملة على متنها، ضمن الركاب القادمين من جزر الهند الغربية، العديد فعلًا ممن قاتلوا من أجل بريطانيا في الحرب. فبُذِلَت محاولات جهيدة لمنعها من الإبحار، وأُرسِلَت الرسائل إلى بقية المستعمرات، وإلى الهند وباكستان حديثتَي الاستقلال، لإبلاغهم بعدم توافر وظائف في بريطانيا. أما الفرنسيون فحاولوا معاملة مهاجري شمال أفريقيا باعتبارهم عمالة زائرة، وابتكر الألمان — بقوانين المواطنة ذات القيود العرقية القائمة بالفعل — نظامًا صارمًا للعمالة الزائرة كان الفرنسيون والبريطانيون والهولنديون يودون على الأغلب لو أمكنهم إنشاؤه. وعلى أي حال، أتاح تقليد «التقسيم العمودي» لهولندا أنْ تُبقي المهاجرين غير البيض بمنأى عن عموم المجتمع الهولندي، وأَمِلَت حكومات أوروبا الغربية وقطاعات عريضة من سكانها البيض في ألا يبقى المهاجرون سوى فترة قصيرة.
تجاهلت الصناعات التحويلية بأوروبا الغربية والقطاعات العامة — لا سيما قطاعا النقل والصحة — حكوماتها؛ إذ كانت متعطِّشة للعمالة، ووَظَّفَت العمال بكثافة من المستعمرات الحالية والسابقة، إلا أن هؤلاء العمال — وهذا هو الاستنتاج الثاني — بصرف النظر عن مستوى مؤهلاتهم التعليمية والمهنية، وجدوا أنفسهم يعملون في الوظائف التي لا تتطلب مهارة وغير المرغوب فيها التي استطاع العمال البيض نبذها في ظل اقتصاداتهم المزدهرة. وإذ تعرَّضوا للتمييز ضدهم من جانب ملَّاك العقارات العامة والخاصة، عثروا على مساكن مستأجرة خانقة في المناطق الحضرية الأكثر فقرًا، وقد استتبع التورُّط الاستعماري الأوروبي في البلدان العربية وشبه القارة الهندية انتماء جزء كبير من المهاجرين إلى أصول مسلمة، مع أن ذلك لم يبدُ آنئذٍ ذا أهمية.
والأهم من ذلك الفكرة المتأصلة لإضفاء الصبغة العرقية التي كانت جزءًا من تركة الاستعمار التي ورثتها مجتمعات أوروبا الغربية، والتي ترتب عليها المعاملة بيِّنة الاختلاف للعمال «الملوَّنين» عن المهاجرين الأوروبيين من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وبولندا الذين غذوا أسواق العمل سابقًا. ولَقِيَ غير الأوروبيين شعورًا واسع الانتشار بدونيتهم وشبه استحالة استيعابهم، وأُغلِقَت الأبواب أمام المزيد من هجرة العمالة المماثلة بحلول أواسط سبعينيات القرن العشرين.
ثالثًا: كان على التعددية الثقافية، التي نشأت في نهاية المطاف في محاولة لتأسيس مبادئ قبول التنوع الثقافي الذي أوجدته التعددية العرقية الجديدة والاحتفاء به، أن تخوض معارك مستمرة ضد التراث الاستعماري للعنصرية. وقد استضاف الأوروبيون الغربيون المهاجرين غير البيض على مضض، وتبنُّوا أيضًا التعددية الثقافية على مضض.
رابعًا: كانت التعددية الثقافية مشروعًا موجَّهًا من القمة إلى القاعدة إلى حد بعيد، على الرغم من محاولة العديد من النقابات العمالية ونشطاء الأحزاب السياسية والتنظيمات المناهضة للعنصرية القيام بالتعبئة على المستوى الشعبي، وما فتئوا يضغطون من أجل تحقيق المعاملة المنصفة والتوعية بمزايا التنوع الثقافي الجديد، وتسبب النهج الموجه من القمة إلى القاعدة في إثارة السخط، مما أدَّى بدوره إلى رد فعل عنيف من البيض.
ولم يصدر نقد التعددية الثقافية عن القوميين المحافظين فحسب؛ فكما ذكرتُ، ارتفعت أصوات العديد من اليساريين قائلة إن فِكر التعددية الثقافية وسياساتها أضعفهما الفشل في معالجة العنصرية بصورة مباشرة، وأنهما وقعا في شَرَك الجوهرية العرقية التبسيطية، وعجزا عن الانضمام على نحو لائق إلى كفاح المساواتية العام من أجل التصدي للتفاوت الاجتماعي الاقتصادي.
وتدل المعارضة الرسمية والشعبية في بلدان مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا والدنمارك على أن تطور التعددية الثقافية في أوروبا الغربية ما زال غير منتظم بالمرة. وقد شهد القرن الحادي والعشرون نشأة رد فعل عنيف ضد التعددية الثقافية، إلا أنه يجدر الانتباه إلى أن التعددية الثقافية — بالرغم من العديد من التصريحات الشائعة المنافية لذلك — لم يكُن مفادها قط تشجيع التنمية المنفصلة بين الأقليات العرقية والأغلبية، وإنما كان الهدف دائمًا هو تهيئة سبل منصِفَة وغير تمييزية تؤدي إلى الاندماج الثقافي والاجتماعي الاقتصادي.
وأنا أكتب هذا الكتاب، يؤكِّد انتخاب نواب برلمانيين من اليمين المتطرِّف في السويد على أنه حتى هذا الملاذ للديمقراطية الاجتماعية وسياسات اللجوء التحررية يسير على نهج النمط الأوروبي شديد العداء إزاء الصور الجديدة من الهجرة في المدن المبتعدة عن التصنيع مثل مالمو. فقد اكتسبت ردة الفعل العنيفة ضد التعددية الثقافية قوة دفع جديدة.
وفي خاتمة الكتاب أشيرُ إلى أن التعددية الثقافية كنموذج فكري وإطار مؤسسي بحاجة إلى المضي قُدُمًا نحو أشكال التواصل الثقافي إنْ كان لها أن تتأقلم مع الوضع الجديد، إلا أن الفترة المقبلة من التقشُّف المالي الحاد — بتخفيض الموارد المتاحة للخدمات العامة ورفع معدلات البطالة ومستويات عدم المساواة — ستمثِّل تحديًا قاسيًا حتى للصورة الأكثر رقيًّا المتمثلة في التواصل الثقافي وتوصيات إعادة التوزيع التي تبدو ضرورية.