الفصل الثاني
جبران أمام نيتشه
أو النسخة العربية من العدمية
«الواقعة، وما أدراك ما الواقعة! «أن الإله قد مات» (…) قد بدأت بعدُ تنشر على
أوروبا غمامتَها الأولى.»
نيتشه: العلم المرح (۱۸۸۲م)
«(…) فقلت: وما اسمك؟
قال: الإله المجنون.»
جبران: العواصف،
فصل «حفار القبور» (۱۹۲۰م)
ولكن لماذا جبران دون سواه؟
ربما لأنه يقيم في الطرَف الآخر من القرن، يطالبنا إلى حد القِصاص، بمعنى هذا الجسم
التاريخي الذي يفصلنا عنه. وربما أيضًا لأن العصر العربي لم يبدأ أصلًا، وأن القرن
الحالي لم يكن سوى إحدى تقنيات الحداثة في مغالطتنا. كأن هذا القرن لن يمر إذن. وأننا
سنبقى سكانه الوحيدين في القرن المقبل. إن قرابة فظيعة بين طرفي القرن هي التي تبرر،
ومن داخل خريطة الحاضر نفسها، التلفت إلى لحظة جبران الفكرية، كحدث يكاد يُكرهنا على
إقامة تماثل رهيب بينه وبين ما يحدث لنا اليوم؛ بين بداية قرنٍ مريضةٍ تتكئ على حضارة
مفككة، ومعارف متبلدة، ومعقولية مهزومة، وعلوم منكرة، ونظام عقائدي أبوي وإقطاعي، وسلطة
تابعة، ونهاية لا تقل عن الأولى مرضًا وتفككًا وتبلدًا وهزيمة وبطريركية عنيدة.
إن تجرِبة جبران ليس فقط أنها لا تزال ممكنة بل ما فتئت تدعونا إلى الجهة نفسها وإلى
«العدمية» نفسها. أجل، ربما كان جبران هو أول مفكر عربي تَمثَّل فكرة العدمية بوصفها
المعنى الأُنطولوجي الأساسي لتجرِبة الإنسانوية الغربية في نهاية القرن الماضي، مثلما
أنه
القارئ العربي الحديث الأول لمفكر هذه العدمية الغربية بامتياز؛ نيتشه نفسه.
١ ونقصد بذلك أن أهمية جبران هي في كونه لم يقلد الغرب في موضاته الجامعية، كما يفعل
بعضنا اليوم، بل شارك في تجرِبة الحداثة كما تحددت داخل أفق المجتمع الصناعي وعَلاقات
القيم والسلطة والرغائب في بداية القرن الحالي وفي قلب هذا الغرب: أمريكا،
٢ مع اطلاع معين على تجارب الفكر والأدب في القرنين الحالي والماضي، من
تولستوي إلى وليام بليك،
٣ بالإضافة إلى معرفةٍ ما بالموسيقى (بتهوفن خاصة) والمسرح والشعر الكلاسيكيين
(شكسبير ودانتي وهوغو) والفلسفة (اسبينوزا ونيتشه).
٤
ونحن نحصر معنى «العدمية» هنا في حدود الاستعمال الذي فرضه نيتشه على كل فهمٍ لاحِقٍ
لهذا المفهوم،
٥ بما في ذلك فهم جبران نفسه: العدمية تعني بالتحديد شكلًا من المرض أو
الانحطاط الخاص بالحضارة الأوروبية في طور من تاريخها هو طور موت الإله
٦ وتقهقر القيم.
٧ فعن الحدث الأول تراجع كل معنى أُنطولوجي للحقيقة،
٨ وعن الثاني ارتكس كل طمع في تأسيس عالم المثال.
٩ إنها تدل بعمق على «أفول أصنام» الإنسان الكلاسيكي دفعة واحدة مثل الإله
والحقيقة والعقل والفضيلة والخير … إلخ.
فالعدمية بهذا المعنى ليست إرادة العدم، فليس ذلك سوى المسار الارتكاسي الشامل،
وتراجع فج للقوى المريدة. فإن كل شهوة للعدم بما هو كذلك، لا تؤدي إلا إلى عدمية منقوصة
ومزيفة، تلك التي لا تعدو أن تكون مبدأ الإبقاء على الحياة الكاذبة والضعيفة والدنيا.
وإن نفي الحياة هو مبدأ كل عدمية تنحو إلى حياة مرتكسة قد تحيا وتنجو وتنتصر وتصبح معدية.
١٠ أما عدمية نيتشه فهي عدمية «انتصرت على نفسها»
١١ من الداخل؛ إنها تدمير نشيط
١٢ لما هو ارتكاسي وسلبي فيها؛ إنها قوة العدم من جهة ما هي انتخاب موجب وفعَّال
للفكر.
١٣ وهي عدمية مكتملة لأنها جعلت من النفي سلبًا للقوى الارتكاسية نفسها. إنها
لا تبقي على الضعفاء بل هي تدفنهم في قبور الضعف التي ألِفوها.
١٤ وهكذا فإن معنى العدمية بعد نيتشه يمكن حصره في نقطتين: موت الإله من جهة،
وانحطاط القيم المصاحب لمثل هذا الحدث الرهيب في وعي أوروبا السِّرِّي. إنها تشخيص
ناقد لعصر فظيع هو نسيج من الضجر والكآبة وشهوة العدم والهوس باللانظام والانخراط القاسي
في
انتظار كارثة ما
١٥ في عالم تراجع عنه الإله، واستبدل أصنامه المتخلقة، بسيطرة فجة لقيم
الفردانية، في وقت انزاحت فيه كل أشكال التأسيس، من الذوق إلى قرارات السلطة، وغلبة
التصور التقني للعالم
١٦ وغياب كل ارتقاب جِدي للخروج من عصر العدمية.
وماذا نجد في كتب جبران سوى تشخيص لهذه العدمية، هو النسخة العربية من تجرِبة الحداثة،
كما عاشها الغرب نفسه في بداية القرن؟ فإن كتابه العواصف
١٧ عبارة عن قصيدة عدمية مطولة وتفكُّر رهيب بالعدم، من خلاله وضدَّه. إنه يطارد
عدمًا قيميًّا عنيدًا هو فقدان العرب لإمكانات الولادة والاختلاف واختراع الزمان الخاص،
والقدرة على دفع الجسد إلى
أقاصيه. أما ذروة هذا الحس العدمي فهي تنكشف لنا منذ الفصل الأول من هذا الكتاب العدمي
الأول في تاريخنا الحديث، وعنوانه: «حفار القبور».
١٨ لقد استبدل جبران مطرقة نيتشه
١٩ التي تكسِّر أصنام الحداثة، برَفْش لا يكسِّر بل يحفِر
قبورًا لأصنام الشرق، بعدما يئس حتى من تكسيرها. ومثلما فكر نيتشه على ضربات المطرقة،
فإن جبران قد جعل التفكير «مقبرة نشيطة»، تحتمل موتاها
العاجزين عن المشي إلى أكفانهم.
٢٠
والعدمية في «حفار القبور» لا تسكن العنوان فحسب، بل هي مبثوثة في كل ثنايا هذه الحكاية
الرمزية؛ من
فضائها إلى الزمن الداخلي، إلى الشخوص، إلى الأحداث، إلى تمفصلها العام، إلى فراغاتها
المحتملة. لقد اختار جبران أن تكون هذه الحكاية في «وادي ظل الحياة المرصوف بالعظام
والجماجم … هناك على ضفاف نهر الدماء والدموع …»
٢١ وأن يتم ذلك في «… ليلة حجب الضباب نجومها وخامر الهول سكينتها.»
٢٢ فالعدم عالق إذن بفضاء هذا النص وزمانه الخاص، أما أول حدث فيه فهو وحدة
المفكر ووقوفه «مُصغيًا لهمس الأشباح، محدِّقًا إلى اللاشيء.»
٢٣ ليس أمام المفكر سوى «اللاشيء» المختلط «بالأشباح»؛ فليست العدمية إذن سوى
شرط إمكان ما سيحدث لمن يفكر، حين يقطع عَلاقاته الأمبريقية مع تجار النهار لينكشف أمام
أسئلة الليل.
٢٤ هي عزلة المفكر العربي في بداية القرن، عزلته أمام العالم، ولكن أيضًا أمام
نفسه. فالمفكر نفسه يعاني من كونه شبحًا بطريقة ما، ولذلك ينتهي جبران إلى تحويل النص
إلى حوار بين المفكر وشبحٍ «جبار مَهيب»
٢٥ انتصب أمامه فجأة، كأنه الفكر نفسه قد صار شبحًا مخيفًا لنفسه في عالم لا
أفكار فيه، ولا مكان فيه لمن يفكر.
أما بُنية هذا الحوار فهي كالتالي:
-
(١)
حول إمكانية الحوار نفسه.
-
(٢)
حول «الاسم» الذي يحمله المفكر عن نفسه.
-
(٣)
حول المهنة (نظم الشعر ونشره وطرح الآراء على الناس) واستبدالها بحفر القبور.
-
(٤)
حول الزواج وضرورة مفارقة ما هو مرئي من المرأة.
-
(٥)
حول الإله والمعنى الأخير لكل ديانة.
-
(٦)
مهمة حفر القبور وحدودها.
قد تبدو مدفوعات الحوار عادية، لكن نوعية الأجوبة التي يدفعها الشبح إلى مخيلة الكاتب
هي التي تثير دهشة الفكر أمام إمكانياته وقدراته على كسر التقاليد التي تأسره وتستعبده.
لقد كان من الصعب في البداية أن يقبل بالانخراط في محاورة الأشباح ما دام يسميها كذلك.
إن بنية الفكر الأولى هي الوحدة والذعر والخوف؛
٢٦ أوصاف يصر جبران على تلبيسها للفكر كأنه يصف حالة المفكر العربي آنذاك. لكن إمكانية
الحوار مع الشبح،
أي بكلمة واحدة، مع «العدم» نفسه وقد تحول إلى إمكانية للفكر، لم تصبح واقعًا إلا عندما
عرَف المفكر أن سبيل الفكر ليس سوى سبيل هذا الشبح الجبار الثاوي فيه.
٢٧ فسبيل الفكر أن يمشي إلى الشبح النائم فيه. عليه أن يذهب إلى حيث هو لكي
يفكر. الفكر يخاف الفكر، ويخاف خوفه.
٢٨ إنه لا يصطدم بخوف غريب عنه، بل هو يحمل إمكانية الخوف والوحدة فيه. خوف
الفكر ووحدته هي قدره الداخلي، ويجب عليه أن يكتشف «الشبح الجبار» النائم فيه لكي يتحرر
من كل خوف ومن كل وحدة. لكن وجود الفكر رهين قدرته على «إخفاء» خوفه وإنتاجه للأقنعة.
٢٩
ولذلك، فإن الشبح يسخر من المفكر ويدعوه إلى الكشف عن اسمه، وإننا لنعثر هنا على
تجرِبة
طريفة في تفكيك ميتافيزيقا الاسم العربي الإسلامي
٣٠ في بداية القرن الحالي. قال: «اسمي عبد الله، فقال: ما أكثر عبيد الله وما أعظم متاعب
الله بعبيده. فهلَّا دعوت
نفسك سيد الشياطين (…)»
٣١ لقد رأينا أن الحوار لم يبدأ بالاسم بل بالخوف والنفور، ولذلك كان لا بد من
استبعاد ذلك الخوف بإقامة ميتافيزيقا الاسم بينهما. ولكن لماذا جاء السؤال عن الاسم
متأخرًا؟ إنه لا يمكن للاسم أن يكون في البداية ما دام المسمى نفسه متأخرًا عن اسمه،
وما انفك هذا الاسم نفسه جاهلًا للميتافيزيقا التي يتضمنها؛ فإن اسم «عبد الله» عبارة
تحمل في بنيتها ميتافيزيقا الاسم العربي الإسلامي كلها، أي تستند إلى نظام إسماني معين،
وشكلٍ ما من العَلاقة مع الإله، هما شرط الإمكان والوجود لمعنى الاسم وقيم المسمى. فأول
عَلاقة مع الإله في وعينا تتم سلفًا من داخل الاسم. ربما كانت تلك خاصية أنثروبولوجية
تميز الاسم العربي الإسلامي بما هو اسم يحمل في بنيته عَلاقته بالقدر
الداخلي لوعيه؛ الإله معلم الأسماء ونحوها. ولكن لماذا «عبد الله» ولِمَ لا «سيد
الشياطين»؟
إنه هنا بالتحديد ستبدأ عملية تجريد الاسم من ميتافيزيقاه، ويصطدم المفكر
بشكل جديد من الاختلاف مع اسمه لم يكن يعهده، فطفِق يدافع عن اسمه كأنه يدافع عن الميتافيزيقا
التي جعلته ممكنًا.
قال: «(…) هو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي فلن أبدله باسم آخر.»
٣٢ هكذا تنكشف لنا عَلاقة المفكر بتراثه عندنا على أنها عَلاقة «ميراث» أول
وأصلي مشفوع ﺑ «لن» دغمائية وتراثية مَقيتة. بين الإله والشيطان يقبع الاسم، لكنه يعاني
من فجوة ميتافيزيقية واحدة هي غياب المسمى نفسه. لقد علَّم الشبح المفكر أن المشي إلى
نفسه داخل الإله أو داخل الشيطان، أي «كعبد» أو «كسيد» لا يغير شيئًا من ميتافيزيقا
الاسم الذي يحمله عن نفسه؛ ميتافيزيقا الاسم-الميراث و«لن» التراثية العنيدة.
٣٣ فالأب موجود في الاسم، وليس المسمى (الابن) سوى مطية لبنية الاسم، خارجي
وزائل. إنه متأخر عن اسمه لأن من سمَّاه حمَّله ميتافيزيقا سابقة عنه، لكنها تعمل فيه
بشكل قدري لا مناص من قلبه.
وليس حال الاسم مختلفًا عن حال «المهنة»، فإن صناعة «نظم الشعر ونثره وطرح آراء على
الناس»
٣٤ إنما هي — كما يقول الشبح — «مهنة عتيقة» بالإضافة إلى أنها «مهجورة لا تنفع الناس ولا
تضرهم.»
٣٥ إنها مهنة تصوِّر المفكر التقليدي كنمطٍ مخصوص من العَلاقة يبنيها الفكر-التراث مع رؤية
العالم التي تسود في مجتمعه. ونحن سنحاول هنا أن نفكر بذلك من خلال سؤالين:
نؤكد بدءًا أن من يفكر وهو متشبث بميتافيزيقا
لم يشارك في صنعها، بل ورثها كاسم أول لنفسه، لا يمكن لفكره أن يكون جديدًا أو راهنًا،
أي نشيطًا خارج حدود الميتافيزيقا التي أنتجته.
٣٦ وهكذا فالفكر محكوم عليه بأن يكون «مهنة»، أي صناعة تجد قيمتها خارجها، وفي
سوق اجتماعية حددت وظيفتها ونمط عملها، إذا هو بقي عاملًا رديئًا في مَكِنة التراث الذي
يحكمه دون أدنى تساؤل جِدي حوله؛ أعني إذا لم يكشف عن قدَره الخاص؛ الحرية. فحرية الفكر
٣٧ إنما هي الدليل العنيد على أنه قدَر نفسه، وليس امتهانًا خارجيًّا لهذا القدَر.
وكما لا يمكن للقدَر أن يكون مهنة، كذلك الفكر. فالفكر قدَر نفسه.
٣٨
أن يكون الفكر «مهنة عتيقة ومهجورة» معناه أنه تحوَّل إلى امتهان مقطوع عن
الحاضر فيه، وعَتاقته هي الوجه السيئ والكسول من التاريخية. إن ذلك هو الثغرة المنهكة
التي يحددها جبران في الفكر السائد: غياب العصر عنه، وفقدان ما يدعو الفكر لأن يكون؛
أعني عَلاقته بما يحدث من خلاله وضده، بوجوده اليومي. فالفكر إذا لم يكن مهنة العصر،
أو
العصر نفسه وهو يفكر، يتحول إلى مَكِنة قبيحة لا تثير شهوة العالم نحوها، فلا تقدر على
أن
تجرَّه إلى قيمها ولا أن تشرِّع له. الفكر «مهنة عتيقة ومهجورة» عند العرب، معناه أنهم
لا
يفكرون بعد. وما يدعوهم إلى التفكير لا يزال محجوبًا عنهم، ولذلك ليس ما يدعونه فكرًا
سوى تَكرارٍ كسول لتقاليد، هي في الحقيقة بطالة الفكر نفسها،
٣٩ لا تقوى على ولادة العصر أو توليد نفسها؛ أعني أن تحدث بالعصر الذي جعلها ممكنة.
ولذلك فمن يفكر لا بد له أن يقبع خارج حدود النافع والضار كما تتمثلهما سوق الحاجة
اليومية، في عالم لا يفكر. بَيد أن جبران يصر على لسان «حفار القبور» على القول: «(…)
ما عساي أن أفعل بأيامي ولياليَّ لأنفع الناس؟»
٤٠ فلا يمكن بالتالي أن ينقطع الفكر (رغم
لاراهنيته) عن الإنيَّة التي يعمل فيها، وعن البشر التاريخيين أنفسهم.
ولكن كيف يجتمع الفكر بالآخر التاريخي للفكر، فينفعه ويعضده، دون الانحباس في دائرة
الحاجة اليومية التي تحكمه؟
٤١ هنا بالتحديد تكمن الإجابة العدمية لجبران، قال الشبح: «اتخذ حفرَ القبور
صناعةً تريح الأحياء من جثث الأموات المكردسة حول منازلهم ومحاكمهم ومعابدهم.»
٤٢
لا بد أن نشير إلى أن قدَر الفكر هو أن يبدأ دومًا من داخل زمان ما. وهذا الزمان
وإن
كان في ظاهره زمانًا فرديًّا، فهو في تناهيه زمان تاريخي بالضرورة. إنه زمان العصر نفسه،
زمان أمة ما ولغة ما.
٤٣ ولذلك لا بد من ظهور الفكر في شكل «المهنة»، أو على الأقل في مظهر «ما ينفع» وما «لا
ينفع»، داخل عصر ما.
٤٤ وهكذا ليس على الفكر أن ينقِّب عن موضوعاته خارج الزمان «اليومي» له، بل عليه
أن يتسمَّر أمام الزمان اليومي ذاك، وأن يحبس نفسه في القدر الذي جعل ذلك التناهي اليومي
ممكنًا وتاريخيًّا. إن مهمة الفكر إذن هي
تاريخيته؛ أعني ولادته داخل الأُنطولوجية اليومية التي لا يحدث إلا من خلالها وضدها،
ولذلك فإن الشبح في مقالة «حفار القبور» يدعو الفكر إلى الانقطاع عن «نظم الشعر ونثره
وطرح آرائه على الناس»، أي أن يكف عن إنشاء أنظمة أخرى للعالم الذي هو حدهم
الفعلي، واستيهام أقدار أخرى لانحطاطهم واستصلاح حجر إضافي لقبورهم، وأن يبطل إنتاج الأجوبة
المهزومة عن أسئلة ماتت. ففي «المنازل والمحاكم والمعابد»، أي حيث يلتقي الناس بأنفسهم
وبالسلطة وبالمطلق، يقبع الموت، كأن العدمية تاريخ سري للأشياء أيضًا. فمن يفكر مطالَبٌ
إذن بأن يطارد العدمية في جسده؛ أعني في طريقة استعباد روحه داخل سُلَّم قيمي ما، وفي
دولته، أي في شكل الهيمنة على قوة الحياة فيه بفعل نظام سلطوي ما، وفي معبده، أي في
عملية تدجين حب المطلق فيه بعبادة هذا «الإله أو ذاك».
٤٥
فالفكر عند جبران جوع نادر إلى قتل هذا العدم النائم في كل ركن بشري؛ هذا
الموت الميتافيزيقي الذي يسبق معرفة كل منا لنفسه وقيمه ودولته و«آلهته».
٤٦ إن أفظع حالة فكر هي تلك التي تدفعنا إلى مقاومة موت حضارة أو أمة كاملة؛ هذا
الموت الميتافيزيقي والتاريخاني
Historial الفظيع.
ولكن من رأى جثة أمة كاملة ملقاة على وجه العالم؟ إن «عين الوهم»
٤٧ تنقذنا دومًا من رؤية الجنازة التي نشارك فيها منذ الولادة. فإن جبران قد دفع بالفرق
بين
الأحياء والأموات إلى حدوده المجنونة؛ حدود «العاصفة» حيث يلتبس الفكر بإرادة الحياة
كآخر مطلب له أمام نفسه. إن هاجس العاصفة يفرض على الفكر حالة ارتحال ودُوار لا توقفه
أسباب «الاستمرار».
٤٨ الفكر لا يتزوج سوى نفسه، والعاصفة النائمة فيه إلى حين. لذلك قال الشبح:
«إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار.»
٤٩ فليس موقف جبران من الزواج في هذه المقالة تلخيصًا لتجرِبة شخصية، بل هو
الوجه التاريخي لسؤال المجتمع، حين ينطرح من داخل المفكر نفسه، وبه وضده.
إنه لا يدعو إلى حل المدينة وزرع الغاب في خلايانا، بل هو يفتح العقل نفسه على
إمكاناته المحصورة في إرضاء الشرائع وبناء المقابر لطوابير الأحياء بصدفة
بيولوجية الهدم.
٥٠ إذن ليس نزوة العقل ولا فشله أمام ما هو لاعقلاني فيه؛ إنه القدرة على
الحلم داخل التاريخ نفسه ومعه وليس خارجه. ولذلك فإن الشبح لا يدعو حفار القبور إلى إهمال
أطفاله، بل بالعكس إلى «تعليمهم» حفر القبور، وتحريرهم من أبوته نفسها.
٥١ فالطفل عند جبران
٥٢ ليس مِلكًا لأحد، ولا تحكمه أو تحصره أية أبوة مزعومة. كذلك فإن الشبح لا
يأمر حفار القبور بإقصاء المرأة عنه؛ إنه يطالبه فقط بأن يخرج إلى ما وراء المرأة، إلى
هامشها وإلى ما لا يُمس فيها.
٥٣ إن ذلك عند جبران هو الولادة خارج جنازة العاجزين عن الموت والعاجزين عن
الحياة. فليس حضور المرأة بهذا الشكل سوى الدعوة إلى الهجرة عن «المرئي»
٥٤ الذي تكون «المرأة» فيه هي المعنى الوحيد لما يرى. فإن ما لا يُرى هو ما هو
لانسائي فيها؛ أعني ما هو قدري ومقدس.
٥٥ فالتفكير يبرز هنا كخروج عن «المرئي» ودفع للمرأة خارج ما هو نسائي فيها،
وولادة القيم على حدود «الجن»؛ أعني المشي بالعقل إلى «جنونه» الذي يخفيه دائمًا كحالة
كاذبة من نفسه.
٥٦
ففي عقل «العاصفة» لا ترقد الحياة في دهر من الورق، بل تلد كل مرة «ينقرض فيها
الأموات الذين يختلجون أمام العاصفة ولا يسيرون معها.»
٥٧ ليس الفكر سوى عاصفة ذاته. فإن هو تراقد عن «جنونه» صار نزوة فارغة لنفسه، عاجزًا عن
تاريخه.
ولكن من يجرؤ على الفكر إذا هو صار «عاصفة» لنفسه لا يرتضي سكنًا سوى «الوادي … المرصوف
بالعظام والجماجم …»
٥٨ ولا يقبل مهنة سوى «حفر القبور»؟
٥٩ من يفكر حين يكون التفكير مِقصلةً لنفسه، وليس إيمانًا بأحد؟ لذلك ظل الشبح يسأله: «وما
دينك؟»
٦٠ فمن يفكر لا ديانة له سوى «العاصفة»، ولا يقين له سوى عدد الموتى في كل
مرة. وحين رد حفار القبور بأنه «يؤمن بالله ويكرِّم أنبياءه ويحب الفضيلة وله رجاء بالآخرة»
٦١ كان جبران يمارس حفر القبور على جسد التراث العربي الإسلامي في جملته؛ فليس
الرد سوى الميتافيزيقا الوسيطة التي تخصنا، ثاوية في «ألفاظ مرتبة»؛
٦٢ هي ديانة الإنسان، «يعبد نفسه، ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف ميوله وأمانيه، فتارة
يدعوها البعل وطورًا المشتري وأخرى الله.»
٦٣
ولكن أين الإنسان في كل هذا؟ ومتى يصبح ممكنًا اختراع الآلهة؟ وما معنى أن نفكر داخل
أو بدون تراث ما؟ ليس الإنسان سوى صفة لاختراعاته وأوهامه. الإله نفسه ليس صفة
لأحد؛ إنه أحد أسماء ذات لا بدء لها سوى «الرغبة» في البقاء داخل الإنسان نفسه، رغبة
هي «ميوله وأمانيه»
٦٤ نفسها. أما ما عدا ذلك فلا إمكانية إلا للضحك. لذلك قال جبران: «ثم ضحك
فانفرجت ملامحه تحت نقاب من الهُزء والسخرية وزاد قائلًا: ولكن ما أغرب الذين يعبدون
نفوسهم، ونفوسهم جيف منتنة!»
٦٥ إن الموت لا يسكن أجسادنا فقط، بل قيمنا أيضًا، بل قل إن من يولد وهو يجهل أنه ينتمي
إلى تاريخ قيمي ميت يضيف إلى ميتة
جسده ميتة أكثر دقة؛ ميتة العصر الذي سقط منه سلفًا.
٦٦
وعند ذاك الانكشاف أمام إله «يهزأ» من عبادة «النفوس المنتنة» يصبح السؤال
الأداةَ الوحيدة المتبقية لمعاندة أحب الآفاق التي تولِّد الفكر: «الحيرة» أمام «ما هو
أغرب من
الحياة وأهول من الموت وأعمق من الحقيقة.»
٦٧ ونحن نورد الحوار في المفصل الذي يهمنا قال: «(…) صرخت قائلًا: إن كان لك رب فبربك قل
لي من أنت؟
قال: أنا رب نفسي.
قلت: وما اسمك؟
قال: الإله المجنون.
قلت: وأين وُلدت؟
قال: في كل مكان.
فقلت: ومتى ولدت؟
قال: في كل زمان.
فقلت: ممن تعلمت الحكمة (…)؟
قال: لست بحكيم، فالحكمة صفة من صفات البشر الضعفاء، بلى أنا مجنون قوي (…)».
٦٨
أما العمل «اليومي» (إذ لإله جبران حياة يومية أيضًا!) فهو «التجديف بالشمس» في الصباح،
و«لعنة البشر» في الظهيرة، و«السخرية من الطبيعة» في المساء، و«عبادة نفسه» في الليل.
٦٩ أما طعامه فهو «أجساد البشر»، ولا شبيه له إلا «الزمان والبحر».
٧٠ وحين حاول جبران أن يسأل هذا «الإله المجنون» أكثر، وأن يمهله، قال: «إن
الآلهة المجانين لا يمهلون أحدًا.»
٧١ ولأن العدمية لا تُمهل الفكر، كانت الحاجة إلى أن يصبح المفكر «حفارًا للقبور»،
و«ملحدًا» للأموات، طلَّق «الزوجة» لكنه تزوج «المرأة»، وعلَّم أطفاله الحفر والدفن.
لكن
الأموات كثيرون، والفكر محكوم ﺑ «الوحدة» وبإسعافٍ لا يأتي من أحد.
٧٢ فإن التناهي قدر الفكر، وليس يحمِّل الفكر تناهيه سوى طرد «المغيوب»
٧٣ وامتشاق السؤال الذي يزيح ميتافيزيقا الغائب، ولا يفلح أي دين في تحميله صك توبة مزعومة.
إن جِدة جبران هي في كونه أزاح فكرة الإله كما تسود في عقل الشرقي وفي
خياله. أما إله جبران فتُشكِّله «السخرية من العالم»، والضحك بدل العقاب، والجنون مقابل
الحكمة؛ إنه إله غير بشري إطلاقًا يحاول أن يفتكَّ إمكانية لا أخلاقية ولا دينية لوجوده.
ولأن الحكمة صفة بشرية
٧٤ فقط، فالإله الذي يرتسمه جبران لم يلاقِه في معابد الشرق، بل عثر عليه في
إزاحة مرحة لصورته «الدينية»، حيث يكبر في الفكر حسٌّ يومي بألوهية قُدَّت من لعنة البشر،
والتجديف على الكواكب، والسخرية من الطبيعة، والالتواء على ما يتبقى من جنونه؛ آخر
فضائله التي لم تفلح الأديان في طمسها وإخصائها. هو إله لا يجد له نظيرًا إلا في الزمان
والبحر، أي في «اللانهاية» التي تحبذ طعامًا يوميًّا واحدًا؛ أجساد البشر العاجزين عن
الموت في كل مرة. الإله عند
جبران هو أيضًا الزمان الذي يتفلت من ضوابط آلة الوقت الإنسي البليد، وهو أيضًا البحر
الذي ينبجس من صخر الجسد البشري الذي يبِست فيه أملاح الرغبة ويئس منه الحلم.
٧٥ ولذلك هو إله لا يُمهل «السؤال» البشري.
٧٦ فمن يسأل يرتهن مسئولَه في منطقة ما من المعقولية؛ الطمع في شكلٍ ما من «التفاوض» حول
العالم، وفي صورةٍ ما من البشرية، بشرية لا
تكون مخزنًا من العقائد، وطابورًا من الحقائق الميتة، دفعت بفرضية الإله إلى تخومها،
فصار الإله نفسه مقبرة غضة لجثث العاجزين عن الإيمان بأنفسهم، أعني بزمانيتهم
وتناهيهم.
فليس «حفار القبور» أجيرًا للعدم، ولا يحوي في عقله أي مساومة حول الحياة، بل هو
التابع الوحيد لإله فقد شهوة النظر إلى عالم محشوٍّ بحكمة ميتة، قُدَّت من عبودية الاستمرار،
والتعود على رائحة الموتى. ومن يحفِر القبور يعرف جيدًا الطريق إلى قبره، ويتقن إلى حد
الندم لعبة اختلافه عن الله. هو الذي أيقن أنه ما من مفر من تمثل العالم الشرقي كمقبرة
موسعة
لبشرية أو شكل من البشرية ما عادت تذكر طريقها إلى نفسها. ولا يجد جبران وجهًا ممكنًا
لمن يفكر في عصر «جنون الإله» (كرد عربي على فكرة «موت الإله» الأوروبية) سوى التحول
إلى حفار للقبور، كآخر مهنة تسمح بتعاطي الفكر كنوع من القتل أو الدفن أو الركض مع العاصفة
٧٧
وفكرة «العاصفة» خاصة جدًّا عند جبران؛ إنها المجاز الداخلي لفكره، العاصفة هي البديل
عن
مدينة الإله البشري الحكيم حيث تنحبس أجساد البشر الباردة في مخازن الفقه. أما العاصفة
فتظل ربَّة الإله المجنون، الذي أزاح القداسة كصفة بليدة ومهزومة، واستبدلها بخاصية القوة
كآخر فضيلة لإله لم يمت. إله جبران إله عربي ليس في نيته أن يموت كإله أوروبي يتغذى من
عدمية فقدت القدرة على الخرافة. إنه عربي لأنه ومنذ البداية — أي حين كان امرؤ القيس
ملِكًا ضِلِّيلًا — كان يدق أوثانه في اللغة، ويخفي أقفال اليوم التالي في قلب جِنِّيَّة
هي صاحبة
الشعراء جميعًا. ليس في تراثنا أنصاف آلهة، بل هناك دومًا جِنِّيَّةٌ ما تفلح في ولادة
الشعر
في كل مرة. ولذلك اقترح الشبح على حفار القبور أن يتزوج جِنِّيَّة
٧٨ ترفع شهوته إلى لذَّتين: تلاشي المرأة من جسده، وقتل الزمان المتصل بقوة الاستمرار …
المرأة بما هي جدار يحد رغبة الفكر، والاستمرار بما هو تَكرارٌ كسول للحياة، صفتان
لزواج قبيح بهذا العالم. هذه هي طريقة جبران في بسط ألوهية لا دولة لها، ولا تقيم في
المعابد، ولا ترهن معنى العالم
في وصايا سُنَّت من داخل تصورٍ ما لأجساد النساء؛ ألوهية لا تقيم في المعابد بل هي مشتقة
من الجنون، أي من الرغبة في الخروج إلى ما وراء المعقول الشرقي، وإلى هوامشه وموانعه.
الجنون هنا هو
المعنى العربي للتفكير خارج قرون الانحطاط، وشكل الانعتاق المرجو من عَلاقات المعرفة
والخطاب والاعتقاد، كما تحددت في تاريخ قيمي وسلطوي هو المحصلة النهائية للشرق كرؤية
للعالم.
إن خصوصية فكرة «الإله المجنون» عند جبران هي أنها الشكل العربي لموتة الإله في
أوروبا. لذلك فمن يفكر ليس عليه أن يدحض آخر معاقل ألوهية ميتة، بل أن يمتشق الوسيلة
المرحة لإله مجنون وساخر، حفر القبور حتى تصبح «الإنسيَّة» نفسها ممكنة. الإله في فكر
جبران لم يمت كصنم من الحلوى — في أوروبا من الورق، وحس عدمي بالقيم، كما يلخص ذلك نيتشه،
داعية موتته تلك، كآخر حدث عظيم لتاريخهم القيمي
٧٩ — وإنما هو إله جُنَّ، تعِب من الاعتقاد فيه، وملَّ ألوهية حبيسة «ألفاظ رتَّبتها
الأجيال الغابرة ثم وضعها الاقتباس بين شفتَيْ»
٨٠ كلٍّ منا. جنون الإله يكشفه جبران كثالوث ملحد بكل ديانة لا تقوى على الإلحاد
بنفسها؛ جنون ضد لغة لا تكون سخرية من الأشياء، وضد تاريخ مشتق من النسيان، وضد حياة
تقتبس الألوهة من عادات موتاها. ولذلك فإن مهمة الفكر مثلثة ومعاندة: إنها التحرر من
ألفاظ لا تلد كل مرة، ومن أجيال لا تلد كل مرة، ومن تاريخ لا يحدث كل مرة؛ أعني من شفاه
لا تنقال كل مرة فيما تقوله عن نفسها.
«حفار القبور» هو الصحابي الوحيد لهذا الإله المجنون الذي شكَّله جبران لنا بالاستناد
إلى الملامح العربية لشكل من العدمية على الطريقة الشرقية؛ عدمية يسكنها الموت بقدر ما
تعمل على دفنه وتطهير الأجساد من رائحته الكريهة. إن عدمية جبران هي رأيه في الإله والمرأة
معًا. على الفكر أن يهاجر خارج «سعادة» الاستمرار، كما أن عليه أن يطرد أسطورة
الغائب، فيكشف عن «الحاضر» نفسه؛ الإنسان. وبين الطرفين هناك الاسم الذي يتعدد (البعل،
المشتري، الله …) داخل إنسانيته، كفكرة لا تقيم في الخطاب، لأنها الإنسان
نفسه. لذلك فإن «الضحك»، شكل من الضحك المحرج، هو حدود الإنسان، وتهمته إلى الأبد، طريقةٌ
ما
تجعل من حفر القبور ممكنًا، خارج الله، ما دام الإنسان هو المجال الوحيد لنفسه.