الهوية الوطنية والانتماء و«المسألة الإسلامية»
(١) الهوية الوطنية والانتماء والمواطنة
إذا كان «الاندماج» يحل محل التعددية الثقافية في أوروبا، فدائمًا ما يثار تساؤل: الاندماج في ماذا بالضبط؟ أو فيما يتعلق بالفكرة البريطانية عن «الترابط المجتمعي»، الترابط المستند إلى أي أساس تحديدًا؟ وإلى جانب المشكلات التي نوقشت فيما سبق والمتعلقة بكيفية قياس الاندماج وتحديد متى يتم، لطالما تساءل المتشككون عما إذا كان الاندماج بالنسبة إلى المهاجرين — في بريطانيا على سبيل المثال — يعني التطلُّع إلى الانضمام إلى ثقافة الإفراط في شرب الكحوليات أو البدانة أو كراهية الأجانب — التي تشكِّل بدورها جزءًا من «كَوْن المرء بريطانيًّا» — والنجاح في أنْ ينضموا إليها؟ فما المعنى الفعلي لأن يصير المرء بريطانيًّا أو هولنديًّا أو أي أوروبي غير ذلك؟
أي إن المسألة باتت مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بفكرة «الهوية الوطنية»، فلطالما انطوى الاندماج والترابط على حاجة الأقليات العرقية والمهاجرين الجدد إلى الالتزام والافتخار بكل ما يعتبَر «أساس» الدولة التي مُنِحوا امتياز الدخول إليها، أو الجوهر المميِّز لها، والتي في نهاية المطاف مُنِحوا العضوية الكاملة فيها. وصار الاهتمام بالدولة أكثر محورية بسبب ضغوط الطرد المركزي على سلامتها الناشئة عن قوى العولمة، والمواءمة مع الاتحاد الأوروبي، والنزعات القومية الداخلية التي طالما احتوتها التسويات والتنازلات التي أنشأت دولًا قومية قادرة على البقاء في المقام الأول. وكانت المملكة المتحدة، على سبيل المثال، دولة متعددة القوميات على نحو صريح تعاني ازدياد الاستياء من الهيمنة الإنجليزية على مكوناتها الاسكتلندية والويلزية والأيرلندية.
ويتبع ذلك «المسألة الإسلامية». كانت الكثير من النقاشات، في جميع أنحاء أوروبا، مدفوعة بالقلق حول انعدام الاندماج والولاء الوطني المفترضَين من جانب الأقليات المسلمة المهاجرة، الذي أزكته بالطبع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وصعود الإسلام الراديكالي، وتفجيرات مدريد، والاضطرابات التي حدثت في بريطانيا وفرنسا في المناطق التي يغلب عليها المسلمون، وضلوع قلة هزيلة من المسلمين البريطانيين في الأنشطة المستلهَمَة من تنظيم القاعدة، أبرزها تفجيرات لندن في يوليو ۲۰۰٥.
سوف أناقش المسألة الإسلامية في القسم التالي من هذا الفصل. أما الآن، فمن المهم أن نفصل بين بعض الجوانب المعقدة والملتبسة على نحو محيِّر، التي ظهرت في النقاشات الدائرة حول الاندماج والهوية الوطنية.
كانت فكرة «القيم الأساسية» هي السبيل الأكثر شيوعًا لمناقشة مسألة الهوية الوطنية؛ ففي بريطانيا، أُعرِب عن حسرة كبيرة لافتقار الدولة إلى الإطار المميِّز لدى الفرنسيين، وهو: «الحرية والمساواة والإخاء»، أو إطار «أرض الأحرار» لدى الأمريكيين، ولذا حاول توني بلير وجوردون براون على وجه التحديد أن يرسيا قوالب، في الخطابات والوثائق المهمة، تتعلَّق بالقيم الأساسية، لتوصيف ما يحدد معالم تفرد البريطانيين.
وقد أصدر رئيس الوزراء آنذاك توني بلير، فيما أصبح أحد أهم الخطابات المحدِّدة للسمة البريطانية في ديسمبر عام ۲۰۰٦، صيغًا عدة متباينة لموضوع واحد، ألا وهي: «الإيمان بالديمقراطية، وسيادة القانون، والتسامح، والمساواة في المعاملة للجميع، واحترام هذا البلد وتراثه المشترك»، «التضامن، بالتقارب والتعايش السلمي»، «التسامح، ومد جسور التضامن عبر الشقاق العِرقي والديني، وتحقيق المساواة للجميع وبين الجميع». وأصرَّ أيضًا على أن تلك القيم لا تستغني عن التعددية الثقافية استغناءً كاملًا، فيحق لنا التمتُّع ﺑ «أدياننا وأجناسنا وعقائدنا الخاصة المختلفة»، لكن علينا «واجب التعبير عن أي خلاف بأسلوب يتَّسق تمامًا مع القيم المشتركة التي تؤلِّف بيننا».
ويسفر التدقيق في تصريحات جوردون براون المتعددة عن التوصل إلى وجهة نظر مكوَّنة من ثلاثة عناصر رئيسية؛ أولًا: «لقد ولَّى عهد اضطرار بريطانيا إلى الاعتذار عن تاريخنا، وينبغي علينا أن نحتفي بشق كبير من ماضينا؛ فتاريخنا هو محور هويتنا البريطانية»، وأحد الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من علاقات بريطانيا المتشابكة بالعالم هو أن بريطانيا «خارجية التوجُّه» ومن سماتها «الانفتاح والدولية». وثانيًا: التشديد على الحرية والإنصاف والتسامح باعتبارها قيمًا بريطانية مميِّزة. وثالثًا: اعتبار «الواجب» قيمة باقية.
وذكر براون أيضًا «قابلية التأقلم»، و«المنطق العملي»، و«شكًّا عميقًا في الأصولية». وتلك السمات الأخيرة تنسجم بوضوح حتى مع المؤرخين اليساريين واليساريين الوسطيين مثل هوبسباوم وكولز، إلا أن كولز يشير كذلك إلى أهمية الانتصارات العسكرية والتركيبة المتناقضة المكوَّنة من «الحرية الإنجليزية في الداخل والسلطة البريطانية في الخارج».
ونقابل هنا إحدى أولى الصعوبات وأضخمها التي تعتري تعريف هوية بريطانية جامعة تقصر تركيزها على إيجابيات تاريخ طويل ومتشابك ومتناقض، فلا يقتصر ماضي أي أمة على وجه الأرض على الإيجابيات فحسب، مهما رغب أفرادها في تصديق ما هو خلاف ذلك. وكانت المؤرخة ليندا كولي أقرب إلى الصواب عندما نوَّهت إلى أن «الإنجليز والويلزيين والاسكتلنديين والأيرلنديين كافة كانوا تجارًا ودعاة حرب طمَّاعين ولحوحين ومتطفلين، وعدوانيين ويستخدمون العنف والكثير من القهر، وكثيرًا ما اتسموا بالعجرفة والغدر». وهي لا تأتي على ذكر العنصرية والاستعمارية التي كثيرًا ما اتسمت بالوحشية. وعلى حد قول ماركاند: «ثمة وجه قبيح أيضًا للسمة البريطانية، وأي حديث عن البريطانية يغفل الجانب المظلم للإمبراطورية يكون من قبيل العبث.»
وإضافةً إلى الحقيقة التي أشار إليها آخرون كُثُر، من أن «المعارضة» و«التطرُّف» كانا بدورهما سمتين باقيتين، وأنهما ساهما بقوة في إقامة الحريات والمساواة والتسامح في الوقت الحاضر، لا يمكن للصيغتين اللتين طرحهما بلير وبراون أن يقدِّما أي نوع من التراث المنفرد المتَّسق الذي يمكن أن «يوقع» عليه كل مواطن. ومن المفروغ منه أنه ليس ثمة تراث كهذا في تاريخ أي أمة، ويصعب أن يُتوقَّع في بريطانيا أن يتفق الملكيون والجمهوريون والليبراليون والاشتراكيون والمحافظون وذوو التوجهات الدينية والإنسانيون وأنصار الحركة النسائية والمؤمنون بفكرة «القيم الأُسرية» — على سبيل التعريف ببعض وجهات النظر السائدة في نطاق الخطوط الأيديولوجية الفاصلة في الثقافة البريطانية — على تراث مشترك إلا بدرجة باهتة مغرقة في الابتذال ومعرَّضة للتفكك أمام المناقشة الجادة لأي فترة محددة أو مجموعة أحداث بعينها.
بل إن السبيل الأكثر فعالية في الواقع هو الإقرار بالخلاف والقَبول بأن هذا ليس أحد مواطن قوة أي ديمقراطية سليمة فحسب، وإنما أحد متطلباتها الأكيدة أيضًا، كما احتجَّ العديد من المنظِّرين السياسيين مثل تولي وموف وأمين.
لكن ثمة أسئلة خطيرة أخرى تواجه مشروع السمة البريطانية بصيغته الحالية؛ فما «البريطاني» تحديدًا فيما يتعلَّق بتلك القيم؟ لقد توصَّل الهولنديون (الذين يفخرون بتمتعهم بالتسامح كإحدى الفضائل الوطنية) وغيرهم من الأمم التي حاولت أن تضع قائمة يمكن أن توقِّع عليها الأقليات العرقية والمهاجرون الجدد إلى بنود شديدة التشابه. وليس في هذا ما يثير الدهشةً، فيتوقع أي تكوين سياسي ليبرالي أو دولة قومية ليبرالية — كحد أدنى — التزام مواطنيه بالديمقراطية وبقدر من التسامح والإنصاف والمساواة (على الرغم من نشأة خلافات جدية في كل مكان وقتما تجري أي محاولة لإضفاء مضمون على الأفكار والمُثُل الجوفاء نسبيًّا).
على أي حال، هل يمكن أن تُغرَس مشاعر الانتماء والولاء للدولة، والوطنية، عن طريق اختبارات المواطنة ومراسمها، التي تمثِّل حزمة أخرى من الابتكارات المفضَّلة لدى بلدان مثل بريطانيا وهولندا؟ خصوصًا أن العديد من المواطنين الجدد ربما يكونون قد تعرَّضوا بالفعل للعداء والرفض والتمييز، أو أن يكونوا في سبيلهم إلى التعرُّض لذلك قريبًا؟ وقد شكك معظم المؤرخين وعلماء الاجتماع في إمكانية غرس مشاعر الانتماء والألفة الحقيقيين تجاه بلد ما من خلال تدابير وطنية موجهة من القمة إلى القاعدة تشمل الأعلام الوطنية والتعهدات والأناشيد الوطنية. ولا يوجد ما يثير الاعتراض من حيث المبدأ في مثل تلك الاختبارات والمراسم، فهي موجودة في كندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن بعيد، ويجدر القول إن الوافدين الجدد يكتسبون بعض المعلومات المفيدة بشأن المجتمعات التي هاجروا إليها، وأنَّ الاحتفال الرمزي بالدخول في المواطنة يدل على أنها نَقلة مهمة جديرة بالاحتفاء، مما يقوِّي الشعور باشتمال المواطنة على حقوق ومسئوليات.
إلا أن إشراك العواطف الضروري من أجل تكوين ارتباطات حقيقية لا يمكن أن يتأتَّى إلا بصورة طبيعية وتدريجية من خلال الخبرات المُرضية والممتعة والجديرة بالذكر والتفاعلات الاجتماعية المتواصلة التي تعمل على تنمية مشاعر الألفة والانتماء وتقويتها. وتشير جميع الأدلة المتوافرة إلى أن تعزيز «التوافق» وتقليل التنوع — مثلما أوصى منظِّرو رأس المال الاجتماعي — ليسا مطلوبين بالضرورة لتكوين ما يمكن أن يسميه المرء شعورًا جيدًا بما فيه الكفاية بالانتماء والتضامن الاجتماعي لدى أفراد أي دولة قومية.
والاستراتيجية الأصوب، التي تشكِّل بدورها جزءًا من المشروعات الحكومية في المملكة المتحدة وغيرها من البقاع، هي «إزالة الطابع القومي» و«إزالة الطابع العرقي» عن تلك القضايا عن طريق صياغتها في إطار الخطابات العامة المتعلقة بالمواطنة والحقوق والمسئوليات، التي تدرك أن العديد من الهويات تتفق مع الالتزام المدني وإقرار القيم العامة للديمقراطية والإنصاف والمساواة وسيادة القانون وما إلى ذلك. وليس الهدف من ذلك هو مراعاة الأقليات العرقية والمهاجرين الجدد فحسب؛ فمن ناحية، في بريطانيا على سبيل المثال: تشير جميع الأدلة إلى أن غالبية الاسكتلنديين يكنُّون قدرًا ضئيلًا من الارتباط بأفكار السمة البريطانية واستياءً خاصًّا من الهيمنة الإنجليزية التي ميَّزت التصورات التقليدية والتوقعات العالمية بشأن السمة البريطانية. وإضافةً إلى ذلك — كما أدرك العديدون حديثًا — فإن مشروعًا أقل اعتمادًا على النزعة القومية يستهدف الانتماء المدني أكثر ملاءمةً بكثير بالنسبة إلى عالم يتَّجه صوب العولمة بخطى حثيثة وعالم سوف تتطلب وتشهد فيه الاقتصادات المتعطشة لدى جميع الدول القومية الصناعية المتقدمة هجرات متواصلة في زمن معدلات المواليد المتراجعة والنقص في المهارة.
في عام ۲۰۰۲، أدخلت حكومة المملكة المتحدة تعليم المواطنة في المنهج الوطني لجميع الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين ۱۱ و۱٦ سنة، صحبته كذلك توصيات بإدراج موضوعات حول العنصرية والانتماء العرقي، ومجموعة متنوعة من الديانات، وتناول المؤلفين السود والآسيويين بالدراسة في إطار الأدب الإنجليزي، إلا أن فئتين متباينتين من النقد الموجَّه إلى منهج التربية الوطنية الجديد سلَّطتا الضوء بوضوح على الصعوبة التي ينطوي عليها بناء تراث واحد متَّسق للتاريخ البريطاني والقيم الأساسية البريطانية. وفي حين شَكَت مراجعة كلَّفت بها الحكومة السير كيث أجيبجو في يناير عام ۲۰۰۷ من عدم كفاية التركيز على هوية المملكة المتحدة وتاريخها، ندَّد السير ديفيد واطسون، أستاذ إدارة التعليم العالي في معهد التربية بجامعة لندن، في يناير عام ۲۰۰۹ بدروس المواطنة الحالية باعتبارها «هشة» و«قومية النزعة»، داعيًا إلى المزيد من الوعي ﺑ «الحساسيات الدولية»، وأوصى كذلك بوضع صيغة اختبار لطالبي الجنسية الجدد تكون أقل ارتباطًا بالثقافة. وعلى وجه التحديد، فقد رأت دراسة أجراها المعهد أن غرس النزعة الوطنية، التي تكرِّسها دروس المواطنة في المدارس، ينطوي على توجيه أخلاقي مفرط، بتعتيمه على «أوجه الغموض الأخلاقي» التي تشكِّل جزءًا من تاريخ أي أمة.
من الواضح أن إقامة مشروع عملية مواطنة غير قومية النزعة هو أبعد ما يكون عن التحقق، ولا يزال شيئًا مثاليًّا صعب المنال، لكنه في رأيي يستحق أن نسعى جاهدين وراءه. ولاحظ أيضًا الافتقار إلى الأدلة على وجود تدهور خطير في الهوية الوطنية؛ فليس جليًّا أن ما يحتاج إلى التعزيز هو الشعور بالانتماء الوطني لا حس المواطنة وأشكال التمكين القادرة على تنمية المسئولية المدنية. وتذهب الأبحاث التي أجراها هيث ومارتن وإلجينيوس وغيرهم في جامعة أكسفورد، استنادًا إلى الدراسات التي أُجريَت منذ ستينيات القرن العشرين حتى الآن، إلى أن أغلبية السكان ما زال لديهم إحساس بالسمة البريطانية، لكن لم يجد هيث وزملاؤه علاقة وثيقة بين بقاء الإحساس بالسمة البريطانية والميل تجاه أداء الواجب المدني على مدى السنوات الخمس والأربعين المنصرمة أو نحو ذلك؛ لذا يبدو أن ثمة علاقة مركَّبة بين حس الانتماء الوطني والتضامن الاجتماعي والمواطنة الفاعلة.
والتغيُّر الذي طرأ هو أن عددًا أكبر من السكان الآن يتمتع بهويتين على الأقل؛ على سبيل المثال: اسكتلندية وبريطانية، وويلزية وبريطانية. وتكشف جميع الأبحاث المتعلقة بالأقليات العرقية المستقرة أيضًا عن وجود فيض من الانتماءات المتعددة والعابرة للحدود الوطنية، بدرجات متفاوتة من التعلُّق «بكونها بريطانية»، وهذا ما أكدته دراستي المستفيضة للأدلة المتاحة على تبدُّل هويات الأقليات العرقية في بريطانيا.
ويذهب هيث وغيره إلى أنه إذا كان ثمة قضية تقتضي المعالجة هنا، فهي تتعلق بالشباب السود ذوي الأصول الكاريبية والأفريقية، الذين يكِنُّ خمسهم على الأقل شعورًا ضعيفًا بالانتماء إلى بريطانيا. وتشير الأبحاث إلى احتمال ارتباط ذلك بالتشابك المعقَّد بين الطبقة وسواد البشرة. وقد كشفت كلير ألِكساندر في دراستها الخلَّاقة «فن كون المرء أسود» (١٩٩٦)، من ناحية، وجود ارتباطات محلية وثيقة بمدن مثل برمنجهام ولندن، وبمناطق محلية داخلهما، على سبيل المثال هاكني. والآن حتى الرموز البريدية صارت جزءًا من الانتماء والأقلمة، إلى حد خطير في بعض الأحيان، إلا أن عمل ألكساندر وغيرها يبيِّن كذلك أن ثمة توترًا قائمًا بين أن يكون المرء منتميًا إلى الطبقة الوسطى وأن يُعتَرَف بسواده. فترتبط لهجات الطبقة الوسطى وتطلُّعاتها — بما في ذلك الاجتهاد في المدرسة — لدى نسبة غير معلومة من السود المنتمين إلى الطبقة العاملة بخيانة المبادئ لمصلحة «الهوية البيضاء» و«التصرُّف كالبيض».
ومن الواضح أن ذلك يخلِّف أثرًا يخلُّ بالمزاوجة بين الهوية السوداء والهوية البريطانية، إلا أن نحو ٢٠٪ من أولئك الذين يوصَفون في الدراسات الاستقصائية بلقب «الكاريبيين» لهم شريك أبيض، و٤٠٪ من الأطفال «الكاريبيين» أحد أبويهم أبيض، وفئة «العِرق المختلط» هي على الأرجح «الأقلية العرقية» الأسرع نموًّا في بريطانيا. وكل هذا يؤكِّد وجهة النظر التي ناصرْتُها وهي أن هويات سكان بريطانيا جميعًا — وبالأخص هويات الأقليات العرقية — هي هويات مركَّبة وغير مستقرة ومتقلِّبة.
أما هويات الأقليات الآسيوية في بريطانيا فهي أكثر تعقيدًا؛ فقد أُلحِقت التقسيمات التي جرت على البلدان والأصول الجغرافية في مرحلة ما بعد الاستعمار بأنماط من الهويات المركبة القائمة على أسس الدين، والطبقة الاجتماعية، والطبقات الاجتماعية الفرعية، وغيرها من ضروب جماعات النسب المتنوعة، والاختلافات الريفية/الحضرية والإقليمية، مما جعل إصدار التعميمات بشأن الآسيويين عملية محفوفة بالمخاطر. ويشير روجر بالارد في تقديمه مجموعة من المقالات عن الجنوب آسيويين في بريطانيا إلى أن ما يوضحه كل فصل في هذا المجلد ليس مدى اختلاف كل مجتمع عن غيره فحسب، وإنما يوضح أيضًا أن كل مجتمع يتبع ديناميكيته المميزة: «وينتج عن ذلك تنوع متزايد باستمرار. فالحديث عن مجتمع آسيوي أو حتى مجتمع «هندي» أو «باكستاني» أو «بنغالي» يعني في كثير من الأحيان ترسيخًا للخيال.»
إلا أنَّه من الواضح أن أكثر ما يقلق الجهات الرسمية ينصبُّ على الجاليات المسلمة، الذي ازداد بوضوح إثر تفجيرات لندن في يوليو ۲۰۰٥. وكان المسلمون في شتى أنحاء أوروبا هم محط الأنظار باعتبارهم أكثر من ينقصه حس الانتماء الوطني والأوروبي. واستهدفت برامج الترابط المجتمعي واندماج المسلمين قبل غيرهم، في بريطانيا وباقي أنحاء أوروبا. فهل شهدنا، كما في الاندماج الوطني والترابط المجتمعي بصفة عامة، رد فعل مفرطًا؟
(٢) «المسألة الإسلامية»
بحلول نهاية عام ۲۰۰۹، أدلى السويسريون بأصواتهم في استفتاء يستهدف حظر بناء المزيد من المآذن الإسلامية، في بلد يحتوي على أربعة من تلك الأبنية وسكان مسلمين يبلغ عددهم ٤۰۰ ألف نسمة. وكان ساركوزي رئيس فرنسا أحد أبرز مؤيدي القرار السويسري، الذي يُنظر إليه على أي حال باعتباره خرقًا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، إذ يختصُّ الإسلام بالتمييز. وفي أوائل عام ۲۰۱۰، رفض الفرنسيون منح الجنسية لرجل مغربي الأصل بدا أنه يُكرِه زوجته على ارتداء النقاب. وصدر تشريع بحظر النقاب في الأماكن العامة (يقال إن ثمة حوالي ۱۰۰۰ إلى ۲۰۰۰ سيدة ترتدي النقاب ضمن ٦ ملايين مسلم في فرنسا).
وتؤكِّد هذه القرارات، في نظر العديد من النقاد، أن أوروبا واقعة بين براثن «كراهية الإسلام» التي تعادل في ضررها معاداة السامية التي سادت أوروبا إبَّان ثلاثينيات القرن العشرين. ويرى آخرون، مقتدين بكتاب صامويل هنتنجتون المليء بالأخطاء وإن كان ذا ثقل، الذي يحمل اسم «صراع الحضارات»، أن تلك مجرد مناوشة أخيرة ضمن «صراع الحضارات» الذي يحل الآن محل الحرب الباردة والمعارك التي قامت بين الدول القومية في إطار ساحة معركة عالمية جديدة. وقد يرى مؤيدو تلك القرارات أنها علامة مبشِّرة بمواصلة أوروبا التصدي لتراجعها الوشيك أمام هجرة المسلمين، ومعدلات مواليد المسلمين في أوروبا، والجهاد العالمي، الذي تنبأ به سيل من المطبوعات، مثل: «آخر أيام أوروبا» (۲۰۰۷) لوالتر لاكور و«تأملات في الثورة في أوروبا: الهجرة والإسلام والغرب» (۲۰۰۹) لكريستوفر كالدويل.
آمل أن تكون الأحداث الرئيسية في قصة صعود إسلامٍ يتسم بمزيد من التشدد والوعي العالمي منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام ۱۹۷۹، وحملة حظر «آيات شيطانية» لسلمان رشدي، التي اكتسبت في حد ذاتها زخمًا هائلًا من الفتوى الشهيرة لآية الله الخميني — الزعيم الإيراني آنئذٍ — ضد رشدي، معروفة إلى حد لا يتطلَّب إدراج سرد مفصَّل لها هنا. ولا يسعني كذلك إلا أن آمل أن أقدِّم ما يعادل مناقشة شاملة للقضايا التي تنشأ عند النظر في مسارات الإسلام في أوروبا، لكن هناك بعض النقاط العامة الجديرة بالذكر قبل الشروع في تحليل موجز لعلاقة المسلمين في أوروبا بالتعددية الثقافية:
النقطة الأولى: المناقشات العامة الدائرة حول الإسلام و«المسألة الإسلامية» في سياق عالمي — كما في كتاب صامويل هنتنجتون على سبيل المثال — كثيرًا ما تكون عقيمة بسبب ما يسميه أوليفييه روي المزج والخلط «الثقافيَّي النزعة» بين الإسلام كديانة والثقافات الإسلامية (وأود أن أضيف هويات المسلمين). فالإسلام كديانة يتألف من القرآن والحديث وشروح كل منهما التي يقدِّمها الباحثون الإسلاميون، ولا ينبغي الخلط بين تلك المكونات ومحتوى الثقافات — أو «الحضارات» — الإسلامية، أو افتراض تحدُّد ذلك المحتوى بها، نظرًا لأن «الثقافة» تشمل التقاليد الاجتماعية، والهياكل والعلاقات الحضرية والريفية، والأدب، وفنون الطهي، والمؤسسات السياسية، وما إلى ذلك. وكما أشار سامي زبيدة — وهو باحث مرموق آخر — فإنه من قبيل التضليل المفرط أن نشير إلى «مجتمع مسلم» في حين أن الموجود فعليًّا هو مجتمعات مسلمة غير متجانسة تلعب فيها مختلف صور الدين الإسلامي أدوارًا متباينة وتتعايش مع توليفة من التقاليد الثقافية وصور العلمنة. فالمسلمون يوجدون ضمن جنسيات وانتماءات عرقية شتى، ويتحدثون مجموعة كبيرة من اللغات، وينخرطون في مجموعة واسعة النطاق من الممارسات الثقافية، وتنطوي مجتمعات المسلمين على تباين هائل في هوياتهم، بدءًا من شديدي التديُّن والمحافظين سياسيًّا، وصولًا إلى المتدينين اسمًا، والليبراليين سياسيًّا والمصلحين ثقافيًّا، وجميع أشكال التوليفات القائمة بينها. وهذا قبل أن نضع في اعتبارنا الانقسام الكبير بين السُنَّة والشيعة والمذاهب الطائفية المتشعبة المتولِّدة عنه.
وتتأثر مسارات مجتمعات المسلمين ومشكلاتها بما يتخطَّى «الإسلام» وحده، ومما يكشف ذلك أن الأنظمة الأكثر علمانية كما في مصر وتونس كثيرًا ما ضلعت في سد الطريق أمام الإصلاح الديمقراطي، تمامًا مثلما فعلت الدول القومية التي تتسم بالهوية الإسلامية على نحو أكثر رسمية مثل إيران أو المملكة العربية السعودية.
وتزداد أهمية هذه الاختلافات أكثر لدى استيعاب التنوع الهائل من ثقافات المسلمين وهوياتهم أثناء تطورها في أوساط مسلمي أوروبا، كما سنرى.
والنقطة التحذيرية الثانية الجديرة بالذكر هي أن «الإسلام السياسي»، على عكس ما ترى التصورات الشعبية، قد يكون بالفعل في سبيله إلى التراجع؛ فالحركات السياسية الإسلامية التي نشأت في أعقاب الثورة الإيرانية عام ۱۹۷۹، والتي بدت كأنها سوف تكتسح كل ما يعترض طريقها، اضطرت في الواقع إلى أن ترضى بدور ضئيل نسبيًّا في السياسة المحلية في الشرق الأوسط وغيره من الأنحاء، وطُبِّعَت تلك الحركات في صورة أحزاب سياسية — والجبهة الاسلامية للإنقاذ في الجزائر مثال جيد على ذلك — ووجدت نفسها تقيم الحملات الدعائية تحت شعارات التحول الديمقراطي، وحقوق الإنسان، وتنشيط «المجتمع المدني»، وكلها مفاهيم استعارتها من الخطاب السياسي الغربي. والقليل منها يحصد ما يربو على ٢٠٪ من الأصوات في الانتخابات الوطنية.
إضافةً إلى ذلك، حتى في إيران لم يسفر صعود قوى الإسلام السياسي واقعيًّا عن الارتداد إلى تعدد الأزواج أو الأسر الممتدة ذات الأعداد الكبيرة من الأطفال، وقد ارتفعت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة عند النساء الإيرانيات بنسبة كبيرة منذ ثورة ۱۹۷۹، من نسبة تقل عن ٣٠٪ إلى ٨٠٪. وغالبية طلاب الجامعات في إيران من النساء. وفي بلد إسلامي مثل إندونيسيا، لم يتعدَّ مؤشر الخصوبة ٢٫٦ في عام ۲۰۰۰؛ أي أقل من الفلبين الكاثوليكية التي بلغ المؤشر فيها ٣٫٦.
إذن فصياغة صراع عالمي بين «الغرب» و«الإسلام» تقع في خطأ مجانسة كل منهما؛ فالبلدان الغربية تجد بدورها صعوبة في التعامل مع قضايا جوهرية مثل الإجهاض، ودور المرأة والأسرة، ومعنى الوطنية، والتفسيرات الليبرالية للدين مقابل نظيراتها المحافظة، لا سيما كما يتجلَّى في النقاشات الدائرة بشأن تعيين قساوسة من النساء والمثليين جنسيًّا. ويبالغ الهَوَس الغربي بالعثور على إسلام معتدل وتمويله في تقدير تأثير الدين على تشكيل المجتمعات، ويسيء فهم الانقسامات الواقعة داخل الأصولية الإسلامية التي يفترَض اتّحادها.
ماذا عن تأييد المسلمين حول العالم لتنظيم القاعدة وغيره من الحركات الجهادية الإسلامية العنيفة؟ فعلى الرغم من تفشِّي المخاوف من الإسلام والمسلمين في الغرب، فقد صرَّح فريد زكريا، رئيس تحرير مجلة «نيوزويك» الأمريكية المرموقة، (في فبراير ۲۰۱۰) بأنَّ بن لادن قد «خسر صراع الحضارات»؛ فلا يؤيد المذهب الجهادي على طريقة بن لادن تأييدًا حقًّا سوى «بضعة متعصِّبين متفرِّقين عبر أنحاء الكرة الأرضية». وبصفة عامة يذهب زكريا إلى أن المتطرفين معزولون في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فلا يبدو على أي بلد كبير أنه في سبيله إلى الوقوع في قبضة القوى الجهادية، و«من الواضح أن قوى حديثة وعلمانية إلى حد ما تسيطر على العالم الإسلامي وتحظى بتأييد واسع فيه». وتسرد رواية زكريا كيف تضاعفت التنديدات بالجهاد والفتاوى ضد التفجيرات الانتحارية، بدءًا من جامعة الأزهر في القاهرة، وصولًا إلى مؤيدي بن لادن ومعلِّميه البارزين، وحركة دار العلوم ديوبند في الهند، التي كانت قد قدَّمت في البداية دعمًا وإلهامًا قويين إلى تنظيم القاعدة.
يدعم الاستنتاجات التي خلص إليها زكريا العديد من الدراسات الاستقصائية الموثوق بها عن آراء المسلمين، وكانت إحدى أحدث تلك الدراسات بعنوان «من يتحدث باسم الإسلام؟» وهي خلاصة مهمة لآراء المسلمين من جميع أنحاء العالم مستمدة من استفتاءات منظمة جالوب في الفترة بين عامي ۲۰۰۱ و۲۰۰۷، التي جُمِّعَت من عدة آلاف مقابلة حوارية مدة الواحدة منها ساعة مع أفراد من ۳٥ بلدًا مسلمًا وبلدًا يتضمَّن قطاعات سكَّانية كبيرة مسلمة.
وتكشف الدراسات عن قدر من الإعجاب بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب أكبر بكثير مما قد يدعونا شعار «إنهم يكرهون أسلوب حياتنا» إلى تصديقه. وهناك رغبة كبيرة في تحقيق المزيد من التحول الديمقراطي، والتصدي للفساد، والمساواة للمرأة (حتى في المملكة العربية السعودية)، وتلهُّف قوي للتنمية الاقتصادية (وكل ذلك أثبتته الثورات المنادية بالديمقراطية حديثًا في مصر وتونس وليبيا وسوريا والبحرين واليمن). ووفقًا لتلك الدراسة المستفيضة، فإن ٧٪ فقط من المسلمين حول العالم يمكن اعتبارهم «راديكاليين» أو «متطرِّفين»، استنادًا إلى رأيهم القائل إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر «مبرَّرة أخلاقيًّا». لكن حتى هذه الأقلية قد لا تشارك بالضرورة في أي عنف، على الرغم من نظرتها شديدة العدائية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويجدر تأكيد أن الأسباب التي قدَّموها لتأييد الهجمات كانت سياسية في المقام الأول لا دينية. وترى الغالبية العظمى من المسلمين في العالم في التطرُّف وعدم الانفتاح على أفكار الآخرين أكثر السمات التي يستنكرونها في مجتمعاتهم.
أما عن المسألة المثيرة للجدل المتعلِّقة بالشريعة، فمن الملاحظ أنه في حين أن هناك دعمًا كبيرًا لإدراج الشريعة بدرجة ما في التشريعات، فإن هناك تباينًا شديدًا بين عناصر الشريعة التي تحظى بالتقدير ويُنظر إليها على أنها مناسبة، وهذه العناصر تكذِّب الصورة النمطية المتعطِّشة للدماء المتعلقة برجم الزناة وقطع أيدي السارقين، وهي الأمور التي لا تلقى الكثير من الحماس.
وينعكس القضاء على خرافة صراع الحضارات والصور النمطية للمسلمين في العالم الذي نشأ عن السؤال «من يتحدَّث باسم الإسلام؟» كذلك على جميع الدراسات الجادة للمسلمين الأوروبيين واستطلاعات آراء المسلمين في الغرب.
ويجدر التذكير عند النظر في قضية المسلمين في أوروبا، بأنهم يشكِّلون ٤٪ من تعداد سكان الاتحاد الأوروبي، مما يضع مخاوف استيلاء المسلمين على أوروبا في حجمها الطبيعي. وبالطبع فإن ما يسري على المسلمين في العالم يسري على المسلمين الأوروبيين؛ فهم ليسوا جماعة متجانسة، وإنما يتكوَّنون من شرائح سكَّانية لا تحظى غالبًا إلا بالقليل من القواسم المشتركة، وبأصول قومية وعرقية متباينة — على سبيل المثال: جنوب آسيويون بالأساس في بريطانيا، وشمال أفريقيون في فرنسا، وأتراك في ألمانيا — وبدرجات مختلفة من الالتزام الديني، والمواقف تجاه الثقافة الغربية، والشعور بالوحدة الوطنية مع نظرائهم من المواطنين غير المسلمين (وتحدُّث مجموعة كبيرة من اللغات الأولى).
ولا يوجد ما يثير الدهشة في أن يَرِد في تقرير حديث صادر عن مركز أبحاث بوليسي إكستشينج أن ٧١٪ من المسلمين البريطانيين الذين يبلغون من العمر ٥٥ عامًا أو يزيد، يشعرون أن القواسم المشتركة بينهم وبين غير المسلمين في بريطانيا تفوق القواسم المشتركة بينهم وبين المسلمين في الخارج. وما فتئت الدراسات الاستقصائية تكشف درجات مرتفعة من مشاعر السمة البريطانية كإحدى مكونات الهويات الإسلامية. وسجَّلت دراسة عرضتها القناة الرابعة لمركز استطلاعات الرأي العام في ربيع عام ۲۰۰٦ شعور ٨٢٪ من المسلمين البريطانيين، الذين يمثِّلون ٢٫٧٪ من تعداد سكان بريطانيا، بانتماء «قوي جدًّا» (٤٥٪) أو «معتدل القوة» (٣٧٪) إلى بريطانيا.
ويبدو أن تقرير مركز أبحاث بوليسي إكستشينج يظهر فروقات كبيرة بين أجيال المسلمين البريطانيين؛ إذ يشعر عدد أقل من المنتمين إلى الفئة التي تتراوح أعمارها بين ۱٦ و۲٤ عامًا بأنهم بريطانيون (كما ورد سابقًا)، ويرغب عدد أكبر منهم (٣٧٪ مقارنةً بنسبة ١٩٪ لدى من تفوق أعمارهم ٥٥ عامًا) في إلحاق أبنائه بمدارس إسلامية، ويصاحب ذلك فروقات مشابهة في نِسَب من يبدون تأييدًا للشريعة. وقد تحتَّم أن يلوم مركز بوليسي إكستشينج — علمًا بموقفه المحافظ — «التعددية الثقافية» على هذه الفروقات بين الأجيال، خالصًا إلى أن سياسات التعددية الثقافية شجَّعت المشاعر الانفصالية بين الشباب المسلمين.
لكن ثمة دلالات مناقضة لذلك من دراسات استقصائية أخرى؛ فقد أجرى معهد المجتمع المفتوح دراسة معنية بالمسلمين في ۱۱ مدينة غرب أوروبية، ونشر النتائج التي توصَّل إليها في ديسمبر عام ۲۰۰۹. وإحدى أهم تلك النتائج — وثيقة الصلة بالانتقادات الموجَّهَة إلى سياسات التعددية الثقافية من النوعية التي تضمنها تقرير مركز بوليسي إكستشينج — مفادها أن ۷٨٪ من مسلمي مدن المملكة المتحدة يعرِّفون أنفسهم على أنهم بريطانيون، لكن ٤٩٪ فحسب من المسلمين يعتبرون أنفسهم فرنسيين، وشعر ٢٣٪ فقط أنهم ألمان. فيبدو أن سياسات التعددية الثقافية البريطانية أشعرت المسلمين فعليًّا بمزيد من التقبُّل إزاءهم ونمَّت شعورًا أكبر بالهوية الوطنية. وعلى عكس النتائج التي توصَّل إليها تقرير بوليسي إكستشينج، وجد معهد المجتمع المفتوح أن مستويات ما أطلق عليه التقرير «الوطنية» أعلى لدى الجيل الثاني من المسلمين.
وينبع تدنِّي مشاعر الارتباط بالهويتين الوطنيتين الفرنسية والألمانية، مقارنةً بالهوية البريطانية، في أوساط المسلمين من شعور أقوى بأنهم غير مقبولين لدى نظرائهم المواطنين ولدى الدولة؛ إذ لم يَمنح الألمان حقوق المواطنة إلا في تسعينيات القرن العشرين وحَظَر الفرنسيون الحجاب وتصوَّروا عمومًا وجود صراع بين القيم «الإسلامية» و«الفرنسية».
بيد أنه عند التركيز على المملكة المتحدة، من المهم محاولة استيعاب ما تعنيه الهوية الوطنية، وما تعنيه السمة البريطانية، والمواطنة، بالنسبة إلى الجيلين الثاني والثالث من المسلمين البريطانيين، وما إذا كان ثمة فروقات كبيرة في هذا الصدد بينهم وبين نظرائهم البيض. وثمة بعض الأدلة التي تشير إلى أن الشباب البريطاني الأبيض، مقارنةً بنظيره المسلم، يرى هويته من منطلق الثقافة الوطنية أكثر من المواطنة، على الرغم من أن البياض هو أحد العناصر المسلَّم بها بقوة ضمن هوية ذلك الشباب. وكما خلص باجولي وحسين في دراستهما لبرادفورد واضطرابات عام ۲۰۰۱، فبالنسبة إلى الشباب الجنوب آسيوي — بما في ذلك ذوو الأصول الباكستانية والإسلامية — تُصاغ هويته البريطانية على نحو أكثر قوة في إطار مدني للمواطنة، يكون لمفاهيم المساواة في الحقوق مع غيره من المقيمين في بريطانيا جميعًا وجودًا أساسيًّا يتخلل شعوره بالانتماء والهوية الوطنيين.
ومن الواضح أن مشاعر الهوية الثقافية لدى ذاك الشباب هي مزيج من الثقافات الذكورية والثقافة البريطانية. ومن المعتاد أن يُعبَّر عنها كتكوينات مركَّبة تجمع بين الهوية الآسيوية والباكستانية والهندية الإسلامية والبريطانية بطريقة متباينة ومتغيرة ومرتبطة بالسياق تستعصي على التصنيف اليسير. وإنَّ المصطلحات من قبيل «آسيوي بريطاني» أو «مسلم بريطاني» تعجز ببساطة عن الوقوف على التباين الهائل في كيفية صياغة الجيلين الثاني والثالث لما يسمَّى «انتماءات عرقية جديدة» و«مختلطة»، إلا بأكثر الأساليب سطحية.
(٣) راديكالية الشباب المسلم
يُصاغ أحد التفسيرات الشائعة للغاية لأسلمة هويات الشباب من منطلق «فراغ الهوية»، ويُعتبَر هذا نوعًا من أنواع الأمراض الاجتماعية. وقد شاعت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين الإشارة إليه باعتباره ناجمًا عن ورطة «الوقوع بين ثقافتين»، مما يضع ثقافةً ذكورية من فترة ما قبل الحداثة — تأثرت بعمق بأصولها الريفية في بلدان مثل باكستان، وتُبرز ممارستَي الزواج المدبر أو الزواج القسري، والتدين وما إلى ذلك — في مواجهة الثقافة «الغربية» الحديثة والنازعة إلى الفردية، التي سمحت بالحريات وتعددية أساليب الحياة، لا سيما الراسخة في الثقافات الفرعية الشبابية. وفي هذه الصياغة السابقة المفرطة الجوهرية عن «صراع بين الثقافات»، نُظِر إلى الجيل الثاني التعِس الحظ على أنه يعاني نوعًا من أنواع الانهيار النفسي الثقافي.
وتفترض الصيغة الحالية لهذا النوع من التفسير بدورها وجود صراع ثقافي، لكنها تذهب الآن إلى أنه ليس ثمة انهيار مرضي بقدر ما هناك «فراغ هوية» عمل الإسلام الراديكالي الأصولي المتشدد على ملئه، بالنسبة إلى العديدين من المنتمين إلى الجيل الثاني، وهو ما يعكسه اختيار النساء للحجاب والتدين المفرط لدى الرجال والرغبة في العيش في ظل الشريعة وإرساء قواعد إسلام عالمي.
إلا أنه ليس ثمة «فراغ هوية»، على الأقل ليس بالمعنى الذي يقصده ذلك النوع من التفسير. وما فعلته الأجيال الأحدث مرة أخرى كان أن صاغت هويات جديدة لا حصر لها، تتضمَّن مزيجًا محيِّرًا من الديانات، والثقافات الطبقية والشبابية، والأذواق الموسيقية، وصيحات الموضة. وتمثِّل الشابات المسلمات البريطانيات اللاتي ذكرتهنَّ آنفًا، اللاتي يرتدين الحجاب وينغمسن كذلك في موسيقى الروك التي تعبِّر عن تمرُّدهن المركَّب، فئة واحدة فقط ضمن نطاق واسع يتكوَّن من تركيبات متشابكة ومتغيِّرة ويصعب التنبؤ بها من الهويات التي نشأت عن الموارد الثقافية التي وجد الشباب المسلمون أنفسهم يترعرعون عليها في المدن الأوروبية.
إلا أن أحد الفروقات يكمن في زيادة الانسحاب من العمليات السياسية التقليدية، وإن لم يختلفوا في ذلك كثيرًا عن نظرائهم من المواطنين الشباب البيض. ومن الممكن إيجاد طرح جيد للهويات المتباينة والمركبة لدى الشباب المسلم في بريطانيا — بما في ذلك التحوُّل إلى عالم المخدرات — في عدد من الدراسات، تتضمَّن تلك التي أجراها فيليب لويس، وإم واي علام، وأنشومان موندال، وتثير مناقشة لويس لكل من «خط مساعدة الشباب المسلم» و«سيتي سيركل» الاهتمام إلى حد بعيد بما تقدِّمه من سرد لنقاشات حرة ومفتوحة بين الشباب البريطاني المسلم حول مجموعة واسعة من الموضوعات، اشتملت على مساهمات عديدة من شابات مسلمات متعلِّمات ومِهَنيَّات.
إلا أنه يتضِّح أن الإسلام المتشدد، بالنسبة إلى بعض الشباب المسلمين، يمثِّل الاستجابة إلى المعضلات التي يواجهونها، وبالنسبة إلى عدد ضئيل جدًّا، كانت هذه النزعة الإسلاموية هي نقطة الانطلاق نحو النزاع المسلَّح، سواء أتَّخد ذلك شكل التفجيرات الإرهابية في المدن الأوروبية أم السفر بغية القتال في أفغانستان، وأيضًا في العراق والشيشان وغيرها من الجبهات التي يُعتبَر فيها الإسلام واقعًا تحت الاحتلال والهجوم.
بصفة عامة يندرج معظم الشباب المتطرفين تحت إحدى الفئتين التاليتين: طلاب الجامعات المثقفين أو الحاصلين على درجات علمية ومؤهلات مهنية فنية في الهندسة أو تكنولوجيا المعلومات، أو الأشخاص ذوي الإنجاز المتدني والمؤهلات القليلة أو المعدومة، الذين يأتون في أكثر الأحيان من خلفية إجرامية.
وينوِّه التقرير أيضًا إلى أن الكثير منهم يأتي من أُسَر مسلمة ليبرالية غير متدينة نسبيًّا، يحتار فيها الآباء أمام المنحى المتطرِّف الذي اتَّخذه أبناؤهم، وأنه ليس من النادر ألا ينشأ الانتماء إلى الإسلام الراديكالي إلا بعد البلوغ. وتكون أعداد قليلة منهم بريطانيين بيضًا اعتنقوا الإسلام (وبالطبع هناك حالات عدة من أمريكيين بيض) ومن ذوي الأصول الكاريبية الأفريقية الذين نشئوا في جزر الهند الغربية، وتحوَّل بعضهم إلى الإسلام والراديكالية في السجن. ويشبه هذا أحد المسارات الشائعة لدى غيرهم من الإسلاميين الشباب، وهو: أن يجدوا في الإسلام هوية وأسلوب حياة يوفِّر سبيلًا للخروج من خيبة الأمل المرتبطة بما يُعتبَر فخًّا «غربيًّا» خاصًّا يشمل المخدرات والكحوليات والجريمة. ويظهر هذا على نحو خاص في سيرة محمد صدِّيق خان، زعيم منفِّذي تفجيرات السابع من يوليو.
ويوجد حاليًّا طريقتان بيِّنتا الاختلاف لفهم تلك الظاهرة، إلى جانب نموذج فراغ الهوية والانهيار النفسي الثقافي الذي انتقدتُه بالفعل؛ فمن ناحية، تصف العديد من تفسيرات وسائل الإعلام الشعبية والتفسيرات السياسة أولئك المتورطين بالمتعصبين والأصوليين فاقدي العقل، عاقدي العزم على تدمير أسلوب الحياة (الغربي) «الخاص بنا»، الذين يتعسَّر فهمهم إلا كنماذج «شريرة»، والمتأثرين بأيديولوجيات وتنظيمات ترعاها دول، تنسِّق بينها الدول التي تشكِّل «محور الشر» في عبارة بوش الشهيرة. والاستجابة الوحيدة الملائمة هي شنُّ «حرب على الإرهاب» ضدهم.
وينظر إطار مختلف إلى حد بعيد، مستمد من عمل مؤرخين وعلماء اجتماع مثل أوليفييه روي وماكس فارار وألانا لنتين وميشيل ويفيوركا وسارة جلين وجابرييل مَرانشي وسامي زبيدة، إلى ظاهرة الراديكالية الإسلامية بين الشباب المسلمين في الغرب تحديدًا على أنها استجابة «سياسية» يمكن تفهُّمها، لا مجرد استجابة دينية، وقطعًا ليس على أنها مرض. وقد تكون المسائل المرضية ذات صلة إلى حد ما عند النظر في سِيَر أولئك الذين قاموا بعمليات التفجير الانتحارية بالفعل. لكن لاحظ أن النصيحة التي أسداها تقرير عام ۲۰۰٤ إلى وزارتَي الخارجية والداخلية ما فتئت تؤكِّد أنه لا الدين في حد ذاته ولا الأمراض الفردية هي المحركات المهمة بحق؛ فالتقرير يشدد بدلًا من ذلك على أن مسلمي بريطانيا يعانون ثلاثة أمثال مستوى البطالة الذي يعانيه غيرهم من مواطني بريطانيا، وأنَّهم يقطنون في المناطق الأكثر حرمانًا في البلد، ولا يتعرَّضون للحرمان فحسب وإنما للتمييز أيضًا. وذكر التقرير مرات عدة أن ثمة غضبًا سائدًا بين الشباب المسلمين إزاء السياسة الخارجية الغربية، لا سيما فيما يتعلَّق بمسألة فلسطين وإسرائيل، وأفغانستان والعراق.
وإن تفسير النزعة الإسلاموية السائدة بين الشباب البريطانيين والأوروبيين على أنها صورة من صور الراديكالية السياسية يعني أنَّه يمكن رؤية هذه الظاهرة على أنها تشبه، جزئيًّا على الأقل، دفع الجناح اليساري للشباب في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية تجاه الراديكالية إبان ستينيات القرن العشرين وما تلاها.
إلا أن الاختلاف هذه المرة يكمن في أن اليسار الراديكالي والثوري لا يتوافر له سوى القليل من الجاذبية والتأثير اللذين ما انفكا يجتذبان الراديكاليين من الشباب في الفترة الماضية. واستُبدِل بالأيديولوجيات اليسارية جاذبية «الإسلام النقي» غير المؤقلَم والعالمي الذي لم تلوِّثه نزعة التوفيق الثقافي والتنازلات السياسية التي تتسم بها الصِّيَغ الوطنية للإسلام في بلدان مثل باكستان والمغرب ومصر، وانفصل الشباب المسلم كذلك عن المساجد المعترف بها، وعن الزعماء والأئمة الأجانب الأكبر سنًّا القليلي التفهُّم للمعضلات التي يواجهها الشباب البريطانيون المسلمون.
كان ظهور الإنترنت محوريًّا بالقطع لهذه المحاولة الرامية إلى تكوين أمة إسلامية جديدة، أو مجتمع عالمي إسلامي، بما يصحب ذلك من نصوص أيديولوجية ومواعظ وشرائط تجنيدية تتوافر بسهولة الآن. ويتيح تكوين شبكات و«مجتمعات» عالمية إنشاء صور من التنظيم والفعالية لم يكن من الممكن تخيُّلها في حقبة ماضية.
ينبغي أيضًا التطلُّع إلى الشباب المسلم في معظمه، الضالع في اضطرابات عام ۲۰۰۱ في بريطانيا — وغيره الأكثر انجذابًا إلى الإسلام الراديكالي — في إطار سياق مختلف، على أنه يشكِّل جزءًا ضمن سلسلة من الأحداث والحركات العفوية التي تشمل شبابًا من الأحياء الفقيرة للمدن ينتمون إلى مختلف جماعات الأقليات العرقية. ففي ثمانينيات القرن العشرين، كان الشباب ذوو الأصول الكاريبية الأفريقية هم الذين خاضوا معارك ضارية ضد الشرطة واحتجوا بشراسة على التمييز والحرمان، أما في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فقد كان الشباب المسلمون هم من خاضوا المعركة. ومرة أخرى، هذه طريقة لرؤية راديكالية الشباب المسلمين على أنها ظاهرة سياسية في المقام الأول، وإن ارتكزت على بعض الدعائم الدينية.
وتدخل عناصر الذكورة بدورها في الاعتبار؛ فالانخراط في الحركات الإسلامية يُحدِث تحوُّلًا دينيًّا ثوريًّا في صورة التمرد «الخشنة» النابعة من الواقع، وحتى إنه يُدرِج — وفقًا لباحثين مثل مايسي — المزيد من الإشارات الثقافية المحلية مثل «الفتى القوي من الشمال أو من يوركشير» في الخليط الذي يكوِّن توليفة الشخصية الإسلامية الراديكالية.
وتقدِّم أيديولوجيات الإسلاموية أيضًا عناصر مناهضة للإمبريالية والرأسمالية تذكِّر بالانتقادات الماركسية السابقة، مما يعزز الاقتناع بمقارنتها بالتحول العام للشباب تجاه الراديكالية في ستينيات القرن العشرين. وتتأجج مناهضة الإمبريالية عن طريق التنديدات بتورُّط الغرب وتدخلاته في تشكيل مجرى الأحداث في الشرق الأوسط، وأحدثها غزو أفغانستان والعراق، وعن طريق الغضب المستمر إزاء ازدواجية المعايير لدى الغرب البادية في عدم محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها لقرارات الأمم المتحدة أو إدانة تسلُّحها النووي. وتتداخل مناهضة الرأسمالية مع النقد الموجه للنزعة الاستهلاكية الذي يتجلَّى في التديُّن المتشدد والاشمئزاز من الاصطباغ المتزايد للثقافة الشعبية عمومًا — والمرأة خصوصًا — بالصبغة السلعية الجنسية، الذي يتصدر النزعة الإسلاموية الجديدة. وكما يروي لويس، فقد تمكَّنت جماعة «حزب التحرير» الراديكالية، على سبيل المثال، من تزعُّم حملة إسلامية محلية تستهدف منع افتتاح محل لبيع الكتب الإباحية في ستوك أون ترنت. وأجمعت مناهضة الإمبريالية ومناهضة الرأسمالية أيضًا على انتقاد الشركات الغربية التي تستخدم المصانع المستغلة للعمال في البلدان الإسلامية كبنجلاديش في إنتاج كميات كبيرة من أزياء الموضة بأسعار بخسة من أجل الأسواق الغربية.
إلا أنه، كما أكَّدتُ سابقًا، ليس ثمة اتصال بسيط ومباشر بين الحرمان الاجتماعي والاقتصادي والراديكالية الإسلامية، وكما أدرك الباحثون والهيئات الحكومية تمام الإدراك، ليس الشباب المسلمون المنتمون إلى الطبقة العاملة فقط هم المنخرطين في الإسلام الراديكالي، فيبدو أنه يوجد عدد مساوٍ من الشباب المسلمين المنتمين إلى الطبقة الوسطى الذين تلقوا تعليمًا جامعيًّا، وفي أكثر الأحيان يكونون من خلفية علمية أو طبية أو هندسية، ينجذبون إلى الإسلام الراديكالي في الغرب (وفي العالم العربي وحاليًّا حتى في نيجيريا).
لاحظ أيضًا أن الجماعات الإسلامية الراديكالية مثل «حزب التحرير» تتمتع كذلك بعوامل جذب لبعض السيدات المسلمات، فربما يكونون قد اتخذوا عن عمد موقفًا أكثر ليبرالية من عزوف المسلمات عن الدخول في زيجات مدبرة، ورغبتهن في الحصول على تعليم عالٍ، وبالطبع في المشاركة في السياسة، ومن ثم أتاحت سبيلًا للاحتجاج ومبررات إسلامية بديلة لسلوك أساليب حياة غير تقليدية.
ويستمر القلق لدى شرائح من الشعوب الأوروبية وممثليهم السياسيين، علاوةً على المثقفين، والصحفيين وغيرهم، من أن الإسلام والديمقراطية الليبرالية شريكان مستحيلان، وأنَّ الاندماج في التكوينات السياسية الغربية والمؤسسات الديمقراطية الوطنية يتطلَّب إحداث تغييرات شاملة في معتقدات المسلمين بالذات وأساليب حياتهم وتوجهاتهم السياسية، أكثر إلى حد ما مما يتطلبه ذلك بالنسبة لغيرهم من الأقليات العرقية والأقليات الدينية. وحُمِّلت التعددية الثقافية بالطبع مسئولية السماح للمسلمين بالانفصال المفترض عن المؤسسات والمعتقدات الليبرالية السائدة ونفورهم منها، ومسئولية تشجيعهم على ذلك.
فما مقدار المصداقية الذي ينبغي منحه لمثل تلك المخاوف المتعلقة بمسلمي أوروبا؟
(٤) المسلمون الأوروبيون والعلمانية والديمقراطية
يجتذب الإسلام الراديكالي — كما رأينا — أقلية ضئيلة جدًّا من مسلمي أوروبا والمسلمين في العالم، لكن هل توجد على الرغم من ذلك مشكلة معينة في اندماج المسلمين في أوروبا؟ يكمن أحد أسباب رد العديدين بالإيجاب في أن المسلمين لا يُظهرون على ما يبدو تقبلًا للتمييز بين المجالين العام والخاص الذي يتصدَّر الفكرة الغربية الحديثة عن العلمانية؛ فالمسلمون يبدون وكأنهم يطالبون باعتراف ثقافي خاص وحقوق خاصة لجماعتهم من دولة ومجال عام محايدين ثقافيًّا، إلا أنه عند النظر عن كثب، تتبين المبالغة في تقدير حجم هذه المسألة والمشكلات ذات الصلة. على سبيل المثال: قيل إن المسلمين يطالبون بمعاملة خاصة عندما طالبوا بتوفير اللحم الحلال في مطاعم المدارس، أو عندما رغبوا في ارتداء الحجاب في العمل. ويقال إن هذه المطالب تخل بالتقسيم الذي تم إقراره منذ أمد بعيد بين مجال عام محايد ثقافيًّا ونازع إلى العالمية وبين مجال خاص أكثر نزوعًا إلى الخصوصية الثقافية. إلا أن المجال العام محايد ظاهريًّا فحسب بالطبع، كما احتجت الحركات النسائية وحركات المثليين جنسيًّا على التوازي بنجاح، وحقيقة الأمر أن المعايير التي تقصي المثليين تخترقه وتنظِّمه هيكليًّا تمامًا.
وقد دَسَّ المفهوم الغربي «للفرد» باعتباره أساس الحياة العامة في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية الذكر كنموذج لخصائص الفرد عبر التاريخ. على سبيل المثال: لا يكون ذلك الفرد مثقلًا أبدًا فيما يبدو بعبء ظروف خاصة مثل الحمل أو الرضاعة أو رعاية الطفل، وكانت الغيرية الجنسية هي القاعدة، حتى إن قبول الشركاء مثليي الجنس في الحياة العامة تطلَّب تحوُّلًا ثقافيًّا ضخمًا في مجال القبول بالعلاقات المثلية. وبالمِثل، فدائمًا ما شُكِّل ذلك الفرد على أساس معيار الشخص المسيحي (البروتستانتي في الغالب) فيما يتعلَّق بالإجازات الرسمية ذات الأسس الدينية أو النظام الغذائي في المدارس، أو توفير أماكن وأوقات للصلاة في محل العمل. أيضًا عندما طالب المسلمون بالحق في الاعتراف الرسمي بالإسلام كديانة وطنية في الدول الأوروبية، لم يكونوا بذلك يطلبون أكثر من المساواة بالديانات اليهودية والكاثوليكية والبروتستانتية. وقد تم الاعتراف بذلك مؤخرًا في أوروبا، ومُنِح الإسلام صفة رسمية في فرنسا وألمانيا وهولندا وغيرها من أنحاء أوروبا.
وبالمِثل، لم يكن في المطالبة بإنشاء مدارس الدين الإسلامي طلبًا لمعاملة خاصة، وإنما للمساواة بالحقوق التي يتمتع بها اليهود والكاثوليك والإنجيليون وغيرهم. وتشير الأدلة إلى أن معظم مدارس الدين الإسلامي التي أنشئت في فرنسا وبريطانيا امتثلت لقوانين المنهج الوطني الصارمة وتمكَّنت من تحقيق مستويات أكاديمية محمودة. ومما يثير الاهتمام أيضًا أن جون بوين، الذي أجرى بحثًا في المدارس الدينية في فرنسا، قدَّم العديد من الأمثلة على غرس قواعد مدنية حسنة تشمل التسامح وحسن الجوار والسلوك الملتزم بالقانون في المدارس الإسلامية، مما يجعل مثل تلك المؤسسات قاطرات إيجابية لدمج المسلمين بدلًا من تنفيرهم وفصلهم عن الاتجاه السائد. بيد أن البحث الذي أجرته مؤسسة رانيميد تراست على جميع المدارس الدينية في المملكة المتحدة توصَّل إلى أن المشاركة في المسئوليات الموجهة نحو أجندة الترابط المجتمعي تكاد لا تذكر، وأنه لم تُدَر الكثير من الحوارات الحقيقية مع الأديان الأخرى. ولم تكن هذه «مشكلة المسلمين» بالذات، وإنما مشكلة متأصلة في المدارس من جميع الانتماءات الدينية. وبما أن إلغاء المدارس الدينية ليس مطروحًا على جدول الأعمال، ولا حتى في فرنسا، فلا بد من زيادة تنظيم تلك المدارس لضمان تدريس منهج ديني أشمل، وغرس التزام حقيقي بمعايير المواطنة الديمقراطية الليبرالية.
وتسلط محاولات جماعات مسيحية تهدف إلى حظر الأفلام مثل فيلم «آلام المسيح» (٢٠٠٠) لميل جيبسون الضوء على فكرة أن التوتر القائم بين الجماعات الدينية الأصولية والممارسات الليبرالية لحرية التعبير الفني ليس مقصورًا على المسلمين، إلا أنه من الواضح أن على الأقل بعض قطاعات السكان المسلمين الأوروبيين لا تتقبل فيما يبدو التمثيل الناقد للمسلمين أو الإسلام في صور الفنون، ومن المرجَّح أن يخلِّف ذلك مناطق ملتهبة وردود أفعال عنيفة متعصبة، قد تبلغ حد العنف المفضي إلى القتل، كما في حالة المخرج الهولندي ثيو فان جوخ. ويتضح كذلك، من ناحية أخرى، من قضية الرسوم الدنماركية أن بعض قطاعات أهل الفكر الأوروبيين عقدوا العزم على الضلوع في الاستفزاز غير المبرر بغية إنماء تخوف عام من تهديد إسلامي محدد لحرية التعبير؛ ففي حالة الرسوم الدنماركية المصوِّرة للنبي محمد، على سبيل المثال، من الجدير بالذكر أن محرر صحيفة يولاندس بوستن، وهي الصحيفة التي نشرت الرسوم المسيئة في الأصل عام ۲۰۰٦، كان قد رفض عام ۲۰۰۳ أن ينشر رسومًا للمسيح على أساس أنها قد تسيء إلى المسيحيين. وأمرت محكمة فرنسية في أكتوبر عام ۲۰۰٥ بإزالة ملصقات تصوِّر العشاء الأخير بطريقة اعتُبِرَت مسيئة. ويبدو أن ثمة وجودًا فعليًّا لمعايير مزدوجة جائرة في أوساط متعددة؛ حيث يوجد استعداد لحماية حساسيات المسيحيين دون المسلمين.
وفي هذه النقطة، هناك قضية أوسع نطاقًا؛ فالدول القومية الأوروبية الحديثة تعكس مجموعة من التنازلات المتفاوتة حول الدين، ومن ثم الأقليات القومية والعرقية، التي تطوَّرت بعد معاهدة وستفاليا عام ۱٦٤٨، التي أنهت الحروب الدينية الكارثية في أوروبا. وتزامن وجود المسلمين المتنامي في أوروبا مع نكوص تدريجي عن بعض تلك التنازلات، وأدَّى — في مجال الدين على وجه التحديد — إلى فتح صدوع كانت تُعتبَر مدفونة منذ زمن بعيد تحت موجة من العلمانية لا رجعة فيها. ومن الواضح أن الدول القومية الغربية تمر بمرحلة انتقالية تتطلَّب مواءمات جديدة، وأنها فعلًا في سبيلها إلى التكوُّن تدريجيًّا.
ويجدر التنويه إلى أنَّه ثمة نقاشات حيوية دائرة بين المسلمين الأوروبيين حول كيفية تفسير المتطلبات الإسلامية في السياق الجديد المكوَّن من ثقافات وطنية أكثر علمانيةً وليبرالية. وإن قضايا الديمقراطية، والمساواة بين الجنسين، والتمييز بين العام والخاص، والقروض ذات الفوائد (المحرَّمة من المنظور الإسلامي الأكثر تشددًا)، وتنمية النزعة الفردية للممارسات الدينية، وما إلى ذلك، تخضع الآن لإعادة التفكير والمواءمة على نحو مبتكر لكي تتوافق مع المعايير الإسلامية وفي الوقت ذاته تلبِّي احتياجات الأجيال الجديدة الساعية إلى تحقيق قدر أكبر من الوضوح بشأن كيفية كونهم «مسلمين صالحين» وفي الوقت ذاته عيشهم حياة يشكِّلها أيضًا الالتزام بالمساواة بين الجنسين وغيرها من القيم الليبرالية.
وحتى في فرنسا، توصَّلت دراسة استقصائية في عام ۲۰۰٦ إلى أن ۷٤٪ من الشعب الفرنسي كله يظنون أنه ليس ثمة تنافر بين أن يكون المرء مسلمًا ورعًا وأن يعيش في مجتمع حديث، وتتساوى أرجحية تأكيد المسلمين الفرنسيين هويتهم الوطنية أكثر من هويتهم الدينية مع أرجحية قيام مسيحيي الولايات المتحدة الأمريكية بذلك، وتتفوق تلك الأرجحية على مثيلاتها لدى غيرهم من المسلمين الأوروبيين.