الخاتمة
لكن هذا النحو من السؤال يوهم بأن الفلسفة شأن مجرد قائم بنفسه فوق تاريخ السائل وتاريخ الأسئلة. والحال أن سؤال: «ما هي الفلسفة؟» إنما يقول إذا تُؤُمِّل: «ماذا تعني أو يمكن أن تعني الفلسفة بالنسبة «لنا» من حيث نحن نسأل عنها؟». لكن ذلك يفترض أن من يسأل إنما يملك وجاهة حاسمة في كل مرة. ولكن من يسأل؟ إنه ليس سوى الفيلسوف! ولكن «من هو الفيلسوف؟». هذا السؤال ليس يصلح خيطًا هاديًا للتفكير في ماهية الفلسفة فحسب، بل يبدو أنه الأفق الوحيد اليوم للسؤال عنها. وذلك أن الصعب في هذه الأسئلة لا يتعلق بتوعر الإجابة عن «ماهية» أو «حد» الفلسفة بقدر ما يشير إلى صعوبة جذرية تكتنف كل تفكير في صيغة هذه اﻟ «لنا» أو اﻟ «نحن» التي تجثم على عقولنا كأفق اضطراري. فهذه اﻟ «نحن» لم تصبح بعدُ مفهومًا فلسفيًّا نستطيع بواسطته أو انطلاقًا منه بناء أو تمثل إمكانية أصلية للتفكير على طريقتنا.
ما الفلسفة بالنسبة «لنا»؟ وهل «نحن» قادرون على التفلسف «اليوم»؟ السؤالان هذان سؤال واحد. فأبدًا لن نتفلسف حقًّا؛ أعني لن نحتمل خطورة فعل الفلسفة على وجهه الخاص، إلا بقدر ما نتمكن من تطوير دقيق للإمكانية التي تشير إليها مسألة اﻟ «نحن» هذه. قد نصفها بأنها إمكانية ثقافية أو روحية أو تاريخية … إلخ. لا يهم، فلا مشاحَّة في الأسماء، إذ من يدري أن هذه التسميات على أهميتها ووجاهتها، لا تعدو أن تكون أدوات مؤقتة لتفكير لم يظهر بعدُ، يكون أشد بساطةً ولكن أكثر صرامةً وقربًا من المسألة.
ولكن ماذا عسى هذه اﻟ «نحن» أن تكون، والحال أننا نحرص على قطعها عما هو عرقي أو ديني؟ هل هذا يعني أننا نقطعها للتو عن «الوطن»؟! لا بد أن نعترف بأنه لا معنى لفكر لا وطن له. غير أن المشكلة تبرز عندما نتصدى بالسؤال لمعنى هذا «الوطن»، ماذا عساه يكون؟ ما هو «وطن» من يتفلسف؟ وإلى أي حد يمكننا أن نعامل الفيلسوف كأي شخص عمومي؟ إن ذلك مرتبط في جوهره بمدى حكمنا على الفلسفة بأنها وليدة «قوميةٍ» ما، الإغريق مثلًا.
ولكن مهمة تحديد مضمون أو قوام فلسفي واضح لهذه اﻟ «نحن» التي تخصنا هو المطلب العَسِر في هذا الطور من البحث. فنحن لم نُصِب إلى هذا الموضع إلا بعض الحدوس فحسب، وهي حدوس لم تصبح بعدُ أدوات تفكير؛ أعني مفاهيم، وذلك لأن الإشكالية التي نسعى إلى بلورتها لم تكشف تعقدها الداخلي بعد.
الفلسفة نقل للمعاني. ما «النقل»؟ نَقَلَ الكتابَ: نَسَخه أو ترجمه أو رواه. والثوبَ: رقعه وأصلحه. ماذا تنسخ الفلسفة أو تترجم أو ترقِّع أو تُصلح؟ – المعاني، ولكن معاني ماذا؟ إن «ماذا» هذه، وهي الإشارة الأعم إلى «الشيء»، تظل تلاحق كل ادعاء للمعاني. هل هي معاني اللغة التي يتكلمها من يتفلسف؟ أي ما يسميه الفارابي «المعاني العامية» أو «التي يستعملها الجمهور»؟ يبدو أنها غير ذلك، ما دامت الفلسفة شأنًا غير جمهوري، والجمهور شأنًا غير فلسفي. ولكن من أين تأتي المعاني إلى الفلسفة؟ حتى تنسخَها أو تترجمَها أو ترويَها؟ وهل تفسد المعاني حتى تعمِد الفلسفة إلى رَقْعها وإصلاحها؟ ومتى يمكن أن يحدث للمعاني أن تفسد؟
لا بد لنا من أن نبحث قبل أي إجابة عن هذا النحو من الأسئلة، عن «مأتى» المعاني أو «الموضع» الذي نصيب منه المعاني. «أين» ينتصب هذا الموضع؟ لطالما اعتقد الجمهور أن المعاني شأنُ «الخاصة»، يودِعونها في مكان بعينه، أو يستلمونها في موضع بعينه: الهيكل أو المعبد أو المسجد أو الكنيسة أو المدرسة أو الصحيفة أو الصورة أو الكتاب. هناك موضع بعينه هو الذي يهب المعاني، ولا يكون المطلوب إلا أن ننكبَّ على ذلك الموضع حتى نُصيب منه نصيبًا من المعاني. ولكن ما رأي الفيلسوف؟
يبدو الفيلسوف محرجًا دائمًا؛ لأنه لا يستمد معانيه من مواضع الجمهور. لا بد إذن أنه يتقن الطريق إلى مخبأ للمعاني، لا يدركه «عقل» الجمهور. إن الفيلسوف يدعي عادةً أن السبيل إلى المعاني متوعرة، وأن مدينة المعاني لا جمهور فيها. لذلك تبدو الفلسفة بمثابة «نقل» عسير للمعاني من مصدر غامض إلى عقول اللافلاسفة. ولذلك ينبغي لنا، نحن المتفلسفةَ آخرَ الزمان، أن نسأل بكل حرص عن هذا الموضع الذي يمكن أن تنساب إلينا منه المعاني التي من شأننا، «اليوم»، «نحن» سكانَ جنوب الحداثة، الذين نتفلسف بلا «يوم» ميتافيزيقي يخصنا؟
هل «الدولة» مثلًا موضع جوهري لولادة المعاني؟ وهل ما يحدث لنا بواسطة الدول هو حدث فلسفي؟ من هم صناع المعنى الذين يوجهون دفة التاريخ التي نركبها بلا أسئلة جذرية؟ ولكن عمَّ يتساءل فلاسفتنا؟! هؤلاء الكُتاب بلا كتابة الذين يتباهون لا بعدد الأسئلة الجوهرية بل بكمِّ الصفحات التي سوَّدتها المطابع؟ ولكن متى أخضعنا عَلاقتنا بالمطبعة إلى الأسئلة الجوهرية؟ هل المطابع شأن فلسفي؟ إن عَلاقتنا بالكتابة نفسها لم تصبح بعدُ عَلاقة مشروعة، لأنها لم تستطع أن تشير إلى حدث جوهري يجعلها ممكنة من الداخل. إننا لا نكتب بل نحبِّر، أي نحتمي بسلطة المطبعة، أي بسلطة المدينة على الكلام حتى نُنتج مكتوبًا. لكن المكتوب لا يفكر إلا بقدره الخاص. والحال أننا نقبع خارج أقدارنا. إننا لم نتهيأ لها فلسفيًّا بعد.
وبما أن موضع المعاني لم يتوضح بعدُ، وأن من يفكر يكتنفه ليل من الإمكانيات المفزعة، من حيث إنها تمنع عنه زمانها الخاص، فإن الجهة التي تتولد فيها المعاني لن تكون اليوم إلا من طبيعة ما يكتنف من يفكر من ظلمة مبكرة. هذه الجهة المظلمة هي أشبه ما تكون بما ينفتح للعلماء في تجرِبة تقنية حاسمة أو للشعراء في أفق قصيدة جذرية ما، ولكن هل لدينا شعراء يجرءون على القصائد الجذرية؟ أو علماء ينفِّذون عَلاقة حاسمة بعصر التقنية؟!
الشعر اليوم مغامرة جذرية، لكنها لا تزال تُخفي تحت أرجل جمهوره جهة مظلمة، هي جهة القصيدة الجذرية التي يحلم بمعانقتها كل شاعر، يكون إمكان الشعر فيه داخليًّا. نحن نكتب اليوم شعرًا خارجيًّا، لأن جوهر الشعر لم يصبح بعدُ مسألة محرجة للشاعر بما هو كذلك. فالشعر أيضًا في جوهره فن جذري لنقل المعاني، مثل الدولة أو الدين. لكن الشعر ليس مؤسسة، وهو ما يجعله يمتاز على الدول والأديان امتيازًا جذريًّا. ولذلك فإن ما يؤرق الفلسفة هو أنها محكوم عليها سلفًا بأمرين لا ثالث لهما: أن تعاصر العلم من حيث هو استفزاز جذري للعالِم. أو تعاصر الشعر من حيث هو استفزاز جذري للإنسان. فالعلم لا يلتفت إلى الإنسان إلا مكرهًا، مثلما أن الشعر لا يلتفت إلى العالِم إلا مكرهًا. العلماء والشعراء هم السكان الأصليون للأرض، أما الساسة والأنبياء فهم صناع المؤسسة التي تجني ثمار كل ما هو أصلي.
ولأن المؤسسة صناعة عنيفة دائمًا للأجساد والعقول، فإن الشاعر أو العالِم غير مطالب بأية مسئولية جوهرية إلا تجاه نفسه. بيد أن قدر العلماء والشعراء أنهم مضطرون بشكل أساسي إلى الانخراط في فضاء المؤسسة. إن المؤسسة قدر خارجي، لكنها شرط إمكان لعمل العلماء والشعراء، وإن لم تكن شرطًا جوهريًّا لظهورهم. ونحن اليوم لا نملك علماء ولا شعراء بالمعنى الجذري. والحال أن الفيلسوف ليس سوى من يستأنف هذا الإمكان الذي يفتحه العلماء والشعراء لعصرٍ ما. ليس أي استئناف بل ذلك الذي يكون من شأنه تنبيه حضارة إلى موضع المعاني الذي لا تملكه بعدُ. بيد أنه ليس موضع ولادة المعاني الذي ينير لنا الطريق نحو أنفسنا، سوى أفق السؤال العتيق لكن الحاسم في كل عصر: «ما نحن اليوم؟» والحال أننا عن هذا اﻟ «نحن اليوم»، لا نملك إلا وصوفًا خارجية ومؤقتة. فمن هو الفيلسوف إذن؟ في مدن هجرها العلماء والشعراء الجذريون؟! إن العلم مثل الشعر مغامرة جذرية، لإرساء صداقة أساسية مع العالم. لكننا لا نحب أنفسنا بعدُ بشكل جذري، أي لم نرفع عَلاقتنا بالفن والتقنية إلى طور حاسم، بل نلعب لعبة قديمة اليوم اسمها «نقل الحداثة». ولأن هذه اللعبة يمكن أن تطول بلا سبب واضح، فإن ظهور الفلاسفة صار مسألة محرجة لكل من يدعي أنه يتفلسف. ومن يتفلسف إنما هو محكوم عليه سلفًا بنقل المعاني، أعني بتهيئة عصره لولادة فلسفة لا يبلغها إلا بعد استكراه شديد.
لا بد أن نعرف أيضًا أن الدول والأديان قد تدفع بإمكانية العالم، أي إمكانية العلماء والشعراء، إلى وجهة جديدة. لكن الجديد في جوهر كل دولة وكل دين، إنما يكون بطبيعته قد مرَّ بعدُ. إن جِدَّة كلٍّ منهما تقبع وراءه لا أمامه. فليس أمامه إلا «الأعداء»، وما يختص به كلٌّ منهما هو العجز الداخلي عن الصداقة مع العلم أو مع الإنسان. هذا العجز الداخلي هو الذي يجعل إمكانية ولادة الفلسفة من رحم الدول أو الأديان، حَملًا كاذبًا دائمًا. إنها لن تكون إلا فلسفة بتراء؛ أعني مبتورة عن تلك الصداقة الجذرية مع الأشياء، أو هي «مبغولة»، أي مهجنة من جهة الأب، فالبغل كائن يقف تاريخ سلالته عنده فقط، لأن ذلك التاريخ لم يبدأ إلا معه.
إن موضع المعاني إنما يقبع في خارطة أخرى لم نرسمها بالعناية الجذرية بعدُ؛ «جذرية» لأنها تكون في الوقت نفسه مؤصِّلة ومستأصِلة لإمكانية اﻟ «نحن اليوم». فمن يجذِّر الشيء يقطعه، لكن الجذر هو ما يُثبَّت في الأرض ويهب الغذاء. إن الفلسفة عناية جذرية بالمستقبل؛ أعني بالإمكان. إنها عناية جَذْلَى، من حيث إنها فرح أصلي بنفسها. «عاد الشيء إلى جِذْله» أي إلى أصله. إن الفلسفة عودة إلى الجِذل، الذي يعني الفرح والأصل معًا. ما هو الممكن الذي يقود إلى هذه الفلسفة؟ لا بد أن يكون هو أيضًا «جِذليًّا».