المقدمة
«ما العمل» في نهاية الميتافيزيقا؟
«إننا لم نتدبر ماهية الفعل بما يفي من الحسم بعدُ.»
هَيدغر: رسالة في الإنسانوية (١٩٤٦م)
«فأما من وقع على رأي صادق لم يكن في تلك المدينة، أو كان فيها نقيضُه هو المعتقَد،
فإنهم يسمَّون النوابت.»
ابن باجة: تدبير المتوحِّد (۱۱۳۸م؟)
يفترض هذا الكتاب وضعًا فلسفيًّا بعينه، ذلك الذي يرتسمه العنوان الذي نشره هَيدغر
بين المتفلسفة
بعبارة «نهاية الميتافيزيقا».
١ رُب عنوان هو عنده أفق للفكر وعلامة على العصر في آنٍ. وبالمعنى المحصور تشير
«نهاية الميتافيزيقا» إلى الواقعة الكبرى التي نزلت بالفلسفة، ألا وهي انخراطها الحاسم
في
استكمالٍ أخيرٍ للغرض الذي وُضعت من أجله منذ أول أمرها، ونقصد بذلك الظفر بمعنى وجود
الموجود
بعامة على عادة القول اليوناني في الموجود. وسواء عيَّن هَيدغر منطق هِيغل أو إرادة الاقتدار
لنِيتشه أو واقعة «عصر التقنية» موضعًا مخصوصًا لإنجاز تلك المهمة، فإن ما هو حقيق بنا
هو أن
نتفكر بتلك المهمة من حيث هي قد فرضت على المتفلسفة من بعدُ أفقًا لا مندوحة من التحديق
به،
وصورةً عن العصر الفلسفي الذي نزامنه، لا جدوى من الإعراض عنها. ولكن «ما العمل» في نهاية
الميتافيزيقا؟
٢ إن هذا السؤال ينطوي على إمكانيتين للبحث مختلفتين، ولكنهما على قرابة شديدة:
أولاهما تتعلق حصرًا بمعنى «العمل»، أما الثانية فتشير ضمنًا إلى ماذا يمكن أن تعني الفلسفة
نفسها. لكن بين المطلوبَين قرابةً، ألا وهي الوقت الذي يجمع بين إمكانيتَي السؤال: «نهاية
الميتافيزيقا»، من حيث هي علامة العصر، والمسألة التي تُملي على الفكر اليومَ مهمةً
بعينها.
ولذلك لا ينبغي أن نفهم هذا السؤال من جهة تقليدية تنظر إلى العمل من حيث هو غرض جزئي
من
أغراض الفلسفة، يُفرد له ما يُفرد لغيره من الاهتمام والفحص، بل من جهة أن مقام السؤال
عن
العمل ها هنا هو مقام كلِّي: ما العمل بإطلاق؟ وبالذات من حيث هو مقصود الفلسفة الأسمى
في عصر
بعينه هو عصر «نهاية الميتافيزيقا». وبعبارة عامة، إنما لم يبقَ أمام الفلسفة من حيث
هي تأبى
لنفسها الانقلاب إلى هامش من هوامش العلوم، ولا تطمع في امتهان التعليق الاصطلاحي على
لغة
هذه العلوم — لم يبقَ إلا الانخراط في استصلاح داخلي لإمكانها الخاص. رُبَّ إمكان لا
يبدو أنه
خرج مُعافًى بسبب استقلال العلوم من جهة ونهاية الميتافيزيقا من جهة أخرى، وإن كان الحدثان
قد
تمَّا بتزامنٍ محرج. فما هو ذلك الإمكان؟ وما الحال الذي صار إليه؟
لا بد أن ننبه هنا إلى معنًى للفلسفة يبدو أن تاريخ الميتافيزيقا قد انتهى إلى طمسه
أو
كاد، ونقصد بذلك أن الفلسفة إنما كانت أول أمرها، أي قبل منعرجها الأفلاطوني، وبخاصة
قبل
أرسطو الذي انتصب متنُه الفلسفي أفقًا أساسيًّا لأي ضرب من التلقي للتراث السابق عليه
— إنما
كانت قد اقترنت في معناها الأخص بمحبة الحكمة. رُبَّ محبة للحكمة لم تنقلب إلى عبارة
ممجوجة
وإلى دلالة عامية إلا من فرط الاحتكام إلى ذلك الأفق الذي أفلح التقليد الميتافيزيقي
في
فرضه سماءً وحيدة للتحديق إلى إمكان التفلسف وبه.
بَيد أن هذا النحو من التفطين إلى الإمكان الأخص للفلسفة وللحال الذي تردى إليه بسبب
تاريخ
الميتافيزيقا الذي بدَّل الحكمة بالنظر والمحبةَ بالصناعة، إنما ما كان ليُهتدى إليه
لولا
اضطلاع الفيلسوف نفسه، وليس مؤرخ الأنساق، بمهمة إخراج إمكانية التفلسف إلى أفق غير الأفق
الميتافيزيقي، وذلك بتحريرها منه دافعًا بذلك الإخراج إلى تخومه؛ أعني رافعًا إياه إلى
طور
«التحطيم» Destruction، تحطيم التراث الميتافيزيقي حتى يتسنى البصر بلا ميتافيزيقا؛ ذلك
الفيلسوف لا ريب فيه إنه مارتن هَيدغر.
ولكن من أجل الوقوف على ذلك الإمكان، لا بد من استبعاد طريقة سادت في تلقي إشكالية
هَيدغر
نفسها، تلك التي تنظر إليها في حدود ما نُشر في كتاب
الوجود والزمان سنة ۱۹۲۷م، سواء بوصفه
كتابًا «وجوديًّا»، أم محصورًا في مشروع أُنطولوجي، أم منذرًا بالإفلات من ميتافيزيقا
الذاتية،
فهذه الوصوف وإن صحَّت بوجهٍ، فإنها تَحرِم إشكالية هَيدغر من مداها الأصلي، وإن ذلك
المدى الأصلي
هو مشروعٌ ظلَّ مفتوحًا، ومن ثم مشكلًا لإعادة تأوُّل التراث اليوناني بعامة، والمتن
الأرسطي
بخاصة، ما دام يشكِّل البوابة الحاسمة لذلك التراث. وإنا لنجد في مقالة «تأويلات
فينومينولوجية لأرسطو» (۱۹۲۲م)،
٣ ولكن على وجه الخصوص وعلى نحو أشد اشتمالًا على الغرض الذي نحن بصدده، في درس
سفسطائي أفلاطون (١٩٢٤-١٩٢٥م) اضطلاعًا حاسمًا بالمهمة التي تهمنا: التكشيف عن الإمكان الأخص
للفلسفة لدى اليونان أنفسهم؛ ولكن ليس استكمالًا للمقصِد الميتافيزيقي بما هو كذلك كما
فعل
هيغل، وإنما استئنافًا لما طمسه ذلك المقصد الميتافيزيقي، وقام حائلًا دونه. ونعني بذلك
بخاصة إعادة تأهيل الأفق الإتيقي والمشاكل الأُنطولوجية التي تفترضه والتي يقترن بها
ضرورةً،
وذلك من أجل اعتماده بابًا وجيهًا للبحث في الفهم اليوناني للمسألة الأهم لصناعة الفلسفة:
الوجود. فإن ذلك هو معنى انكباب هَيدغر على تفحُّص الكتاب السادس من
إتيقا نيقوماخوس وإضاءته
بالكتاب الأول من ما
بعد الطبيعة، مدخلًا حاسمًا لتأوُّل محاورة
السفسطائي.
٤ وإن ذلك يعني أن هَيدغر لم يجد أفقًا للإفلات من ربقة التقليد الميتافيزيقي الذي
يحصر معنى التفكير في معنى النظر سوى استنهاض ماهيَّة الفلسفة كما عيَّنتها «الفلسفة
العملية»
التي ظلت دائمًا تابعةً للمقصد الميتافيزيقي وخادمةً له، وإن كانت، إذا تُفُحِّصت من
وجه غير الوجه
الميتافيزيقي، حمَّالةً لإشراقات تاه عنها النُّظَّار. إننا نقصد بذلك أن ما عُرف منذ
بداية
الستينيات بمهمة «إعادة تأهيل الفلسفة العملية»
٥ إنما هو مفعول متأخر عن قرارات هِرمينوطيقية كان هَيدغر قد بسط الرأي فيها على
المتتلمذين عليه عندئذٍ، هؤلاء الذين صاروا بعد ذلك أصحاب مدارس.
٦
ونحن إذ نشير إلى ذلك فليس مقصودنا التهمة، وإنما التنبيه إلى المدى الأصلي للإشكال
الذي
نحن نُزمع وضع بحوثنا تحت لوائه، فإن هذه الفصول في الفلسفة العملية التي نقترحها مداخل
تكرر
الإحراج الفلسفي عينه الذي نتج عن أطروحة نهاية الميتافيزيقا، إنما هي محاولة تنظر بعين
الحرص
إلى إمكانية استئناف البحث في ماهية الفلسفة بوصفها «حكمة عملية»، وذلك بخاصة على أرضية
التراث الفلسفي الذي يخصُّنا. وليس هذا التخصيص لهثًا وراء خصوصية مزعومة، وإن كان العقل
لا
يَعدَم أن يكون لتراثٍ ما ما يخصُّه، وإنما هو الحرص على الاضطلاع بالإشكال الفلسفي عينه
الذي
حرَّك هَيدغر إلى تأوُّل اليونان: فتح الأُنطولوجيا على تاريخها السري، وليس ذلك سوى
الإمكان
العملي الجذري الذي تفترضه.
٧
ولكن مِمَّ يستمد هذا الإشكال وذلك الإحراج وجه الضرورة بالنسبة لنا؟ إنما ذلك بسبب
أن لنا
مع الفلسفة شُجْنة مستقرة ومع اليونان صلة سابقة،
٨ وإن كانت اليومَ غيرَ موصولة إلا قليلًا مما ننفق على أنفسنا من الفكر. رُب قليلٍ
إنما شأنه، إذا ما أراد لنفسه فوزًا، أن يهتدي بذلك الإشكال وذلك الإحراج، لا من حيث
إنهما
ما يعرض اليوم للناظر في كل صوب فحسب، بل بخاصةٍ مِن حيث إنهما يصرِّفان بعدُ وجهًا من
القرابة،
أصيلًا، مع التراث الفلسفي الذي أودعه أسلافنا في الأفق الهِرمِينوطيقي الذي ينتصب أمامنا،
كلما
حاولنا استئناف البدء الذي بدءوا.
ولأن الفكر بدءٌ كله في كل مرة، فإن الإقبال على مساءلة الفلسفة العملية في أفق التفكير
بنهاية الميتافيزيقا، إنما هو عندنا انخراط اضطراري في ما ليس منه بدٌّ؛ في التحديق بالممكن
الفلسفي الذي بحوزتنا من جهة ما نحن جزء من إمكانية العالم الحالي. وبما أن الحاليَّ
هو دومًا
لا عمر له غير ما يبذِّره من إمكانية العصر الذي يعمل من خلاله، فإن هذه البحوث هي محاولات
بالمعنى الذي تكون فيه المحاولة حيلةَ ما هو حالي لاستئناف تاريخه الخاص. فكل بحث ها
هنا إنما
هو حيلة الحالي لدفع الحال الفلسفي الذي يخصُّنا إلى ما يستطيعه بموجب أحد التقاليد التي
يتوفر عليها.
٩
غير أننا حرصنا في الوقت عينه على أن يكون ما يدعو إلى البحث غرضًا هو أبعد ما يكون
عن
المحلية، بل هو صادر عن طبيعة الوضع الهِرمِينوطيقي للفلسفة المعاصرة، وذلك بخاصةٍ من
الموضع
الذي نظرنا إليها منه. ولكن من حيث إن هذه الفلسفة لا تعاصر إلا بقدر ما تستشكل من عَلاقة
المحدَثين بالتقليد الذي تواضع المتفلسفة عليه بعنوان الميتافيزيقا، فإننا وجدنا من أنفسنا
شوقًا إلى تجريب الاستشكال عينه على التقليد ذاته، ولكن من جهة الإمكان التاريخي الذي
تَوفَّر
عليه أسلافنا وخبروه. بيد أن مطلوبنا لم يكن بأي وجه الإخبار عما صنعوا ولا كيف صنعوا،
بل
إنما مقصودنا هو أن نفتح أفق الحداثة عليهم، ثم ننظر كيف ستكون عاقبة ذلك الإمكان الذي
ابتدعوه في ملة متمنِّعة بما لديها من فصل الخطاب.
ولذلك فإن هذه البحوث لا تطمع في صفة «الاختصاص» التي هي من شأن مؤرخ الفلسفة، بالمعنى
الذي
أوشك فيه تاريخ الفلسفة أن ينقلب إلى ضرب من صناعة التأريخ. ونعني بذلك هذا النحو من
الاعتقاد الإبستمولوجي العفوي في «علمية» تاريخ الفلسفة. ربما كان ذلك وجيهًا بوجه من
الوجوه، من جهة ما هو ناتج عن ضربٍ من المعاصرة الصعبة؛ معاصرة الفلسفة للعلوم الحديثة.
بيد أننا لا نعاصر العلوم الحديثة فحسب، أو نحن لا نعاصرها إلا بقدر ما هي ظاهرة حداثة
لا يزال
تملُّكها أو السؤال الحاسم عنها مهمةً مطروحة على جملة الثقافات الأساسية في عالم اليوم.
هذه
المهمة المطروحة هي باب الاستشكال الواسع الذي يجدر بالمتفلسف أن يرتاده بلا شروط.
إن ما قادنا إلى هذه البحوث هو، إذن، دافع إشكالي فحسب. غير أنه ما كان لنا أن نأتي
على
هذا الدافع الإشكالي إلا بما يوفره الأفق الإشكالي للفلسفة المعاصرة نفسها. وهكذا صار
الرِّهان واضحًا: كيف نستأنف البحث الفلسفي الذي شرع فيه أسلافنا، ولكن بخاصةٍ في الأفق
الإشكالي للفلسفة المعاصرة بالذات؟ فإن ما أعاق إقدامنا على الانخراط في مناظرة جوهرية
مع
التقليد الذي يسمَّى تجوزًا «فلسفة إسلامية» إنما هو انحصار البحث فيها طويلًا في ضرب
من التاريخ
الوثائقي الممتنع أصلًا عن كل ضرب من التأول الجذري.
وإنه لمن الجدير بالذكر أنه منذ ظهور مشاريع قراءة التراث قبل عَقدين من الزمن، بدأ
ضرب من
الأفق الإشكالي يتكون حول نظام الخطاب الذي شكلته الفلسفة عند العرب. غير أن ما انحسر
دونه
قراء التراث إنما هو وضع قراءاتهم على محك الإشكالية الأساسية للفلسفة المعاصرة، ونعني
بذلك
إشكالية «نهاية الميتافيزيقا»، بوصفها ظاهرة من الظواهر الحاسمة للحداثة، سواء أكان الفحص
عنها
تحليليًّا بوصفها «منعرجًا لغويًّا»
١٠ أم هِرمِينوطيقيًّا بوصفها استكمالًا لماهية تراث بعينه. إن المطلوب ليس معرفةً
أكثر دقةً بمُتُون الفارابي أو ابن رشد أو ابن باجة، بل هو الانخراط في تأويل جوهري للمسائل
التي تنطوي عليها تلك المتون صراحةً أو ضمنًا، وذلك بخاصةٍ في ضوء الأفق الإشكالي للفلسفة
المعاصرة بالذات.
إن الأمر يتعلق هنا برسم وضعية هِرمِينوطيقية قادرة على تحويل قراءتنا لتراثنا، بحيث
يصير
جزءًا حاسمًا من عَلاقتنا بظاهرة الحداثة نفسها، من حيث ننظر إليها هنا كظاهرة فلسفية.
إن
مقصدنا الأسنى هو تحيين الفلسفة، ليس فقط الفلسفة العربية، بل أيضًا الفلسفة الحديثة
نفسها.
والتحيين هو ضرب من الاستشكال الذي يحوِّل مسألة أو مفهومًا أو أطروحةً ما، أفقًا هِرمِينوطيقيًّا
لبناء أسئلةٍ ما كان لنا أن نتوفر عليها لولا ذلك الضرب من الاستشكال. إن الأمر يتعلق
حقًّا
بتوليدٍ، بَيد أنه توليد لا يزعم أي ضرب من القَبْلي. إنه فقط محاولة تجريب جذري لإمكانية
التفلسف التي نملكها بحسب وضعنا الحالي. ولذلك يبدو هذا الكتاب بلا ضمانات. إنه يفتح
في كل
مرة إمكانية للتفكير لا يزعم أنه يأتي عليها، بل يحاول أن ينبه إلى ما تنطوي عليه من
بواعث
التفلسف في عصر يُزعم فيه «نهاية الفلسفة».
وبعدُ، فإن هذه نصوص في «الإتيقا». ولكن من حيث المعنى الذي نبه إليه هَيدغر في هذه
العبارة: «إنما يعني الإيتوس
Éthos مُقامًا، موضعًا ما للسكن. إن اللفظ يشير إلى الجهة
المنفتحة، حيث يسكن الإنسان. المنفتح في مُقامه إنما يجعل ما يُقبل من ماهية الإنسان
يظاهر،
ولَدُن قدومه هو يتبوأ جواره. إن مُقام الإنسان يحضن ويحفظ إقبال (هذا) الذي ينتمي إليه
الإنسان في ماهيته.»
١١
ولقد كان من عادة العرب فهم «الإيتوس» بوصفه هيئة، أيْ حالة، للنفس مستقرة العادة،
و«لكل
امرئٍ من دهره ما تعوَّدا» كما قال المتنبي. ونحن نفترض أن معنى الهيئة، والذي هو مرادف بوجهٍ ما
لمعنى البيئة — إذ يقال: «حسَن الهيئة» و«حسَن البيئة» بمعنًى، هو دالٌّ أو يمكن أن يدل على
معنى المُقام. فمن يتهيأ لأمر إنما هو يتفرغ له، أي يخترع له إمكانية ظهوره، وليس المُقام
غير
إمكانية ظهور هيئة الوجود الإنساني. والهيئة المستقرة هي بالذات معنى البيئة؛ غير أن
البيئة هي المنزل والسكن. إن «الإتيقا» ضرب من الإقامة في الإمكان الإنساني، وطريقةٌ
ما
لتدبير بيئة الإنسان؛ أعني هيئته داخل العالم، وليست هذه النصوص غير محاولات للاقتراب
من
طبيعة هذا النحو من التدبير.
ولذلك فهي نصوص لم تُكتب دفعةً واحدة، ولا صدرت عن متنٍ واحد، بل هي استئنافات لجهود
قديمة
لاستصلاحها وتَبْيِئتها واستشكالها. وقد كان الفصل الأول (۱۹۹۱م) هو من جهة الوقت أولها
والمرشد
العفوي لجميعها، غير أنه بقي على الحقيقة دونها تقرُّبًا من جوهر الصعوبة الفلسفية التي
تصدر
عنها في كل مرة. أما ما كان حاسمًا حقًّا في بلورة الأفق الذي صار داخله هذا الكتاب ممكنًا،
فإنه الاضطرار إلى ملاقاة الفارابي (۱۹۹۲م)، ومساءلة مولد «الإتيقا» في الفلسفة العربية.
وهو
نحوٌ من الأفق الذي حاولنا أن نُذهب فيه كلَّ مستطاعِنا من خلال استئنافٍ تأويلي لإشكالية
ابن
باجة (١٩٩٧م)؛ إنه — إذا شئت — ضرب من الامتحان لجملة مساءلتنا لإمكانية الفلسفة العربية
بما هي
ظاهرة بنفسها. وأما الفصلان الثالث والسادس فهما متقاربان من حيث الحدس الإشكالي الذي
ساقنا
إليهما. والحق أن البحث في طبيعة العقل اليومي (۱۹۹۳م) الذي نفترض أنه يتحكم أيَّما تحكُّم
في
تفكيرنا الحالي، هو الذي نبَّهَنا إلى سبيل في مساءلة فلسفة ابن رشد (١٩٩٥م)، وبخاصة
من زاوية
اللافلسفة العمومية التي تفرضها العَلاقة بالوجود التاريخي للملة على الفيلسوف.
بقي الآن أن نلقي ضوءًا ما على طبيعة الدافع الإشكالي الذي قادنا إلى التلفت نحو كتابات
جبران (۱۹۹۱م) وإقحامها في الأفق الذي يعمل داخله فلاسفة من حجم ابن رشد أو هيغل (!).
إننا
ننبه أولًا إلى أن جبران ربما كان أول قارئ عربي، بحجمه، لآثار نيتشه؛ وثانيًا: إن طبيعة
كتاباته التي درسنا هي فكرية محض. لكنَّ ما حدَّد فعلًا اهتمامنا به إنما هو كونه يتوفر
على
اضطلاع أساسي بمسألة العدمية. والحال أن هذه المسألة هي قطب الرحَى في تفكير نيتشه ثم
هَيدغر
الثاني. إن لجبران راهنيةً لم نقف عليها بسبب ضربٍ ما من التلقي «الأدبي» الذي لن تُحرِّرنا
منه غير
المساءلة الفلسفية.
ولذلك كله يمكننا أن نوضح خطة هذا الكتاب بوصفها تنقسم إلى مهمتين، هما بمثابة أفقين
يشرف
أحدهما على الآخر من فرط الحرص على الصدور عن بؤرة إشكال واحدة؛ فتحْتَ عنوان «انفعالات
الحداثة» حاولنا الوقوف على طبيعة المشهد الهِرمِينوطيقي الذي تفرضه علينا عَلاقتنا بالحداثة،
سواء من جهة ما نحن جزء من الإمكانية الفلسفية للعالم الحالي، أم من جهة ضرب المعاصرة
التي
انخرط فيها العرب منذ قرن. وقد وجدنا أن الحداثة لا تزال لدينا «انفعالًا» لم نَقوَ بعدُ
على
ترتيب الأفق الروحي الوجيه لتملُّكه وتدبيره. وإذا كانت «الهِيغِلية المضادة» هي البرنامج
الصريح للفلسفة المعاصرة — وهو ما حاولنا أن نشخِّصه من زاوية الثقافة التي نفكر بها،
فإن ما يختص به المشهد
الفكري العربي المعاصر إنما هو كونه يملك تجارب ووقائع «أدبية» و«روحية» لم تجدْ بعدُ
الترجمة
الفلسفية التي تستطيع مساءلتها بحسب درجة الأصالة التي تنطوي عليها. ولذلك حاولنا بالرجوع
إلى جبران التنبيه إلى أن المشهد الفكري عندنا لا يزال «انفعاليًّا»؛ وهو ما يعني أن
«الأدباء»،
بالمعنى الواسع لهذه العبارة، هم المؤهلون اليوم أكثر من غيرهم لتأصيله على النحو الذي
هو شأنهم.
١٢ غير أن ذلك لم يكن مقصدًا أخيرًا لهذا النحو من البحث. فقد سعينا في الفصل
الثالث إلى رسم خارطة للعقل اليومي الذي نفترض أنه هو الأفق الأصلي لتفكيرنا الحالي،
ولا إمكان لممارسة فلسفية أصيلة تقوم على إغفال تلك الخارطة.
إن النتيجة الأخيرة للقسم الأول هي التنبيه إلى أن التدبير الوجيه لعَلاقتنا بالحداثة
هو
اليومَ جغرافيٌّ؛ رسم خارطة للعقل اليومي للعرب الحاليين، إذ ليس من عقل آخر. فإذا توفرت
تلك
الخارطة أمكن عندئذٍ الانخراط في تأويلٍ حاسم لإشكاليته.
أما في القسم الثاني الذي سميناه «نوابت الملة»، فقد حاولنا أن نؤكد فيه أن العرب
ما
برِحوا يملكون تجارب فلسفية لم نشرع بعدُ في استشكال جذري للإمكانية الأصيلة التي تتوفر
عليها؛ وذلك يعني أننا نفترض أن الأفق الوجيه اليوم للتعامل مع التراث الذي يخصُّنا،
إنما هو بالتحديد الأفق
الإتيقي، بوصفه الإمكانية الوحيدة التي تساعدنا على إثراء عَلاقتنا، الهشة روحيًّا، بالعالم
الحالي. ولقد بحثنا لدى الفارابي وابن باجة، بطرق متعددة ومختلفة، عن محور إشكالي واحد:
إمكانية الفيلسوف من حيث هي إمكانية حياة جوهرية تمكِّننا من ارتسام أساس إتيقي موجب
وغير عدمي
لوجودنا «الحديث».
غير أن النتيجة الأخيرة لهذين الفصلين الرابع والخامس قد كانت مَجلَبة لصعوبات أساسية:
لقد
ظل الفيلسوف في أفق الملة فيلسوفًا نابتًا، ولم يستطع التمسك طويلًا بما حققه الفارابي
من
إمكان فلسفي لإرساء مدينة العقل.
ولذلك حاولنا في الفصل الأخير أن نتصدى بالتفكير لبؤرة الإشكال الذي ظل يحرك هذا الكتاب
ضمنًا. إن هذه البؤرة هي إمكانية اللافلسفة كموقف روحي يجد في جهاز الملة خُطته الخاصة.
ومن
أجل أن يكون مقصودنا بيِّنًا قدر الإمكان، حرصنا على إنجاز هذه المهمة الأخيرة للكتاب
بالإحالة على الفيلسوف الذي رفع التصادم بين الفلسفة والملة إلى رتبة الإشكال الأصلي
لطبيعة
الفلسفة عند العرب بعامة، ونقصد بذلك ابن رشد.
رُب إشكال نرى أنه قد بلغ اليوم من الهشاشة الروحية ما جعله ينفتح على ضرب فظيع من
الكلبيَّة
التاريخية التي لا مناص من الانخراط في مساءلة فلسفية حاسمة تكشف عن الأساس العدمي الذي
قامت عليه. ونحن نفترض أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون مدخلًا إشكاليًّا مؤقتًا للفحص
عن طبيعة
مسألة لا يبدو أننا نملك أفقًا وجيهًا لمعالجتها.
فإذا فرغنا من ذلك عاد البصر إلينا وهو حسير. إن علينا أن نشرع للتوِّ في ترتيب السؤال
عن
ذلك الشبح الذي تفترضه هذه الأبحاث، نقصد هذا السؤال: من هو الفيلسوف؟ ذلك هو مطلب الخاتمة
وما هي
بالخاتمة، بل هي على الحقيقة محاولةٌ لبدءٍ آخر.