الفصل الرابع
مولد «الإتيقا» عند العرب
الفارابي شاهدًا
«و[أمَّا] الفيلسوف الباطل فهو الذي لم يشعر بعدُ بالغرض الذي له الْتُمست الفلسفة فحصل
على
النظرية أو على جزء من أجزاء النظرية فقط.»
الفارابي: تحصيل السعادة (٩٥٠؟)
«إن موضوع «التعقل» Phronesis إنما هو المَوْجِد Dasein نفسه.»
هَيدغر: الأعمال الكاملة، ج١٩
(درس ١٩٢٤-١٩٢٥م)
هل أصبحت «الفلسفة الإسلامية» اليوم قادرةً على طرح مشاكلنا؟
١ أعني هل استطعنا تحويلها إلى «حقل من المسائل» التي نلتزم سلفًا بالتفكير
داخله وبه؟ إن أشد ما يؤرق دارس هذه الفلسفة إنما هو كونها ممنوعة عنه على جهتين؛ أولًا:
بما هي منقطعة عن سُبُل المشاكل التي انبنت عليها الفلسفة الحديثة منذ ديكارت، وثانيًا:
بوصفها فلسفةً تنشغل بعلومٍ ما عادت بقادرة على تفسير العالم الحالي أو السيطرة عليه.
هذا
السبب المضاعف، أي غرابة الفلسفة الإسلامية أو غربتها، وعزلتها من جهة المسائل التي
تطرحها، وارتباطها بحقول علمية لم تعد محايثة لمشاغل الفكر الحالي ولا محدِّدة له، هو
الذي يبعث على القلق واللافكر.
٢
ما التشريع الذي تصبح معه الفلسفة الإسلامية إحدى أدوات أو إمكانات تفكيرنا الحالي؟
وأي نوع من الأسئلة ينبغي أن نطرح عليها، حتى تتحول هي بدورها إلى فلسفة ملتبسة
بمشاكلنا، ومقتدرة على التفكير داخلها، فتكون أحد العناصر الجوهرية في معالجتها؟ ولكن
هل نعرف اليوم حقًّا مشاكلنا، وهل نحن قادرون على تحديدها؟ فربما لم نفعل منذ عهد بعيد
سوى التعليق عليها فحسب.
إن حاجة الفكر لا تزال تدعونا إذن إلى تكرار السؤال الخاص بها على النحو التالي:
«ما هي» الفلسفة الإسلامية اليوم؟ ماذا يمكنها أن تقول بنا وفينا؟ وعمَّ تقتصر في عصر
لا يؤمن بها، وسخر من عَروضها الخاص، لا هي طالبة له ولا هو قاصد إليها؟ ولا يظن ظانٌّ
أن
هذا استشراق معكوس، وإنما هو تلمُّس، على جهة المساءلة العنيدة، لما تستطيعه هذه الفلسفة
وما يعتمل فيها من إمكانات تفكير لم نتملكها
٣ بعدُ، والفكر مُكِبٌّ على غيرها، وهي مهجورة عنده وساقطة لديه. أما الاهتمام بها
فلا يكون عظيم المساعفة إلا في الندرة. ولكن بأي معنًى يمكن لهذه الفلسفة اليوم أن تساوق
الزمان النظري الذي نحتسب المعقولية
به؟ ومتى يتصير وجودها الحالي صناعة فلسفية لإنتاج الإنسان الذي لا تقوى الدولة على
إتلاف عقله بأجهزة التنوير العنيف؟
إننا نباحث ها هنا عن تهيؤ تصبح معه إمكانية التفكير في نصوص الفارابي أو ابن رشد،
مداخل لبناء فلسفة مساوقة لحداثتنا الخاصة، لا بعناوينها بل بسياقاتها القوية واقتدارها
الفظيع على توليد إحراجات جديدة سواء لمن يفكر أو لطبيعة الخطاب الذي يسنده. وبما أن
لكل
مطلوب ثمة مدخل إليه فإنا سنكفُّ عن التعريض لكي نصرح بأن الممكن الأكبر الذي بحوزتنا
اليوم هو أن نعرف أن «الحداثة» مقايسة فاسدة إذا هي لم تصدر عن توسط
Médiation شبه كلبي
Cynique ومتحير مع أنفسنا، وعلى أرضية «الفلسفة الإسلامية» المحض نفسها، مع كل ضروب
الانتخاب والحذف والانتفاء والتخصيص والإقرار اللازمة لذلك. ولكن أية «فلسفة إسلامية»؟
فإن نسميها «تراثًا» لهو أكبر سوء فهم أقمناه دونها. رُب
تغليط حوَّل نصوص الفلاسفة إلى وثائق «تراثية» ضدهم، فيكون الفارابي شيعيًّا أو ماديًّا،
وابن سينا
«رجعيًّا» … إلخ. ليست الفلسفة المقصودة ها هنا شيئًا آخر سوى «الفلسفة» نفسها، في ماهيتها
التي
تحددت منذ الكندي إلى ابن باجة بوصفها في جوهرها «إتيقا»
Éthique، أي «معرفة الإنسان نفسه»، و«بقدر طاقة الإنسان».
٤ فإنما هي في ماهيتها «فلسفة عملية» بالمعنى الأقصى ﻟ «العمل»
Pratique
بوصفه وجود الإنسان نفسه. وليس ذلك حكمًا يُعدم مسائلها الأخرى التي تبحث في العالم والطبيعة
والموجود الأول … إلخ، وإنما هو يطرحها طبقًا
لعبارة الفارابي التي يفتتح بها كتاب
تحصيل السعادة بوصفها أحد أجناس «الأشياء
الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وفي أهل المدن، حصلت لهم بها السعادة …»
٥ إن المقصد الأسنى لما كانت الفلسفة عندئذٍ إنما هو «السعادة»، التي هي
المطلوب الأقصى لكل ضرب من الاشتغال بالنظر. وبالرغم من هشاشة مفهوم «السعادة» اليوم،
فإن
الهم النظري الذي فرضته طروحات الحداثة، بما هي في الوقت نفسه عصر التقنية وشكل الدولة
المشتقة منه،
٦ قد أفضى، على نحو لافت للنظر، إلى بناء استفسار «إتيقي» محرج
٧ هو مدى قدرة الفلسفة نفسها على أن توجد، وأن تنتج إمكانات التفكير في
الحياة الخاصة بها.
وهكذا فإن الفلسفة الإسلامية، ممثلة هنا بالفارابي، لم تفقد ماهيتها بقدر ما خسرت
الإسناد الذي كانت تستمده من أُنطولوجيا الفلك القديم والجهاز المفهومي الذي توفره
العلوم المتناهية عندئذٍ. إن ما تفرضه الحداثة علينا ليس تصورًا جديدًا لأنفسنا، ولا
خريطة
مغايرة لهمومنا وإنما هو بالتحديد أُنطولوجيا التقنية والجهاز الإشكالي المترتب عنها.
وهكذا فإن افتراضنا أن الفلسفة الإسلامية قادرة على طرح مشاكلنا، أي مدِّنا بإمكانات
جديدة للتفكير، لا يمكن له أن ينشغل بشاغل أُنطولوجي صرف،
٨ ما دامت فكرة «العالم» عند الفارابي مثلًا لم تكن سوى مشتقة من تصور كوزمولوجي
محدد لم يعد ممكنًا التفكير من خلاله. إن هزيمة هذا الضرب من الاهتمام لم تنشأ عن ترفٍ
فكري، بل عن انقلاب في بنية مفهوم العالم نفسه بعد غاليلي وآينشتاين. ولكن أليس ما يبقى
مدعاة للسؤال دائمًا هو «الإنسان» نفسه؟ وقد يحق لنا عفوًا أن نستفهم بصوت طفولي: هل
نحن اليوم نفكر بإنسانيتنا أفضل من أفلاطون أو من
الفارابي؟ يبدو أن الإجابة عن أسئلة الأطفال ليست مهمة سهلة دائمًا.
إنه صَوْب هذه الصعوبة سوف نحاول التفكير؛ أعني البحث عن إمكانيات تفلسف من داخل
مسائل
لم يكن الفارابي ليطرحها، لكنه يفكر من خلالها أو يفترضها. ونحن نحصر هذه المسائل في
ميدان محدد هو «الإتيقا» كتحديد لفظي واصطلاحي مقصود، ولكن لماذا «الإتيقا» وليس
«الأخلاق»؟
٩ ليس الأمر عراك ألفاظ، وإنما هو اصطلاح وجهد الفكر لكي يقول حين يقول. ومن
يفكر لا بد أن يعتمل فيه العصر النظري الذي يتحرك من خلاله. ولذلك فمن يطرح اليوم هذه
المسألة إنما هو مُطالب بأن يتمثل، ضرورةً، ما تحقق منذ اسبينوزا وكانط ونيتشه من فهم
للأخلاق، ثم ما توضَّح خاصةً مع دولوز،
١٠ وفوكو،
١١ وبول ريكور
١٢ أخيرًا، من تباينٍ ماهوي بين مطلب «الحياة السعيدة» ومقتضيات الفعل الخلقي،
أي بين فعل يُشكِّل وجوده بما يتراءى له هو الحسن وهو القبيح بالنظر إلى كماله وكَمية
القوة
والجهد التي بحوزته، وعمل يقيد مسالكه بقيم الخير والشر المجردة. فالميدان الأول «إتيقا»
فضاء
محايثة لا يقبل بأي انفصال عن فن وجوده اليومي، أما الثاني فهو «أخلاق» مغلقة على أوامر
الطاعة التي لا تقوى على الارتباط بنفسها إلا في حضن القيم المفارقة والمتطهرة بعوالم
«المثال» التي تبنيها في كل وعي وفي كل مرة.
وفي جملة مركَّبة من عناصر النص الفارابي نفسه، الفقرة الأولى من كتاب «
التنبيه على سبيل
السعادة» نحدد «الإتيقا» بأنها «تشوق كل إنسان إلى السعادة والسعي نحوها على أنها كمال
ما له.»
١٣ وقد نذكر هنا أن الغزالي يطرح في «
ميزان العمل»
١٤ مسألة السعادة، مقرِّرًا هو بدوره أوليتها ووجاهتها. فهل هناك «إتيقا» لدى
الغزالي أيضًا؟ ولكن هيهات، فإن لفظة السعادة في الحالتين لا تشير إلى مفهوم واحد وإلى
هم
واحد. ولأن اللغة لا تقول نفسها فقط بل اصطلاحنا لها وبها، فإن «مقصد الحياة السعيدة»
عند الفارابي لا يشترط نفسه بإحداثية الحلال والحرام كما عند الغزالي، وإنما الجميل والقبيح
Bon/Mauvais، كمفاعيل عقلية مشتقة من ماهية الإنسان نفسه، بما هو موجود يسعى إلى فعل
مطلوب لذاته
١٥ إذا اعتمله حصَّل «كماله» الذي له؛ أعني كَمية الممكن الذي بحوزته. فالإنسان عند الفارابي
ممكن كله، وليس
فعله سوى وجوده، أي قدرته على «الاستكمال» والاستيلاء على الممكن الذي فيه. وهكذا ليست
شروط الجميل خارجه، إنها لا تمارس عليه أية «مفارقة»
Transcendance، فإن «الإتيقا» حقل
محايثة مبدئية، حقل الممكن والمستطاع بما هو بشري أصلًا، قوى النفس والبدن، في حلقات
الفعل الذي حين يُفعل لا يُطلب إلا لذاته؛ أعني لما من شأنه أن يحقق للإنسان الطور الأقصى
مما هو، ما هو ممكن فيه بما هو إنسان.
إن «الإتيقا» عند الفارابي إنما هي محصلة تنبه الإنسان إلى قدرته على أن يصير ما
هو، وذلك باستعمال
ما هو ممكن فيه، أي ماهيته بوصفه كائنًا مندوبًا إلى استكمال نفسه بنفسه. «الإتيقا» هي
قدرة الإنسان على أن يكون ما هو بما هو،
١٦ أما «الأخلاق»، ويقرب أن نطلق عليها بلغة الفارابي مصطلح «الملة»،
١٧ فهي تفزع دائمًا من قوة الإنسان على أن يكون غير محتاج في وجوده إلى ما ليس
متضمَّنًا في ذلك الوجود أو في نفسه. فكل أخلاق إنما هي دِين متنكر. إنها مشتقة مما هو
مفارق وممثول سواء أكان الله أم الدولة أم الحقيقة. إنها جهاز تحويل البشر إلى ملة،
ورغبات الإنسان إلى حجج ضده.
١٨ لذلك تحرص الفلسفة، حسب الفارابي، على تحديد شرائط «الإتيقا» في الإنسان
نفسه، في عقله وتشوقه ووجوده. بيد أن هذا الحرص على وضع مبحث «الإتيقا» في موضع خالٍ
من
كل أشكال المفارقة، هو ما هو مقلق وغامض في تفكير الفارابي كما يظهر خاصةً في رسالتي
التنبيه والتحصيل، بحيث إن الحقل الفكري الذي يرتسمه الفارابي لإمكانية «الإتيقا» إنما
هو حقل محايثة تامة، ليس للسبب الأول ولا للعقل الفعَّال ولا حتى لرئيس المدينة دور محدد
أو مفارق فيها.
وقد نستطيع أن نبحث عن تفسير لذلك لدى أرسطو بوصفه مرجعًا أصليًّا لمبحث «الإتيقا»
عند
الفارابي، فقد أوضح أرسطو في المقالة السابعة من كتاب
أخلاق نيقوماخوس١٩ أن الآلهة لا تعرف فضيلة ولا رذيلة، رغم أنه لا ينفي في الموضع نفسه الطابع
الإلهي عن فئة من البشر الذين ملكوا اقتدارًا خاصًّا على التخلق بأوصاف السعداء، أي مستكملي
أنفسهم بأنفسهم. كما بيَّن في المقالة الثالثة من الكتاب نفسه،
٢٠ أن الموت فاصل عن الخير والشر، فما وراءه لا خير ولا شر، وأن الحياة تستحق الحياة.
٢١ وبكلمة واحدة، إن شئون الآلهة مباينة لشئون البشر ولا تقاس بالمقياس عينه.
٢٢
لكن تحرر «الإتيقا» من إشكال المفارقة هذا، سيجعلها معزولة عن الأُنطولوجيا التي
تؤسسها. ولذلك يبدو مبحث «الإتيقا» عند الفارابي، كما عند أرسطو، مبحثًا مهتزًّا وقلقًا؛
فهو يرتبط من جهة الموضوع بعناصر أُنطولوجية متغيرة ومتقلبة هي أفعال البشر وتشوقاتهم
واستعداداتهم.
٢٣
وهو من جهة المنهج مشروط في مقاله بالطابع الكلي الذي يفرضه العقل النظري.
٢٤ إنه مبحث قلق لأنه يتعلق بالممكن، أي كما يقول الفارابي ﺑ «الأشياء الواردة
في المعمورة لمدينة أو لطائفة من مدينة أو لإنسان واحد»،
٢٥ و«ما سبيله أن يُعرف من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التي تحدث مما
ليس سبيلها أن يسير فيه الأولون.»
٢٦
أما حلُّ الفارابي فهو كالتالي: فتح «الإتيقا» على السياسة،
٢٧ وربط إرادة السعادة بإرادة المدينة. لكن خطر ذلك كبير؛ فأن تصبح «الإتيقا»
مشروطة في تحقيقها بالسياسة معناه أن مشكل المفارقة قد عاد ليطرح صعوبات جديدة. فما
اكتسبه مبحث «الإتيقا» من خصوصية على المستوى الأُنطولوجي لكونه يتعلق بما هو متغير
ومتقلب وممكن، ها قد فقده على المستوى المدني، بأن صار تحقيقه مشروطًا بالفعل السياسي
ومنطقه. ﻓ «الإتيقا» قائمة في ماهيتها على مطلب السعادة بما هو مطلب «كل» إنسان؛ إنها
أفقية دائمًا، وتزرع إمكانها مما هو محايث في البشر، من قواهم واستعداداتهم وإرادتهم.
أما السياسة فما إن تتعلق بالسلطة
حتى تصبح أخلاقًا متنكرة، تلتبس برغبات البشر وتخيلاتهم وأوهامهم. إنها تنصب الخضوع في
كل
أفعالهم، وتشرِّع للمفارق أينما حلت. فإن السياسة تفاضلية وعمودية دائمًا. إنها تحوِّل
حاجة
البشر إلى الاجتماع، إلى حجة نهائية وعنيدة ضد وجودهم الخاص، وضد كمالهم الخاص. وهكذا
يبدو أن «الإتيقا» مطالبة بأن تخدم السياسة، بأن تكون شرط إمكان صامت وخجول لها، دون
التحول إلى تملُّك لها أو رسم لحدودها. و«الإتيقا» من هذا المنظور ممكنة ومطلوبة، في
حدود ما هو الإنسان بالنسبة لذاته، ولمطلب الحياة السعيدة
فيه، أما مطلب المدينة فهو مطلب مفارق أصلًا؛ إنه لا يحقق اتصال البشر بأنفسهم، بل بما
ليسوا هم، بما يجعل وجودهم المدني وجود «نوابت».
٢٨
بَيد أن ها هنا مسلكًا آخر لفهم الفارابي، وذلك بأن نجدد الأسئلة حول مفهومٍ
لعب دورًا هامًّا في كتاب أرسطو:
أخلاق نيقوماخوس٢٩ سواء في بناء التصور الأرسطي ﻟ «الإتيقا» أم في تحقيق التوسط الصعب بين فعل
السعادة وفعل المدينة، بين مطلب الكمال ومطلب الرياسة في فلسفته العملية. وهذا المفهوم
بالتحديد وفي لفظه الإغريقي هو
Phronesis وهو ما ترجمه
اللاتين ﺑ
Prudentia وبالفرنسية
Prudence وبالألمانية
Klugheit.
٣٠ فماذا كان أمر الفارابي مع هذا المصطلح ما دام قد شرح كتاب أرسطو في
الأخلاق أو درسه؟
٣١ إنه ليس من الهين أن نضبط لديه لفظًا واحدًا دالًّا على مفهوم
Phronesis.
فقد نقترح «التبصر» أو «الحصافة» أو «جودة الرويَّة». ولكن المفهوم الذي هو في الوقت
نفسه
أكثر إقلاقًا وأكثر قربًا من المطلوب، إنما هو مفهوم «التعقل»، لا كما هو مبسوط في
الفصل ٢٢ من الآراء بما هو نشاط النفس الناطقة
في إدراك المعرفة أي بما هو
Intellection، وإنما هو بالتحديد كما يظهر في رسالة في العقل،
٣٢ ولكن خاصةً في فصول منتزعة
٣٣ التي تدفع إلى الاعتقاد بأنها في بعضها شرح الفارابي لكتاب أخلاق
نيقوماخوس، فإننا يمكن أن نرتسم نوعًا من التوازي المدهش بين الفصول ٣٣ إلى ٤٦ و٥٢-٥٣،
من كتاب الفارابي والمقالة السادسة من كتاب أرسطو، حيث نعثر على الفقرات المخصصة
لتبيين مفهوم «التعقل» بوصفه المقابل الأكثر وجاهة لمصطلح
Phronesis الأرسطي.
٣٤
إن ما هو مثير حقًّا هو أن الفارابي في
رسالة العقل، وبالرغم من أنه يشير بلفظة «التعقل» إلى «الشيء الذي
يقول به الجمهور في الإنسان إنه عاقل»،
٣٥ يُمدنا بتعليق حاسم بالنسبة لمطلوبنا، قال: «فهؤلاء إنما يَعنُون بالعقل على
المعنى الكلي ما يعنيه أرسطو بالتعقل»،
٣٦ أين ذلك؟ يجيب الفارابي بأن مرجع ذلك إنما هو العقل الذي يذكره أرسطو في المقالة السادسة
من كتاب الأخلاق.
٣٧ أما المتصفح لهذه المقالة المشار إليها، التي خصصها أرسطو لدراسة «الفضائل الفكرية»
Intellectuelles بعد أن فرغ من البحث في «الفضائل الخلقية»
٣٨ في المقالات السابقة (من الثانية إلى الخامسة)، فإنه يكتشف أن «الفضيلة
الفكرية» المركزية في «إتيقا» أرسطو كما تظهر في المقالة السادسة، إنما هي فضيلة
Phronesis، أي كما يحددها الفارابي، متبعًا في ذلك أرسطو بدقة كبيرة: «جودة الرويَّة في
استنباط ما ينبغي أن يفعل من أفعال الفضيلة.» بل ويفرِّق، مثل أرسطو، بين من يستنبط ما
ينبغي أن يفعل من خير وهو
المتعقل، وبين من يستنبط ما ينبغي أن يفعل من شر فحسب، وهو ما يسميه «الداهي»، ويمنع
عنه صفة التعقل.
٣٩
إننا نعني بهذا الفحص السريع لمفهوم «التعقل»، بما هو قادر على استيفاء جل عناصر
المصطلح الأرسطي
Phronesis، أن الرابط الذي يمكن فعلًا أن يحقق شكلًا موجبًا من التوسط بين
«الإتيقا»، بما هي ضرب من الجهد نحو السعادة، بصفة محايثة لقوى الإنسان، في نفسه وبدنه،
وبين السياسة، بما هي جهاز مرتبط في جوهره بأُنطولوجيا مفارقة قائمة على تصور تفاضلي
للمدينة، إنما هو مفهوم «التعقل»، بما هو «جودة الرويَّة»، والفارابي كثيرًا ما يرادف
بينهما سواء في
رسالة في العقل٤٠ أم في
فصول منتزعة.
٤١ فهو القدرة على استنباط ما هو عملي، وتسديد جهود البشر نحو الفعل الجميل، بما هو كمال
ما لنفوسهم، لا مدعاة للثواب والعقاب.
فهذا المفهوم هو الرافد الفعلي الوحيد لتحقيق عَلاقة موجبة ومرنة بين السعادة
والمدينة، فإن ما يحد من حاجة الحاكم إلى الوازع والتغلب في حكمه، إنما هو مدى قدرة
المحكومين على «التعقل».
ﻓ «التعقل» ليس بعلمٍ لكي نفكر بما هو ثابت وضروري،
٤٢ بل هو يتعلق بالممكن وبالمستقبل، أي بما يسميه الفارابي في تحصيل السعادة
٤٣ «الأشياء الواردة»، سواء أكانت طبيعية أم إرادية، في زمان ومكان محددَين،
باعتبار أن الماضي — كما يقول أرسطو نفسه — لا يمكن ألا يكون قد كان.
٤٤ وهو ليس تقنية،
Techne، أي بلغة الفارابي ليس «صناعة»، لكي يقصر همه على النجاعة،
٤٥ بالرغم من استحالته بدونها. وهو ليس «حكمة» لأن الحكمة كما بيَّن ذلك أرسطو،
لا تهتم بسعادة البشر الجزئيين؛ وذلك لأن دورها ليس الإنتاج
Poesis، أما التعقل» فله
ذلك الإمكان.
٤٦ إن كل هذه العناصر النظرية المكوِّنة لمصطلح
Phronesis في المقالة السادسة من
أخلاق نيقوماخوس، إنما هي حاضرة بالتفصيل في فصول منتزعة خاصةً، وفي رسالة في العقل،
حيث
نجد مفهوم «التعقل» مصرحًا به ومعيَّنًا بالمضمون النظري الذي له. كما أننا نستطيع تعيينها
في تحصيل السعادة
٤٧ في صلب مفهومات أخرى، مرادفة ﻟ «التعقل»، مثل «القوة الفكرية» و«الفضيلة الفكرية» أو
في كتاب السياسة المدنية
٤٨ في صلب مفهوم «الرويَّة» الذي يمكننا اعتباره لحظة اكتمال مفهوم «التعقل» واستقراره
المعجمي كما سينضبط مع ابن سينا.
إنما «الإتيقا» إذن ممكنة لأن المدينة غير ممكنة إنسانيًّا بدونها. فإنه كما يردد
الفارابي بعد أرسطو، لا يمكن أن تكون حاكمًا دون أن تكون متعقلًا، ولا يمكن أن تكون متعقلًا
دون أن تكون فاضلًا.
٤٩ أما إذا ضربت عُرض الحائط بمقولة: إن سعادة الإنسان جزء من ماهيته، وبأن
«الإتيقا» إنما هي دائمًا قدرة البشر على أن يصيروا إلى أنفسهم، لا إلى ظلالهم
وأوهامهم، فأنت إذن «الداهي» الذي يشير إليه الفارابي في رسالة في العقل.
٥٠ والدهاة ليسوا سوى ما يقابل «نوابت» المدينة الفاضلة، كما يفسر ذلك كتاب
السياسة المدنية.
٥١ إنها نوابت لا تؤمن بأن مطلب السعادة هو «إتيقا» التعقل المفتوح أمام
الجميع، أي قدرة كل البشر على استنباط وجودهم الجزئي من الممكن الذي بحوزتهم دون أن
يتملكوه بعدُ، وليس ذلك الممكن سوى إنسانيتهم نفسها.
٥٢
ﻓ «التعقل» بمعنى
Phronesis مفهوم قد أنتجه لدى الفارابي اعتناقه شكلًا من التفلسف الذي يؤسس عَلاقة «الإتيقا» بالسياسة
على إمكانية استنباط سعيد لصورة الإنسان الذي هو
فاضل ومواطن في الوقت نفسه.
٥٣ غير أن هذه الإمكانية قد دمرتها الفلسفة الحديثة، مع مكيافيلي بفكرة «الأمير» الذي أصبحت
لفظة
Virtu اللاتينية تشير عنده إلى «القوة»
Force
وخاصةً إلى «المهارة» التي تسخر من ربط (صار ساذجًا) بين نوايا «الأخلاق» ومنطق
الدولة. أقول «الأخلاق» لأن «الإتيقا» قد لا تعني شيئًا بالنسبة لعقل مثل عقل «الأمير».
٥٤ وهو ذاته المنعطَف الذي سيؤسسه هوبز بشكل نسقي ونهائي في كتاب التنين،
٥٥ ويفرضه على التفكير العملي الحديث إلى حدود القسم الثالث من فلسفة الحق
٥٦ عند هيغل، مرورًا بكانط في ميتافيزيقا الأخلاق الذي عمل على معاندة هوبز لكن
دون التحرر من إشكاليته، وذلك بالسعي إلى إخضاع السياسة للأخلاق
٥٧
بالرغم من أنه طرد مبحث
(Klugheit) Phronesis من ميدان الفلسفة العملية أصلًا.
٥٨
بيد أن هذه الإمكانية السعيدة لبناء عَلاقة متبصرة بين «الإتيقا» والسياسة، والتي
تمتد
من أرسطو في أخلاق نيقوماخوس، مرورًا برسائل الفارابي في «السعادة»، وصولًا إلى كتاب
ابن
باجة تدبير المتوحد
٥٩ وربما إلى إتيقا اسبينوزا
٦٠ أقرب المحدَثين إلى تفكيرنا القديم. هذه الإمكانية قد انتابتها صحوة فعلية
اليوم بطرق مختلفة، سواء مع إعادة اكتشاف اسبينوزا نفسه، أم مع مفكرين «أرسطيين جدد»
(والعبارة لهابرماس) أمثال غادامير
Gadamer في مَفصِل هام من كتاب الحقيقة والمنهج
٦١ حيث نظفر بتطويرٍ خِصب لمصطلح
phronesis كمفهوم أساسي لبناء «معرفة عملية»
مخصوصة لتفسير الإنسان وفهمه، أم مع بول ريكور في كُتبه الأخيرة مثل: الذات بما هي الآخر
(۱۹۹۰م)،
٦٢ وقراءات (۱۹۹۱م)،
٦٣ أم مع أعمال ليو شتراوس
٦٤ وحنا آرنت
Arendt،
٦٥ بل وقسم أساسي من مباحث هابرماس
٦٦ وآبل
Apel٦٧ حول «المعقولية العملية». إن الافتراض العام ها هنا هو أن مفهوم
Phronesis، بما هو
«التعقل» كما تصوره الفارابي وابن باجة، إنما هو إمكان نظري نشيط وواعد لبناء إحداثيات
«فلسفة عملية»، لا تقتصر على تجميل السياسة بالأخلاق الصورية كما فعل كانط
٦٨ بل تسعى إلى إيجاد اقتران فعلي بين الحقيقة والنجاعة، بين المعقولية و«التعقلية».
٦٩ لكن يبقى السؤال حول إمكانية «الإتيقا» قائمًا: فأي تغيير يجب علينا أن
نجريه على مفهوم «التعقل» حتى نبني انطلاقًا منه مفهوم «التعقلية» على نحو «إتيقي»؟
إن
هذه المحاولة تندرج في أفق البحث الذي يشير إليه مفهوم «التعقلية» هذا. ولكن الصعوبات
لا تلبث أن تتوالى، فإن مبحث الإنسان، بوصفه الرافد الأولي لمبحث «الإتيقا»، لا يزال
غير مؤسَّس بعدُ في نظامنا الفكري، بما فيه الكفاية، بالرغم مما تحقق فعلًا مع ابن باجة،
في
تدبير المتوحد، الذي يُعتبر أول من نصب مسألة الإنسان في الفلسفة الإسلامية.
٧٠ إن أنثروبولوجيتنا لا تزال فقيرة ومتهافتة، ولذلك فنحن نستطيع ألا نفكر في
الحيز الذي خصصه كانط ﻟ «الأخلاق» في نقد العقل العملي؛
٧١ أعني حيز «الذات المتعالية» التي هي شرط إمكانها القَبْلي، وذلك بأن نبحث في
نصوص الفارابي وابن باجة خاصةً، كقراء أصليين لأرسطو، ومحضِّرين أساسيين لاسبينوزا، عن
إمكانية وجود «إتيقا» قادرة على طرح مسائلنا العملية من غير حاجة إلى أي نوع من
المتعالي. فإن هَمَّ «الإتيقا» ليس هو البتة بهَمِّ الذات المتخلقة. إنه على خلاف ذلك
هَمٌّ يدعونا إلى قلب
الهيئة الرديئة لإنسانيتنا، والسعي المضني إلى استكمال ما هو ممكن فينا، ولم يَصِرْ بعدُ
جزءًا
من ماهيتنا. ولذلك فمطلب «الإتيقا» إنما هو عند الفارابي مطلب الإنسان نفسه، الإنسان
بقواه وأفعاله ووجوده؛ إنه ليس استخلافًا لأحد.
٧٢
لقد فهم الفارابي ذلك جيدًا، وتعلمه عنه غيره مثل يحيى بن عدي
٧٣ وابن باجة خاصة، إلا أننا لا نلبث أن نشعر بأن نصوصهم قد قتلتها «الأخلاق»، أخلاق
السلطة آنذاك، ولكن أيضًا أخلاق المعرفة، كما فرضها تصور معين ﻟ «التعليم»، يقوم على
الإجلال والتقليد؛ فإن أخلاق المعرفة — أعني خاصةً إجلالهم «الأخلاقوي» للإغريق — قد
قتلت إمكانات «الإتيقا» في تفكيرهم أو خنقتها.
٧٤ وإنه ليس يرسم حدود «الإتيقا» في أي فلسفة، مثل شكل الأخلاق التي تندس فيها
وتحكمها، لا بما هي أخلاق، بل بوصفها الشكل المكتمل من المعرفة الفلسفية نفسها. لقد كان
أرسطو بمعنًى ما معلمًا فاشلًا لأنه صنع تلامذة مطلقين وقراءً
لانهائيين، اختلط عليهم الفرق بين أخلاق المعرفة والمعرفة نفسها، بين المعلم والحقيقة.
٧٥
ولذلك، فما يجب أن نبحث عنه عندهم لن يكون مدعاة خِصبة للتفكر فعلًا، إلا عندما
نفلح في قول مشاكلنا «الحالية» من خلالهم وضدهم. لن يكون ذلك ممكنًا بانتساخهم
كحيوانات أثرية، بحجة الأصالة، ولا بإسقاط ادعاءات المناهج الحديثة عليهم، بتعلَّة
الضرورات الأكاديمية، بل خاصةً بمحاولة التعرف على ذواتنا «الحالية» فيهم، وذلك ببناء
إمكانيات التفكير من خلالهم، وتخصيبها وتعديدها، بطرح أكثر ما يمكن من الأسئلة
المحرجة لنا ولهم. ربما كانت بعض الأسئلة أخطاء ميتافيزيقية حولهم، ولكن هل من سبيل آخر
في
البحث عن السؤال المؤسس لإمكانيات الأجوبة جميعًا؟ إن المبحث الأقدر على جعلنا نفكر
بالفلسفة الإسلامية كجزء داخلي من هَمِّ الذات اليوم، إنما هو مبحث «الإتيقا» كأشد
التساؤلات خصوبة، لأنه يدور حول الإنسان الذي هو نحن. إن إنسانيتنا هي حجتنا دائمًا ضد
العالم «الحالي»، ولكن أيضًا ضد تاريخنا وضد أنفسنا. فإن العديد من الأسئلة الأساسية
لم
تُطرح بعد، ليس فقط حول الفلسفة الإسلامية، بل حول الإنسان العربي نفسه.