الفصل الخامس

من هو متوحد ابن باجة؟

«وأغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه (…) لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود.»

التوحيدي: الإشارات الإلهية (۱۰۲۳م؟)
«العزلة شيء والتوحد شيء آخر.
– إنك لتدرك ذلك الآن! وإنك لواجدٌ من بعدُ نفسَك بين الناس متوحشًا وغريبًا أبدًا.»
نيتشه: حدَّث زرادشت قال، «حديث العود» (١٨٨٥م)

(١) تقديم: راهنية ابن باجة

(١-١) المتوحد والوحيد: ابن باجة أمام الفلسفة الحديثة

ما الحاجة اليوم إلى طرح مسألة المتوحد؟ وهل ثمة في النطاق الذي رسمته الفلسفة الحديثة ما يدعو إلى الإقبال على كتاب تدبير المتوحد،١ لتفحصه ومساءلته؟ إنما ينبغي أن ننبه قبلًا إلى أن هذه الفلسفة الحديثة نفسها قد فكرت أيضًا بمسألة الوحدة على نحو اتخذ من شكل الوجود Existence الإنساني أفقًا له، ومن موضوعة «القلق» موضعًا أساسيًّا لبلورة تلك المسألة.٢ وإنه لم يفلت من ربقة هذه السُّنَّة الوجودية، ممن اضطلعوا فلسفيًّا بمسألة الوحدة، إلا نيتشه٣ والذين اعتصموا بفن التفلسف الذي نشره على العصر، وبخاصة فوكو٤ الذي أفلح، في نصوصه الأخيرة، وانطلاقًا من إشكالية «العناية بالنفس»، في بلورة إمكانية تفكير عملي لم نفرغ بعدُ من مساءلته.
وبعامة يبدو أن مذهب المعاصرين في معنى الوحدة إنما يغلب عليه الطابع «الوجودي» الذي يبدو أن هَيدغر الأول قد أعطى عنه صيغته النموذجية. يقول هَيدغر: «إن القلق يعزِّل ويفتح المَوجِد Dasein على نحو يكون معه «منفردًا بنفسه» Solus Ipse. لكن هذا «الانفراد» Solipsismus الوجوداني لا يحمل ذاتًا متشيئة في الفراغ الغافل لكونٍ بلا عالم، بقدر ما يضع المَوجِد، يأتمُّ معنى الكلمة، أمام عالمه بوصفه عالمًا، ومن ثم فهو ذاته أمام نفسه بوصفه موجودًا في العالم (…) إنما في القلق يكون المرء «غريبًا» (…) بيد أن الغربة تعني ها هنا في الوقت عينه اللاوطن (…) إن هذه الغربة إنما تطارد المَوجِد أبدًا وتهدد، وإنْ صمتًا، بخسرانه اليومي داخل الهُمْ Das Man٥
إن هذا النص الأساسي إنما يُمدنا برسم حاسم لإشكالية الوَحدة التي اهتدت إليها الفلسفة الحديثة برمتها. وحيث إنه لا يحق لنا أن نفرُغ إلى تفحص هذا الرسم، إذ ليس ذلك مطلوبَ هذا البحث، فإننا نكتفي بالتنبيه إلى طبيعة الموقف الفلسفي الذي يفترضه: إن هَيدغر إنما يعرض ها هنا التوجه الجوهري للمحدثين فيما يتعلق بالصعوبة الأصلية لمعنى الوحدة، من جهة ما تعود تلك الصعوبة إلى واقعة «القلق» كظاهرة محورية في أي بلورة أصلية لطبيعة الوجود الإنساني.٦ وذلك ما دام التفكير في منزلة الوحدة قد أصبح يتعلق بمنزلة الوجود الإنساني بوصفه وجودًا تنطوي ماهيته على إمكانٍ أصيل لاحتمال الوحدة، ليس فقط من جهة الوجود اليومي الذي تتخلله الوحدة بل من جهة الطبيعة الزمانية لذلك الوجود.٧
رُب زمانية يبدو أن القلق لا يعدو أن يكون سوى الشاهد الأوَّلي عليها، وهو أوَّلي لأنه إنما يخفي داخل الأفق الذي يرسمه شاهدًا أكثر جوهرية، ألا وهو إمكانية الموت — من حيث هي بخاصةٍ المصدر الأصلي لمشكلة العدم — لا كنهاية كسولة تفصل المائت عن وجوده، بل بوصفها إمكانية أصيلة داخل الوجود نفسه.٨ ولأننا مضطرون اليوم إلى إبصار أنفسنا في مرآة هذا العصر الذي نحن عنده بعدُ؛ أعني لأننا نفكر بموجب خطة المعاصرة الجبرية التي وُجدنا مكلفين سلفًا باحتمالها، أي في نطاق ضربٍ ما من التلقي لأنفسنا، فإننا ننبه إلى أن في تدبر الألفاظ بعضَ فائدة لهذا المبحث. لنقُلْ إن المحدَثين لم يعرفوا إشكالية المتوحد، بل انحسر جهدهم في أفق مشكلة «الوحدة» أو «الوحيد». والحال أن «المتوحد» ليس الوحيد، ولا ينبغي له؛ ذلك أن الوحدة حال يحتمله الوحيد كواقعة أُنطولوجية لا مناص من خوضها، ومن ثم يخضع لها ويعانيها كهَمٍّ أساسي. أما التوحد فإنه موقف «إتيقي» يتكلف معنى الوحدة على نحو يقصد إليه قصدًا؛ لأنه ضرب من السلوك الذي يتهيأ له الفيلسوف تهيؤًا مخصوصًا. وإنا لنجد في المعاني التي أثبتها أهل العربية لصيغة «تفعُّل» التي انبنى بحسبها مفهوم التوحد خيرَ خيطٍ هادٍ للتفطين إلى مقومات المعنى الذي قصد إليه ابن باجة: التوحد هو مطاوعة الوحدة ومجانبتها والصيرورة إليها ومعاودتها وطلبها واتخاذها اسمًا والانتساب إليها (!) إن المتوحد ليس الوحيد.
هذا النحو من التدقيق إنما من شأنه أن ينبه إلى وجاهة التلفت نحو الجهة الفلسفية التي يرتسمها مفهوم «التوحد» الذي فكر به ابن باجة، حين نضع في الاعتبار أن الفلسفة الحديثة، بانزياحها إلى بناء مسألة الوحدة بناء «وجوديًّا»، إنما انتهت إلى ما يشبه الفشل الفلسفي في بلورة معنًى «إتيقي» للوحدة تكون بموجبه لا واقعة أُنطولوجية «عدمية»، بل ضرب من فن الوجود «الدهري» للفيلسوف؛ أعني ضربًا من تدبر الوجود الإنساني لا بوصفه وجودًا زمانيًّا لأنه مفتوح على واقعة الموت من الداخل، بل بوصفه وجودًا يحتمل عَلاقة أساسية بالأبد، ٩ ومن ثَم بمطلب السعادة في نطاق وطن فلسفي لم يفلح الفلاسفة في التنبيه إلى السبيل إليه إلا في الندرة. التوحد فن وجود دهري هو الأفق الوحيد لتأوُّلٍ موجب لمشكلة خلود النفس اليوم؛ وذلك لأن التوحد الفلسفي لا يعدو أن يكون تدرُّبًا خاصًّا جدًّا على الخلود. الخلود بما هو تصريف عَلاقة دهرية بالوجود. هذه العَلاقة الدهرية هي جعل الفلسفة مذهبًا في السعادة وليس هرمينوطيقا لواقعة الموت.
ولذلك، فالفرق بين المتوحد والوحيد هو كالفرق بين فلسفة في الزمان وفلسفة في الأبد، أو بين فلسفة في الموت وفلسفة في الحياة.١٠

(١-٢) المتوحد والغريب: ابن باجة واستئناف التراث الصوفي

ينبغي أن ننبه للتو إلى أن الفلسفة الحديثة قد طورت أيضًا مفهومًا مخصوصًا عن «الغريب» وعن الغربة؛ غير أن نص هَيدغر المذكور قد بين لنا على نحو حاسم وفي الوقت عينه، أن المفهوم الحديث عن الغربة إنما يجد في موضوعة القلق مرجعه الأساسي، ولكن أيضًا إنما ينطوي في آخر المطاف على ضرب من «اللاوطن» Nicht-zuhause-sein.١١ والمطلوب ها هنا هو أن نأخذ الطابع السالب مأخذًا أساسيًّا؛ فالغربة إنما تعني ضربًا معينًا من خسران «الذات»، وضربًا من الذوبان داخل «الهُمْ». الغربة … إنها تشير إلى نمط من الاغتراب عن الذات داخل اللاذات.
والحال أن معنى الغربة الذي يشير ابن باجة إلى قرابته الحاسمة مع معنى التوحد١٢ إنما هو من طبيعة مغايرة تمامًا. وها هنا أيضًا يبدو ابن باجة محاورًا واعدًا، إذ نحن نتأول توجه الفلسفة الحديثة نحو بناء مفهوم «وجودي» عن الغربة على أنه فشل فلسفي في بلورة معنًى موجب لغربة الإنسان داخل العالم.
يقول ابن باجة: «وكأن السعداء إن أمكن وجودهم في هذه المدن فإنما يكون لهم سعادة المفرد (…) وهؤلاء هم الذين يعنيهم الصوفية بقولهم الغرباء، لأنهم وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أُخَر هي لهم كالأوطان (…) ونحن في هذا القول نقصد تدبير هذا الإنسان المتوحد.»١٣ إن هذا النص يضع بين أيدينا كشفًا حاسمًا عن طبيعة معنى الغربة الذي يحتمله مفهوم التوحد، وذلك في إطار اختلاف أساسي عن التصور الحديث الذي انحسر كما رأينا إلى تأول وجودي يعاني من الأفق العدمي الذي يفترضه. فمطلب الغربة لدى الصوفية ليس العود إلى الذات المفقودة، بل مطلبها السعادة، وبعبارة أكثر إثارة: سعادة المفرد، بل وعلى نحو أكثر حسمًا: إن معنى الغربة لديهم يضاهي «الوطن»؛ إنه ضرب من «أدب العزلة».١٤

وإنه داخل هذا الأفق الصوفي اكتشف ابن باجة السبيل الفلسفية الحاسمة لبلورة معنى التوحد. إن التوحد هو إذَن الغربة، لكن الغربة لا تعني ها هنا أي ضرب من اللاوطن، لأن الغريب لا يعاني من أي ضرب من القلق إزاء إمكانية الموت. إنه على العكس من ذلك في سفر سعيد إلى أفق الموت. إن الموت هنا يتخلص من شحنته العدمية وينقلب إلى حدث دهري؛ إنه ضرب من الدخول في أفق الوطن. إن التوحد غربة في الرأي وليس فقدانًا للذات. ولذلك فهو أبعد ما يكون عن خوفٍ من «الهُمْ»، بل هو إقامة عرضية داخل مدينة «الهُمْ»؛ وهو في الوقت نفسه سفر بالأفكار إلى مرتبة الوطن. إن الوطن الفلسفي مرتبة فحسب. ووسيلة السفر الفلسفي هي الفكر. إن التوحد سفر بالفكر إلى مرتبة الوطن، وذلك من غير أي حس عدمي، أي من غير معاناة لواقعات القلق واللاوطن والموت.

ولكن هل يعني ذلك أن إشكالية تدبير المتوحد لا تعدو أن تكون مجرد استعادة لتجرِبة الغربة عند المتصوفة؟ إن ما نقصد إليه هو التنبيه على إمكانية التفكير بمسألة المتوحد بوصفها ضربًا من الابتكار الفلسفي الذي دفع بالسؤال عن ماهية العملي في الثقافة القديمة إلى أقصاها. ولذلك تبدو إشكالية ابن باجة نحوًا من الترجمة الجذرية لمسألةٍ كان المتصوفة قد أعطَوا عنها وثيقة روحية «قبل-أُنطولوجية» حسب تعبير هَيدغر.١٥ رُب ترجمة هي المدخل الجوهري لولادة الإشكاليات الكبرى في صناعة الفلسفة منذ أهل يونان.

(١-٣) كيف نتأول ابن باجة؟ ملاحظة حول ظاهرة تأويلية

إنه ينبغي التنبيه إلى ما يشبه الظاهرة التأويلية التي أصبحت تقود العديد ممن تناولوا بالدرس فلسفة ابن باجة: إنها الإحالة على اسبينوزا.١٦ وهي وإن تكن موقفًا مبرَّرًا منهجيًّا فإنها تطرح صعوبات عدة لا يزال البحث لم يبلغ فصل الخطاب في شأنها. فهذه القرابة بين ابن باجة ولكن أيضًا بين فلاسفة المغرب بعامة وبين اسبينوزا، لم تُطرح غالبًا إلا طرحًا «تاريخيًّا». فإن اسبينوزا إما متأثر بالتقليد الفلسفي العربي، أو هو ظاهرة فلسفية «حديثة» صالحة لفهم ذلك التقليد أكثر من فهمه لنفسه أو من فهمنا له بنفسه. إن ما لم يُنجز بعدُ هو الانخراط في مساءلة للأفق الحديث نفسه، من الموضع الذي يرسمه اسبينوزا سواء للمحدثين أم للعرب أنفسهم، بحيث تصبح قرابته مع التراث الفلسفي العربي هَمًّا أصليًّا للتفلسف عندنا. وبذلك يمكن حقًّا أن نستعمل الإشكالية التي طورها ابن باجة أو ابن رشد مدخلًا هِرمِينوطيقيًّا للوقوف على تكوُّن نسق اسبينوزا، ولِمَ لا، على مصاعبه الخاصة (!).
إننا نقصد بذلك إمكانية أن تؤدي مساءلةٌ ما للأفق الإشكالي للفلسفة العملية التي تَطارحها فلاسفة المغرب دورًا هِرمِينوطيقيًّا ما للانكباب على تأويلٍ لفلسفة اسبينوزا يكون وجهُ الطرافة فيه هو الكف عن النظر من موضع التقليد الميتافيزيقي الحديث الذي انبني حول فلسفة ديكارت، والانخراط في تصريف نظر مغاير ليس بوسعنا هنا إلا أن ننبه إلى طرافته فحسب.١٧
إن وضعية اسبينوزا من حيث هي قائمة على ضرب من «اللاحداثة» Anti-Modernité الأساسية جعلت كتاب الإتيقا بمنأًى عن كل استعادة لمسألة القلق أو الموت أو العدم، وبعامة «السلب»، إنما تؤهله حقًّا إلى نحت إشكاليته خارج الأفق الذي يرتسمه مفهوم الإنسان المسيحي الذي هو مفهوم مشتق أصلًا من مفهوم الزمان المسيحي. وذلك يعني نحت إشكاليته على نحو موجب في الأفق العملي عينه الذي كان فلاسفة الأندلس قد رسموه؛ أفق التفكير بوجود الفيلسوف من جهة ما يدفع بفرضية الحياة التأملية إلى أقصاها.
ولذلك، فإن هذه القرابة الأساسية بين تفكير اسبينوزا والأفق «الإتيقي» للفلسفة العربية في المغرب بخاصةٍ هو ما جعل أهم دراسة خُصصت لفلسفة ابن باجة، ونعني بها دراسة جورج زيناتي «أخلاق ابن باجة»،١٨ إنما قد أتت خاضعةً سواء في تصورها أم في نتائجها، للموقف الفلسفي الذي عرضه اسبينوزا في كتاب الإتيقا: فمن حيث المنهج تبدو هذه الدراسة عبارة عن عرض لتفكيرات ابن باجة في ضوء نموذج فلسفي، ألا وهو إتيقا اسبينوزا. وذلك بيِّن من خطة الكتاب؛ فهي تستعيد حركة كتاب الإتيقا نفسها. غير أن هذا النحو من الدراسة إنما قام على إغفال حاسم للطبيعة الخاصة بإشكالية اسبينوزا، من حيث هي لا تُفهم إلا داخل جغرافية المشاكل التي طرحها القرن السابع عشر، بما هو الصيغة الأولى من الحداثة التي نعرفها اليوم. إن «لاحداثة» اسبينوزا أمر مباين تمامًا لواقعة الفلسفة العربية، واعتماد كتاب الإتيقا أصلًا تكون الفلسفةُ المغربية نسخةً عنه يُسقطنا إما في نظرة تاريخوية Historiciste كأن المرور من ابن باجة إلى اسبينوزا هو مرور حتمي، أو في وصوف اعتباطية لعَلاقة قرابة لم تجرِ مساءلتها على نحو جذري بعد. ونحن نعني بذلك أننا لم نفكر بعد بالجهة التي مشى فيها اسبينوزا، ليس فقط بالنظر إلى عَلاقته المُشْكلة بالفلسفة العربية، بل بخاصةٍ بالنظر إلى ماهية الحداثة نفسها. فالحديث عن «لاحداثة» اسبينوزا مسألة تعني فيما تعني بالنسبة لنا أن مستقبل الفلسفة لدينا مرتبط ارتباطًا غامضًا ولكنه شديد بإمكانية اللاحداثة التي تشكلها السيرة الروحية التي انبنى عليها وجودنا التاريخي الحالي. وذلك يعني أن ابن باجة وابن رشد وابن طفيل إنما هم أيضًا يقترحون اليوم علينا معنًى ما من «اللاحداثة» التي لا يبدو أننا فكرنا في طبيعتها الخاصة على نحو حاسم.

(٢) من هو المتوحد؟ وما هي فلسفة المتوحد؟

(٢-١) النابتة

المتوحد هو المنفرد بنفسه، الذي جعل فرادته هيئة لوجوده. فما يتفرد به هو ما يتوحد لأجله. ولأنه لا يعاني من وحدته هو فيلسوف.١٩ إن مهمة وجوده هو تهذيب الوحدة بضربٍ خاص من الوطن، وذلك هو معنى التوحد. غير أنه يحسن بنا ألا نظن بالتوحد أنه مجرد حنين إلى الوطن أو إلى وطن لا وجود له. فالتوحد ليس صفة حنينية Nostalgique٢٠ قد تصيب المفارق للجماعة. كذلك هو ليس فشلًا يائسًا في البقاء في عصمة الجماعة. إن المتوحد هو غريب الرأي، وتوحده هو تدرب عسير على الإقامة على حدود وطن عقلي هو مطالب سلفًا برسمه لنفسه في كل مرة. إن التوحد فن مخصوص يعيد ترتيب العَلاقة بالمكان،٢١ لأنه ينطلق من ضرورة حاسمة لإعادة رسم معنى الوطن. إنه توزيع جديد تمامًا في كل مرة لارتسام مواضع جدد، وطوبيقا لا ذاكرة لها غير ما يفلح الفيلسوف في إنشائه بنفسه.
وقد أفلح ابن باجة بطرح إشكالية المتوحد في دفع إمكانية السؤال عن الفيلسوف إلى أقصاها، وذلك هو معنى الاقتراب الغامض من مسألة الوطن، باعتباره الأفق الخلفي سواء للبحث الأصيل في معنى التوحد أم للشروع في السؤال عن الموضع الذي يقف فيه الفيلسوف — أين يقف الفيلسوف المتوحد؟ إن محاولة التكشيف عن الموضع الذي ينظر منه المتوحد تصطدم لا محالة بالصعوبة التي تواجه للتوِّ قارئ تدبير المتوحد؛ إنه كتاب لا يبدأ بعرض ماهية الموجود الأول كما فعل الفارابي في كتاب الآراء.٢٢ بل هو أكثر من ذلك يحرص حرصًا طريفًا على استبعاد معنى التدبير من جهة ما يطلق على الإله مدبر العالم وعلى اختصاص الإنسان به دون غيره.٢٣ ولذلك فما يبدو نقلًا لمعنى التدبير من أفق الإله إلى أفق الإنسان ليس مجازًا ولا تجوزًا في العبارة، بل هو صادر عن قصد إشكالي ليس من السهل تبيينه. ربما هو فعَل ذلك من قبيل أن التدبيرَ شأنٌ مختص بالفكر،٢٤ والفكر شأن إلهي سواء أصابه الإله أم الإنسان. بيد أن ابن باجة يصر على التفطين إلى أنه لا يقصد «التدبير المطلق» الذي هو شأن الإله. قد يتعلق الأمر إذن ﺑ «الشبه المظنون بينه وبين إيجاد الإله للعالم»،٢٥ كأن الإنسانَ مدعوٌّ إلى إيجاد العالم مرة أخرى على طريقته.

إننا ندفع بهذا التلفت عن شأن الإله إلى شأن الإنسان مع التدبير، ندفع إلى نحوٍ من المساءلة بحيث يكفُّ عن أن يكون مجرد حرص منهجي يجدر بالمتفلسف أن يأتيه في بعض موضع من تفكيره. إن الأمر يتعلق بقرار فلسفي على درجة عالية من الخطورة. إن ما أقدم عليه ابن باجة هو إزاحة الاعتبار التقليدي لمبحث الإله، والإقبال على تنصيب فلسفي لإشكالية الإنسان في صناعة الفلسفة بعامة. إن مسألة «البدء» الفلسفي لإشكالية العملي قد وجدت في السؤال عن الإنسان موضعها الأصيل. إن التلفت عن التدبير الإلهي والاقتصار على البحث في التدبير الإنساني إنما ينطوي — إذا تُؤُمِّل من الزاوية التي تهمنا — على قرار توبولوجي خطير: إنه إعادة ترتيب للموضع الذي يقف فيه الفيلسوف.

ولذلك لا ينبغي أن نحدِّق بالإنسان ها هنا بوصفه مجرد غرض من أغراض التفلسف أو موضوعة عادية لكتاب، بل باعتباره موضعًا رسمه ابن باجة بعناية مشهودة. غير أن توضيح طبيعة هذا الموضع إنما تبقى مسألة مثيرة للبحث. فموضع المتوحد لا هو المدينة ولا هو المنزل. ولذلك، فالنظر في أمر المتوحد لا هو انخراط في الفلسفة المدنية التي وضعها أفلاطون تقليدًا لكل تفكير بماهية المدينة وبطبيعة منزلة الفيلسوف داخلها،٢٦ ولا هو استئناف لإشكاليةٍ كان البلاغيون والأدباء والنفسانيون، مثل ابن المقفع، قد أعطَوا عنها صيغة عفوية أو أولية.٢٧ ليس المتوحد متوحد المنزل، وتدبيره ليس بالتدبير المنزلي. وذلك لأن مبحث المنزل نفسه لا يملك من وجاهة تخصه غير ما يستفيده من مبحث آخر مؤسِّس له كل مرة، مثل مبحث المدينة أو أي مبحث آخر.٢٨ كذلك فمبحث المتوحد يخرج بمحض صعوبته الخاصة عن مباحث المدينة. رُب مبحث ظل لدى القدماء من أفلاطون إلى الفارابي قيد إشكالية المدينة الفاضلة.
وإنه إنما ها هنا نحن نعثر على قرار فلسفي خطير أقدم عليه ابن باجة: إنه الكف عن التفكير بمنزلة الفيلسوف من زاوية إشكالية المدينة الفاضلة بخاصة، ومن ثم الشروع في البحث في إمكانية الفحص عن معنى الوجود الذي هو من شأن الفيلسوف، لا في ضوء مدينة مأمولة، بل في أفق المدن «الموجودة في هذا الزمان».٢٩ إن غرض التفلسف إنما لم يعد افتراض مدينة فاضلة، الوجودُ لها أنها توفر الشروط السعيدة لتحقيق إمكانية الفيلسوف والوطن الفلسفي المفقود، بل صار مطلوبًا الانكباب على واقعة الفيلسوف كما يوجد فعلًا في المدن غير الفاضلة. إن موضع الفيلسوف إذن ليس شيئًا آخر غير «هذا الزمان» الذي يحدث فيه قبل ظهور المدينة الفاضلة. إن تفكير الفارابي بإعادة هيكلة ميتافيزيقية لإمكانية المدينة العالمية التي عبر عنها الإسلام الخليفي بواسطة الملة لم يعد له ما يبرره. لقد سقطت الخلافة وصار المتفلسف غير مسئول ميتافيزيقيًّا إلا عن نفسه. لذلك لم يعد ثمة من معنًى لإشكالية الفيلسوف-الإمام، كما لدى الفارابي، الذي أفلح في إنجاز تبيئة طريفة لإشكالية الفيلسوف-الملك الأفلاطونية. إنه في هذا الأفق وُلدت إشكالية المتوحد.٣٠ بيد أنه يحسن بنا أن ننبه إلى أن ابن باجة إنما لا يقترب من طرح إشكالية المتوحد إلا بقدر ما يعيد ترتيب مسألة المدينة الفاضلة؛ فإن «كمال» هذه المدينة، وهو معنى أنها في غير حاجة إلى طب أو قضاء،٣١ هو الذي يستعمله ابن باجة حجة داخلية لنحت إمكانية أو مشروعية التفكير بمشكلة المتوحد. إذ إن عدم حاجة المدينة الفاضلة إلى طب أو قضاء إنما يعني أنها مدينة بلا مرض ولا ظلم، وذلك يعني أن أفعالها كلها صواب.٣٢ ولكن هل يعني أنها مدينة خالية من الحاجة إلى الفلسفة؟ هل ظهور المدينة الفاضلة هو وقت انقراض الفلسفة وبطلانها؟٣٣

إن هذين السؤالين إنما هما غير مهمين إلا بقدر ما يشيران إلى وجه الصعوبة التي تكتنف البحث في طبيعة الموضع الذي يقف فيه الفيلسوف.

إن انطلاق ابن باجة من إزاحة إشكالية المدينة الفاضلة ومحاولة التلفت رأسًا إلى الموضع الذي يصيبه الفيلسوف في المدن غير الفاضلة، هو الأفق الذي تتكون داخله مسألة المتوحد. فالمتوحد هو ساكن المدن غير الفاضلة. وهذا الضرب من السكن الاضطراري في مدن لافاضلة هو الذي يدفع إلى التفلسف. ليس التفلسف إذن صفة سعيدة لأهل المدينة الفاضلة، بل هو هذا الضرب من التدبير الذي يمتهنه رهطٌ من الناس يجدون من أنفسهم غربةً في الرأي يعسر معها دفع حيلة التوحد. وإنه بذلك إنما يُقدم ابن باجة على إقرارين على قدرٍ عالٍ من الخطورة؛ الأول: أن الفيلسوف إنما يوجد أولًا في المدن غير الفاضلة مثل «العشب النابت من تلقاء نفسه بين الزرع.»٣٤ الثاني: «أن من خواص المدينة الكاملة أن لا يكون فيها نوابت.»٣٥
هذان الإقراران خطيران لأنهما يؤديان إلى ارتسام إشكالية طريفة تمامًا هي إشكالية النابتة.٣٦ ولا يتعلق الأمر ها هنا بمجازٍ نباتي فقط، بل على الأخص بنحوٍ من الرسم الخطير للموضع الطبيعي للفيلسوف. إن في معنى النابتة إجابةً حاسمة عن الأسئلة التالية: أين يقف الفيلسوف؟ ما هو الموضع الأصلي الذي ينطلق منه؟ كيف يأتي الفيلسوف إلى موضعه؟
إننا نتأول خلوَّ المدينة الفاضلة من النوابت على أنه إشارة مثيرة من قِبَل ابن باجة إلى الطابع الإشكالي ليس فقط لظهور الفيلسوف بل لوجود أو بقاء الفلسفة نفسها كصناعة بعينها. يبدو أن «كمال» المدينة الفاضلة يجعلها في غير حاجة إلى الفلسفة وإلى الفلاسفة (!) ولكن كيف نفهم قول ابن باجة عن النوابت: «إن وجودهم هو سبب حدوث المدينة الكاملة»٣٧؟ قد يعني ذلك فقط أن الموضع الذي يقف فيه الفيلسوف هو الذي يحدد طبيعة الحاجة إلى الفلسفة. وقد يعني أيضًا أن دور الفيلسوف مؤقت مثل موضعه. إن الفيلسوف إنما يُضطر للظهور داخل عصر لا يختاره، فهو موجود اضطرارًا في «هذا الزمان» أو ذاك. بيد أن هذا الاضطرار إلى الزمان الذي يظهر فيه إنما يحجب حرية جذرية هي خاصة للفيلسوف؛ جذرية بالمعنى الذي نحمله على النبتة الغريبة التي تبزغ في تربة لا تحتملها في عُرف أهلها. فالنابتة هو «العشب النابت من تلقاء نفسه بين الزرع». النابتة متوحد أولًا وأخيرًا؛ أولًا: لأنه يولد من تلقاء وحدته، فهو «لقيط» في مدن اللافلسفة. إنه غير الممكن الذي بظهوره يكسر كسل الروح في أمة ما. وأخيرًا: لأنه مطالب بأن يصنع بنفسه إمكانية العالم الذي يخصه. هذا العالم الذي هو هيئة المتوحد، إذ كان ساكنه الوحيد، إنما هو في الوقت نفسه الصيغة البُدائية عن العالم الكامل الذي تشير إليه فكرة المدينة الفاضلة. فالنابتة ليس سبب نفسه الوحيدة فحسب، بل هو بخاصة «سبب حدوث المدينة الكاملة.»

إن ما يقصد إليه ابن باجة قصدًا حاسمًا. أن يضطلع فلسفيًّا باللحظة الوعرة التي تسبق حدوث المدينة الكاملة، وإن التصدي لهذا القَبْل اللافلسفي الذي يجعل الفلسفي ممكنًا هو ما يضفي على تفكير ابن باجة طرافةً خاصة.

(٢-٢) الفلسفة فن مدني بالعرض

حتى نفهم طبيعة الانزياح الذي وقع في كتاب تدبير المتوحد من إشكالية المدينة الفاضلة إلى إشكالية النابتة، علينا أن نبحث أولًا عن أصل إشكالية المدينة الفاضلة نفسها بحيث نطرح هذا السؤال: متى دخل مبحث المدينة في أفق الفلسفة؟ وما هو الحدث الجوهري الذي دفع بالفلسفة إلى تبيئة مسألة المدينة، واعتبار حقيقة السياسة مبحثًا فلسفيًّا أو يندرج في صُلب مهمة التفلسف؟

يبدو أن أفلاطون هو من نصَّب مطلب البحث في المدينة في أفق الفلسفة.٣٨ ولكن ذلك يعني أنه لم يفعل ذلك إلا بموجب ضرب من الخروج عن سُنة التفلسف السابقة عليه. قد يقال إن دخول مبحث المدينة في أفق الفلسفة قد ارتبط من حيث طبيعته بحدث أشمل هو مولد الخطاب الميتافيزيقي. غير أنه قد يمكن أيضًا أن نزعم أن مولد الميتافيزيقا؛ أي ظهور هذا الضرب من الخطاب الذي يهدف إلى توفير إجابة حاسمة عن المسألة التي لم يُعطِ عنها قبل-الأفلاطونيين غير لمحات غامضة هي ليست سوى إشارات حصلت لهم بموجب تجارب حب جذرية مع الحكمة؛٣٩ أعني مع الإمكانية الأصلية للدخول في عَلاقة حاسمة مع الوجود — ربما كان نحوًا من النتيجة المطلقة لما أقدم عليه أفلاطون من تبديلٍ لماهية الفلسفة عندما أقحم مبحث المدينة إقحامًا جوهريًّا في أفق الفيلسوف.

إنه بذلك يصبح من الممكن أن نشرف على الموقف الذي ابتكره ابن باجة حين نبه إلى أن مطلوبه مغاير للمطلب الأفلاطوني في الفلسفة المدنية. فإشكالية النابتة إنما هي سبيل طريف للخروج من الأفق التقليدي لطرح مسألة الوجود المدني للفيلسوف، الذي هيمنت عليه إشكالية المدينة الفاضلة. كأن ابن باجة يُرجِع بذلك للفيلسوف أفقه قبل-الأفلاطوني، أفق البحث عن السبيل الخاص بالفيلسوف من حيث إن مقصوده هو حب الحكمة وليس حب المدينة، حتى وإن كانت فاضلة.

التوحد هو حب الحكمة من حيث إن هذه الحكمة هي التدرُّب على الإتيان إلى الفلسفة من غير المرور بإشكالية المدينة الفاضلة. ولأن هذا التوحد هو فن وجود خاص بالفيلسوف الذي يختص بكونه نابتة في المدن غير الفاضلة، فإن معنى الحكمة إنما كان ها هنا معنًى أصيلًا؛ إنه التفرغ للبحث عن فن إقامة الفيلسوف في المدن غير الفلسفية، أو هو البحث عن سبيل السعادة للذي لا يأتي إلى السعادة إلا فردًا. فالتفرد ها هنا مصرَّفٌ على نحو جذري، وليس مجرد عزوف عن الجماعة. ففلسفة الجماعة تمر حتمًا بالتفكير الأفلاطوني عن شروط وطبيعة المدينة الفاضلة. في حين أن فلسفة النابتة إنما هي لا تصل إلى انكشافها الذي من شأنها إلا بالخروج عن الأفق الذي رسمته إشكالية المدينة الفاضلة.

أفلاطون وابن باجة قد قاما، كلٌّ على نحو جذري، بطرح إشكالين حاسمين في تاريخ الفلسفة؛ الأول: أدخل مبحث المدينة في أفق الفلسفة، والثاني: خلص التفلسف من هذا الحدث الأفلاطوني، وأعاد للفلسفة إمكانية التفرغ لفحص واقعة الفيلسوف كما ينبت في مُدُن زمانه.

بيد أن ذلك لا يعني الزعم بأن ابن باجة قد أنكر وجاهة مبحث الفلسفة المدنية،٤٠ أو أنه خرج عن التقليد الميتافيزيقي الذي وضعه أفلاطون لمن بعده. فإننا سوف نرى في موضعه أن ابن باجة ما لبث أن عاد إلى صناعة الميتافيزيقا بوصفها العُدة الصالحة والوحيدة للمتوحد (!).

بل نحن نقصد فقط أن ابن باجة بمحاولته الكف عن الاضطلاع بإشكالية المدينة الفاضلة، وحرصه على إبراز خصوصية مبحث المتوحد الذي يُقدِم عليه، قد وقع على مشارف انزياح عميق في صناعة الفلسفة لا يبدو أنه قد أفلح في إنجازه على الوجه الذي هو من شأنه، بل ما لبث أن انحسر بحثُه عنه.

إنه لا يبدو أن الإنسان الذي يعنيه ابن باجة هو إنسان الفلاسفة قبله من أفلاطون إلى الفارابي. وذلك أن هذا الإنسان إنما كان دومًا إنسان المدينة الفاضلة. والحال أن مدينة كهذه لا تحتاج إلى قول يوضح لها من «رأى غير رأيها أو عمل غير عملها.»٤١ فإنها في غير حاجة إلى صاحب الفلسفة؛ أعني إلى من يصلح أمرها إذ كانت كاملة. إنها مدينة لا يمرض فيها البدن، فلا طبيب تفتقد، ولا يختصم فيها الرأي، فلا قاضي يُعْوِزها. إن هذه المدينة الكاملة لا تهم ابن باجة؛ وذلك لأن وجودها إنما يجعل كتاب تدبير المتوحد نفسه غير ممكن ولا وجيهًا. إن مقصد ابن باجة هو بعين الضد من مقصد الفارابي.٤٢

إن ضربًا من الارتداد إلى الموضع الذي يقف فيه الفيلسوف في المدن الناقصة لمساءلته ورسم إمكانية موجبة للتفكير فيه هو ما يجعل كتاب تدبير المتوحد على درجة عالية من الابتكار. فلم يكن من السهل قط الإمساك عن التقليد الأفلاطوني الذي كان الفارابي قد فرغ من تبيئته في فضاء التفكير العربي على نحو جريء وغير مسبوق. ولذلك نحن نفترض أن ابن باجة، وإن كان ذلك بعُدَّةٍ مفهومية تقليدية، قد قام بما يشبه الارتداد الفينومينولوجي إلى القَبْل الذي يسبق حدوث المدينة الفاضلة، أي إلى الإمكان الأصلي لتلك المدينة، وهو لا يزال «نابتة» غريبة عن «الزمان» ومتفردة عن «أهله». كأن قدر الفيلسوف ألا يظهر إلا حيث لا يُنتظر، أو أنه لا ينبت أو يتنبت إلا حيث لا يكون ممكنًا.

ولكن كيف نحتمل فلسفيًّا هذه «الواقعة» الأصلية للفيلسوف بوصفه نابتة؟ هل الطابع «الناقص» لمدن الزمان هو ما يجعل ظهور الفيلسوف ممكنًا؟ لا يبدو أن الأمر ينطوي على أي ضرب من السلبية المنتجة للإيجاب. في ترتيب معنى النابتة، أي في ترتيب معنى «الأصلي» الذي يحمل في نفسه تلقائية وجوده، لا موضع للجدل. بل إن المسألة إنما تتعلق بطبيعة الممكن الذي ينفتح أمام الفلاسفة عند ظهورهم «البَرِّي». الطابع البَرِّي هذا هو الحال الأصلي للفيلسوف. غير أن هذا اللاوطن الأوَّلي إنما هو إمكان الفلسفة؛ وذلك يعني إمكان حدوث المدينة الكاملة نفسها. وفي حين أن الفارابي الإغريقي قد ظل مشرئبًّا إلى «غاية» التفلسف من حيث ينتهي إلى أفق التفكير بالمدينة الفاضلة كمشروع حاسم للفلاسفة، يبدو أن ابن باجة قد باشر ضربًا طريفًا من الانكباب على الحال الأصلي للفيلسوف من حيث هو موجود دومًا في «هذا الزمان» الذي توفره المدن الناقصة لمن تعلقت همتهم بصناعة التفلسف. إن تواضعًا جذريًّا إنما جعل ابن باجة يقلع عن الاشرئباب إلى مشروع المدينة الفاضلة ويُقبل على التفكير بتدبير المفرد وبسعادة المفرد.٤٣ قال: «وبيِّن أنه قد لحقه أمر خارج عن الطبع فنقول كيف يتدبر حتى ينال أفضل وجوداته، كما يقول الطبيب في الإنسان المفرد في هذه المدن كيف يتوحد حتى يكون صحيحًا.»٤٤
لا بد من التنبيه إلى أن ابن باجة إنما يفترض كمعطًى أصلي أن الوجود الإنساني إنما هو في جوهره وجود مدني.٤٥ ولذلك فالأمر الحاسم هو في إعادة ترتيب معنى المدني هذا، على النحو الذي يخرجنا من بوتقة التفكير في المدينة الكاملة، ويدخلنا إلى الأفق الأصلي لوجود الفيلسوف. هذا الأفق الأصلي هو المدن الناقصة، وفي البدء كان اللافلسفة (!) وهذا يعني أن الفيلسوف ليس صفة كسولة ونهائية، بل هي حال فرادة أصلية مهددة منذ أول أمرها بأن يلحقها «أمر خارج عن الطبع»، وليس ذلك سوى الإقامة في المدن الناقصة. هنا ينكشف معنى التدبير المقصود ها هنا: إنه صناعة استعادة الفيلسوف للامكان الذي يخصه من حيث هو نابتة. فالتوحد نتيجة جوهرية لواقعة النبت في مدن «هذا الزمان» الذي توفره المدن الناقصة. أما معنى إقامة النابتة في المدن الناقصة فهو ما يخرج عن الطبع الفلسفي الذي يتوفر عليه منذ «نبته» من تلقاء نفسه، وليس ذلك سوى اللافلسفة.

إنما اللافلسفة هي مرض ألمَّ بطبع الفيلسوف بسبب إقامته غير الطبيعية في مدينة الجمهور. ولذلك فالفلسفة هي صناعة دفع ما يخرج عن الطبع. ولأن ما يخرج عن الطبع ضرب من المرض، فالفلسفة إنما تنقلب إلى طب جذري للنوابت. أما الدواء الكلي فهو التوحد. إنما الفلسفة إذن صناعة الانفراد وفن الوحدة، وهي ليست كذلك إلا لأن واقعة الفيلسوف نفسها هي نابتة. فالتوحد موقف ميتافيزيقي ناتج عن حالٍ أُنطولوجي هو وضع النابتة، وكما أن انفراد المريض صحة، كذلك توحد الفيلسوف: إنه سعادة. إنه اعتزال للجماعة من جهة اعتبارها آلة اللافلسفة ومدينة بلا وطن أو عاجزة عن الوطن.

ولكن هل يستوفي معنى التوحد كونه اعتزالًا؟ فإن ابن باجة يثبت هذه العبارة في جملة متحيرة نوردها بالحرف. قال: «وليس هذا مناقضًا لما قيل في العلم المدني ولما تبيَّن في العلم الطبيعي، فإنه تبين هناك أن الإنسان مدني بالطبع، وتبين في العلم المدني أن الاعتزال شرٌّ كله، ولكن هذا إنما هو بالذات، وأما بالعرَض فخير، كما يعرض ذلك أكثر ما في الطبع. مثال ذلك أن الخبز واللحم غذاء بالطبع ونافع، وأن الأفيون والحنظل سموم قاتلة. لكن قد يكون للجسد أحوال غير طبيعية ينفع فيها هذان ويجب أن يُستعملا، وتضر فيها الأغذية الطبيعية فيجب أن تُجتنب. ولكن هذه الأحوال هي ضرورةُ أمراضٍ وهي خارجة عن الطبع، فهي نافعة في الأقل وبالعرَض، ونسبة تلك الأحوال إلى الأبدان كنسبة السير إلى النفس.»٤٦

أجل إنما التوحد اعتزال، لكنه ليس اعتزالًا بالمعنى المدني، فإن ماهية الوجود الإنساني إنما يهدمها الاعتزال. كيف رفع ابن باجة هذا الإشكال الذي يبدو أنه لم يُسبق إلى طرحه؟

لا بد من الإشارة إلى أن ابن باجة إنما يهم ها هنا بالربط الأصيل بين إمكانيتين فلسفيتين أساسيتين:

  • الأولى: أفق التفكير الذي يرسمه العلم المدني كما ارتسمه الفارابي باستناد إلى التراث اليوناني.
  • الثانية: تجرِبة الاعتزال التي هي إمكانية عملية مستحدثة ابتكرها فضاء ثقافي بلغ فيه الاعتزال مبلغ الفِرقة السياسية.

ولذلك، فالتوحد واقعة فلسفية قُدَّت من إمكانيتين فلسفيتين، هو ثمرة سعيدة عن التفكير بهما معًا. غير أن العُدة المفهومية لذلك التفكير إنما جاءت من جنس الخطاب الميتافيزيقي لليونان. رُب عُدة اعتمدت أساسًا على التمييز التقليدي بين ما هو بالذات وما هو بالعرَض. فالتوحد اعتزال بالعرَض. إنه ليس هدمًا للوجود المدني، بل هو محاولة ضرب من «الاستعمال الخاص» للوجود المدني. التوحد استعمال عرَضي للاعتزال. ولكنْ أيُّ عرَض هذا، يجعل القول الفلسفي ممكنًا؟ هل يتعلق الأمر بفلسفة بالعرَض هي ما تبقى للفيلسوف من مهمة بعد أن فرغ اليونان من إتمام العلوم التي هي بالذات مثل العلم الطبيعي والعلم المدني؟ يبدو أن ابن باجة لا يرى من فلسفة إلا ما يحتاجه النابتة، أعني لا معنى للتفلسف عنده إلا معنى التدبير، تدبير المتوحد. ولأن هذا المتوحد ليس جزءًا من مدينة، فإنه ليس حقيقًا به الخوض في العلم المدني، ففلسفة المتوحد ليست مدنية إلا بالعرَض. كذلك فإن التوحد إنما هو في مقابل ذلك ليس اعتزالًا إلا بالعرَض.

التدبير فن مدني بالعرَض لأن مقصوده سعادة المفرد لا سعادة المدينة. والمتوحد ليس معتزلًا إلا بالعرَض لأن مقصوده ليس هدم الطبيعة المدنية للوجود الإنساني. ما هو موضوع فلسفة المتوحد إذن؟ يبدو أن النابتة الذي تطبَّع بما هو خارج عن الطبع إنما لا يحتاج إلى الفلسفة إلا بقدر شوقه إلى الشفاء مما ألمَّ به من الخارج عن الطبع، أي من المرض. فمنزلة المرض كما نرى منزلة عرَضية بالنظر إلى حال الصحة. ولكن يبدو أن ابن باجة يجعله الحال الأصلي للفيلسوف، حال نابتة يفترض أن ما هو غير طبيعي أو مرضي، أي ما هو عرضي، إنما هو حال مستقرة في النفس المتفلسفة وليس مجرد زائدة كسولة (!).

إن هذا الانكباب على ما هو بالعرَض لفحص الإمكانية الفلسفية التي يحتملها لهو أمر مبتكر. ولا نقصد العرَض كحالٍ أُنطولوجي عام، فذلك معروف، بل العرَض كصفة مخصوصة لطبيعة الوجود الإنساني. فكون الاعتزال خيرًا إذا كان بالعرَض إنما يعني أن التوحد الذي هو اعتزال بالعرَض إنما هو ضرب مبتكر من التفكير في الوجود الإنساني بوصفه وجودًا مدنيًّا بالعرَض. لقد انقلب مبحث المدينة من أفق فلسفة بالذات إلى أفق فلسفة بالعرَض. أو لنقُلْ: إن ابن باجة اتخذ هامش المدينة الفاضلة الفارابية (النوابت) مركزًا لإشكالية المتوحد (تدبير النفس). إن موضوع فلسفة المتوحد هو إذن ما هو خارج عن الطبع وما هو بالعرَض وما هو كالمرض للجسد. والمقام اللامدني الذي تشير إليه هو مقام التوحد. ولأن المتوحدين هم «سبب حدوث المدينة الكاملة»، فإن فلسفة المتوحد هي فلسفة مؤقتة أيضًا، وطرافة الطابع المؤقت للفلسفة أنه لا يصدر عن ضرب من القول بتهافت الفلسفة سواء أكان ذلك على نحو وضعي (ابن خلدون) أم كلامي (الغزالي). الفلسفة مؤقتة بسبب الطابع العرَضي لوجود المتوحد. ولذلك فبدلًا من الانخراط في العلم المدني الذي يدرس إمكانية المدينة الفاضلة، ينزع ابن باجة إلى نحت ضرب من المقام اللامدني، وهو ليس لامدنيًّا إلا بالعرَض، وذلك انتظارًا لحدوث المدينة الكاملة.

إن التوحد ضرب من الانتظار الجذري لمدينة لم تحدث بعد. ولأنه استعمال فلسفي للانتظار، فهو تدبير وليس توحشًا.

بيد أن ابن باجة لا يقف عند مباشرة معنى الاعتزال لإيضاح عدم التضارب بين مقام التوحد وما أقره العلم المدني عن الوجود الإنساني. إنه على العكس من ذلك، يأخذ معنى «الهجرة» أيضًا مأخذًا جوهريًّا؛ فالتوحد ضرب من «الهجرة» أيضًا إلى «السِّيَر التي فيها العلوم إن كانت موجودة.»٤٧ إن ما هو لافت للنظر أن ابن باجة إنما يفترض هنا صلة أصلية بين معنى «السِّيَر» إذا أُطلقت على النفس، و«السِّيَر» إذا أطلقت على المدينة. فالسيرة هي السُّنة والطريقة والمذهب والسلوك والهيئة. والتوحد هو سيرة الفيلسوف كما أن المدينة هي سيرة الجماعة.
ولكن ألا يكون التوحد سيرة لجماعة المتوحدين؟ ليس المتوحد بالضرورة فردًا وحيدًا، بل قد يمكن لمتوحد أن يجتمع بجماعة من المتوحدين، إذ إن ذلك هو المعنى الوحيد لإمكانية الهجرة. فالتوحد إما اعتزال بالعرَض أو هجرة إلى الصحبة.٤٨ هو يعتزل الوطن الذي «ينبت» على أرضه بالعرَض أو يهاجر إلى الوطن الذي لم يوجد بعد إلا بالعرَض. والتدبير هو إذن صناعة الاعتزال بالعرَض وفن الهجرة إلى الوطن بالعرَض.

ولكن إلى أي حد يمكن للمتفلسف أن يطمئن إلى هذا الاستعمال «العرَضي» للعُدَّة المفهومية التي توفرها الأُنطولوجيا التقليدية، وبخاصة في نطاق إشكالية تبقى في جوهرها إشكالية عملية؟ وإذا كان ابن باجة يصر على تمييز مقصده من التدبير عن المقصد المدني التقليدي فبمَ يمكننا أن نصف هذا التدبير؟ صحيح أن ابن باجة بلجوئه إلى استعمال مفهومات الذات والعرَض الأُنطولوجية لتبيين ماهية التوحد من حيث هو اعتزال بالعرَض إنما هو اصطلح سُنة في التعبير وفي التجوُّز رائجةً لدى المتفلسفة من قبله. غير أن ما هو لافت إنما هو انكبابه على معنى العرَض بوصفه محمولًا على ضرب من الوجود الإنساني هو الاعتزال.

إن الأمر يتعلق في الحقيقة باستعمال إتيقي لمفهومات أُنطولوجية. ولكن إلى أي مدى يمكن حقًّا أن نفصل بين وجاهة موقف إتيقيٍّ ما وبين الخطاب الأُنطولوجي الذي يستعمله؟ صحيح أن التدبير مشكل إتيقي وليس مسألة مدنية، ولكن رغم ذلك فإن ابن باجة يحرص على عدم مناقضة ما تبين بعدُ في العلم الطبيعي والعلم المدني (؟) إن هذا هو الطابع الإشكالي لموقفه الفلسفي: كيف نفكر في مسألة عملية مبتكرة بواسطة عُدة نظرية تقليدية؟

(٣) كتاب «تدبير المتوحد» وطرح إشكالية «الإنسان»

(٣-١) ما هو «علم الصور الروحانية»؟

يقول ابن باجة: «فإن سيرة المتوحد، لمَّا كان أحدٌ ما يجب أن يتبين كيف ينبغي أن يكون «علم الصور الروحانية» وكان هذا أيضًا أحد أقسامها، فقد ينبغي أن يقول فيه من أراد أن يضع في هذا العلم قولًا صناعيًّا. ومع ذلك كله فإنما يظهر أثناء القول بها من العلوم التي تستحق أن تؤثِّر لذاتها، فلأن المتوحد على الخصوص إنما هو من نحا نحو العلوم النظرية، فكان هذا النحو من أنحاء العلوم النظرية جليل القدر فيكون القول فيها مع ما ذكرنا، قد أفاد بالعرَض جزءًا من غايته المقصودة.»٤٩
يبدو هذا النص هامًّا بقدر غموضه،٥٠ ونحن نترجم مضمون هذا الغموض وطبيعته في الأسئلة التالية:
  • (١)

    بأي معنًى يقرن ابن باجة سيرة المتوحد بالعلوم النظرية؟

  • (٢)

    ما هو «علم الصور الروحانية»؟ هل هو علم مستحدث لم يظهر فيه بعدُ قول صناعي أم هو اسم آخر للأُنطولوجيا اليونانية؟

  • (٣)

    بأي وجه يمكن لابن باجة أن يقر بأن طلب العلوم النظرية قد يفيد المتوحد مقصوده إفادة بالعرَض؟

نحن نعرف أن مقصود المتوحد وإن لم يكن مقصودًا مدنيًّا فإنه ليس مقصودًا نظريًّا، بل إنما هو في ماهيته مقصود عملي، وإن كان أمرًا غير ممكن الطلب بغير علوم نظرية. إن ابن باجة يدفع بالعَلاقة بين سيرة المتوحد والجهاز النظري للميتافيزيقا اليونانية إلى وجهة طريفة: الإفادة بالعرَض. ولكن ذلك يعني أن ابن باجة قد أقدم، بطرحه لإشكالية المتوحد، على التفكير في مسألة لم يأتِ عليها التقليد الميتافيزيقي، مما يعني أن هذا التقليد لا يمكن أن يفيد ها هنا إلا باعتباره أفقًا استكشافيًّا وليس غرضًا مستقرًّا.

ولذلك نحن نؤثر أن يكون ما سماه ابن باجة «علم الصور الروحانية» ضربًا مستحدثًا من النظر وليس تسمية جديدة لعلم قديم.٥١ إنه بذلك يُزمع على الانخراط في «قول صناعي» عن غرض نظري غير مسبوق. ولكن ما وجه الاستحداث وابن باجة ما انفك يحيل على أرسطو بوصفه مَن فَرِغَ منذ أمد بعيد من إيضاح هذه الصور الروحانية في كُتبه المختلفة؟٥٢
يبدو هذا السؤال مربكًا لمساق هذا البحث، بل وللسياق الذي يفتحه كتاب تدبير المتوحد. فمن الحقيق بنا أن ننبه إلى أن هذا الكتاب يظهر مؤتلفًا من مهمتين، هما، على تباينهما في الغرض، متواشجتان في الانتظام المنهجي. ونقصد بهاتين المهمتين الكشف عن معنى التدبير ومقصود المتوحد من جهة، والاضطرار إلى توطئة ذلك الكشف بقول على قدرٍ عالٍ من الخطورة بالنظر إلى تاريخ الفلسفة، ألا وهو الشروع في إنشاء مسألة يبدو أنه لم يقصد إلى إنتاج قول صناعي فيها إلا من أجل غاية غير نظرية، ونقصد بذلك إشكالية تدبير المتوحد نفسها؛ هذه المسألة سمَّاها «علم الصور الروحانية».٥٣

بل إن كتاب تدبير المتوحد إنما يوشك أن ينقلب، متفلِّتًا من بين يدي ابن باجة، من قول في المتوحد إلى قول صناعي هو «علم الصور الروحانية». ونحن نجد في استعمال ابن باجة لمفهومَي «ما هو بالذات» و«ما هو بالعرَض» وسيلة طريفة للتفطين إلى الفرق بين المقصد الذي كرس له ابن باجة تأليف كتاب تدبير المتوحد وبين المهمة «الاضطرارية» التي استوجبها إنجاز ذلك المقصد. ذلك أنه إذا كان ابن باجة يقصد أول أمره إلى تكشيف معنى التدبير الذي يحتاجه المتوحد تكشيفًا بالذات، فإنه لم يرَ بُدًّا من استحداث قولٍ في «علم الصور الروحانية» استحداثًا بالعرَض.

إننا لا نزعم ها هنا العثور على اكتشاف إبستمولوجي، فذلك ليس مطلوبنا، وإنما فقط السعي إلى بلورة طبيعة الحاجة التي قادت ابن باجة إلى الانتقال من القول في سيرة المتوحد، بما هي شأن عملي، إلى إنتاج قول صناعي في علم نظري هو «علم الصور الروحانية». فنحن ننبه إلى أن بُنية الكتاب — فيما عدا المقدمة٥٤ التي انحصر وجه القول فيها في ترتيب معنى التدبير ومعنى المتوحد، و«الباب الأول»، الذي خصصه للقول «في الأفعال الإنسانية» على نحو مقتضب٥٥ — إنما جاءت عبارة عن عرضٍ مطوَّل لغرض «علم الصور الروحانية» الذي وإن يُعَد بمثابة «الباب الثاني» من جملة الكتاب فهو على الحقيقة يوشك أن يكون غرض الكتاب كله (!)٥٦
فهل يتعلق الأمر بتنصيب عفوي لقول صناعي في الإنسان بعامة؟٥٧ فمن البيِّن أن موضوع «علم الصور الروحانية» هو «الصور» التي هي خاصة للإنسان، بحسب مقامات وجوده الجسمانية والروحانية والعقلية. ونحن نعثر طيلة الفصول التي كرسها لتبين «علم الصور الروحانية» على جملة الوصوف والتفسيرات التي كانت توفرها العلوم النظرية القديمة عن طبيعة الإنسان. ولذلك نحن نفترض أن المسألة التي كانت توجه ابن باجة ليس اختراع علم نظري غرضه فهم طبيعة الإنسان، على نحو غير مسبوق، بل كيفية استعمال٥٨ ما توفره العلوم النظرية التي بلغت اكتمالها من أفلاطون إلى الفارابي. وبما أن الأمر يتعلق بالاستعمال وليس بالاستكمال، فإن القول في «علم الصور الروحانية» هو ضرب من القول الصناعي في كيفية استعمال المتوحد لما يلتئم به غرضه. ولذلك، فإن ابن باجة لا يتوقف عند ما يوفره العلم الطبيعي والعلم المدني من معرفة بالأفعال الإنسانية بل هو يضيف إليه «الأقاويل البلاغية» و«الأقاويل الانفعالية».٥٩

إن ما هو لافت للنظر ها هنا هو إقحام الأقاويل البلاغية والانفعالية في حقل علم الصور الروحانية أو هكذا يبدو. وإن في ذلك لصعوبةً واضحة: إنه باستطاعة المتوحد إذن أن يستعمل كل الأقاويل، سواء أكانت نظرية أم بلاغية أم انفعالية، حتى يبلغ مقصوده. غير أنه يبدو أن ثمة صعوبةً أخرى: إلى أي حد يمكن إنشاء قول صناعي يكون موضوعه استعمالات المتوحد للأقاويل النظرية لغرض عملي؟

(٣-٢) ما هو الإنسان؟

إن حرصًا لافتًا للنظر يصاحب كل تَقَصٍّ لمستطاع الإنسان في الفلسفة العملية التي وضعها القدماء: إنه التشبه بالآلهة. وإن هذا لمطلبٌ مثير حتى ولو أُلحِقَ باستدراك يجعله محمولًا «على قدر طاقة الإنسان».٦٠ يقول ابن باجة: «فذلك الإنسان أخلق به أن يكون فعله ذلك إلهيًّا من أن يكون إنسانيًّا.»٦١
إن هذه القرابة بين الإنساني والإلهي هي ما هو جوهري في «الإتيقا»، أي في السيرة الفلسفية عند القدماء. صحيح أن التفكير على حدود الآلهة والتشبه بسعادتهم وأفعالهم إحراج عميق لم يعد ممكنًا، إلا أنه هو ما صار يُحجم عنه الفيلسوف الحديث في ضوء ضربٍ آخر من التفكير بوجوده. فالإنسان الإلهي يبدو أنه لم يعد مطلب أحد. إنه مما صار يتوجس منه المتفلسف أصلًا. ولكن «لأنه لا بد للإنسان (…) أن يفكر»٦٢ — كما يقول ابن باجة — فإنه من الجدير بنا أن نحاول أن ننصت إلى صوت الفيلسوف القديم نفسه، حتى نفقه عنه طبيعة هذا الذي دفعه إلى تعليق الإنسان في أفق الآلهة حتى يتصير سعيدًا.
إن هذا الضرب من شد الإنسان إلى ما هو إلهي إنما يساعدنا حقًّا على فهم طبيعة الموقف الذي يجعل ابن باجة يعتبر بلوغ السعادة أمرًا قد يتم من غير حاجة إلى مدينة (!) قال متحدثًا عن بلوغ الفيلسوف مرتبة الإلهيين: «وهذه كلها قد تكون للمتوحد دون المدينة الكاملة.»٦٣
ليس المتوحد مواطنًا في أي مدينة إلا بالعرَض. ولذلك، فإن ما ينتهي إليه ابن باجة في آخر فصل من تدبير المتوحد [دون أن ننسى أنه كتاب مخروم الآخِر (!)] هو التعثر الشديد أمام إشكالية الإنسان. قال: «وقد ينشأ موضع تعجب واعتبار يثير عويصًا شديدًا، ذلك أن طبيعة الإنسان هي، فيما يظهر، كالواسطة بين تلك السرمدية وهذه الكائنة الفاسدة (…) وإذا كان ذلك، فقد يجب ضرورةً أن يكون في الإنسان معنًى هو في تلك السرمدية، فيكون به سرمديًّا، ويكون فيه معنًى يشبه الكائنة الفاسدة، فيكون به كائنًا فاسدًا. فما هذان المعنيان؟ فقد ينبغي أن يفحص عنهما. وأيضًا فإنا إذا نظرنا من جهة أخرى كان ما هو الإنسان يوجد فيه نوع الإنسان. فإن كان يقبله فقد صار الموضوع يقبل صورة الإنسان بوجهين من القبول في وقت واحد، وهذا شنيع أيضًا. فإن كان شخص إنسان بما هو إنسان يقبل الإنسان، فالإنسان يدخل في حد الإنسان، وأجزاء الحد متقدمة للمحدود، فالإنسان موجود قبل أن يكون إنسانًا، فالإنسان قد يوجد قبل أن يوجد، وهذا محال شنيع. فالواجب أن نفحص عن هذا القول المُشْكل فنعطي كل واحد من طرفيه قسطه. ويشبه أن نقف منه على أن الإنسان من عجائب الطبيعة التي أوجد بها.»٦٤

من البيِّن أن هذا الوصف لطبيعة الإنسان إنما هو من طبيعة أُنطولوجية وليس مدنية، ونحن نفترض أن هذا الانخراط في محاولة وصف أُنطولوجي للوجود الإنساني إنما يحقق ثلاثة مكاسب طريفة:

  • (١)
    إخراج القول في الإنسان من أفق العلم المدني الذي بقي حبيس إشكالية المدينة الفاضلة، ومحاولة طرح الاهتمام بالإنسان من زاوية الوجود الذي يخصه، وهو إجراء يبدو أنه قد مارسه في حقول أخرى.٦٥
  • (٢)

    الانخراط في بناء إشكالي لمعنى الإنسان، والانكباب على تفحصٍ مفرد بنفسه وصريح للصعوبة الخاصة بذلك، بما هو موضوع فلسفي قائم بذاته.

  • (٣)

    وضع الفلسفة في أفق تأصيل إشكالية الإنسان بما هي إشكالية عملية في جوهرها.

غير أن هذه المكاسب لا تلبث أن تنحسر وجاهتها وطرافتها؛ فإخراج الإنسان من أفق المدينة يجعل إقرار ابن باجة بدور المتوحد في حدوث المدينة الفاضلة إقرارًا غامضًا أو مشكلًا. كذلك فالبناء الإشكالي الذي عرضه ابن باجة عن معنى الإنسان إنما جاء حبيس الجهاز النظري التقليدي، ولم يرتقِ إلى طور التفكير الذي ينقاد بحسب أسئلته لا بحسب قيوده وإحراجاته المنطقية. وأخيرًا، فإن طرح إشكالية الإنسان على أنها إشكالية عملية في جوهرها هو طرح بقي غير قادر على الانخراط في مراجعة جذرية للأفق العملي الأصلي الذي مكن العقل اليوناني من بناء علومه النظرية.٦٦
يبدو إذن أن ابن باجة قد شارف على طرح أُنطولوجي أصيل لمعنى طبيعة الإنسان بما هو موجود ينطوي على ضرب من الوجود يخصه، هو هذا التوسط العسير بين الأبد Éternité والتناهي Finitude.٦٧ وأصالة موقف ابن باجة هي في أنه قد شرَع بعدُ في طرح السؤال عن المعنيَين اللذين بهما يكون للإنسان أن يشارك في الأبد وفي التناهي في الوقت عينه. قال: «فما هذان المعنيان؟ فقد ينبغي أن يُفحص عنهما.» إننا نقصد بذلك أن ابن باجة قد عيَّن بعدُ طبيعة المهمة التي سيدفع بالفلسفة نحو إنجازها.

غير أن اللافت للنظر هو أن ابن باجة وما إن يشرع في مساءلة معنى الإنسان حتى يسقط في الشناعات «المنطقية» التي يفترضها مفهوم الإنسان الذي توفره العلوم النظرية التي تركها القدماء. إن وجه الصعوبة هو التالي: إن ابن باجة قد هَمَّ بمساءلة معنى الإنسان على نحو جديد، ولكن بواسطة عُدة نظرية لا تتجاوز من حيث الجوهر بُنية المنطق الأرسطي. وذلك يعني أنه لم يكن على بيِّنة من أنه لا يمكن حقًّا أن نفصل مفهوم الإنسان التقليدي عن طبيعة العلوم النظرية التي يفترضها. لكنه عاين هذه الصعوبة من باب التوجس من الشناعات المنطقية اللازمة عن هذا النحو من البحث. وبهذا المعنى يمكننا التفكير بضربٍ من الانحسار الذي أصاب إشكالية «تدبير المتوحد» فانقطع عند النهاية التي نعرفها.

خاتمة

ما معنى انخرام كتاب «تدبير المتوحد»؟ – محاولة تأويلية

لقد تبين لنا أن إشكالية ابن باجة إنما تتراوح بين جهاز أُنطولوجي (علم الصور الروحانية) يسعى إلى الانخراط في التقليد الميتافيزيقي من جهة أسسه النظرية، وإمكان فلسفي مبتكر (مسألة المتوحد) يحاول الاضطلاع على نحو حاسم بطبيعة الوجود الخاص بالفيلسوف. بيد أن ذلك يعني في الوقت ذاته أن ابن باجة قد اصطدم بصعوبة يبدو أنها أصلية في المسألة التي طرحها، وبخاصة في الوضعية الهِرمِينوطيقية،٦٨ أي جملة «المسبقات» التي افترضها: كيف يمكن للمتفلسف أن يفكر على نحو حاسم في مسألة مبتكرة بواسطة جهاز إشكالي توفره علوم نظرية لم تتأسس منذ أول أمرها على عَلاقة جوهرية بتلك المسألة؟

إن ابن باجة قد انتهى إلى طرح السؤال عن ماهية الإنسان، وعيَّن ذلك على أنه المهمة التي يجدر به أن ينخرط فيها. وهذه النتيجة هي النقطة الأخيرة من تطويره لمسألة المتوحد المستحدثة. غير أن ذلك يعني أيضًا أن الاضطلاع بمسألة المتوحد إلى آخر نتائجها، أي إلى حد طرح السؤال عن ماهية الإنسان، قد أدى في الوقت عينه إلى الوقوف على الحدود الداخلية لطريقة التفكير القديمة في معنى الإنسان؛ «الشناعات» المنطقية التي تلزم دفع السؤال عن معنى الإنسان إلى أقصاه في نطاق إشكالية الحد التقليدية.

وبذلك فإن انقطاع كتاب تدبير المتوحد هو نتيجة فشل جوهري في دفع إمكانية التفلسف في معنى الإنسان — الذي عُيِّن على أنه في مقامه الخاص متوحد أو نابتة — إلى آخره، أي إلى حد السؤال عن «المسبقات» التي تحكمها سلفًا. إن ما انحسر عنه ابن باجة هو ضرورة الانتقال إلى مراجعة جذرية لطبيعة الجهاز النظري للفلسفة التقليدية، أي مراجعة صلاحية مفهوم الحد اليوناني للاضطلاع بمهمة تبيينٍ حاسم لمعنى الإنسان.

ولذلك نحن نفترض أن متن ابن باجة، وأيضًا متون الفارابي ويحيى بن عدي وابن مسكويه، إنما تنطوي على وضعية هِرمِينوطيقية لا تزال مطمورة. إنهم وجدوا أنفسهم أمام علوم نظرية تامة ومفروغ منها، طرحها الأوائل في نحوٍ من «الميتافيزيقا الكاملة» التي ينبغي الانخراط فيها، ولذلك كانت المهمة المطروحة عليهم ضربًا من الحاجة إلى استكمال عملي لمعنى الإنسان في نطاق الأفق الذي وفرته الملة.٦٩ والخصوصية الحاسمة لأفق الملة هي أنه أفق لم تحدث فيه الفلسفة حدوثًا طبيعيًّا، وذلك يعني أن وجود الفلاسفة إنما يبقى داخله وجودًا غير طبيعي ومشكلًا.
كيف يوجد الفيلسوف في فضاء نُقلت إليه الفلسفة «نقلًا»٧٠ فكانت منذ أول أمرها دخيلة عليه؟ إن إجابة ابن باجة حاسمة: يوجد متوحدًا. إن «متوحد» ابن باجة هو بذلك كلُّ مَن صار من شأنه أن يتفلسف في نطاق الملة، وبعامةٍ في نطاقٍ لم تحدث فيه الفلسفة حدوثًا طبيعيًّا.
١  ابن باجة: تدبير المتوحد، نُشر ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، حققها وقدم لها ماجد فخري، بيروت، دار النهار للنشر، ١٩٦٨م، ص٣٥–٩٦.
٢  ونحن نقصد بذلك على وجه الخصوص هَيدغر وسارتر، وعلى وجه العموم الأفق الفلسفي الذي عملا فيه. انظر: M. Heidegger, Etre et Temps, trad, fr. par François Vezin, Paris, Gallimard, 1986, pp. 67, 237, 240, 318, 321, 337, 354, 366, 383, 398, 400; Les Concepts Fondamentaux de la Metaphysique; Monde. Finitude. Solitude, trad fr., Paris, Gallimard, pp. 21–24; J. P. Sartre, L’Être et le Néant, Paris, pp. 277–288.. بيد أنه يجدر بنا أن ننبه إلى أن هَيدغر الذي لم يتوفر في الوجود والزمان إلا على المعنى الحديث للوحدة، وهو بعامةٍ المعنى «الوجودي»، أي حصر مقام الوحدة في معنى الانفراد Vereinzelung/Esseulement، إنما قد انخرط في فترة لاحقة في بلورة المعنى الأصيل للتوحد Einsamkeit/Solitude في درس المفاهيم الأساسية للميتافيزيقيا، حيث صار التوحد يُشكل إلى جانب مفهومَي «العالم» و«التناهي» أحد المفهومات الحاسمة للتقليد الذي نسميه «الفلسفة». التوحد يعني لدى هَيدغر الثاني ضربًا من «الحنين إلى الوطن» من حيث يكون «حالًا أساسيًّا للتفلسف»، رأس الأمر فيه أن يشعر المتوحد أنه «في بيته أينما حل» (!) يقول هَيدغر: «الفلسفة، الميتافيزيقا، هي حنين يدفعنا إلى أن نكون في وطننا أينما كنا.» (ص۲۳).
٣  F. Nietzsche, Ainsi Parlait Zarathoustra, un Livre pour Tous et pour Personne, trad. fr. de Georges - Arthur Goldschmidt, Paris, Librairie Générale Française, 1983, Partie III - le Retour, pp. 257 sq.; La Volonté de Puissance, trad. fr. D’Henri Albert, Paris, Librairie Générale Française, 1991, pp. 26, 188, 446, 510.
٤  .M. Foucault, Histoire de la Sexualité, Tome 3: Le Souci de Soi, Paris, Gallimard, 1984, Ch. 2. فنحن نفترض أن مسألة العناية بالنفس إنما تنتمي إلى الأفق الإشكالي عينه الذي عمل فيه ابن باجة، من حيث إن تدبير المتوحد ينطوي على إمكانية أصيلة لبلورة ضرب طريف من «العناية بالنفس». رُب افتراض لا ينبغي بأي وجه أن يصرفنا عما بين ابن باجة وفوكو من تباين في المقصد والمنهج شديد؛ فالأول يقصد إلى بلورة الإمكان غير المدني للفيلسوف من حيث هو «متوحد» في كل مرة، أما الثاني فإنه يسعى إلى استصلاح تاريخ العناية بالنفس لدى القدماء عساه يدرك معنى «الذات» الحديثة في عصر موت الإنسان (!).
٥  M. Heidegger, Être et Temps, op. cit. pp. 237-238; Sein und Zeit, Tübingen, Max Niemeyer Verlag, 1993, pp. 188–199.
٦  لعله يجب أن ننبه ها هنا إلى أن هذا الاعتبار الجوهري ﻟ «القلق» إنما لم يدخل في أفق الفلسفة إلا عندما أقدم بعض المتفلسفة، وبخاصة كيركغارد على الانخراط في استشكال صريح للمشهد الإنساني الذي كان قد عرضه اللاهوت المسيحي، بوصفه مشهدًا يجد في الخطيئة الأصلية إمكانه الخاص. ولذلك فإن ما شرع فيه هَيدغر من استصلاح للأفق الإشكالي الذي رسمه كيركغارد على أساس مسألة القلق وما أخذه عنه بوجهٍ ما سارتر فيما بعد، إنما يجعلنا نفترض أن معنى الوحدة، بما هي مسألة أُنطولوجية، تجد في «القلق» ومسألة «الموت» أو «العدم» إمكانها الأول، وهو أمر لم يظهر إلا من فرط الاحتكام إلى أفق إشكالي كان في أصله أفقًا لاهوتيًّا. انظر عن المرجع اللاهوتي لمسألة القلق من حيث هو مقترن في أصله بفكرة الخطيئة:S. Kierkegaard, Miettes Philosophiques, Le Concept D’Angoisse, Traité du Désespoir, Paris, Gallimard, Coll, Tel., 1990, pp. 183–336; M. Heidegger, Être et Temps, op. cit., pp. 239-240.
٧  وهذا عنصر إشكالي حاسم لدى هَيدغر. انظر: M. Heidegger, Être et Temps, op. cit., pp. 398 et 400.
٨  M. Heidegger, op. cit., pp. 318 et 321.
٩  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٣ و٩٥؛ «رسالة الوداع»، في: رسائل ابن باجة الإلهية، م.س، ص١٤٢-١٤٣.
١٠  نحن نفترض أن بين إقبال المحْدَثين على التفكير بمسألة الزمان وبين منزلة فكرة الموت في الفلسفة التي صرَّفوها إنما توجد العَلاقة عينَها التي نعثر عليها بين إقبال القدماء على التفكير في خلود النفس أو التشبه بالآلهة أو مسألة الاتصال بالعقل الفعال، وبين منزلة فكرة الحياة السعيدة في الفلسفة التي عرضوها. ولذلك، كما أن القدماء لم يكوِّنوا عن الزمان غير نظرة سالبة — فهو من الناحية الأُنطولوجية موجود ناقص — نجد أن المحدَثين ظلوا حبيسي مفهوم سالب عن الأبد. وبدل التفكير الموجب بضربٍ ما من الخلود Immortalité، نجدهم يفكرون بمسألة التناهي Finitude التي يبدو أن كانط هو من نصَّبها في التقليد الحديث. انظر: M. Heidegger, op. cit., p. 495; M. Foucault, Les Mots et les Choses, Paris, Gallimard, 1966, Ch. 9.
١١  M. Heidegger, op. cit., p. 238.
١٢  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٣.
١٣  المصدر والصفحة نفسهما. هل يكون هذا الاستصلاح لمفهوم «الغريب» حيلةً اعتملها ابن باجة لدفع الغموض الذي يكتنف لفظة «المتوحد»؟ يقول ماجد فخري، محقق رسائل ابن باجة: «وعلى الرغم من عسر لفظة «المتوحد» في فلسفته، فهو لم يتطرق إلى شرحها» (الرسائل، م.س، ص٣١). إن تأكيدنا على عسر معنى المتوحد وعلى ضرب القرابة المشكلة التي يصرِّفها مع غريب المتصوفة، إنما نقصد به تخليص مفهوم المتوحد من أي عَلاقة بمقولة «الذات» الحديثة. ونحن نجد أن باحثًا قديرًا مثل محمد المصباحي قد انزلق في استعمال خطير لمفهومَي الذات والموضوع، اللذَين يصدران عن أفق إشكالي مباين في طبيعته ورهاناته للأفق الإشكالي لمسألة المتوحد. وليس هذا الاستعمال خطيرًا إلا لأنه ينم عن ضرب من الاعتقاد في ضرورة توفر العرب على ما يشبه الذات الحديثة، ولذلك وقعت محاسبة ابن باجة من هذه الزاوية، في أفق ضرب من الإنسية المؤسِّسة للتفلسف. وإنه بذلك أيضًا يتهم المصباحيُّ ابنَ باجة بالانزلاق في نحوٍ من النزعة العدمية (!) ثم ينوه في آخر الكتاب بالتجرِبة الفلسفية لأمثال نيتشه وهَيدغر (؟) كيف يمكنه جعل الإنسية الحديثة القائمة على ميتافيزيقا الذاتية أفقًا منهجيًّا لدراسته لابن باجة، ثم يدعو إلى وجاهة الأخذ بالاضطلاع الفلسفي بتناهي الإنسان الذي فكر فيه نيتشه وهَيدغر؟ إن الأمر يتعلق ها هنا بموقفين فلسفيين متضادين (!) انظر: محمد المصباحي، «أبو بكر بن باجة من الكائن إلى الوجود: إشكالية الاتصال»، في: من المعرفة إلى العقل: بحوث في نظرية العقل عند العرب، بيروت، دار الطليعة، ١٩٩٠م، ص١٠٥، ۱۱۱، ۱۱۳، ۱۱۶، ۱۱۸، ۱۲۸، ۱۳۰، ثم خاتمة الكتاب ص١٣٥–١٤٠.
١٤  يبرز هنا أبو حيان التوحيدي بوصفه مَن وضع مسألة «الغريب» في أفق مسألة الوطن وضعًا صوفيًّا حاسمًا. وقد يجدر بنا ونحن نقرأ تصدير المحقق عبد الرحمن بدوي لكتاب الإشارات الإلهية أن نقف وِقفة مساءلة لهذا العنوان: «أديب وجودي في القرن الرابع الهجري» (ص٥)، جاعلًا من كافكا نموذجًا لفهم التوحيدي (!) إن هذا التجوز خطير لأنه انقلب إلى ظاهرة مستقرة في الفكر العربي المعاصر، ألا وهي قراءة شطر كبير من التراث العربي تصوفًا كان أم أدبًا، قراءة «وجودية». والخطر في ذلك هو إغفال أمرين: خصوصية «الوجودية» كموقف روحي صادر عن أفق خاص بالثقافة المسيحية، وخصوصية الموقف الروحي الذي طوَّره العرب في أفق التقليد اليوناني-العربي. وحيثما تقوم الوجودية على مَحْوَرة معنى الإنسان حول تناهيه، ومن ثم موته وقلقه وخطيئته، يعمِد التقليد اليوناني-العربي إلى جعل مسألة السعادة أو الاتصال أفقًا حاسمًا لمعنى الإنسان (!) انظر: أبو حيان التوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ۱۹۸۱م، ص۱۱۲–۱۱۷؛ عبد الرحمن بدوي: «تصدير عام» لكتاب الإشارات الإلهية، المصدر نفسه، ص٥–٢٤. أما عن أدب العزلة في الثقافة العربية الكلاسيكية فانظر: الحافظ بن سليمان الخطابي البستي (ت ۳۸۸ﻫ): العزلة، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٨٥م، ص۷–۳۲.
١٥  M. Heidegger, Être et Temps, op. cit., p. 247, Note 1.
١٦  انظر مثلًا جورج زيناتي، وكذلك عبد المجيد الغنوشي الذي يبقى أول من نبه تنبيهًا حاسمًا إلى طرافة العزلة «الفلسفية» لدى فلاسفة المغرب: Gorges Zanaty, La Morale D’Avempace, Paris, Vrin, 1979, Passim; Abdelmajid El Ghannouchi, “La Falsafa Face aux Pouvoirs Religieux et Politique de L’Époque Classique”, in: Actes du Colloque: Défi à la Philosophie, Défi de la Philosophie (Tunis, 11–17 Avril, 1988), Université de Tunis, 1989, p. 193. وقد يجدر بالذي يرمي إلى التأريخ لهذه الظاهرة أن ينبه إلى أنه يبدو أن أول مصدر لهذا الافتراض الذي تحول إلى تقليد بنفسه هو المقال التالي: W. Meijer, “De Consensu Metaphysicae Spinosanac cum Philosophia Arabica Sive Moslemitica” In: Le Chronicon Spinozanum. t. II, La Haye, 1922, pp. 14–19 الذي ذكره عبد المجيد الغنوشي: Abdelmajid El Ghannouchi, “L’Étrangeté Philosophique et L’Échec de la Communication dans le Récit de ‘Hayy Ibn Yaqzan’ D’Ibn Tufayl”, in: Revue Tunisienne des Études Philosophiques, Septembre 1990, p. 12.
١٧  إن ذلك النظر المغاير إنما يفترض قدرة على الوعي بالمسافة التي تفصلنا عن تراثنا الفلسفي، ولكن أيضًا بالمسافة التي تفصل اسبينوزا عنا. كيف نرفع التفكير بإمكانية اسبينوزا من مجرد أداة منهجية إلى أفق «راهنية»؟ ذلك أن اسبينوزا ليس فقط على قرابة مُشْكلة بالفلسفة العربية الكلاسيكية، بل هو كان موضوع تلقٍّ عربي معاصر ما زال مستمرًا، وإنه لحقيق بنا أن ننبه إلى أننا ما كنا لنحتفي بظاهرة اسبينوزا كل هذا الاحتفاء لولا أننا وجدنا أن باحثًا «اسبينوزيًّا» قد انخرط بعدُ في إضاءة هامة سواء لراهنية اسبينوزا أم لطبيعة القرابة التي طورها صمتًا مع الأفق الإشكالي لفلاسفة المغرب. انظر: Saleh Mosbah, “Spinoza et Ibn Bajja”, in: L’Écho de la Prise de Grenade dans la Culture Européenne aux XVI et XVII Siecles, F. Haddad Chamakh et A. Baccar (eds), Tunis, 1994, pp. 307–300;؛ صالح مصباح: «اسبينوزا في الفكر العربي المعاصر»، في: المَجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد ١٣-١٤: ۱۹۹۳م، ص٤٥–۸۳؛ صالح مصباح: «الفيلسوف والجمهور: اسبينوزا وأزمة الفلسفة في الغرب الإسلامي الوسيط» (۱۹۹۳م) (غير منشور)؛ وانظر أيضًا: A. Negri, “L’Antimodernité de Spinoza”, in: Les Temps Modernes, Nº 539, Juin 1991, pp. 43–61.
١٨  إن عَلاقة اسبينوزا بابن باجة عند زيناتي هي النَّموذج الداخلي لدراسته: فهو يصف هذه العَلاقة النموذجية وصوفًا عدة بواسطة هذه الألفاظ: «تناسب» (ص۲۹ و٦٣ هامش ۱۱، و۹۲ و٩٤)، و«مثل» (ص۳۰ و٣٦ و٣٩ و٥٤)، و«استعادة» (ص۳۰ و۷۳ و٩٤)، و«قرب» (ص٣٦ و۹۲)، و«قرابة» (ص۳۹)، و«تقريب» (ص٤٠ و٤٤)، و«أيضًا» (ص٤١)، و«تأثير» (ص۷١)، و«تطابق» (ص۹۲). بل إن زيناتي يستعمل الدراسات الاسبينوزية لشرح ابن باجة واسبينوزا في الوقت عينه، ومن الزاوية ذاتها؛ فهو مثلًا يعود إلى كتاب زاك Zac عن أخلاق اسبينوزا لتفسير أخلاق ابن باجة في الصفحات ٣٠ و٤٠ و٤١ و٩٥ (!).
١٩  إذ يجدر بنا أن ننبه إلى أن المفهوم الحديث للوحدة إنما يتقوم مباشرة بضرب من المعاناة من سطوة أصلية ﻟ «الهُمْ» على الذات، ونحن نجد في مسألة «الهَمِّ» Souci لدى هَيدغر، بما هي البؤرة الأصلية لمولد الوضع الزماني للإنسان، حالة نَموذجية عن ذلك النحو من المعاناة المقوِّمة للوَحدة. انظر: M. Heidegger, op. cit., p. 434.
٢٠  نقصد بذلك أن طلب المتوحد لضربٍ من الموطن يخصه ليس صادرًا عن ظاهرة «ألم الوطن»/Heimweh/Nostalgie التي اشتق منها المحدَثون معنى الحنين إلى الوطن. وهنا أيضًا يبدو الجذر اليوناني نبراسًا وجيهًا؛ فلفظة Nostalgia مركبة من لفظَي Nostos الذي يعني عند اليونان العود إلى البلد والطريق أو السبيل إلى البحث عن مطلوب ما، الغذاء مثلًا، بعامةٍ؛ وAlgéo ويعني الألم أكان جسمانيًّا أم روحانيًّا. انظر: M. A. Bailly, Abrégé du Dictionnaire GREC - FRANÇAIS, Paris, Librairie Hachette, 1901, pp. 31 et 594.
٢١  لا نقصد الدلالة الطبيعية للمكان ولا التعليق الإبستمولوجي عليها، بل المكان من حيث هو متقوم بمعنى الوطن. إن الأمر يتعلق في كل مرة بضربٍ من تدبير المكان، أكان ذلك تدبيرًا للعالم أم المدينة أم المنزل. ولأن ابن باجة يُعرض عن الضروب الثلاثة من التدبير، فهو يُعرض للتوِّ عن الضروب الثلاثة من المكان التي تفترضها. ما هي «بيئة» الفيلسوف؟ أعني كيف عليه أن يسكن العالم الفلسفي الذي يشيِّده في كل مرة؟ إننا إذا كنا اليوم نفكر بطرح «إيكولوجي» لعَلاقتنا بالعالم من حيث هو البيئة الوحيدة للإنسان، فإن ابن باجة إنما كان يفكر بالفلسفة بوصفها البيئة الوحيدة للمتوحد. فالنابت مدعوٌّ سلفًا إلى ضرب من الوطن الذي يخترعه لنفسه كبيئة فلسفية خاصة في انتظار حدوث المدينة الكاملة. قارن: ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص۳۸–٤٠؛ M. Heidegger, “Batir, Habiter, Penser”, in: Essais et Conférences, Paris, Gallimard, coll. Tel, 1984, pp. 170 sq.; Alain De Libera, La Philosophie Médiévale, Paris, P.U.F., 1993, p. 152.
٢٢  الفارابي: كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، بيروت، دار المشرق، ١٩٨٦م، ص٣٧ وما بعدها. فمن الطريف أن الفارابي إنما يجعل القول في الموجود بعامةٍ (الفصول ١–١٠) والقول في النفس (الفصول ۲۰–۲٥) مدخلًا أساسيًّا للقول في المدينة (الفصول ٢٦–٣٧). وهذا الاختيار يؤدي دورًا حاسمًا في رسم طبيعة تصوره لإشكالية المدينة الفاضلة. ولذلك فخروج ابن باجة عن هذا النحو من التقليد إنما ينطوي على اختيار آخر لا يقل حسمًا نعمل على إيضاحه.
٢٣  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٣٧-٣٨.
٢٤  المصدر نفسه، ص٣٧.
٢٥  المصدر نفسه، ص٣٨.
٢٦  المصدر نفسه، ص٣٩.
٢٧  المصدر نفسه، ص٤٠.
٢٨  المصدر نفسه، ص٣٩-٤٠.
٢٩  المصدر نفسه، ص٤٣.
٣٠  المصدر نفسه، والصفحة ذاتها؛ Alain de Libera, La Philosophie Médiévale, op. cit., pp. 151 sq.
٣١  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤١.
٣٢  المصدر نفسه، والصفحة ذاتها.
٣٣  إننا نعثر في هذا السياق على إمكانية طريفة للتفكير بضربٍ ما من «نهاية الفلسفة». والمعلوم أن هذا الإشكال قد صار تقليدًا منذ ماركس. رُب تقليد قد وجد لدى هَيدغر الثاني هالته العليا. غير أن تفكير ابن باجة بإمكانية بطلان الحاجة إلى الفلسفة إنما يختلف عن النظرة الحديثة في أنه لا يأخذ معنى النهاية مأخذ التحقيق التاريخي للفلسفة (ماركس)، أو مأخذ الاستكمال الميتافيزيقي لماهيتها (هَيدغر)، بل هو يشير على نحو طريف إلى أن نهاية الفلسفة موقوفة في جوهرها على اكتمال المدينة وحدوث المدينة الكاملة. وذلك يعني أن الحاجة إلى الفلسفة إنما تزداد حدة كلما كان اكتمال المدينة أو حدوث المدينة الكاملة غاية بعيدة المنال. إن ابن باجة ينبه إذن على نحو غير مباشر إلى الحاجة الحاسمة للفلسفة ما دامت مدن الزمان مدنًا ناقصة. انظر وقارن: ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٤؛ K. Marx, Critique de la Philosophie du Droit de Hegel, Paris, Éd. Bilingue/Aubier, 1971, pp. 72–75; M. Heidegger, “La Fin de la Philosophie et la Tâche de la Pensée”, in: Questions IV, Paris, Gallimard, 1976, pp. 114-115.
٣٤  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٢.
٣٥  المصدر نفسه، ص٤٣.
٣٦  فإن الأمر يتعلق حقًّا بإشكالية لم يفعل ابن باجة سوى استعادتها داخل تأوُّل جديد. وإذا كان الفارابي هو من أعطى الصيغة المشهورة عن معنى أو منزلة النوابت، فإن ثمة من العرب من استعمل هذه اللفظة قبله، وذلك بخاصة، والأمر على غاية الخطورة، للإشارة إلى فرقة كلامية أو سياسية ظهرت في عصر المأمون. ونحن نجد أن الجاحظ قد أرخ لهذه الواقعة الثقافية الخطيرة في رسالة أفردها للقول في «النوابت» حوالَي سنة ٢٢٦ﻫ/٨٤٠م. إن هذا المعطى التاريخي من شأنه أن يلقي ضوءًا طريفًا على استعمالَي الفارابي وابن باجة للفظة «النابت». هل يتعلق الأمر لدى الفارابي، كما يفترض بعض المستشرقين، بضرب من القول في منزلة «المعارضة» التي تظهر في أفق المدينة الفاضلة؟ وهل يتعلق الأمر لدى ابن باجة باستئناف فلسفي يؤصل موضع الفرقة الخارجة عن دولة الجماعة على نحو إتيقي؟ هل كان ابن باجة يدعو ضمنًا «الشباب» (النوابت، الذين نبتوا للتو) إلى اضطلاع سياسي ما؟ انظر وقارن: Ilai Alon, “Farabi’s Funny Flora, Al-Nawabit as Opposition”, in: Arabica, Tome XXXVII, 1990, pp. 56–88؛ الفارابي: كتاب السياسة المدنية، بيروت، دار المشرق، ١٩٦٤م، ص۸۷ و١٠٤؛ Alain de Libera, op. cit., p. 152.
٣٧  ابن باجة، تدبير المتوحد، م.س، ص٤٣.
٣٨  ربما كان في ذلك بعض عذر للذين أنكروا أصالة مسألة النوابت في الفلسفة العربية، واعتبروا أنه من الممكن العثور على اسم «النوابت» في المتن الأفلاطوني. انظر: E. I. J. Rosenthal, “The Place of Politics in the Philosophy of Ibn Bajjah”, in: Studia Semitica, vol. 2 (1971), Nº 63, p. 53, (Cité Par I. Alon, op. cit., p. 57). ونحن نقترح أن نعود إلى هذه الجملة. انظر أفلاطون: Platon, La République, VIII, 564 e.
٣٩  فنحن نأخذ قبل-الأفلاطونيين في الأفق الذي رسمه نيتشه: إنهم فلاسفة صار من الوجيه مباحثتهم لا من جهة القيمة النظرية لأقوالهم، بل من حيث طبيعة «النموذج الإنساني» الذي طوروه. إن كل واحد منهم نابتة؛ أعني «شخصية» فلسفية لا تُدحض لأنها صادرة عن تجرِبة طريفة في طرح وجود الإنسان. انظر وقارن: F. Nietzsche, La Philosophie à L’Époque Tragique des Grecs, trad fr., Paris, Gallimard, coll. Folio Essais, 1975, pp. 9–20.
٤٠  قال: «فأما تدبير المدن فقد بين أمره أفلاطون في السياسة المدنية (…) وتكلف القول فيما قد قيل فيه فأحكم فضل أو جهل أو شرارة.» تدبير المتوحد، م.س، ص٣٩. قد يبدو هذا التبرير وجيهًا غير أن وجاهته إنما تحجب عنا سببًا أكثر أصالة من حيلة الاقتصاد في التأليف. إن ابن باجة يهم بنقل مسألة التدبير من موضعها التقليدي، أي إشكالية المدينة. فهو إذن يعلن عن قبوله باكتمال القول المدني في التدبير، لكنه إنما يفتح بذلك الأفق أمام اجتهاد فلسفي جديد هو القول في التدبير غير المدني. وهذا أمر غير مسبوق.
٤١  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٢.
٤٢  المصدر نفسه، ص٤٤. يقول عارفٌ كبير بالفلسفة العربية: “Face à une Situation D’Émiettement et de Décomposition [la Fin du Khalifat Umayyade de Cordoue (1031)], D’Ibn Bajja Est (…) Exactement Opposée à Celle de Fârâbi: Il Ne Cherche Plus à Théoriser le Pouvoir Politique en Définissant le Profil Éthique du Chef de la Cité Idéale, Il S’Éfforce de Penser le Style de Vie Que Doit Mener le Citoyen Idéal Qui N’a de Pouvoir Que sur Lui Même”, Alain de Libera, op. cit., p. 151.
٤٣  إننا نفترض أن ابن باجة قد فتح المجال أمام إمكانية أصيلة للخروج من إشكالية المدينة الفاضلة، والشروع في ضرب جديد من التفكير في وجود الإنسان. ولذلك، يبدو أن عزوف ابن خلدون عن مسألة «السياسة المدنية» بوصفها إشكالية حكمية لا تمت إلى قضية العمران البشري بشيء، إنما هو يستفيد بوجه ما من تجرِبة ابن باجة. وآية ذلك أن ابن خلدون لم يفعل في معرض تنبيهه إلى معنى السياسة المدنية سوى إيضاح ما طرحه ابن باجة بواسطة إشكالية المتوحد. قال: «وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخُلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأسًا»(!) انظر وقارن: ابن خلدون: المقدمة، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ١٩٦٠م، الباب الثالث، الفصل ٥١، ص٥٤؛ ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٣.
٤٤  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٣.
٤٥  وهو اعتبار لعب دور المسلَّمة الفلسفية في ترتيب القدماء لمعنى الإنسان، رُب اعتبار كان أرسطو قد سنه لمن بعده. انظر: Aristote, Les Politiques, trad. Inédite par P. Pellegrin, Paris, G. F., 1990, 1, 2, 9, 10, III, 6, 3.
٤٦  ابن باجة: تدبير المتوحد م.س، ص٩٠-٩١.
٤٧  المصدر نفسه، ص٩٠.
٤٨  إنه في هذا الباب يدخل القول التقليدي في «الصداقة». والطريف أن ابن باجة قد أخرج ذلك القول من أفق إشكالية المدينة — حيث تُطرح بخاصة مسألة صحبة الملوك — وطرَحه في أفق إشكالية المتوحد حيث نصطدم بمسألة الصداقة بمعناها الإتيقي العام؛ من أدب سلطاني صارت مسألة الصحبة مشكلًا إتيقيًّا. انظر وقارن: ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٩٠؛ الفارابي: «كلام أبي نصر الفارابي في وصايا يعم نفعها» ضمن: ابن مسكويه، الحكمة الخالدة، تحقيق وتقديم: عبد الرحمن بدوي، بيروت، دار الأندلس، (د.ت)، ص۳۲۷–٣٤۲، وبخاصة ص۳۳٥ وما بعدها.
٤٩  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٩١.
٥٠  رُب غموض كان قد نبه إليه ابن طفيل، الأول الذي حاول أن يؤرخ للتجرِبة الفلسفية الطريفة التي اعتملها ابن باجة على نحو «ليس يعطيه القول (…) عطاء بيِّنًا إلا بعد عسر واستكراه شديد». انظر: ابن طفيل: حي بن يقظان، بيروت، دار المشرق، ١٩٨٦م، ص۲۱. حيث يستعمل عبارات ابن باجة نفسها. انظر: «اتصال العقل بالإنسان»، في: رسائل ابن باجة، م.س، ص۱۷۲.
٥١  يذكر ابن باجة في رسالة «اتصال العقل بالإنسان» كتابًا للإسكندر الأفروديسي عنوانه «في الصور الروحانية». أما محقق المتن الباجَوي فينبه إلى إمكانية أن تكون التسمية مستمدةً من كتاب الحس والمحسوس لأرسطو في ترجمته العربية. هذان المعطيان هامَّان لكنهما غير حاسمين. فنحن نفترض أن ابن باجة يستعمل فعلًا تسمية تقليدية، لكنه إنما يفعل ذلك للإشارة إلى إمكانية إنشاء «قول صناعي» في شأن مسألة يبدو أن القول فيها سابق على ابن باجة. انظر: ابن باجة، «اتصال العقل بالإنسان»، في: رسائل ابن باجة الإلهية، م.س، ص١٦٦، كذلك ص٢٥-٢٦ من مقدمة المحقق.
٥٢  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٥٠، ٥٢، ٥٣، ٦٨، ٧٢، ٧٣، ٧٩، ٨٥، ٨٩.
٥٣  المصدر نفسه، ص٩١.
٥٤  المصدر نفسه، ص٣٧–٤٤.
٥٥  المصدر نفسه، ص٤٥–٤٨.
٥٦  المصدر نفسه، ص٤٩–٩٦.
٥٧  يقول محقق رسائل ابن باجة: «ردَدْنا أعلاه مصادرَ فلسفة ابن باجة الرئيسية إلى ثلاثة: أفلاطون وأرسطو والفارابي. ولو أردنا أن نخصص لقلنا: الجمهورية وفادون لأفلاطون، وكتابَي الأخلاق والحس والمحسوس لأرسطو، والسياسة المدنية ورسالة العقل للفارابي. العادُّ المشترك لهذه المؤلفات هو تحديد طبيعة الإنسان العقلية وغايته القصوى والسبل المدنية المثلى لبلوغ هذه الغاية.» رسائل ابن باجة، م.س، ص٢٤. إن هذه الملاحظة علامة عن مشهد هِرمِينوطيقي أوسع: إن ابن باجة لم يأخذ عن القدماء غير الإمكان الفلسفي الذي يصبح بموجبه طرح إشكالية الإنسان طرحًا وجيهًا. انظر: محمد المصباحي، من المعرفة إلى العقل، م.س، ص١٣٠.
٥٨  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٥۸. على العكس مما يظن المحقق، لا يعني الاستعمال ها هنا مجرد جعل أمرٍ ما «قريب التناول» (ص٥۸، هامش ۱)، بل إن المسألة أكثر خطورة من ذلك: إن ابن باجة يقصد أخذ الجهاز النظري التقليدي الذي بلغ تمامه مع القدماء مأخذ الوسيلة إلى التفكير بإمكانية فلسفية مبتكرة لم يقف عليها القدماء، ألا وهي مسألة المتوحد.
٥٩  المصدر نفسه، ص٥٨.
٦٠  وإنه بذلك حُدَّت الفلسفة نفسها. انظر: الكندي، «الحدود والرسوم»، في: عبد الكريم الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب، تونس، الدار التونسية للنشر، ۱۹۹۱م، ص۲۲۰؛ وكذلك: Aristote, Éthique de Nicomaque, trad. de J. Voilquin, Paris, G. F., 1965, X, 8, pp. 279-280.
٦١  ابن باجة: تدبير المتوحد، م.س، ص٤٧.
٦٢  المصدر نفسه، ص٤٧.
٦٣  المصدر نفسه، ص٨٠.
٦٤  المصدر نفسه، ص٩٥-٩٦.
٦٥  إننا نقصد بعامة أن ابن باجة إنما يقوم هنا، أي في حقل العمليات، بما قام به مثلًا في حقل الطبيعيات: تأسيس إمكانية تفكير جديدة في تاريخ الفلسفة العربية. ففي شرح السماع الطبيعي، يعمِد ابن باجة إلى مقارنة لحظته بلحظة أرسطو في الثقافة اليونانية: إنها لحظة الكف عن الأقوال السفسطائية والجدلية في الطبيعة (وهي لحظة المتكلمين عند العرب)، والانخراط في «مقصد» جديد من شأنه أن يحرر من آراء «أهل هذا الزمان»، ويفتح الأفق أمام نظرٍ أكثر أصالة للغرض الذي هو غرض الفيلسوف. انظر: ابن باجة: شرح السماع الطبيعي، بيروت، دار الفكر، ۱۹۷۸م، ص١٦-۱۷؛ محمد عابد الجابري: نقد العقل العربي (۲): بنية العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٨٦م، ص٥٢٨ وما بعدها؛ محمد بن ساسي: «النقد الباجَوي لديناميكا أرسطو»، في: المَجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد ۱۳-١٤، سنة ١٩٩٣م، ص١٣٩–١٥٤.
٦٦  إن التفكير بهذه المهمة هو الذي قاد هَيدغر الشاب إلى اكتشاف قارَّة التفلسف التي مكنته من إضاءة جديدة وحاسمة للجذور العملية للبنى الأُنطولوجية للعقل اليوناني، وذلك عندما فتح معنى النظر Theorea على مقامات الإنشاء Poiesis والصناعة Téchné، والعمل Praxis، والروية Phronesis. انظر: M. Heidegger, Interprétations Phénoménologiques D’Aristote, trad. par J. F. Courtine, Mauvezin, éd., Trans-Europ-Repress, 1992, pp. 35 sq.
٦٧  إن ابن باجة إنما يطرح ها هنا مشكلًا جوهريًّا: كيف يكون الإنسان في الوقت نفسه موجودًا سرمديًّا وكائنًا فاسدًا؟ أي كيف يجمع في وجوده بين معنيَي الأبد والتناهي؟ إن التوحد مقام طريف لأنه يمكِّن من فتح المجال أمام ضرب من «تجرِبة الأبد» بحسب عبارة جليلة لباحث اسبينوزي: فالتجرِبة هي بطبيعتها احتمال لموضع التناهي، ولكن لأنها تتعلق بالأبد، فهي حمل للإنسان إلى مقام سعيد ليس له أن يكون عدميًّا بأي وجه. إن موقف ابن باجة طريف لأنه يقف ما بين اسبينوزا وهَيدغر، ما بين فلسفة في الأبد تدفع بمطلب التشبه بالإله إلى أقصاه، وفلسفة في التناهي تدفع بالأساس العدمي للوجود الإنساني إلى أقصاه. ويبدو أن هَيدغر الثاني قد أصاب بعض إصابة من هذا الأفق الذي أشار إليه ابن باجة ولم يدخله؛ أفق التفكير في الوجود من حيث يحتمل، على نحو متوعر وأصيل في عين الوقت، إمكانيتَي الأبد والتناهي، في موضع أُنطولوجي طريف هو «العهد» Ereignis بحسب ترجمة سعيدة لباحث هَيدغري. انظر وقارن: ابن باجة، تدبير المتوحد، م.س، ص۹٥؛ و«في الغاية الإنسانية»، في: رسائل ابن باجة الإلهية، م.س، ص۱۰۰- ۱۰۱؛ «رسالة الوداع»، في: المصدر نفسه، ص١٤٣؛ P. F. Moreau, Spinoza, L’Expérience et L’Éternité, Paris, P.U.F, 1994, pp. 543–549؛ محمد محجوب: هَيدغر ومشكل الميتافيزيقا، تونس، دار الجنوب للنشر، ١٩٩٥م، ص١٢٧.
٦٨  عن مفهوم «الوضعية الهِرمِينوطيقية» انظر: M. Heidegger, Être et Temps, op. cit., p. 284.
٦٩  قارن مثلًا: ابن باجة: «رسالة الوداع»، م.س، ص١١٤.
٧٠  الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، بيروت، دار المشرق، ۱۹۹۰م، ص١٥۹، وبخاصة ص١٥٦. إنه ها هنا بالذات يبدو موقف ابن باجة محدود الخطورة بالنظر إلى موقف الفارابي؛ ففي حين يُقدِم الفارابي على رسم الإمكان النظري والإشكالي لموضع الملة مضيفًا بذلك «غرضًا جديدًا» للفلسفة هو القول في الملة، نلاحظ أن ابن باجة ينحسر عن الأفق الذي تهبه الملة للفيلسوف الذي ينبت في حقلها. انظر: صالح مصباح: «مسألة الملة عند الفارابي»، في: دراسات حول الفارابي. صفاقس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ١٩٩٥م، ص۱۹۰–۲۰۲، وبخاصة ص١٩٦ وص۲۰۲.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤