الفصل الثالث

جغرافية العقل اليومي

أو من يتفلسف في الفضاء العمومي؟

«إن حياتكم اليومية هي هيكلكم وهي ديانتكم.»

جبران: النبي (۱۹۲۳م)

«المَوْجِد هُمْ، في الأول والآخر.»

هَيدغر: الوجود والزمان (۱۹۲۷م)

(١) توطئة

(١-١) ما هو «العقل اليومي»؟

قد تضطر هذه العبارةُ متقبِّلَها إلى قول كلامٍ مدخولٍ لِمَا تثيره من إشكال ومسألة. بَيد أن استهجان المرء لاقتران كهذا بين «العقل» و«اليومي»١ إنما لا يعدو أن يكون تعهدًا بسنَّة في الاصطلاح ليس ما يدعو إلى الاقتصار عليها دون غيرها، إلا أن يكون ذلك ممنوعًا بمانع غير فلسفي في أصله. فنحن نفترض أن هذا الضرب من الإعراض قد يكون، فيما يكون، خضوعًا لما هو معهود ومستقر بعد. وليس ذلك إلا الاحتكام الملتبس إلى ما هو «يومي» وقد تصيَّر «عقلًا» حاكمًا ومشيرًا.

وإن مطلوبنا هنا إنما هو أن نزج بالفلسفة إلى حيث هي دائمًا، ومنذ بَدْأتها، في حقل اللافلسفة. فليس ما هو يومي إلا ما هو لافلسفي في كل عقل؛ أعني اقترانه باللاعقل، ليس على سبيل النفي والتبكيت، وإنما خاصةً على وجه الارتباط الاضطراري ﺑ «الفضاء» الذي تظهر فيه الفلسفة، أيَّة فلسفة، بما هو «الفضاء العام» أو «العمومي» الذي لا يوجد الفيلسوف خارجه. وإذا كانت تجارة الاصطلاح المحض في مفهومات الفلسفة، رائجة، بل يكاد يقتصر عليها، بحيث لا يُحدُّ العقل إلا بما هو مدرسي فيه، فإن المتجر الذي نطلب هنا إنما هو متجر العقل اللافلسفي الذي يَهَب الفلسفة فضاءً هو لها إمكان أساسي للخطاب وخارطة للتخييل، واختبار لما تستطيعه وما لا تستطيعه الحقيقة.

وهكذا فنحن لا نقصد، ها هنا، مسألة تعرضها الفلسفة فيما تعرضه مما تعتد به وترجع إليه، على أنه قوامها الخاص بما هي كذلك، بل مسألة تُعرض عنها الفلسفة لأنها من قبيل ما هو «عامي» وما هو من شأن «الجمهور» وما تتقوم به أمور «اليومي» في اجتماع ما. لذلك فإننا ننطلق في هذا المقال من تفحص لأشباه «العقل اليومي» والتنبيه إليها، وذلك قبل أن نطمع في تحديد ماهيته الخاصة. فإن ﻟ «العقل اليومي» أسلافًا اصطلحها الفلاسفة أنفسهم، وإنه لا يطمح المرء إلى تناول هذا المفهوم على وجهه إلا بعد أن يقف على ما اختبروه قبله وفكروا به فنقول: إن «العقل اليومي» إنما هو أقرب إلى معنى «الحس المشترك» ليس بما هو قوة معرفة، وإنما بما هو أسلوب حكم معمم، أو قوة رأي في الفضاء العمومي. ونحن نُرجع هذا المعنى إلى ما أثبته كانط في الفقرة الأربعين من نقد ملَكة الحكم بكلامه عن «الذوق بما هو ضرب من الحس المشترك». فإنه يقرر في هذا الموضع بأنه «حيثما يقدَّم أثر ملَكة الحكم على فعل التفكير، يسمَّى ذلك باسم «الحس».» (كانط، نقد ملَكة الحكم، v، ۲۹۳).٢
ولكن ما معنى «المشترك»؟ ينبه كانط إلى ما تنطوي عليه هذه اللفظة من الغموض والإحراج، عندما تُطلَق على الذهن الإنساني نفسه؛ لأنه يصير بذلك موصوفًا بما هو «عامي»، أي «ما يصادف لدى الجميع ولا يُحسب تملكه فضلًا لأحد.» (كانط، نفسه، v، ۲۹۳).٣ ولذلك، فإن ما يوجهنا الآن هو السؤال التالي: بأي معنًى يمكننا أن نأخذ «الحس المشترك» على أنه «عقل يومي»؟ بحيث إن «الخصائص الصورية» (كانط، نفسه، v، ٢٤٥) التي يدعونا كانط للاحتكام إليها في كل استعمال للحس المشترك إنما ستئول إلى بنية «العقل اليومي» بما هي ضرب من «الذوق» الذي لن يقف بأي وجه عند عتبة الاستطيقا. وإنما ينزع إلى الاشتغال في مواضع اليومي بكل تعقيداته الحديثة. أما ما نكتفي به في هذا المقام فهو أن نفهم من معنى العقل اليومي «فكرة حس جماعي» Die Idee Eines Gemeinschaftlichen Sinnes (كانط، نفسه، v، ۲۹۳)،٤ مستقر بعدُ في الفضاء العمومي ويقترن في ماهيته بنمط التمثيل السائد لدى كل سكان دولة ما. فإننا لا نأخذ الدولة هنا كجهاز بعينه، بل كخارطة قُوًى، ترتسم نشاطها في فضاء عمومي قابل للوصف.
لكن هذا الفضاء العمومي هو أكثر من فضاء، إنه «جغرافيا» سرية لِمَعانٍ أساسية يحتكم إليها هذا العقل اليومي، ويعمل بمقتضاها. كيف يعمل هذا العقل اليومي وما طبيعة الفضاء العمومي الذي يؤسسه؟ يشير هذان السؤالان إلى صعوبة مزدوجة وجدنا أن حلها إنما يكون بالرجوع إلى مصدرين فلسفيين لهما ما لهما من الأواصر الدقيقة مع كانط، ألا وهما هَيدغر وهابرماس. فإن هَيدغر قد كشف في الفقرة السابعة والعشرين من الوجود والزمان عن مفهوم «الهُمْ» Das Man بوصفه خطاطة فينومينولوجية للعقل اليومي (هَيدغر: الوجود والزمان، ص١٢٦–۱۳۰).٥ كذلك فإن هابرماس هو الذي أنشأ مفهوم «الفضاء العمومي» من حيث هو المجال التاريخي الذي يكوِّن «الرأي العام» (هابرماس: الفضاء العمومي، ص٦١–٧٤) ويحكمه.٦ وخلاصة ذلك أن العقل اليومي إنما هو جهاز «الحكم» Jugement العمومي الذي يشتغل ويسود كضرب من البنية الذهنية المشتركة. فيسيِّر منطق الأحكام الشائعة والمسبَّقة بوصفه عقلانية يومية. فالأمر لا يتعلق هنا بملَكةٍ محضٍ ولا ببنية نظرية مجوهرة ولا ضمير، بل بمنطق الفضاء العمومي الذي يتحرك فيه المواطن ويخضع له، ويحكم بواسطته، ويفكر على حدوده. وإنما يعني ذلك أن العقل «العربي» الحالي، مثلًا، ليس لائحة متعالية مؤلَّفة من «البرهان» و«البيان» و«العرفان»، وإنما هو جهاز مكون من مفعولات النزاعات الرمزية التي تتم في الفضاء العمومي. ونحن نسمِّي نزاعًا رمزيًّا، كلَّ نزاع حول العقل اليومي للمواطن؛ أعني ما كان مطلبه امتلاك عجلات جملة من الأجهزة التي صارت بؤرًا متباينة لاصطناع العقل اليومي وتوجيهه واجتذابه. وليست تلك الأجهزة إلا بُنَى الفضاء العمومي، بل بُنَى العنصر العمومي بما هو كذلك، ومن جهة ما هو مصدر كل ضرب من المشروعية.

(١-٢) ما هي حدود العقل اليومي؟

إن دراسة العقل اليومي لا تتطلب منا عملية استنباط سعيدة لمقولاته. فإن الحاجة التي تقودنا لم تعد تصاعدًا إلى عقل محض معتاص عن كل عامة، أو في شغل طبيعي عما هو عمومي، بل إن المطلوب ها هنا إنما هو رسم جغرافية هذا العقل اليومي، بتشخيصه ووصفه في ماديته وخارطته الحالية، بوصفه نتاجًا دقيقًا لنوع من النزاع على المشروعية في الفضاء العمومي. وإذا كانت الجغرافيا تعني عادةً رسم «الحدود» أو فسخها، وتسطير الخرائط أو تغييرها، وتوزيع المناطق أو استبدالها، فإننا سنفكر هنا بمفهوم جغرافي بعينه هو «الحدود». ونسأل عندئذٍ، والأمر ما زال ملتاثًا ومختلطًا: ما هي «حدود» العقل اليومي؟ من يرسم خارطته؟ وما طبيعة «المناطق» التي يحتلها أو يخسرها أو ينسحب منها أو يحدُّها؟ ولكن هل الحدود مفهوم جغرافي أم قانوني؟٧
نحن نعرف أن كانط كان قد استثمر مفهوم «الحدود» وضرب في مجازاته، قانونًا وفضاءً، وابتنى على منواله أسئلة الفيلسوف. وكان أكثر من تبيَّن أن وصف الحدود ليس بالإجراء الفارغ من العُسر، بل إنه في جوهره فعل تشريع عقلي (كانط: نقد العقل المحض، III، ٤٩٥–٤٩٧).٨ فهذا المفهوم إنما هو معياري بقدر ما هو وصفي، لأنه إنما يمكِّن من تدقيق الشرائط التي تتحكم بالاستعمال المشروع للعقل، والإبانة الوجيهة عن حاجته. لكنه من البيِّن أيضًا أنه ليس ما يدعو عند كانط إلى فاصلٍ جافٍ ومانعٍ بين البعد الوظيفي للحدود من حيث هي وسائل تقنين، والبعد الطوبيقي أو الجغرافي الذي لها، من جهة ما هي مواضع لرسم خارطة المعقول واللامعقول التي من شأنها أن توزع الملَكات وتضبط الصلاحيات. فإن الحد من قدرة العقل في موضع دون موضع، إنما لا يعني زجره عما هو لامعقول، أي عما لا ينتظم بقواعده الخاصة، بإطلاق، بل يدل خاصةً على أننا إنما نشرِّع لإمكاناته المهولة، وذلك بأن ننبه إلى الاستعمال المشروع الذي من شأنه أن يؤدي إلى ابتناء الحقيقة، فنكشف له عن طبيعة اللامعقول الذي يتربص به لأنه يقبع على حدوده دائمًا. وهذا اللامعقول ليس خطيرًا لأنه غريب عن العقل، أو لأنه اعتداء على حدوده مع المخيلة أو مع الوحي، بل بخاصة لأنه صادر عن طبيعة العقل نفسه، من تلقاء ماهيته بما هو كذلك؛ فهو ليس شيئًا آخر غير الاستعمال اللامشروع لقدراته، وتطاوله على اجتلاب المطلق وقول اللامشروط واحتضان المفارق، هذه الكيانات التي ليست بداخلة في إمكان المعرفة الذي له، من حيث تقبع خارج حقل المحايثة الذي سطَّره لنفسه.
ولذلك، تَصوَّر كانط أن القيام بنقد العقل؛ أعني رسم خارطة قانونية لقدراته وصلاحيَّاته، إنما هو الحل الذي اهتدت إليه الفلسفة وسعدت به على يديه. وهو الباب الذي جعله يتلفت إلى من صرف جهده الفلسفي إلى فلي هذه الأنباء عن العقل، واصفًا إياه بأنه أحد كبار «جغرافيي العقل البشري». وليس ذلك الفيلسوف إلا ديفيد هيوم (كانط: نفسه، III، ٤٩٦)،٩ لأنه استطاع، على رأي كانط، أن يذلل الإمكان أمام إنزال العقل إلى أرضه الخاصة، وأن يشرع في تجريده من تاريخ ادعاءاته، ووضعه على خارطة المعقول التي يرتسمها لنفسه، وَفقًا للطبيعة البشرية كما هي، وليس كما يراد لها أن تكون، متشبهة بالآلهة. لكن حدود هيوم أثر مشهود، فإن جهده تطويح للعقل؛ لأنه طلب مشكلة الحدود على غير وجهها، فطرد مسائل اللامعقول واللامشروط إلى ما وراء العقل هذا الذي لم يستطع رغم ذلك تحديده. إنه فهِم «النقد» على أنه «رقابة»، ففاته الفرق بين «الحدود» Grenzen، والقيود Schranken (كانط: نفسه، III، ٤٩٧–٥٠١).١٠

ولكن لماذا أُحدِّث ها هنا عن «جغرافية العقل اليومي»؟ فإنه وإن صرَّحْتُ به غلبت الكناية عليه، ولا يزال تأصيل مقالتنا فيه مطلبًا وعرًا. فلنعاود كرَّة السؤال: ما هو «العقل اليومي»؟ أو «مَن» هو العقل اليومي؟ فمن البيِّن أننا إزاء مقولة لم يعرفها كانط على وجهها الذي نطلب، ولا فكَّر بها على النحو الذي هو أصل هذه المقالة. لكن كانط بالرغم من بعده عن هذا الإشكال، وارتيابه منه لو أصاب منه مسمعًا، قد اختص إمكانية التفكير فيه بلطائف وإشارات تعتلج لها خواطر طالبها، وتنقاد. وتلك ذكرنا بعضها فيما سبق، ونُصيب بعضها فيما لحِق، طبقًا لمراتب المسألة وخطتها. فلنفرض أن العقل اليومي يقبل النقد بالمعنى الذي خصصه كانط، فنشرع بذلك في محاولة فلسفية تقصد ضبط جغرافيته الخاصة، وكشف طبيعته التشريعية.

(٢) جغرافية العقل اليومي

(٢-١) اليومي والعمومي: «الهُمْ»

إننا إذا ما عرَّفنا «العقل» بأنه مبدأ فهم أو قدرة على إدراك عَلاقات ذهنية أو عينية، وَفقًا لضربٍ ما من الضرورة، فإن الحياة اليومية، في فضاء الدولة الحديثة، إنما تخضع لضربٍ عالٍ من الضرورات، وهي بذلك تفرض على الحامل لها معقولية خاصة، لا مندوحة من «تعقلها»؛ أعني احتمالها على وجوهها، «واعتقال» النفس والبدن فيها، وفي أقلِّهن أحوالًا «تعاقلها»؛ أعني أن يتكلفها المرء فنرى من نفسه العقل، وليس فيه، أو أن يشارك الناس في تأدية العقل بوصفه دَينًا على الجميع؛ أعني دَينًا عموميًّا. فالكل مندوهٌ إلى تعقُّل اليومي أو تعاقله، حتى يفلح في السيطرة على أفعاله أو خطاباته، فلا يسقط في المحظور والممنوع؛ أعني في ضروب «اللامعقول» التي يحددها منطق الدولة، على هذه الرقعة أو تلك من الفضاء العمومي. صحيح أن العقل اليومي ليس شخصًا، ولا هو طرَف بعينه، غير أن ذلك هو مكمن الخطورة فيه ومَربِض اللَّبس. إنه لا أحد (هَيدغر: الوجود والزمان، ف ۲۷، ص١٢٦)،١١ ورغم ذلك هو قد فكر بدلًا عنا سلفًا، وارتسم قيم المعنى واللامعنى التي نتقبلها بداهات، ونسميها مبادئ «العقل السليم» ومنطق المواطنة. ولكن من هذا الذي هو «لا أحد»؟ إنه «هُمْ» (!). هذا «الهُمْ» الذي وصفه هَيدغر في الفقرة ٢٧ من الوجود والزمان بعبارة Das Man. أما السؤال عن كيف يسلك إلى غاية «الهُمْ» وكيف يؤتى عليه، فذلك ما ينأى دونه البحث، ما دام لم يظفر بوصوف دقيقة لقوامه الخاص وشئون نفسه بما هو كذلك. يقول هَيدغر: «إن للهُمْ نفسه طرائقَ خاصة في أن يوجد (…) المساوفة والتوسط والتوطئة، إنما تكون، بما هي ضروب الوجود الذي للهُمْ، ما عرَّفناه بوصفه «العمومية» Öffenthichkeit. إنها التي تدبر بدءًا كلَّ تفسير للعالم وللإنيَّة Dasein وتحتفظ بالحق في كل أمر. وليس ذلك على أساس عَلاقة وجود مخصوصة وأولية «بالأشياء» Dingen، وليس لأنها وُهبت مكاشفة للإنية مجعولة لها صريحة، وإنما بموجب تلفت «عن المشاكل» Sachen، لأنها عديمة الحس بكل اختلاف في المرتبة والأصالة. إن العمومية إنما تعتِّم كل شيء وتنتحل المكشوف [بكشف] كهذا على أنه المعروف والمدخول لأيٍّ كان (هَيدغر: نفسه، ف ۲۷، ص١٢٧).١٢
«من هو» العقل اليومي؟ إنه لا أحد منا، لكنه كلنا عندما نفكر في ضمير الغائب. إنه «هو» أو «هم» جميعًا، وذلك لأن خاصيته الأولى إنما هي كونه «عموميًّا». ولكن بأي وجه يكون العمومي موصوفًا ﺑ «المساوفة» Abständigkeit و«التوسط» Durchschnittlichkeit و«التوطئة» Einebnung؟ إنما المساوفة هي تبادل الحس بالمسافة Abstand من الغير وإليه في كل وجود معه. وليس ذلك تكلفًا وتفضلًا، بل بنية في صُلب وجود المعية هذا. ولأن «الهُمْ» إنما هو فضاء هذه المعية، فإنه ينزع دومًا إلى «التوسط» في كل أمر؛ أعني أن يثبِّت نفسه في الحد ما بين الجيد والرديء، مما يستحسن ويستهجن، نابذًا كل ندرة أو استمازة، فينتهي بذلك إلى «توطئة» كل إمكانات الوجود، وجعلها متناولة على جهة معبَّدة وموطَّأة. كما «المعاني الملقاة على الطريق» التي يذكرها الجاحظ.

(٢-٢) العمومي و«العامي»

يكون أمر ما «موطأً» عندما يكون «معمَّمًا»، ولكن هل يعني ذلك أنه «عامِّي»؟ يجدر بنا ها هنا أن ننبه إلى ما يعتلج من الاختلاف بين «العمومي» Public و«العامي» Vulgaire، فإنما نحن نقف هنا على مشارف مسألة لها شأن في ترتيب هذه المقالة. وذلك أن التباين بين هذين اللفظين إنما هو تباين بين طبيعتين مختلفتين لما هو «يومي». فالعرب تسمى «العامة» الجمهور الذي هو مدحور عن مقام «الخاصة» في أبواب العلم والحكم والأدب. وبهذا اصطلح الفلاسفة؛ فالعامة على رأي ابن رشد هم الخَطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يَعْرى من هذا النوع من «التصديق» (ابن رشد: فصل المقال، ص٥٢).١٣ ولذلك فإن عقل العامة لا يرقى إلى البرهان بل هو لا يصيب إلا «تأويلات جمهورية» (المصدر نفسه، ص٥٢)؛ إنه عقل ممنوع من التأويل، إذ إن ذلك قد يؤدي به إلى الكفر، لبعد التأويل عن «الظاهر» و«المعارف المشتركة» (نفسه، ص٥٢). إن «العقل العامي»، إذن، جهاز «خطابي» (ابن رشد)، أو «طريق التخييل» (الفارابي) التي لا ترقى إلى «المبادئ القصوى» بل «تلك ينبغي أن يفهم العامة مثالاتها وتُمكَّن في نفوسهم بطريق الإقناعات» (الفارابي: تحصيل السعادة، الفقرة ٤٦، ص۷۹).١٤ فالعنصر «العامي» عنصر خطابي وانفعالي وتخييلي، مشترك وظاهر، لأنه «جمهوري». وبهذا المعنى هو خطير بوجهين: على العلم بالجهالة وعلى الحكم بالفتنة. ولذلك لا يتورع الحكيم عن أن يرتضي لإصلاحه «طريق الإكراه، وتلك تُستعمل مع المتمردين المعتاصين من أهل المدن والأمم الذين ليسوا ينهضون للصواب طوعًا من تلقاء أنفسهم، ولا بالأقاويل» (نفسه، الفقرة ٤٧، ص۷۹- ۸۰). فمفهوم «العامة» إذن، مفهوم سالب وخلافي وجامع لوصوفٍ مقصودها بناء الحدود التي تفصل «الخاصة» من حكام وحكماء عن «الجمهور» الذي يبقى «محدودًا» و«ممجوجًا» و«متهمًا» في عقله. أما «الخاصة» فهي عبارة يتقلدها طرَف، يجعلها مطية لضرب من «الخطابة» التي تشرِّع للحدود بين الخاصِّي والعامِّي. يقول الفارابي: «فلذلك صار كل من ظن بنفسه أنه لا يقتصر على ما يوجبه بادي الرأي المشترك في الأمر الذي ينظر فيه، ظن بنفسه أنه خاصي في ذلك الأمر وبغيره أنه عامي.» (المصدر نفسه، الفقرة ٥٣، ص٨٦). فالخاصية والعامية أحكام ظنية تشرَّع بموجبها ضروب من الخطابات هي التي توجه عَلاقة النفس بالغير في المدينة.
ولكن ما هو الفرق بين العامي» و«العمومي»؟ أليس العمومي خاصية لما هو عامي أيضًا؟ فإن كانط (نقد ملَكة الحكم، v، ٢٩۳)١٥ أو هَيدغر (الوجود والزمان، ف ۸۱، ص٤٢٠)١٦ إنما استعملا أيضًا عبارة «العامي» واصطلحاها. فما الذي يفرِّق بين ما يعنيه الفارابي أو ابن رشد بهذه اللفظة وما يضمِّنه إياها كانط أو هَيدغر؟ يبدو أن الإشكال لا يتعلق بتواتر الألفاظ، فلا مُشاحَّة في الألفاظ، وإنما بطبيعة السياسة التي توجِّه قبْلًا هذا التلفظ أو ذاك. فإن سياسة الفارابي إنما تجهل معنى «العمومي»، إلا إذا طابقنا بين معنَيَي «العمومي» و«المدني» مطابقةً يمنع عنها ما بين «المدينة» (الفلسفية بعد) أو «الملة» (التاريخية) وبين «الدولة الحقوقية» التي يفكر بها كانط، من فروق ومباعد. فإن الحكم على «العامي» إنما يتم عند كانط باسم «العمومي» ومن أجله، في حين أن الفارابي إنما يدحر العامي باسم «الخاصي» ومن أجله.
إنما «العمومي» معنًى مستحدث، تولَّد عن وضعٍ نظري خلقته إشكالية «المجتمع المدني»، فإن بين المصطلحين تلازمًا دقيقًا. إنه مفهوم «حقوقي» تدرَّج من مجرد صفة تطلقها الدولة نفسها على من تستخدمه، كي يمثِّل في هذا الاستخدام شخص الدولة (هوبز: التنين، ١٦٥١م، الفصل: XXIII)، إلى خاصية متميزة عن صفة الدولة، تتقوم بها ظاهرة جديدة هي «الفضاء العمومي» من حيث هي منطقة مدنية لها قيام خاص بنفسها على حدود حقوقية مع سلطة الدولة، فتُحمل العمومية عندئذٍ (منذ القرن الثامن عشر حسب تشخيص هابرماس) على معاني العلنية والقانونية في حيز السيادة الذي تملكه دولة ما. العلنية لأن العمومي لا يمكن أن يكون سِريًّا، فهو مقوِّم «جغرافي» لفضاء مسطور باللغة والنقاش.١٧ والقانونية لأنه لا يمكنه الاشتغال إلا وَفقًا للعبة مدنية ومحكمة مراقبة، ولذلك فإن كل عمومية لا تصير مفهومة كذلك إلا إذا استطاعت ترجمة نفسها في إطار مؤسساتي يكون في الوقت ذاته فضاءً لغويًّا للحوار وحاسةً عمومية للمراقبة ورمزًا لمشروعيةٍ ما. فالقانون إنما يعطي ما هو عمومي إمكانًا مدنيًّا ووسائل تحقيقه المشروعة في كَرَّة واحدة. لكنَّ بين العمومي والقانوني فرقًا جوهريًّا: إن القانون وإن كان في قراره مصدر «الشرعية»، إلا أنه في واقع الأمر محتاج إلى «العمومي» لإقرار «مشروعيته». فإن القانون قد يُعدَّل بحكمه الحقوقي لكنه لا ينصف إلا بحكمه العمومي.

(٢-٣) الاستعمال العمومي للعقل

لقد تبين لنا، دون تجديف في القول، أن العقل اليومي إنما هو عقل عمومي، وأن جغرافيته ضرب من الرسم لظاهرة الفضاء العمومي. فهذا الفضاء، وإن كان يستمد شرعيته من الجهاز الحقوقي الذي يؤسِّس الدولة الحديثة، فإنه هو الذي يُمد هذه الدولة بطاقتها على المشروعية. وهكذا فإن ما هو مشروع في فضاء عمومي إنما هو أشد خطورة مما هو قانوني أو شرعي فيه. وذلك أن الفضاء العمومي مفهوم «معياري» أكثر منه وصفيًّا؛ إنه معياري لأنه حمَّال لتوقعات وآمال عملية لا يحصرها القانون ولا تمنعها الدولة. إنه ضرب من «الاستعمال العمومي للعقل» الذي فصَّله كانط في مقالته «ما هو التنوير؟» يقول كانط: «إنما أفهم من استعمال المرء لعقله الخاص استعمالًا عموميًّا، ذلك الذي يقوم به، أمام عالم القراء، بوصفه عالمًا. وأسمي الاستعمال الخاص، ذلك الذي يحق له أن يفعله بعقله في بعض منصب مدني أو وظيفة أُوكِلا إليه.» (كانط: ما هو التنوير؟ VIII، ص٣٧).١٨
إن هذا التعريف هام بمعنيين: فهو يوضح أن العقل اليومي إنما هو عمومي من حيث هو في جوهره قدرة على التفكير العلني، في وجه محكمة من القراء الذين يملكون حق قراءته والرد عليه ومناظرته ومراقبته. لكنه يؤكد أيضًا أن هذا العقل، ومن جهة ما هو خاص، هو عمومي بالضرورة ذاتها. وذلك أن الخصوصية إنما تُفهم ها هنا على أنها ضرب من الاستعمال الخاص لما هو عمومي؛ فمن يتولى منصبًا مدنيًّا إنما هو مكلف بموجب محكمة رمزية، هي المؤسسة التي قلدته إياه، باستعمالٍ «مدني» لقدرة عقلية «خاصة». لكن طبيعة دورها عمومية أصلًا. وهكذا، فإن الفضاء العمومي، سواء أكان استعمال العقل فيه عموميًّا أم خاصًّا، فهو إطار قانوني نهائي لكل قدرة على التعقل اليومي لمعنى المواطنة. فما هو «يومي» هو الزمان العمومي الذي يصدر عن خطة الدولة في اجتماع ما. ولكن ما الذي يحمي مسار هذا الزمان العمومي من التوتر أو الانفصال أو التراجع؟ أعني ما الذي يمنع هذا العقل اليومي من اللامعقول الذي يقبع على حدوده؟ إنه شرط إمكان العنصر العمومي نفسه؛ مدى قدرة المواطن على الانتصاب في الفضاء العمومي من حيث هو محكمة «قارئة»، فالقراءة مقدمة أساسية لمزاولة المواطنة في دولة العقل العمومي. لقد انقلب الجمهور إلى «عالم يقرأ» Leser Welt، إنه لم يعد عامة «ملجمة عن الكلام» (الغزالي)، وإنما سلطة يومية وعمومية لمراقبة أي استعمال عمومي للعقل. ولكن ما سلطة «القراءة» و«القراء»؟ وهل ضمنت حرية التفكير حتى صارت الحاجة في محكمة للقراءة؟ كيف يشتغل العقل على نحو عمومي؟ كيف نفكر ونحن رُكْح تفكيرنا القانون وسقف عقولنا الدولة؟ لا بد من العودة إلى كانط.
يقول كانط: «بيد أنني الآن أسمع الهتاف من كل صوب: لا تفكر! يقول الضابط: لا تفكر بل نفِّذ! والجابي: لا تفكر بل ادفع! والإمام: لا تفكر بل آمِن! إن سيِّدًا واحدًا فقط يقول: فكر قدر ما تريد وفيما تريد، لكنْ أطِع!» (كانط، نفسه، VIII، ٣٦-٣٧). إن هذا النص مجلبة للتهمة، والسؤال عنه يحمل على الحيرة؛ ذلك لأنه ينبه بكل إبانة إلى أن التفكير ليس مطلبًا أوَّليًّا في الفضاء العمومي. «لا تفكر!» وهي عبارة تعني بالمعنى الحرفي «لا تعقل!» أو «لا تستعمل عقلك!» Räsoniert Nicht!، وإنما هو أمر قطعي من نوع خاص لأنه مطلبٌ عسِر، ولا سامع له إلا وهو كظيم، بيد أن للفلسفة في ذلك العسر مأربًا ولها في حله رأيًا. قد يقول قائل: إن التفكير خطر جسيم إذا لم يتم على وجوهه وشروطه، وذلك لهشاشة العنصر العمومي نفسه. فالعمومي آليٌّ بمعنًى ما، أما التفكير فاستطاعة تُخرج الآلي من منغلقه إلى إمكانات لا يفي بها ولا يحتملها. وهكذا يجرؤ صاحب الشرطة أو الجباية أو العقيدة — بل يلزمه — أن يمنع فعل التفكير بوصفه شيئًا مضرًّا أو زائدًا أو دخيلًا. ولكن ما كان التفكير هو الذي يضر ويهدم وإنما هذه الآلات، من شرطة وجباية وعقيدة، هي التي لا تتقوم بما هو تفكير، وإنما باللافكر عينه. فاللافكر — ولا نعني بذلك عدم التفكير أو كبت الفكر، وإنما هو غير الفكر وخارجه وغير المتقوم به — إنما هو في ذاته كل سلطة سواء أكانت عنيفة أم مالية أم معصومة. إن المشكل المعتاص علينا هنا إنما هو: كيف تكون سلطةٌ عموميةٌ ما سلطةً «مفكرة» أو قادرة على أن تقيم مع فعل التفكير عَلاقة مشروعة، لا شرعية فقط؛ أعني أن نكون خِلوًا من كل نهي أو إنكار أو تحريم؟ فذلك هو المطلب الأقصى في ماهية العمومي.

(٣) منطق «الرأي العام»

(٣-١) جغرافية الفضاء العام

إنما نقصد هنا هذا الأمر: إن العقل اليومي لينقلب في الفضاء العمومي إلى ضرب من «الرأي العام» الذي يتحكم به ويتحكم فيه. وبكلمة واحدة، ليس العقل اليومي سوى منطق الفضاء العمومي الذي نفترضه عندما نفكر داخله وعلى حدوده. بيد أن هذا العقل ما كان ليعمل بانتظام كافٍ ويستمر في أداء وظائفه المعقدة، لولا وجود مؤسسات أو أجهزة هي التي تضبط إمكانه وتكوِّن مفاهيمه (فالشرطة والجباية والعقيدة التي ذكرها كانط بوصفها آلات ممنوعة من التفكير، إنما هي ضرب من أجهزة العقل اليومي). بيد أن ها هنا مشكلًا لا بد من تكريره: إن الفرق المحرج بين المتفلسفة الذين نحن، وبين كانط، هو الفرق نفسه بين من يفكر على أرضية عمومية مؤسَّسة على مبدأ «حقوقي» هو مرجع كل عمومية، وبين ذاك الذي يحاول أن يتزن على فضاء مهزوز لأنه قُدَّ من عنصرين عموميين متنافرين: أحدهما «مِلِّي» (نسبة إلى الملة) أما الآخر فهو «حقوقي». وهما عنصران صادران عن تصورين متغايرين للمحكومين: هل هم «عامة» أم «أشخاص حقوقية»؟ هل السلطة عمومية أم عامية؟ وقد رأينا أن العقل اليومي إنما هو يومي من حيث هو عامي وعمومي معًا.

إن ذلك يعني أننا لم نفرغ بعد من تسطير الحدود المشروعة بين مناطق الفضاء العمومي الذي هو من شأننا؛ تلك الحدود التي ترتب العَلاقة الوجيهة بين «الملة» و«المحكمة» في مفهوم الدولة الذي يدبِّر عموميتنا. غير أن هذه الحدود لا تلبث أن تتناسل وتدخل في عَلاقات سيَّالة وملتبسة؛ حدود بين آلة الملة، أي المسجد وإوالياته من طقوس وأعراف وأوقاف وضرائح ومنابر ومحاريب، والمحكمة بما هي نقطة العبور القانوني بين جهازين آخرين هي منهما تتكون وإليهما تئول؛ ألا وهما: الثُّكْنة ووسائل العنف الشرعي والتنفيذ والمراقبة والتحكم، والمدرسة وأدوات التأديب والتوجيه وفلاحة النفس والبدن بالثقافة والإعلام.١٩ وهكذا يمكننا إرجاع المسألة هنا إلى عَلاقتين: الأولى منهما هي عَلاقة شاملة بين المسجد والمحكمة بما هما آلتان لتسطير الفضاء العمومي وتحديد مواضع العقل اليومي. أما الثانية فهي عَلاقة داخلية وعلى أرضية المحكمة وحدها من حيث هي آلة التأسيس الذي يشد منطق الدولة الحديثة، وذلك بين المدرسة التي تأخذ المحكمة طابعها التنويري، والثُّكْنة التي تستمد من المحكمة طابعها القانوني. ولكن ما طبيعة العَلاقة بين أجهزة الفضاء العمومي هذه؟ إنها مسألة لا يمكن الإجابة عنها إلا إذا تم تشخيص بنية العقل اليومي بالكشف عن النزاعات التي تؤلف معقولية وتنتج حدود اللامعقولية فيه.

(٣-٢) جدل العقل اليومي

يبدو أن الفضاء العمومي مصاب بحكم طبيعته الخاصة بمشكل حدودي: إنه يمتهن لعبة جغرافية معقدة وغير مستقرة، وذلك لاستناده إلى تصورين متنافرين للعنصر «اليومي»: هل هو «عامي» مثلما تزعم الملة بواسطة آلة التخييل (المسجد)؟ أم «عمومي» كما تؤكد البنية الحقوقية لدولة الحق بما هي محكمة معمَّمة، سواء بواسطة آلة العنف الشرعي (الثُّكْنة) أم بآلة الدرس (المدرسة)؟ أما منزلة هذا المشكل الحدودي الدائم فنبينها كالتالي: إن هذا الأصل المزدوِج للعقل اليومي من حيث هو عامي (مِلِّي) وعمومي (حقوقي) ليس طارئًا أو خاصية جزئية، بل هو «وهم طبيعي» فيه. وإن تشخيص هذا الوهم الطبيعي وتأصيل القول فيه هو ضالة هذه المقالة.

فإن العقل اليومي مكوَّن على حدود أجهزة يملك كلٌّ منها تصورًا خاصًّا وبنية دقيقة لمباشرة الفضاء العمومي وطريقة تأثيثه بالأجساد والعقول والقيم.٢٠ وقد يظن ظانٌّ أن المدرسة هي الرُّكْح الوحيد الذي يطمح كل مفكر للتمثيل عليه. لكن هذا الظن يفوته أن التفكير اليومي ليس حِكرًا على المدرسة، بل هو أداة أصلية من أدوات الفقه الذي يشد الملة، وعُدة من عُدد الثُّكْنة من حيث هي القلعة الخلفية لدولة المحكمة. فكل هذه المناطق إنما هي على درجة عالية من المعقولية وتخضع باستمرار إلى قدر هائل من العقلنة. غير أن معنى العقل هو الذي يتغير في كل حالة.

إن لعبة متعددة من الداخل هي التي توجه العقل اليومي نحو هذا المعنى العمومي أو ذاك: لعبة الملة والمحكمة، ولعبة المحكمة بجهازَيها المتنافرَين: الثُّكنة والمدرسة. إنها سرعان ما تنقلب في كل أزمة إلى خلاف دقيق بين مخيال الملة ومطلب القانون، سواء أكان إرادةً للمعرفة في المدرسة أو إرادةً للسلطة في الثُّكنة. وتلك خارطة أولية للعقل اليومي. فإن الدولة، وهي تقدم نفسها دائمًا لا كوسيلة بل كغاية في ذاتها، إنما تزرع شبكة حقوقية قارَّة في كل ثنايا الفضاء العمومي، فتحوِّل كل ما هو «عمومي» إلى ما هو «قانوني». لكنها ما فتئت تواجه مقاومة أصلية من جهتين؛ أولًا: من جهة أن المدرسة وإن كانت صادرة عن الأصل الحقوقي نفسه الذي صدرت عنه الدولة الحديثة، فإنها لا تدخر جهدًا في مقاومة الاستبداد الحقوقي لدولة المحكمة، وتعلن أن القانون ليس كل «الحق» بل هو ضرب من تحقيقه فحسب. وهي تعمل دومًا على منع الدولة من الانقلاب إلى ثُكنة، والقانون إلى سلطة عنفية محض. وثانيًا: من جهة أن المسجد إنما هو أيضًا جزء جوهري من الفضاء العمومي لأنه بواسطته يمكن للعقل اليومي أن يرتب العَلاقة مع زمان الأمة وحاجة المطلق فيها. لكن مكمن الخطورة في المسجد، من حيث هو شأن عمومي، أنه مخزون رهيب من اللامعقولية التي لا تستطيع دولة المحكمة أن تستغني عنها، كما لا يمكن للفضاء العمومي أن يصرِّفها كلها. فإن أي دولة ومن حيث هي سلطة يومية إنما هي محتاجة في قوامها إلى ضرب من السحر المشروع لتصريف العنصر العمومي؛ وليس هذا السحر المشروع سوى لامعقولية السلطة؛ أعني كهانتها ولُغزيَّتَها، أي طبيعتها «الملية» أو «العامية». وهي لا تجد مثل مخيال الملة منهلًا لا ينضب. إنه لا توجد دولة بلا سحر مشروع أو بلا دين، فإذا لم تجده فإنها تخترعه. لكن الوظيفة «الجميلة» للدولة إنما هي قدرتها على تصريف عمومي لما هو سحري في مخيال الجمهور، في الوقت ذاته الذي تكون فيه الإطار الوحيد لاستعمال الحرية استعمالًا عموميًّا.

تتراوح خارطة المعقول العمومي، التي توجه عقل المواطن الراهن، بين أصنام العقيدة ومطالب الحقيقة وتقنيات السلطة. بَيد أنها خارطة لا تُرسم إلا رسمًا مؤقتًا بمعنيين: فهي من جهة لها معياريتها الخاصة طبقًا للجهاز العمومي الذي تصدر عنه؛ وهي من جهة ثانية دولة على طريقتها، إذ إنها تعيش حالة طوارئَ دائمة، لا هي حرب فتتوقف اللعبة العمومية نفسها، ولا هي سِلم فينقلب الاجتماع الإنساني إلى آلة باهتة. وذلك لأن «اللامعقول» هو «الآخر» دائمًا. إن «آخر» الملة هو دولة المحكمة سواء أعبَّرت عن نفسها بالحقيقة في المدرسة أم بالقانون في الثُّكنة، كما أن «آخر» المحكمة، حقيقةً أو قانونًا، هو مخيال الملة. وإن ذلك إنما يعني بخاصة أن اللامعقول ليس دخيلًا على العقل اليومي، بل هو أصيل فيه، لأنه صادر عن التربة نفسها التي ينبت عليها الجميع. إن كل أصحاب العقل اليومي نوابت، وكلٌّ نابت على منوال يخصه.

ولذلك، فإن سوء الفهم الذي يدفع إلى الحيرة إنما هو أخذ العقل اليومي كأنه آلة معرفة محايدة لتصريف نتاجات الذهن من حيث هو ذهن نظري، فإن أطفالنا صاروا يفقهون أن «العقل» الذي علموه في المدرسة شيء، و«العقل» الذي يعمل فيما هو عمومي، أو يرتاد مناطق الملة، إنما هو شيء آخر. وليست هذه الصنوف من العقل جواهر متغايرة يفارق بعضها بعضًا، بل هي أجهزة يومية لتشغيل الآلة العمومية وتوجيهها واستهلاكها. وقد بات واضحًا أيضًا أن المخيال الذي صدر عنه المسجد ليس كتلة من اللامعنى والمحال، وإنما يملك قدرًا كبيرًا من الهيكلة والانتظام، وضربًا خاصًّا من المعقولية التي تضمن وظيفيته.

بيد أنه في كل هذه المواضع إنما يتعلق الأمر بمشكلة حدودية: كيف نرسم الحدود المشروعة بين المعقول واللامعقول العموميين؟ وبأي وجه تُرتب العَلاقة العمومية بين هذه الأجهزة المؤلِّفة للعقل اليومي لهذه «الأمة»؟ إنه لا بد أن نفهم أن المسجد جهاز تخييل عمومي: إنه ضرب من السحر الشرعي لتوجيه حاسة المطلق أو المقدس لدينا، كما أن المحكمة جهاز حقوقي سواء أكان مقصوده تحقيق الأمن القانوني، فينقلب إلى جهاز عنف شرعي، أم كانت غايته الطلب القانوني للحقيقة، فيكون بذلك جهازًا للتفكير الشرعي. لقد نعتنا هذه الأجهزة بأنها شرعية لأن الفضاء العمومي مأخوذ ها هنا من حيث هو إقليم حرية، وبهذا المعنى فهو مفتوح بطبيعته على كل الإمكانات المغايرة لما هو شرعي سواء أكانت لاشرعية أو خارجة عما هو شرعي أو مضادَّة له. فالفضاء العمومي ليس الدولة، وهو عمومي بقدر ما يستقل عنها، ويفلح في الاشتغال على حدود سلطتها. فإن للعقل العمومي سلطته التي ينبغي علينا أن نميزها، كأدق ما يكون، عن منطق الحكم المحض أو معنى الدولة.٢١ فالذي يحكم إنما يحكم ما هو محكوم سلفًا، تحت وطأة القانون الذي رتَّب العنصر العمومي، فهو لا يمارس إلا سلطة شرعية عليه، لكن خطورة ما هو عمومي، على كل ضرب من الحكم الذي لا يملك من السلطة إلا شرعيته فحسب، إنما هي كونه أكثر أو أقل من القانون: هو أكثر منه لأنه ينادي بضربٍ أقصى من المشروعية التي تؤسس «هوية» أمةٍ ما؛ وهو أقل منه لأنه لا يمكن لأي دولة أن تسيطر على أذهان المحكومين، وإن كانت تحكم وجودهم المدني.
إن الدولة الحديثة محكمة في جوهرها مما يجعلها دائمًا خارج العنصر العمومي وداخله معًا؛ فهي خارجه إذا استطاعت الأجهزة التقليدية الاشتغال دون إرباك للعنصر المدني؛ وهي داخله بقدر ما تترجم قوانينها إلى سلوكات عمومية جديدة ليس لها من سند يشرِّعها إلا بُعدها الحقوقي.٢٢ فإن هذه الدولة مطالبة، بموجب مفهومها، بتحويل قراراتها الحقوقية إلى معايير عمومية؛ أعني أن تقطع الهوة الفاصلة بين الشرعية والمشروعية. فالمسجد، وهو جهاز عامي تقليدي، إنما هو قاعدة عمومية تواصلية ولكن لاحقوقية، لا تزال تقلق الدولة الحديثة، وهذا ما يجعلها في خلاف «تشريعي» معه.٢٣ فإن المطمح الأعلى لدولة اتخذت من المحكمة بنيتها الخاصة، هو أن تسيطر بحيث تخترع وتصطنع كل أجهزة الفضاء العمومي من مادة حقوقية بحتة، سواء أتَعلَّقَ الأمر بنظام أداتي أم تواصلي. لكن هذا المطمح الأقصى إنما يصطدم بالواقعة المزدوِجة التالية: إن الأجهزة العمومية التقليدية، وإن تقهقرت على المستوى الأداتي، فإنها لا تزال على أشدها فيما يتعلق بوجهها التواصلي.٢٤ وهذا يعني أن العقل اليومي التقليدي إنما يعمل بوصفه ضربًا من المعقولية العمومية الراهنة.

(٣-٣) نزاعات العقل اليومي

إنه لا مخرج من هذه النزاعات إلا عندما نفلح في إيجاد ترتيب عمومي للعَلاقة بين ضروب المعقولية التي تكوِّن العقل اليومي وتوجهه. أجل، إن من يعقل «المسائل» في المدرسة له منطق مغاير في بنيته ووظيفته، عن ذاك الذي يوجه من يتفقه «الدعاوَى» في المسجد، أو يحدد «الأوامر» في الثُّكنة. فالمسألة والدعوى والأمر ثلاثة مفاهيم لا تشير إلى المعقولية ذاتها؛ فإن المسألة مسألة تفكير أو معرفة تقبل حرية الفهم، وتسمح بإمكانيات التفكير في اللامفكَّر فيها، في حين أن الدعوى التي يرسلها الفقيه، إنما هي دعوى مصممة سلفًا، ومبنية على مسكوت عنه لا يكون فيه «كيف؟» إلا مردودًا؛ أما أوامر الثُّكنة فإنها إشارات صادرة عن منطق التنفيذ الذي لا يناقش. إن هذا الوضع العمومي إنما يدفع إلى اليأس حقًّا عندما نعرف أن العَلاقات بين عقل المدرسة وعقل المسجد وعقل الثُّكنة أو المحكمة، إنما هي عَلاقات غير تواصلية أساسًا، بل هي عنفية أو لامبالية أو غامضة، وبمعنًى ما هي أداتية في جوهرها من حيث إنها تتم غالبًا إبَّان تقاطع وظيفي في الفضاء العمومي. فالمدرس يزعم أن الأفكار كافية لرسم جغرافية الحقيقة للجميع، بحيث إن كل عقل سيحترم بنفسه مسالك المعنى ومواطن الصحة والخطأ، ومطالب الجدوى، لإرساء مدينة المواطنة التي يكون فيها الإنسان، هذه اللذة الدهرية، قوةً وجهدًا أصيلَين لاختراع العدالة. وتعريف العقل الذي يزاول الحكمة في الزمان الحقوقي هذا، أنه قدرة على رسم الحدود بين المشروع وغير المشروع بتلقائية مدنية محض. لكن هذا النوع من العقل سريعًا ما يرتطم على غير هدًى بأرضية عنيدة، محروثة بمخيالٍ عجوز، له وسائله الخاصة، لتحريك اللامعقول والاشتغال عليه، وَفق خارطة أخرى للعنصر العمومي، لا معنى فيها للمشروع واللامشروع المدنيين، وإنما هو قائم على تصور فقهي للحلال والحرام، ليس في المسجد بل في كل جسد وكل رغبة، ويلوِّح بإقامة الحدود بوصفها قِصاصًا، أو وسيلة أصلية للاجتهاد.

ما معنى «الحدود» في الفضاء العمومي: أهي فواصل أم قِصاص؟ إن مسئولية كل دولة عندئذٍ هي أن تخترع الشروط التي تمكِّن من خلق رأيٍ عمومي، لا يزال عسيرًا، قادرٍ على المناظرة بين معقولية المسألة ولامعقولية الدعوى، بين المدرسة والمسجد. فليس من معنًى للمحكمة إلا أن تقضي بين هذين العقلين المتنازعين. لكن طبيعة هذا الحكم هي ما يثير السؤال: ما معنى «الحكم» Jugement في نطاق العقل اليومي؟ كيف نحكم على أرضية قُدَّت من النزاع العمومي؛ أعني من الاستعمالات غير المشروعة للحدود؟ إن جغرافية العقل اليومي إنما هي في جوهرها جغرافية الهوى Affect, Passion، الذي هو آلة بلا واجبات. فمن خاصة الهوى أنه لا يطلب غير ذاته، لكن الخروج من منطق الهوى هو الخروج من الفضاء العمومي أصلًا. فلا بد أن نفهم بقوة أن مادة ما هو عمومي ليس العقل «الحقوقي»، بل الهوى كضرب من النزاع الطبيعي بين أنواع متنافرة من المعقولية. إن الحق لا يكفي، بل لا بد من بناء إمكانية تشريعية أكثر جذرية من الحق، أو لِنقُلْ أوسع منه، هي «الرأي العام» بما هو جهاز المحافظة على قيمة الحرية في الفضاء العمومي.٢٥
ولذلك فهذا «الرأي العام» لم يوجد إلى حد الآن إلا على نحو منفعل؛ أعني بوصفه مفعولًا مباشرًا لنزاعات العقل اليومي. فإن العَلاقة بين المدرسة والمسجد إنما هي نزاع حول «المكتبة» بوصفها الجهاز الذي يشتغل عليه العقل. لكن لا ننسَ أن المدرسين مثلهم مثل الفقهاء، إنما يفكرون في نطاق ميتافيزيقا «الكتاب»؛ أعني أنهم لا يزالون قيد الإيمان بأن الخلاص إنما هو رهين نوع معين من «النصوص» وضرب مخصوص من المعرفة، سواء أكانت «وضعية» أم «شرعية». إن الصعوبة لا تقوم في النزاع بما هو كذلك، بل في حجم «الحماسة» Enthousiasme, Schwärmerei التي تصرِّف هذا النزاع وتوجهه.٢٦ فإن المدرس إنما يريد من المكتبة أن تنقلب إلى «جمهورية صامتة» تدرب العقول على اقتناء خَلوة يومية من الفكر، لا تطؤها عصا الحكام ولا يعكِّرها بَخور الكهنة الجدد. أما الفقيه أو الإمام فإنه يطمع بلا كفاف في «مَسْجَدة» المكتبة، وتحويل العقل فيها إلى حيوان غريب قابع على حدود العقائد، مذنبٍ سلفًا ومُطالبٍ بالاعتبار من جنازته التي تمر أمامه. وفيما يتعلق بالحاكم فإنه ينظر إلى الجميع نظرة حقوقية وأداتية: فهو يسيطر على المدرسة، في نحو سلطة إدارية، فيدخل بذلك في نزاع رمزي معها هو نزاع العقل الوضعي مع نفسه، من حيث هو حق Droit ومن حيث هو حقيقة Vérité. فالدولة العالمة تُودِع المدرسة تصورًا معينًا للمواطنة وبرنامج معقولية محددًا، وتنتظر من المدرس الإنجاز، وذلك بإنتاج عقول وحساسيات وسلوكات ملائمة لهذا التصور. ولذلك، فإن العقل بما هو «آلة درس» قد يصبح «أداة» الدولة لتحويل المدرسة إلى جهاز قاصر غير قادر على تحمل عقلانية الدرس إلى الآخر. إنه نزاع حول «حرمة الدرس» و«أجهزة التحريم» التي ينصبها العقل السياسي على حدود المدرسة.
لكن النزاع مع مؤسسات الملة إنما هو الأكثر خطورة، وإنه يدور من أجل أمرين: أولهما امتلاك المساحة التي يصرِّف فيها الناس عَلاقتهم بالمطلق؛ وثانيهما الاستحواذ على آلة التخييل التي يستعملها الأئمة لتصريف عَلاقة المطلق هذه طبقًا لمعقولية العنصر العمومي٢٧ إنه نزاع من أجل تقنيات المطلق والفضاءات التي يشكل فيها الناس النوع الإلهي من المواطنة كسكان أصليين للعالم، وليس لخارطة السياسي. وهو بذلك مواجهة بين العقل بما هو تقنية سلطة، والعقل بما هو آلة تخييل. فهو نزاع أداتي في جوهره، ولم يصبح بعدُ فعلًا تواصليًّا.

إن جميع هذه الأجهزة إنما تعاني من مركزية «عمومية»: فالعقل الفقهي يزعم أنه صاحب المقال «الشرعي» حول الأمة، وأنه دستور الهوية، وآلة التأصيل. أما العقل السياسي فيفترض أنه الشرط التاريخي والوحيد لحماية العقل الفقهي حتى من نفسه، أي من اللامعقول الذي يثوي فيه سلفًا. لكن العقل المدرسي إنما يطرح بديلًا آخر عن هذين العقلين: عن الأول بما هو آلة تخييل ليس إلا، وعن الثاني باعتباره في جوهره تقنية سلطة. فيرفع المدرسة بذلك إلى الأصل الوجيه للمواطنة؛ لأنها هي التي تحاسب العقل بمقياس العقل نفسه، وتدربه على ابتكار المعقول من ذاته واستبدال العنف بالخطاب. بيد أن كل مركزية إنما تؤدي مرغمة إلى أمرين: مرض «الأنا» وانغلاقه وتعاجزه عن الغيرية والتعدد، من جهة، ثم تمثل الحوار مع المختلف على أنه ضرب من النزاع الحدودي مع الأغيار والمخالفين والمعارضين، بوصفه نزاعًا «طبيعيًّا» ولاحقيقيًّا حول «البقاء»؛ البقاء داخل الدولة، البقاء بما هو تقنية محو الزمان الخاص والجسد الخاص، وتحويلهما إلى محطة عمومية للانتظار، لا يكون المستقبل فيها قد مرَّ بعد. إنه جهد لإضفاء الطابع «المكاني» على كل شيء، لأن المكان هو الذي يؤثثه العقل اليومي بكل شواهده وعلاماته، حتى ينقلب إلى خارطة للهوى، أعني للانفعال العمومي، ولا يهم إن تم ذلك بواسطة «الدرس» أو «الخطبة» أو «الأمر».

إن العقل اليومي ينطق دائمًا عن الهوى، والهوى هو اللامعقول. غير أن اللامعقول لا يعني «الجنون»، أي إنه ليس «غيابًا للأثر» المعقول،٢٨ بل هو نوع مخصوص من الأحكام «الحدودية» التي تصاحب العقل في استعمالاته العمومية. وبكلمة واحدة، إن اللامعقول هو «الآخر»، وذلك لأن الآخر مثلي يضع لي حدودًا ويجعل معقوليتي في خطر ورِيبة. ولذلك، فالنزاع الحدودي ليس محصورًا في فرض المعقول أو الانتصار له، بل هو نزاع معقد تتناضد فيه مفهومات متباينة للعقل مما يعني ضرورة أنه أيضًا نزاع من أجل اللامعقول نفسه وطريقة استعماله العمومي. فإن «حرمة» المدرسة و«قداسة» المسجد و«هيبة» الدولة مفهومات لاعقلية في أصلها، لكنها تُعرف بواسطة سياقات النفوذ الرمزي والتخييل وخطط السلطة. فتنقلب بذلك إلى آلات ناجعة للعقل اليومي، لتركيب الرغبة واصطناع الرأي على نحو لاشخصي، مما يضفي طابعًا ملغزًا وغيبيًّا على بنية الدولة وتاريخ الملة ودور الكهنة؛ أعني المدرس والصحفي والفنان: الأدوات الرمزية الحديثة للعقل اليومي.

الخاتمة

من يتفلسف في الفضاء العمومي؟ ولكن هل العقل اليومي عقل فلسفي؟ إذا كان الفضاء العمومي مشتركًا وظاهرًا وشائعًا، فواضح أنه في تباين مع فعل الفلسفة من حيث هو فعل خاص ومُشكِل ونادر. لكن هذا التباين لا يعيَّن بهذه الطريقة إلا من فرط الانحباس في تقليد مغلق على نفسه بالاصطلاح «الميتافيزيقي»، في حين أن التفلسف إنما هو في جوهره فعل عمومي. فسقراط لم يقتله السم السفسطائي، بل صيدلة الاصطلاح وحيلة المذهب. فإن معنى المذهب إنما هو ذَهاب العقل عن الرأي المقسوم بين العقول، على نحو من الشرك بواحدية الإجماع، إلى ما لا شركة فيه إلا على سبيل العصبية. غير أن ذلك إنما يعني الزجَّ بالحوار في اللاحوار. ولكن هل يعني ذلك أن التفلسف جدل عمومي؟ إنما نقصد فقط توضيح أمر جلل: إنه ما زال بإمكاننا دومًا أن نفكر بشكل عمومي، لأن التفكير إنما هو مشروط في جوهره بفضاء عمومي لا معنى لأية حقيقة خارجه. فالاستعمال العمومي للعقل هو التفلسف بعينه. إن للفلسفة إمكانًا مدنيًّا لا ينبغي أن تفوِّت فيه إلى الرأي العامي. وهو إمكان «جدلي»، أي خلافي وحواري؛ وذلك لأنه اشتغال دقيق على اللافلسفة، أو ضرب من الاستعمال «التجريبي» للحكمة في مواضع اليومي. إنه تجريبي بمعنيين: لأنه غير مقصود لذاته من حيث هو فلسفي، ولأنه زجٌّ بأدوات التفلسف في غير أرضه. فإننا إنما نحاول أن نُرجع للفلسفة عموميتها الأولى التي تخرجت منها إمكانيات التفكير كلها.٢٩ إنها لم تعد تستطيع أن تكون بالنسبة لنا مساءلة «ماهوية» أو «متعالية» لما قد نسميه على نحو خصوصي ﺑ «العقل العربي». فإن تحت كل استفهاماتنا عن العقل «العربي» يقبع اليوم التباس محرج للسائل والمسئول عنه: فما هذا العقل؟ هل هو Logos أم Intellectus أم Ratio أم Vernunft أم Geist؟ والفيلسوف العربي من هو؟ هل هو متأمِّل المُثُل أم موهوب الصور أم كوجيطو مغمور أم ذات متعالية أم روح مطلق أم إرادة قوة أم راعي كينونة أم أركيولوجي ساخر؟ إننا في كل تعلُّق بذلك إنما نفكر بلامتناه فاسد.

ليس العقل «العربي» سوى خارطة مشاكل وأدوات تفكير وإمكانيات حياة، ناتجة كلها عن موقعنا داخل جغرافية العالم الحالي. فربما كان للخارطة رأي لم نفكر به بعد. فنحن لسنا قبل الغرب أو بعده، وإنما في جنوبه. إننا جنوب الحداثة، وهو موقع له من الفظاعة الفلسفية ما يكفي ليمكِّننا من بناء سؤال فلسفي يحترم جغرافية العقل اليومي التي تثوي على حدوده. ولا ننسَ أن «العقل الغربي» هو أيضًا تسمية جغرافية فحسب.

١  إننا نحاول أن نفكر ها هنا في الأفق الذي أشار إليه هَيدغر في الفقرة ٢٧ من كتاب الوجود والزمان وإن كان ذلك خارج إشكاليته.
Cf. M. Heidegger, Sein und Zeit, Tübingen, Max Niemeyer Verlag, 1979, §27 “Das Alltägliche Selbstsein und das Man”, pp. 126–130; traduction Fr. Vezin, Paris, Gallimard, 1986, pp. 169–173.
٢  E. Kant, Kritik der Urteilskraft, Berlin, Akademie - Textausgabe, Band V. 1968; trad. fr., Critique de la Faculté de Juger, in: Kant, Œuvres Philosophiques, Tome II, Paris, Gallimard, 1985, p. 1072.
٣  Ibid.
٤  Ibid: “Unter dem Sensus Communis aber Muss Man Die Idee Eines Gemeinschafitlichen Sinnes, di, Eines Beurtheilugsvermögens Verstehen (…)” V. 293; trad. fr., p. 1072.
٥  M. Heidegger, Sein und Zeit. op. cit., trad. fr., p. 169–173.
٦  J. Habermas, L’Espace Public, trad. fr., Paris, Payot, 1978; cf. J. Guilhoumon, “Espace Public et Révolution Française Autour de Habermas”, Raison Pratique, 3, 1992, pp. 275–290. ولكن ربما كان معنى اﻟ «أغورا» Agora هو أقرب سلف «مدني» لمفهوم الفضاء العمومي؛ فإن أرسطو إنما يؤكد في كتاب السياسات أن اﻟ «أغورا» ساحة للتمثيل بالعدو (6.V) أو لانتصاب تماثيل مرفوعة لأشخاص (12.V) أو لمراقبة النظام (15.IV). حتى إن أرسطو يتحدث عن «بوليس الأغورا» (12.VII) حيث هو حامي الشأن العمومي ومراقبه: Aristote, Les Politiques, trad par P. Pellegrin, Paris, G. F., 1990, pp. 329–330, 366, 439 et 405.
٧  Cf. M. David-Ménard, “Kant ou la Patience des Limites”, in: Revue Philosophique de la France et de L’Etranger, N° 2, 1987, pp. 169 sq.
٨  Kant, Kritik der Reinen Vernunft, in AK. Band III, Berlin, 1968 trad. fr., in: Œuvres philosophiques. Tome I, Paris, Gallimard., 1980, pp. 1330–1333.
٩  Ibid., p. 1332.
١٠  Ibid., p. 1333–1339.
١١  M. Heidegger, op. cit., trad. fr., p. 169.
١٢  Ibid., p. 170.
١٣  ابن رشد: فصل المقال، تقديم: ألبير نصري نادر، ط٦، بيروت، دار المشرق، ۱۹۹۱م.
١٤  الفارابي: تحصيل السعادة، تحقيق: جعفر آل ياسين، بيروت، دار الأندلس، ط۲، ۱۹۸۳م.
١٥  Kant, Œuvres … I, op. cit., p. 1072.
١٦  Heidegger, op. cit., p. 488.
١٧  Cf. P. J. Labarrière, “Espace Public et Démocratie”, in: Raisons Pratiques, 3, 1992, p. 36.
١٨  Kant, Œuvres … II, op. cit., p. 211.
١٩  قد تكون بين هذا الرسم وبين ثلاثية العروي وشائجُ يحسن بنا أن نوضح الأمر الدافع إليها. فإن ثلاثية «الشيخ» و«السياسي» و«داعية التقنية» إنما هي عنده «ثلاث لحظات من الوعي العربي الذي يحاول منذ القرن الماضي أن يفهم ذاته وأن يفهم الغرب.» (ص٣٠). فالأمر متعلق هنا بتحقيب تاريخ (ص٤٠–٤٢) هو في حقيقته مسألة طرحها «الآخر» وعيَّن «إطار البحث فيها» (ص٤٣). بيد أن ما نقصد إليه ليس هو نمذجة أشكال من الوعي، وإنما الإكباب على وصف طوبيقي للفضاء العمومي ولأجهزته. قارن: عبد الله العروي: الأيديولوجية العربية المعاصرة، بيروت، دار الحقيقة، ط٤، ۱۹۸۱م.
٢٠  إن داخل كل جهاز عمومي إنما تعمل أيضًا إوالية تعميم وتوجيه دقيقة. فعن الثُّكْنة كان فوكو قد قدم الإطار الوجيه لدراسة هذا الجهاز بما هو عُدة سلطة حديثة لا تتقوم إلا بالأوامر بما هي المنطق الوحيد للانضباط. انظر: M. Foucault, Surveiller et Punir. Naissance de la Prison, Paris, Gallimard., 1975. Partie III, Ch. 1.
٢١  من البيِّن أننا نفكر ها هنا بالسلطة في الأفق الفلسفي الذي أعطاه فوكو لهذه المسألة منذ كتابه المراقبة والمعاقبة (١٩٧٥م)، وهو أفق تميِّزه الخصائص التالية التي ضبطها جيل دولوز في كتابه فوكو: (١) إن السلطة ليست ملكًا لطبقة ما. (٢) إن موقع السلطة لا ينحصر في جهاز بعينه. (٣) إنه لا وجود لعنصر محدد ترجع إليه طبيعة السلطة (الاقتصاد مثلًا) وإنما هي محايثة لكل حقل وكل وظيفة. (٤) إنه ليس للسلطة جوهر نهائي، بل هي إجرائية لأنها ما هي سوى عَلاقة. (٥) إن السلطة لا تقمع ولا تؤدلج بل هي تنتج الواقع قبل أن تقمع. (٦) إن شرعية السلطة لا تتماهى مع القانون، فهذا الأخير إن هو إلا تنظيم لنزوعات غير شرعية. انظر: G. Deleuze, Foucault, Paris, Minuit, 1986, Ch. 2.
٢٢  J. Habermas, Raison et Légitimité, Paris, Payot, 1978, p. 140.
٢٣  حول معنى «التواصلي» انظر: J. Habermas, La Science et la Technique comme Idéologie, Paris, Gallimard, p. 22.
٢٤  Ibid., p.27.
٢٥  يتطلب تكوين «رأي عام» فضاءات عمومية ليس للسلطة السياسية أن تستثمرها، وإنما أن تضمن على نحو مؤسساتي وجودها واستقلالها. فإذا تكفل النظام السياسي بتكوين الرأي العام أو الإرادة السياسية فإنه ينفي هذين الجهازين عن أرضهما الأصلية، أي الفضاء العمومي الحر.
٢٦  Cf. A. Philonenko, Qu’est-Ce Que S’Orienter dans la Pensée? Paris, Vrin, 1959, “L’Introduction”.
٢٧  لقد ضبط هوبز منذ ١٦٥١م في كتاب «التنين» المنطق الحقوقي الذي يقود الدولة الحديثة إلى التحكم في الاستعمال العمومي للمذاهب والآراء والمعتقدات والطقوس. انظر: Th. Hobbes, Léviathan, trad. fr., Tricaud, Paris, 1983, p. 184 et p. 390.
٢٨  M. Foucault, Histoire de la Folie, Paris, Coll. Tel., Gallimard, 1972, p. 557.
٢٩  Cf. G. Deleuze/F. Guattari, Qu’est Ce Que la Philosophie?, Paris, Minuit, 1991, p. 105.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤