الفصل الأول
التفكير مع هيغل ضد هيغل
أو الفلسفة في نهاية التاريخ
«لقد أبصر هيغل بكل ما كان يمكن الإبصار به، بَيد أن المطلوب إنما هو أن نعرف ما إذا
كان قد أبصر انطلاقًا من المركز الجذري للفلسفة، وهل استوفى كل إمكانات البدء، حتى
يمكنه أن يقول إنه قد بلغ من الأمر غايته.»
هَيدغر: الأعمال الكاملة، ج٢٤
(درس صيف ١٩٢٧م)
«نحن (…) هيغليُّون، حتى ولو كان هيغل لم يوجد قط.»
نيتشه: العلم المرح (١٨٨٢م)
هل الكتابة الفلسفية ممكنة بعد هيغل؟ هذا السؤال ليس لغزًا أحمق، بل هو نفسه السؤال
الذي
لخص به ميشال فوكو في درسه
نظام الخطاب١ كل عناصر الأثر الذي أحدثه جان هيبوليت
Hyppolite في الفكر الفرنسي، بترجمة
وشرح
ظاهريات الروح، الكتاب الكبير الأول لفلسفة هيغل. ولكن هل يكفي الفزع من الكتابة
لرمي فلسفة هيغل في سلة مهمَلات البيت الفلسفي المهجور منذ القرن الماضي وعدم قراءتها؟
٢ لِنَقُل مع عارفٍ كبير لهيغل، برنار بورجوا
Bourgeois: إن الكثير «يتجاوز هيغل
دون المرور به»
Dépasser Hegel sans passer par lui.
٣ ولو أخذنا الكلام على عِلَّاته الأولى حين نفكر أو
ندخل ساحة المفهوم لقُلنا: إن الذي يصرِّف فعل
Dépasser بدون الفعل
Passer لا
يبقى لديه من ذلك الفعل سوى حرف النفي
Dé.
٤ إن فلسفةً تتجاوز هيغل دون المرور به، هي في سرِّها مخيَّرة بين أن تنفي نفسها، ما دامت
تنفي ماهية التفلسف بما هو كذلك،
٥ أو تتحول إلى مغامرة لعب النرد الذي تنخره الصُّدفة من كل جهة. لا الوضعية
ولا نيتشه بقادرَين على تجاوز هيغل دون المرور به.
٦ فماذا يعني العلم إذا كان خاليًا من النسقية؟
٧ وماذا يعني فكر الاختلاف إذا كان عاجزًا عن إنتاج الحقيقة التي تجعل بشريتنا
ممكنة ومحتملة؟
٨ إننا كثيرًا ما نبالغ في تَعداد الاختلافات بين الفلاسفة، في حين أن الفروق بينهم ملتبسة
ومتشعبة إلى حد اللافكر. إننا نحتاج اليوم، وربما أكثر من أي وقت مضى، إلى قليل من «التسامح»
٩ مع الفلاسفة، حتى يصبحوا ممْكِنين فيما بيننا،
١٠ وحتى تكون الفلسفة حاجة يومية لعقولنا المتعبة بمختلِف أشكال الردة عما نفعل وعما نفكر.
١١
إنك لا تزال تسمع عن فشل الهيغلية، وروحها الكلِّياني،
١٢ ونزعتها إلى النسق المنغلق، وإلباسها لكل عقل جُبَّة المطلق، وتحويلها الفلسفة إلى لوح
محفوظ،
١٣ وإعلانها «موت الفن»،
١٤ وإقامتها الدولة في كل شبر من فرديتنا،
١٥ وتعقيلها كل ركن من العالم،
١٦ واعتمال الحروب والشرور أدواتٍ لمكر العقل،
١٧ وشدِّ الإنسانية الحالية إلى نهاية التاريخ … إلخ، كأن الفلسفة قد أصبحت منذ
قرنين عملية تأبين واسعة لجثة هيغل ونثرها على طرق الفكر، حتى لا يكون التفلسف بعده سوى
فُتات المعقوليات المحلية والتواريخ الخاصة والفرديات المعزولة والدول المتنافية.
١٨ لقد أصبح التفلسف نفسه مؤسَّسًا على تصور «نهاية» ما للفلسفة ولدورها
وموضوعها ووضعها … إلخ.
١٩ قد يكون هذا القول مبالغة فجة أو انحسارًا للبصر عما يتراءى لكل الناظرين،
بيد أن الفكر قد تدفعه «حاجته»
٢٠ وعِلَّاته إلى مبالغةٍ، أو انحسارٍ ما عما يقال وعما يُفكَّر فيه
٢١ حتى يصبح تبصُّره بنفسه وبالحقل المحايث لماهيته، ممكنًا ومشروعًا.
ولكن لنعد قليلًا إلى الأشياء كما كان يقول هوسرل،
٢٢ ولْنستمعْ إلى هيغل نفسه ولْنفكرْ مع الصوت الذي يفلح في بنائه فينا. لقد ميز كانط جيدًا
بين أن نعرف وأن نفكر؛
٢٣ بين أن نبني جملة منسقة من الأحكام المنطبقة في تجرِبة ممكنة،
٢٤ وأن نصرِّف أوهام العقل حول قدراته في الحقول التي لا يقوى على الإقامة فيها
بلا أخطاء ولا مبارحتها عن أحقيَّة.
٢٥ ولْنسألْ ما الفاصل الذي يمكن ارتسامه بين أن نعرف فيلسوفًا، وأن نفكر معه؟
٢٦ بين أن نبني فلسفته في مخيالنا النظري كجملة من الأحكام والقضايا، وأن نصرِّف أسئلته
الأصلية حول قدرات التفكير التي اخترعها، وفي «حقل المحايثة» الذي سطَّره لنفسه كما يقول
دولوز.
٢٧ فالتفكير مع فيلسوف لا يعني التنصل من معرفته المضنية، بل محاولة بناء
حساسية خاصة لاكتشافه، واختراق قشرة الوهم التي تحجبه عنا.
٢٨ فما أكثر الذين يعرفون هيغل وما أقل الذين يفكرون معه، وإن أكبر الأوهام لَمَعرفة
لا تفكِّر،
٢٩ أعني تقصُر عن التلفت جهة الأفق النظري الذي بناه لنا، وقِبلة الأسئلة التي أجاب
عنها بدلًا عنا.
٣٠ إن الفلسفة، أي فلسفة، إنما هي محجوبة قدر الإمكان بما ليس هي إلا عرَضًا،
كأنما مقدورها أن تظل دومًا على مقرُبة صغيرة من بيتها السرِّي لكنها لا تَلِجه إلا
محالًا. الفلسفة تُقدُّ من النحو وقليل من الدولة والحب وبعض من الأرقام
٣١ إلا أنها لا تصنع لحمها التاريخي إلا من اللافلسفة؛ أعني من اللاتفكير.
٣٢
ولذلك فقد حاول هيغل في
ظاهريات الروح أن يزج ﺑ «اللافلسفي» (والعبارة لهيغل) إلى حقل
المحايثة الوحيد الممكن بعد اسبينوزا: «المطلق» بما هو البدء العقلي المكتمل والمساحة
المسطورة لكل تفكير.
٣٣ ليست اللافلسفة جهلًا ولا عدم المعرفة ولا القصور عن التفكير.
٣٤ إنها على العكس من ذلك لَتشكِّل أرض التفلسف نفسِه ومحيطَه الأول والأخير، وشكل
المعاصرة المفروض عليه سلفًا. إننا دومًا مطالبون بصنع حقائقنا من أوهامنا، ونحت أدوات
تفكيرنا من معارفنا الكسولة.
٣٥ ولذلك فظاهريات الروح تنفجر أمامنا كجملة من أشكال أو «وجوه» اللافلسفة
واللاتفكير، إذ ماذا يدرك الوعي في كسله اليومي والجزئي سوى إحساسٍ ما بأنه هنا والآن
يقيم مدينة الخطأ واللاوجود؟
٣٦ ثم بماذا يظفر هذا الوعي عندما يتعرف ذاته تقيم خارجه إلا بأن الشيء الذي
يعانده بحضوره الساذج والقبيح، لا يعدو أن يكون أحد أشكال ذهنه المغلفة بأوهام المعرفة
التي
يبنيها لنفسه خارجه؟ وأية عَلاقة مع الآخر هي ممكنة، إذ هو يثوي في ماهية الفعل الذي
أصنع منه ذاتي؟ إن نزاعًا ما مع الآخر
سيكون ضروريًّا؛ أعني أُنطولوجيًّا، لا بوصفي ذاتًا فقط، بل بما أنا «آخر الآخر» وتناهيه.
إن كلًّا منا يسطِّر للآخر حده الميتافيزيقي الفظيع، ويبني له بوابة على الموت؛ لأن من
لا
يقيم في وجه الموت، كما يقول هيغل: لا يحيا، ومن لا يُحدث جنازته بنفسه لا يفكر.
٣٧
إن عظمة هيغل هي في أنه قد جعل الفلسفة تشتق ماهية فعلها من إقامة عنيدة داخل حقول
اللافلسفة، وتبني تعيُّناتها وأشكالها، وتخلق مفاهيمها، من مادة كسولة ومرتدة دومًا؛
هي جهل
الآخرين بها وخوفهم منها في الوقت نفسه، الجهل بالفلسفة والخوف منها هما اللافلسفة بعينها.
٣٨ وفي مواجهة اللافلسفة لا يحتاج التفكير إلى دليل. ولذلك يؤكد هيغل أن
«ظاهريات الروح» ليست دليلًا على إدخال الوعي اللاعارف إلى المعرفة. إن المهم عند هيغل
هو أن الفكر ليس شيئًا آخر سوى فعل الفكر على كَمية اللافكر التي يحتويها سلفًا. إنه
لا
يتخذ الواقع الخارجي جوهرًا يعبِّر عنه، بل إنه ذاتية نشيطة تحرص على تحويل كل ما هو
«لا
فلسفي» فيها إلى «أداة للتفكير»، أي إلى عنصر عامل داخل «تجرِبة»
٣٩ لم تعد المشكلة أنها ممكنة قَبْليًّا كما لدى كانط، بل كونها الشكل الوحيد
لوجود الفكر. التجرِبة عند هيغل هي الاسم الآخر لعملية توليد الفلسفة من اللافلسفة،
وبناء الفكر بالاشتغال على اللافكر. إن ذلك هو الذي يبرر مثلًا بدء ظاهريات الروح بأقل
نقطة فلسفية فينا، أي وعينا اليومي الكاذب. ولذلك كان لا بد لهيغل من أن يوسع من مفهوم
«التجرِبة» في القسم «الثاني» من الظاهريات لكي يتحول من نطاق المعرفة التي تبنيها ذاتية
تتحكم في الظواهر كما تتحكم في ماهيتها، إلى نطاق الإنسانية نفسها، عندما تطرح وعيها
للعالم كبُنية أو ماهية أولى لوجودها.
٤٠ فإننا لا نجرب بحواسنا بل بوجودنا أيضًا، لكن الخطر هو أن الإنسانية عندما
تجرِّب، تجرِّب على ذاتها وعلى ماهيتها، وبالتالي تبذِّر كل الممكن التاريخي الذي بحوزتها.
فعلى خلاف ما نظن عادة، التاريخ عند هيغل أيضًا لا يعيد نفسه، إنه مجرد ما
يحدث، ينسحب منه العقل إلى هموم أشد تعبيرًا عنه وأكثر قربًا من حقول التوتر الكامن فيه.
٤١
لقد علَّمَنا هيغل أن كل فكرٍ مطالبٌ من الداخل بملاقاة الآخر المشتق منه ضرورةً،
٤٢ وهذا الآخر هو اللافلسفة، كَمية اللافلسفة التي تظل تهدد، كاللعنة، كل قدرة
على التفكير، وتشد كل من يدَّعي التوحد، إلى صراع مَقيت لكنه خِصب حول الاعتراف، ليس
فقط
بالآخر، بل بنفسه أيضًا، بوصفه آخر الآخر في الوقت نفسه.
٤٣ إن «عنفًا» ما هو الذي يدعونا إلى التفكير،
٤٤ أو قُلْ إنَّ عنفًا ما ينبغي ممارسته على
أنفسنا لكي ندخل ساحة التفلسف بما هي «ساحة حرب»
Kampfplatz حتى بالنسبة لأكثر العقول دعوةً إلى السلم الدائمة
(كانط: الصفحات الأولى من تصدير الطبعة الأولى من
نقد العقل المحض).
٤٥ ولذلك فليست معرفة كل ذات سوى كَمية «اليقين» المهتزة التي تكونها حول ماهيتها،
ولن تفلح في تحويلها إلى «حقيقة» إلا بالتضحية بجزء أساسي من تلك الماهية نفسها.
٤٦ إننا لكي نتفلسف مَدعوُّون، وبشكل محرج، إلى التخلي عن التصور الحالي
لأنفسنا. فإن صراع الاعتراف بين البشر كماهيات مستقلة ومتناهية، يعني بالنسبة لهيغل أن
الصراع ثابت في بنية العَلاقة بينهم، لكنه يعني خاصة أن الفلسفة لا يمكن لها أن تقيم
حقيقة البشر في نزاع تركيبي للرغبات والأسباب في فضاء سياسي أناني مؤسَّس على عنف البقاء
كما لدى هوبز.
٤٧ وإنما هي تشدُّ نزاع البشر إلى ماهية النزاع نفسه، أي ضرورة الاعتراف بالبشر ليس
كأشكال متهافتة من فكرة الآخر التي لم يقوَ العصر الكلاسيكي على بنائها بشكل موجب
باستثناء حالة اسبينوزا ولأسباب مختلفة،
٤٨ وإنما كوجوه
Figures أو قوًى تسعى إلى تصريف ما هو بشري فيهم، أي النشاط
العقلي الحر الذي يشكل كينونتهم. إن ذلك هو الذي دفع مفكرًا أمريكيًّا، هو فرنسيس
فوكوياما، إلى تحويل فكرة نزاع الاعتراف عند هيغل إلى أداة تفكير خِصبة لتأوُّل ما وقع
في
أوروبا الشرقية منذ نهاية الثمانينيات: إن الشعوب هناك تطالب أولًا بماهيتها البشرية،
أي
بالاعتراف الكلي بالأفراد بوصفهم كائنات مريدة وقادرة على إنتاج شكل اليقين الذي يخصها
في هذه اللحظة من تاريخها.
٤٩
إننا كثيرًا ما نعتقد أن التفكير عند هيغل جملة من المقولات التي تُشَد إلى بعضها
بعَلاقات جافة وصعبة التحديد، في حين أن هذه المقولات التي تؤلف منطقه مثلًا ما هي سوى
لحظات متمايزة وحية، وقادرة دومًا، في سياقها الخاص، على بناء مضامينها واختراع
حقيقتها، نفسها بنفسها، وكل ذلك بموجب طبيعة محايثة، أي لا تستلف من خارج عملها أو
نطاقها، طرفًا دخيلًا، مشرِّعًا لها أو حاكمًا عليها، أو ضامنًا لمعناها. إن أهم ما يبقى
لنا بعد قراءة علم المنطق لهيغل مثلًا هو أن الفكر ساحة حرب حيث لا معنى إلا لما يشارك
ويُنتج ويقاوم.
٥٠ إن كل شيء «لحظة» داخل كل نشيط، أو «قوة» منتجة لخصائصها، أو «واقع» يبني
ضرورته بكل ما هو ممكن فيه. لقد علَّمنا أن الفكر مسار عقلي محرج وصُلب؛ لأنه يفرض علينا
وعلى نفسه أولًا دروبًا متشعبة، مزروعة بالمفاهيم وأشكال الماهية، العصية على كل تحديد
قد يزعم أنه نهائي أو قارٌّ. ولكن هذه الحرب التي يخوضها الفكر داخل عنصره المفهومي المرن
بكل اقتدار، ليست بأي معنًى حربًا خاسرة، ريبيَّة، أو عدمية أو صورية، بل هي فعل التفكير
نفسه، ضد كَمية اللافكر التي تعمل فيه. إنه يعمل على استكمال نفسه بوصفه نماءً
لامتكافئًا بعد، وربما دومًا، مع مفهومه، أي شكل التعبير الأقصى عن ماهيته كفكر، وشكل
التحديد الأقصى لمضمونه. فإن كلًّا من
ظاهريات الروح وعلم المنطق يتضمن طبقتين متضافرتين
من الجهد النظري، تعمل كل منهما وَفقًا لنظام يخصها، ولكن انطلاقًا من جهد فكري متوحد؛
فإحداهما
طبقة يؤلفها مسار متدفق من الوجوه
Figures أو أشكال الوعي، واللحظات
Moments أو
التعينات المفهومية. أما الأخرى فهي مكافحة مستمرة للافلسفة واللافكر اللذين يلاحقان
كل
مسار عقلي سواء كان قطبه الوعي أو المفهوم.
إن خصوبة التفكير عند هيغل تكمن في هذا الجهد المضني لتحديد الزمن المنطقي للفلسفة،
في ضوء التاريخ النقدي للأُنطولوجيا التي تحكمه. ونحن نعرف أن كانط قد ختم
نقد العقل
المحض بفصل صغير عنوانه أكبر من مضمونه هو «تاريخ العقل المحض» واعتذر في مستهل كتابته
بأنه فصل يحتاج إلى مراجعة.
٥١ نحن سنأخذ مأخذ الجِد هذا العنوان ونطلقه على فلسفة هيغل: إنها تاريخ للعقل
المحض. ونقصد بذلك أن هيغل يعتقد بقوة أن مهمة الفكر القصوى إنما هي إعادة صياغة تاريخ
الفكر نفسه، وذلك لا يتم إلا بكتابة هذا التاريخ بوصفه فضاء واحدًا من التعينات
الجوهرية، فلا يفلت أي نسق أساسي، بالرغم من تفاوت الأنساق واختلافها.
٥٢ فإن تحت المسار المنطقي، وبتضافر شديد معه، يقبع تاريخ صامت للأُنطولوجيا
التي تحكم الفكر، وليس التفكير سوى السيطرة عليه وفهمه والتفلسف من خلاله وضده. لقد
علَّمنا هيغل أن من يفكر، يفكر دومًا داخل تاريخٍ ما؛ لأن كل فكر يفترض سلفًا كل المسار
الذي
يمكن قطعه، من أشد المكونات بساطة، إلى أكثر الجمل المفهومية تعقيدًا. ولا عجب، فإن
هيغل هو الذي حول فعل التفلسف إلى اشتغال على تاريخ الفلسفة، والأول الذي مارس ذلك وحدد
نمط ذلك الاشتغال الذي لا يعدو تفكيرُ عظماء مثل نيتشه أو ماركس أو هوسرل أو هَيدغر أو
فوكو أو دولوز سوى العمل على الإفلات منه أو تجاوزه. وهكذا يتبين لنا أن أي تفكير إنما
هو في جانب أساسي منه ممارسة جذرية لتاريخ الفلسفة، ولذلك لا مناص من قراءته في ضوء ذلك
التاريخ. أما التفكير خارجه فهو اللافلسفة التي يمكن أن تكون مادة طيعة لنشاطات غير
فلسفية أصلًا مثل «العلم» أو «الفن» أو «الدين» تنبني على جهل مذهل بالافتراضات الفلسفية
والأُنطولوجية التي تحكمها.
إن التفكير مع هيغل يعني الولوج إلى هذا النطاق أو الميدان الذي بناه لنا منذ قرنين
ودفع بالإنسانية إليه، كآخر أكبر حقل لإنتاج الحقيقة منذ أفلاطون؛ إذ يجب ألا ننسى
أبدًا أنه في حقل المحايثة هذا عمل ماركس وفرض شكلًا محددًا من تصور الكينونة، لا
يفصلنا عنه سوى سقوط جدار برلين أو تفكك القرار السياسي في موسكو. ولذلك ليس هيغل اليوم
مذهبًا فلسفيًّا كسولًا ينام في رفوف المكتبات، وليس درسًا متقطعًا في جامعات لم تعد
تضم
مدرسين هيغليين، لا شبَّانًا ولا شيوخًا، بل هو بالتحديد، وبعبارة سعيدة لجيل دولوز،
«شخص
مفهومي» يرتقب من يحوِّله إلى أداة تفكير محرجة لشكل التفلسف الحالي، الذي أصبحت فيه
الفلسفات بمثابة أحزاب طفيلية في ساحة المفهوم الذي لا يؤمن بأي حزب أو تحزب. وذلك بأن
يبني له مساحة جديدة لاختراع المسائل، وقدرات جديدة لخلق المفاهيم. فإنه لا فلسفة إلا
من داخل ما يستطيعه الفكر نفسه، وفي السياق النظري الذي يولد فيه. إذ ربما كان الفكر
هو
الجهاز الوحيد الذي لا يستورد مشاكله من أي طرف دخيل عليه،
٥٣ وبالرغم من ذلك فالفكر يحتاج دومًا إلى بعض الفراغ والثقوب والعطالة
والاستلاب والضياع والقلق لكي يفكر. إن أشد ما يخيف الفكر ليس الفراغ مثلما كان يقال
عن
الطبيعة، ليس عدم الكتابة كبطالة فلسفية، بل الموقف من الكتابة نفسها. إن أُمِّيةً ما
هي
التي تحكم قراءتنا لكل ما يُكتب. الفكر لا يخشى الفراغ، الفكر يخشى الامتلاء.
٥٤ إن هذا الامتلاء هو بالضبط ما حدث لفلسفة هيغل؛ إنها امتلاء الامتلاء،
والفكر الذي من فرط قدرته على القلق، قد فقد القلق نفسه، ولم يعد يذكر حتى همومه الأولى
والتوتر المفهومي الذي جعله ممكنًا. وإن هذا الامتلاء الفظيع هو الذي يقتل فكرًا ما من
الداخل؛ لأنه يحرمه مما هو ممكن فيه دفعة واحدة.
ولذلك فإن التفكير ضد هيغل ممكنٌ بل وأمرٌ عاجل أيضًا، إلا أنه لن يكون البتة رفضًا
مجردًا وبائسًا له ولا تجاوزًا جبانًا لنصوصه العظيمة دون قراءتها.
٥٥ إنما التفكير ضده ليس شيئًا آخر سوى التفكير الحالي نفسه، وفي كل الأشكال
التي يأخذها. كان فوكو يتساءل في نظام الخطاب عن الثمن الذي يجب علينا دفعه لكي نتخلص
من هيغل، لكنه اشترط لذلك معرفة الشيء الهيغلي فيما يتيح لنا التفكير ضد هيغل.
٥٦ إن ما يهمنا هنا هو أن هيغل قد جعل فلسفته المختبر الأقصى لتجرِبة الحداثة؛
ولذلك فالتفكير ضده معناه إعادة النظر ليس فقط في فهمنا لهذه الحداثة،
٥٧ بل ولقدراتنا على تحديد عناصر هذه الحداثة، والحقل المفهومي الذي تحاصِر به
تفكيرنا كعرب. ولكن ما حاجة العرب اليوم لهيغل وفي هذا الوقت من تاريخ انحطاطهم؟ فنحن
فعلًا لن نفكر بهيغل كما تفعل أوروبا أو أمريكا. إننا لن نبحث فيه عن أنثروبولوجيا بلا
إله كما فعل كوجيف
Kojève،
٥٨ أو عن دولة بلا ملك كما حاول أريك فايل
Weil،
٥٩ أو عن خطاب استطاع تفكيك الأُنطولوجيا التي تحكمه كما طمَح إلى ذلك جيرار
لوبران
Lebrun،
٦٠ أو عن نسقية حرة بلا انغلاق كما حاولت غواندلين جارزيك
Jarczyk،
٦١ أو عن فهم للُّغة بما هي «المقول» كله بلا غُنوص ولا مسكوت عنه كما أراد ذلك
جان هيبوليت
Hyppolite،
٦٢ ولا حتى عن استثمارٍ ما لفكرة «نهاية التاريخ» كما يطمع في ذلك اليوم
فرنسيس فوكوياما في أمريكا.
٦٣
أن نفكر ضد هيغل معناه أن نطرح عليه مشاكلنا وأن نجرَّه إلى حيث نحن، أي إلى حقول
اللافلسفة التي تقيم فيها عقولنا المتعَبة. ماذا يستطيع هيغل أن يفعل في فضاءٍ عامٍّ
مهزوز
بالأصولية، ودول قُدَّت من اللاحقيقة واللاحرية؟ هل يبني نسقًا يحوِّل توتر الفكر وهمومه
إلى
تاريخ طليق من مكاسب الروح؟ وهل نحن جزء من التاريخ العالمي أم نحن ثقوب محرجة في مسيرة
العقل؟ إلى أي جهة يمكن أن تدعونا فلسفة هيغل؟ وماذا يمكن لهيغل أن يقول أو يعني فلسفيًّا
بالنسبة للعرب الحاليين؟
ولكن ما هو الطابع الحالي لتفكيرنا كعرب حاليين؟ إن أقرب تشخيص لذلك هو أن مرضًا
عضالًا قد
ألمَّ بنا، ألا وهو مرض قراءة التراث وتأويله؛ لقد أصبحت الفلسفة عندنا بسبب ذلك حيوانًا
تراثيًّا هجينًا. وبعبارة مترددة: إن الخطير اليوم هو كيف نفكر بلا ذاكرة ولو لقليل من
الوقت (؟). إن بعض الثقوب في ذاكرتنا ربما كانت تكفي لطرح جيل جديد من الأسئلة التي
يمكن أن تهز التراث نفسه. إن العديد منا، وبطرق أرهقها التجميل العنيف، لا يزال يتزوج
تصورًا «جاهليًّا» للتراث، أي يقاربه كما تفعل المعلَّقة إزاء القبيلة؛ لِنقُل إن مرحلة
القبيلة قد انتهت ببناء الدولة. كذلك مرحلة قراءة التراث؛ لقد آن لها أن تنتهي لكي تبدأ
«الفلسفة».
٦٤ إننا غير محتاجين لعناوين مثل نقد العقل «العربي» أو «الإسلامي» لكي ننقد العقل.
٦٥ بل إن الأمر يتعلق اليوم بما تبقَّى لنا من عقل ومعقولية لكي نواجه العالم
الحالي، الذي تحوَّل فيه كلام هيغل عن «الكلِّي» إلى أمر واقع. فإن التاريخ العالمي الآن
هيغلي إلى حد اللعنة؛ إنه عملية «كوننة»
Planetisation قاهرة لكل ركن من المعقولية
الممكنة لنا كبشر اليوم. ولذلك لسنا اليوم في «نهاية التاريخ» ولا نحن عرب نائمة في
صناديق التراث، بل نحن موجودون، مثل «بقية» العالم، في بداية منعرج ميتافيزيقي غامض
يجتاح العالم، مثل ذلك الذي شخَّصه هيغل بعد موقعة إيينا وكتابة
ظاهريات الروح.
٦٦ ولذلك علينا أن نسأل: هل للعرب إمكانية أخرى، مغايرة، وجديدة لتحقيق الكلِّي؟
إن الأرواح القومية اليوم تعمل في ساحة الكلي الذي تملك مفهومه أمريكا،
٦٧ فما هو دورنا الذي يمكن أن ندَّعيه، وأي مضمون يوجه الفكر فينا؟
يقول جيل دولوز: «أن تفكر هو أن تخلق، وأن تخلق يعني أن تقاوم ما هو راهن.»
٦٨ إننا نقصد بذلك أن التفكير ضد هيغل إنما هو مقاومة الكلي الذي يرفعه الغرب
اليوم ضد «بقية»، «أقلية»
Minorité بالمعنى الذي أعطاه دولوز لهذا المفهوم،
٦٩ أي من جهة كَمية القوة التي بحوزتنا، لا من جهة العدد أو الحشد. ولذلك
فتفكيرنا «الضدي» هذا محكوم عليه بأن يأخذ شكل المقاومة المفهومية للفلسفة التي تأسس
العالم الحالي على أُنطولوجيتها.
أن تقاوم معناه أن تفكر بلا ذاكرة جاهزة، أي دون نظام للخطاب يجعل تفكيرك ممكنًا
وبالتالي محدَّدًا سلفًا. وإن تقنية المقاومة الوحيدة الممكنة اليوم لمن يفكر إنما هي
بناء الفراغ والثقوب داخل الفكر الذي يحيط بنا من كل جهة. إن ثقوبًا ما داخل فكرة
«الغرب» هي التي تجعل تفكيرنا اليوم ممكنًا، في ذاكرته وجسمه السياسي وتقنيته. ثقوب
ميتافيزيقية هي شكل العدمية النشيطة التي تخصنا. هل الفكر في حرب؟ نعم ودائمًا. نحن نتفاوض
اليوم حول جغرافيتنا، غدًا ربما سيكون ممكنًا التفاوض حول ذاكرتنا وحول أوهامنا أيضًا.
ليس «الغرب» عدوًّا لنا؛ أعني ليس عدوًّا لأسباب أصلية، إنه يحمل أوهامنا نفسها تقريبًا،
لكنه يستخدمها ضدنا تمامًا. وبالرغم من أننا لن نفكر، وربما لقرن آخر، إلا في الأفق
النظري الذي سطَّره لعقولنا، إلا أننا نظل قادرين على الفلسفة كشكل ميتافيزيقي فظيع لقدر
الفكر، بما هو مقاومة لصورة العالم الحالي، الذي هو هيغلي أكثر من أي وقت. ولكن
المقاومة تعني أيضًا التضحية بجزء أساسي من ذاكرتنا الحالية؛ أعني بجزء أساسي مما نسميه
التراث وهياكل التفكير المشتقة منه.
ولكي لا تكون خاتمة هذا الفصل مجرد رجوع إلى السطر أو إلى الصمت والمسكوت عنه، فإنني
أقدم خاتمتي على شكل جملة من الأطروحات المنفصلة أو الشذرات:
-
(١)
ليس المطلوب اليوم معرفة هيغل مجرد المعرفة، بل التفكير معه وضده. فقليلون هم الذين
فكروا مع الفلاسفة بالرغم من كثرة العارفين بهم.
-
(٢)
الفلسفة ليست في ماهيتها حوارًا بل هي قدرة فذة على اختراع إمكانيات الحوار وشروط
تخصيبه بأسئلة تُربك وتُحرج أشكال اللافلسفة أينما طُرحت.
-
(٣)
هيغل اليوم إحراجٌ فكري أكثر منه مذهبًا أو موسوعة من المعارف. إن من يعرفه يكاد
يفكر، ولا يكاد يفهم امتلاءه الفظيع.
-
(٤)
إن الفلسفة لا تحل مشاكل غيرها، مشاكل لم تطرحها، ولا تتعلق بقدرها الخاص، إن
الفلسفة لا تنتج معرفة إلا بنفسها.
-
(٥)
إن التفكير مع الفلاسفة هو المهمة الأشد صعوبة وإحراجًا لمن يفكر. هو عبارة عن حوار
مستحيل معهم؛ فإن ما تبقَّى أمامنا هو بناء حوار مستحيل مع هيغل، أي محاولة التفكير معه
من
داخل مشاكلنا لا من خارجها.
-
(٦)
إن أي سوء فهم لهيغل يرجع في آخر المطاف إلى عدم قدرتنا على التفكير معه، في
الجهة التي مشى فيها، وبوسائل المعقولية التي بناها للفلسفة. وربما كان ماركس وهَيدغر
المثالين الوحيدين القويين عن مثل هذه القدرة على الحوار المستحيل مع هيغل، أي القدرة
على بناء إمكانيات جديدة للتفكير، دون الانحباس في حدود الإشكالية التي تفلسف في
نطاقها.
-
(٧)
نقصد بالحوار المستحيل محاولة التفكير مع الفيلسوف وضده في الوقت نفسه، وذلك بأن
نحاول تأدية الدور الذي كان يمكن أن يؤديه هيغل في المكان الذي لم يعد فيه ممكنًا.
-
(٨)
إن الفلسفة وليدة مستقبلها. إنها لا تبني سوى إمكانيات جديدة للتفكير. ليس هناك
فلسفة تأتي متأخرة إلا على سبيل الضحك الفلسفي. ليس هناك فلسفة تؤرخ للحاضر. إن مشكلة
الفلسفة ليس الحاضر، وإنما الإمكانيات التي تكسِّر منطق الحاضر وتربكه، لأنها مفتوحة
على
المستقبل على الدوام.
-
(٩)
الشكل الوحيد الممكن للتفكير منذ الآن هو بناء حقول مفهومية للمقاومة، ليس مقاومة
«الغرب» كعدو سياسي بل كنَموذج للكينونة مفروض على العالم الحالي. كذبة هي كونية الفلسفة
إذا كانت «الكونية» تعني «واحدية» الفلسفة. إن التفكير الممكن بالنسبة لنا كعرب معناه
أننا نملك مبدئيًّا حق اختلاف كوني عن «الغرب»؛ فالفلسفة كونية باختلافها لا
بواحديتها.
-
(١٠)
إنني لم أفكر بهيغل كدرس فلسفة بل كشكل ميتافيزيقي راهن للإنسانية الحالية كما
يتمثلها «الغرب»؛ إنسانية العقل الكلي الذي يحكم التاريخ العالمي انطلاقًا من أمريكا
كما توقع ذلك هيغل نفسه في دروسه الموسومة ﺑ «فلسفة التاريخ».
-
(١١)
ليس التفكير اليوم سوى صراع حول الاعتراف بين مكونات الكلي الحالي. ولذلك
فالتفكير بما هو مقاومة المفهوم لا يعني إقصاء الآخر وبناء حوانيت التراث في عقولنا،
بل هو
صراع من أجل اعتراف الكلي الحالي بنا كجزئية مستقلة وقادرة على إنتاج الحرية في أجسادنا
وعقولنا. إننا جزء من ماهية الحداثة الحالية للعالم سلبًا وإيجابًا. والفلسفة غير ممكنة
فينا إلا على أساس أُنطولوجية العالم الحالي: عالم هيغل.
٧٠