جغرافية العقل اليومي
«إن حياتكم اليومية هي هيكلكم وهي ديانتكم.»
«المَوْجِد هُمْ، في الأول والآخر.»
(١) توطئة
(١-١) ما هو «العقل اليومي»؟
وإن مطلوبنا هنا إنما هو أن نزج بالفلسفة إلى حيث هي دائمًا، ومنذ بَدْأتها، في حقل اللافلسفة. فليس ما هو يومي إلا ما هو لافلسفي في كل عقل؛ أعني اقترانه باللاعقل، ليس على سبيل النفي والتبكيت، وإنما خاصةً على وجه الارتباط الاضطراري ﺑ «الفضاء» الذي تظهر فيه الفلسفة، أيَّة فلسفة، بما هو «الفضاء العام» أو «العمومي» الذي لا يوجد الفيلسوف خارجه. وإذا كانت تجارة الاصطلاح المحض في مفهومات الفلسفة، رائجة، بل يكاد يقتصر عليها، بحيث لا يُحدُّ العقل إلا بما هو مدرسي فيه، فإن المتجر الذي نطلب هنا إنما هو متجر العقل اللافلسفي الذي يَهَب الفلسفة فضاءً هو لها إمكان أساسي للخطاب وخارطة للتخييل، واختبار لما تستطيعه وما لا تستطيعه الحقيقة.
(١-٢) ما هي حدود العقل اليومي؟
ولكن لماذا أُحدِّث ها هنا عن «جغرافية العقل اليومي»؟ فإنه وإن صرَّحْتُ به غلبت الكناية عليه، ولا يزال تأصيل مقالتنا فيه مطلبًا وعرًا. فلنعاود كرَّة السؤال: ما هو «العقل اليومي»؟ أو «مَن» هو العقل اليومي؟ فمن البيِّن أننا إزاء مقولة لم يعرفها كانط على وجهها الذي نطلب، ولا فكَّر بها على النحو الذي هو أصل هذه المقالة. لكن كانط بالرغم من بعده عن هذا الإشكال، وارتيابه منه لو أصاب منه مسمعًا، قد اختص إمكانية التفكير فيه بلطائف وإشارات تعتلج لها خواطر طالبها، وتنقاد. وتلك ذكرنا بعضها فيما سبق، ونُصيب بعضها فيما لحِق، طبقًا لمراتب المسألة وخطتها. فلنفرض أن العقل اليومي يقبل النقد بالمعنى الذي خصصه كانط، فنشرع بذلك في محاولة فلسفية تقصد ضبط جغرافيته الخاصة، وكشف طبيعته التشريعية.
(٢) جغرافية العقل اليومي
(٢-١) اليومي والعمومي: «الهُمْ»
(٢-٢) العمومي و«العامي»
(٢-٣) الاستعمال العمومي للعقل
(٣) منطق «الرأي العام»
(٣-١) جغرافية الفضاء العام
إنما نقصد هنا هذا الأمر: إن العقل اليومي لينقلب في الفضاء العمومي إلى ضرب من «الرأي العام» الذي يتحكم به ويتحكم فيه. وبكلمة واحدة، ليس العقل اليومي سوى منطق الفضاء العمومي الذي نفترضه عندما نفكر داخله وعلى حدوده. بيد أن هذا العقل ما كان ليعمل بانتظام كافٍ ويستمر في أداء وظائفه المعقدة، لولا وجود مؤسسات أو أجهزة هي التي تضبط إمكانه وتكوِّن مفاهيمه (فالشرطة والجباية والعقيدة التي ذكرها كانط بوصفها آلات ممنوعة من التفكير، إنما هي ضرب من أجهزة العقل اليومي). بيد أن ها هنا مشكلًا لا بد من تكريره: إن الفرق المحرج بين المتفلسفة الذين نحن، وبين كانط، هو الفرق نفسه بين من يفكر على أرضية عمومية مؤسَّسة على مبدأ «حقوقي» هو مرجع كل عمومية، وبين ذاك الذي يحاول أن يتزن على فضاء مهزوز لأنه قُدَّ من عنصرين عموميين متنافرين: أحدهما «مِلِّي» (نسبة إلى الملة) أما الآخر فهو «حقوقي». وهما عنصران صادران عن تصورين متغايرين للمحكومين: هل هم «عامة» أم «أشخاص حقوقية»؟ هل السلطة عمومية أم عامية؟ وقد رأينا أن العقل اليومي إنما هو يومي من حيث هو عامي وعمومي معًا.
(٣-٢) جدل العقل اليومي
يبدو أن الفضاء العمومي مصاب بحكم طبيعته الخاصة بمشكل حدودي: إنه يمتهن لعبة جغرافية معقدة وغير مستقرة، وذلك لاستناده إلى تصورين متنافرين للعنصر «اليومي»: هل هو «عامي» مثلما تزعم الملة بواسطة آلة التخييل (المسجد)؟ أم «عمومي» كما تؤكد البنية الحقوقية لدولة الحق بما هي محكمة معمَّمة، سواء بواسطة آلة العنف الشرعي (الثُّكْنة) أم بآلة الدرس (المدرسة)؟ أما منزلة هذا المشكل الحدودي الدائم فنبينها كالتالي: إن هذا الأصل المزدوِج للعقل اليومي من حيث هو عامي (مِلِّي) وعمومي (حقوقي) ليس طارئًا أو خاصية جزئية، بل هو «وهم طبيعي» فيه. وإن تشخيص هذا الوهم الطبيعي وتأصيل القول فيه هو ضالة هذه المقالة.
إن لعبة متعددة من الداخل هي التي توجه العقل اليومي نحو هذا المعنى العمومي أو ذاك: لعبة الملة والمحكمة، ولعبة المحكمة بجهازَيها المتنافرَين: الثُّكنة والمدرسة. إنها سرعان ما تنقلب في كل أزمة إلى خلاف دقيق بين مخيال الملة ومطلب القانون، سواء أكان إرادةً للمعرفة في المدرسة أو إرادةً للسلطة في الثُّكنة. وتلك خارطة أولية للعقل اليومي. فإن الدولة، وهي تقدم نفسها دائمًا لا كوسيلة بل كغاية في ذاتها، إنما تزرع شبكة حقوقية قارَّة في كل ثنايا الفضاء العمومي، فتحوِّل كل ما هو «عمومي» إلى ما هو «قانوني». لكنها ما فتئت تواجه مقاومة أصلية من جهتين؛ أولًا: من جهة أن المدرسة وإن كانت صادرة عن الأصل الحقوقي نفسه الذي صدرت عنه الدولة الحديثة، فإنها لا تدخر جهدًا في مقاومة الاستبداد الحقوقي لدولة المحكمة، وتعلن أن القانون ليس كل «الحق» بل هو ضرب من تحقيقه فحسب. وهي تعمل دومًا على منع الدولة من الانقلاب إلى ثُكنة، والقانون إلى سلطة عنفية محض. وثانيًا: من جهة أن المسجد إنما هو أيضًا جزء جوهري من الفضاء العمومي لأنه بواسطته يمكن للعقل اليومي أن يرتب العَلاقة مع زمان الأمة وحاجة المطلق فيها. لكن مكمن الخطورة في المسجد، من حيث هو شأن عمومي، أنه مخزون رهيب من اللامعقولية التي لا تستطيع دولة المحكمة أن تستغني عنها، كما لا يمكن للفضاء العمومي أن يصرِّفها كلها. فإن أي دولة ومن حيث هي سلطة يومية إنما هي محتاجة في قوامها إلى ضرب من السحر المشروع لتصريف العنصر العمومي؛ وليس هذا السحر المشروع سوى لامعقولية السلطة؛ أعني كهانتها ولُغزيَّتَها، أي طبيعتها «الملية» أو «العامية». وهي لا تجد مثل مخيال الملة منهلًا لا ينضب. إنه لا توجد دولة بلا سحر مشروع أو بلا دين، فإذا لم تجده فإنها تخترعه. لكن الوظيفة «الجميلة» للدولة إنما هي قدرتها على تصريف عمومي لما هو سحري في مخيال الجمهور، في الوقت ذاته الذي تكون فيه الإطار الوحيد لاستعمال الحرية استعمالًا عموميًّا.
تتراوح خارطة المعقول العمومي، التي توجه عقل المواطن الراهن، بين أصنام العقيدة ومطالب الحقيقة وتقنيات السلطة. بَيد أنها خارطة لا تُرسم إلا رسمًا مؤقتًا بمعنيين: فهي من جهة لها معياريتها الخاصة طبقًا للجهاز العمومي الذي تصدر عنه؛ وهي من جهة ثانية دولة على طريقتها، إذ إنها تعيش حالة طوارئَ دائمة، لا هي حرب فتتوقف اللعبة العمومية نفسها، ولا هي سِلم فينقلب الاجتماع الإنساني إلى آلة باهتة. وذلك لأن «اللامعقول» هو «الآخر» دائمًا. إن «آخر» الملة هو دولة المحكمة سواء أعبَّرت عن نفسها بالحقيقة في المدرسة أم بالقانون في الثُّكنة، كما أن «آخر» المحكمة، حقيقةً أو قانونًا، هو مخيال الملة. وإن ذلك إنما يعني بخاصة أن اللامعقول ليس دخيلًا على العقل اليومي، بل هو أصيل فيه، لأنه صادر عن التربة نفسها التي ينبت عليها الجميع. إن كل أصحاب العقل اليومي نوابت، وكلٌّ نابت على منوال يخصه.
ولذلك، فإن سوء الفهم الذي يدفع إلى الحيرة إنما هو أخذ العقل اليومي كأنه آلة معرفة محايدة لتصريف نتاجات الذهن من حيث هو ذهن نظري، فإن أطفالنا صاروا يفقهون أن «العقل» الذي علموه في المدرسة شيء، و«العقل» الذي يعمل فيما هو عمومي، أو يرتاد مناطق الملة، إنما هو شيء آخر. وليست هذه الصنوف من العقل جواهر متغايرة يفارق بعضها بعضًا، بل هي أجهزة يومية لتشغيل الآلة العمومية وتوجيهها واستهلاكها. وقد بات واضحًا أيضًا أن المخيال الذي صدر عنه المسجد ليس كتلة من اللامعنى والمحال، وإنما يملك قدرًا كبيرًا من الهيكلة والانتظام، وضربًا خاصًّا من المعقولية التي تضمن وظيفيته.
(٣-٣) نزاعات العقل اليومي
إنه لا مخرج من هذه النزاعات إلا عندما نفلح في إيجاد ترتيب عمومي للعَلاقة بين ضروب المعقولية التي تكوِّن العقل اليومي وتوجهه. أجل، إن من يعقل «المسائل» في المدرسة له منطق مغاير في بنيته ووظيفته، عن ذاك الذي يوجه من يتفقه «الدعاوَى» في المسجد، أو يحدد «الأوامر» في الثُّكنة. فالمسألة والدعوى والأمر ثلاثة مفاهيم لا تشير إلى المعقولية ذاتها؛ فإن المسألة مسألة تفكير أو معرفة تقبل حرية الفهم، وتسمح بإمكانيات التفكير في اللامفكَّر فيها، في حين أن الدعوى التي يرسلها الفقيه، إنما هي دعوى مصممة سلفًا، ومبنية على مسكوت عنه لا يكون فيه «كيف؟» إلا مردودًا؛ أما أوامر الثُّكنة فإنها إشارات صادرة عن منطق التنفيذ الذي لا يناقش. إن هذا الوضع العمومي إنما يدفع إلى اليأس حقًّا عندما نعرف أن العَلاقات بين عقل المدرسة وعقل المسجد وعقل الثُّكنة أو المحكمة، إنما هي عَلاقات غير تواصلية أساسًا، بل هي عنفية أو لامبالية أو غامضة، وبمعنًى ما هي أداتية في جوهرها من حيث إنها تتم غالبًا إبَّان تقاطع وظيفي في الفضاء العمومي. فالمدرس يزعم أن الأفكار كافية لرسم جغرافية الحقيقة للجميع، بحيث إن كل عقل سيحترم بنفسه مسالك المعنى ومواطن الصحة والخطأ، ومطالب الجدوى، لإرساء مدينة المواطنة التي يكون فيها الإنسان، هذه اللذة الدهرية، قوةً وجهدًا أصيلَين لاختراع العدالة. وتعريف العقل الذي يزاول الحكمة في الزمان الحقوقي هذا، أنه قدرة على رسم الحدود بين المشروع وغير المشروع بتلقائية مدنية محض. لكن هذا النوع من العقل سريعًا ما يرتطم على غير هدًى بأرضية عنيدة، محروثة بمخيالٍ عجوز، له وسائله الخاصة، لتحريك اللامعقول والاشتغال عليه، وَفق خارطة أخرى للعنصر العمومي، لا معنى فيها للمشروع واللامشروع المدنيين، وإنما هو قائم على تصور فقهي للحلال والحرام، ليس في المسجد بل في كل جسد وكل رغبة، ويلوِّح بإقامة الحدود بوصفها قِصاصًا، أو وسيلة أصلية للاجتهاد.
إن جميع هذه الأجهزة إنما تعاني من مركزية «عمومية»: فالعقل الفقهي يزعم أنه صاحب المقال «الشرعي» حول الأمة، وأنه دستور الهوية، وآلة التأصيل. أما العقل السياسي فيفترض أنه الشرط التاريخي والوحيد لحماية العقل الفقهي حتى من نفسه، أي من اللامعقول الذي يثوي فيه سلفًا. لكن العقل المدرسي إنما يطرح بديلًا آخر عن هذين العقلين: عن الأول بما هو آلة تخييل ليس إلا، وعن الثاني باعتباره في جوهره تقنية سلطة. فيرفع المدرسة بذلك إلى الأصل الوجيه للمواطنة؛ لأنها هي التي تحاسب العقل بمقياس العقل نفسه، وتدربه على ابتكار المعقول من ذاته واستبدال العنف بالخطاب. بيد أن كل مركزية إنما تؤدي مرغمة إلى أمرين: مرض «الأنا» وانغلاقه وتعاجزه عن الغيرية والتعدد، من جهة، ثم تمثل الحوار مع المختلف على أنه ضرب من النزاع الحدودي مع الأغيار والمخالفين والمعارضين، بوصفه نزاعًا «طبيعيًّا» ولاحقيقيًّا حول «البقاء»؛ البقاء داخل الدولة، البقاء بما هو تقنية محو الزمان الخاص والجسد الخاص، وتحويلهما إلى محطة عمومية للانتظار، لا يكون المستقبل فيها قد مرَّ بعد. إنه جهد لإضفاء الطابع «المكاني» على كل شيء، لأن المكان هو الذي يؤثثه العقل اليومي بكل شواهده وعلاماته، حتى ينقلب إلى خارطة للهوى، أعني للانفعال العمومي، ولا يهم إن تم ذلك بواسطة «الدرس» أو «الخطبة» أو «الأمر».
الخاتمة
ليس العقل «العربي» سوى خارطة مشاكل وأدوات تفكير وإمكانيات حياة، ناتجة كلها عن موقعنا داخل جغرافية العالم الحالي. فربما كان للخارطة رأي لم نفكر به بعد. فنحن لسنا قبل الغرب أو بعده، وإنما في جنوبه. إننا جنوب الحداثة، وهو موقع له من الفظاعة الفلسفية ما يكفي ليمكِّننا من بناء سؤال فلسفي يحترم جغرافية العقل اليومي التي تثوي على حدوده. ولا ننسَ أن «العقل الغربي» هو أيضًا تسمية جغرافية فحسب.
Cf. M. Heidegger, Sein und Zeit, Tübingen, Max Niemeyer Verlag, 1979, §27 “Das Alltägliche Selbstsein und das Man”, pp. 126–130; traduction Fr. Vezin, Paris, Gallimard, 1986, pp. 169–173.