من هو متوحد ابن باجة؟
«وأغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه (…) لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود.»
(١) تقديم: راهنية ابن باجة
(١-١) المتوحد والوحيد: ابن باجة أمام الفلسفة الحديثة
(١-٢) المتوحد والغريب: ابن باجة واستئناف التراث الصوفي
وإنه داخل هذا الأفق الصوفي اكتشف ابن باجة السبيل الفلسفية الحاسمة لبلورة معنى التوحد. إن التوحد هو إذَن الغربة، لكن الغربة لا تعني ها هنا أي ضرب من اللاوطن، لأن الغريب لا يعاني من أي ضرب من القلق إزاء إمكانية الموت. إنه على العكس من ذلك في سفر سعيد إلى أفق الموت. إن الموت هنا يتخلص من شحنته العدمية وينقلب إلى حدث دهري؛ إنه ضرب من الدخول في أفق الوطن. إن التوحد غربة في الرأي وليس فقدانًا للذات. ولذلك فهو أبعد ما يكون عن خوفٍ من «الهُمْ»، بل هو إقامة عرضية داخل مدينة «الهُمْ»؛ وهو في الوقت نفسه سفر بالأفكار إلى مرتبة الوطن. إن الوطن الفلسفي مرتبة فحسب. ووسيلة السفر الفلسفي هي الفكر. إن التوحد سفر بالفكر إلى مرتبة الوطن، وذلك من غير أي حس عدمي، أي من غير معاناة لواقعات القلق واللاوطن والموت.
(١-٣) كيف نتأول ابن باجة؟ ملاحظة حول ظاهرة تأويلية
(٢) من هو المتوحد؟ وما هي فلسفة المتوحد؟
(٢-١) النابتة
إننا ندفع بهذا التلفت عن شأن الإله إلى شأن الإنسان مع التدبير، ندفع إلى نحوٍ من المساءلة بحيث يكفُّ عن أن يكون مجرد حرص منهجي يجدر بالمتفلسف أن يأتيه في بعض موضع من تفكيره. إن الأمر يتعلق بقرار فلسفي على درجة عالية من الخطورة. إن ما أقدم عليه ابن باجة هو إزاحة الاعتبار التقليدي لمبحث الإله، والإقبال على تنصيب فلسفي لإشكالية الإنسان في صناعة الفلسفة بعامة. إن مسألة «البدء» الفلسفي لإشكالية العملي قد وجدت في السؤال عن الإنسان موضعها الأصيل. إن التلفت عن التدبير الإلهي والاقتصار على البحث في التدبير الإنساني إنما ينطوي — إذا تُؤُمِّل من الزاوية التي تهمنا — على قرار توبولوجي خطير: إنه إعادة ترتيب للموضع الذي يقف فيه الفيلسوف.
إن هذين السؤالين إنما هما غير مهمين إلا بقدر ما يشيران إلى وجه الصعوبة التي تكتنف البحث في طبيعة الموضع الذي يقف فيه الفيلسوف.
إن ما يقصد إليه ابن باجة قصدًا حاسمًا. أن يضطلع فلسفيًّا باللحظة الوعرة التي تسبق حدوث المدينة الكاملة، وإن التصدي لهذا القَبْل اللافلسفي الذي يجعل الفلسفي ممكنًا هو ما يضفي على تفكير ابن باجة طرافةً خاصة.
(٢-٢) الفلسفة فن مدني بالعرض
حتى نفهم طبيعة الانزياح الذي وقع في كتاب تدبير المتوحد من إشكالية المدينة الفاضلة إلى إشكالية النابتة، علينا أن نبحث أولًا عن أصل إشكالية المدينة الفاضلة نفسها بحيث نطرح هذا السؤال: متى دخل مبحث المدينة في أفق الفلسفة؟ وما هو الحدث الجوهري الذي دفع بالفلسفة إلى تبيئة مسألة المدينة، واعتبار حقيقة السياسة مبحثًا فلسفيًّا أو يندرج في صُلب مهمة التفلسف؟
إنه بذلك يصبح من الممكن أن نشرف على الموقف الذي ابتكره ابن باجة حين نبه إلى أن مطلوبه مغاير للمطلب الأفلاطوني في الفلسفة المدنية. فإشكالية النابتة إنما هي سبيل طريف للخروج من الأفق التقليدي لطرح مسألة الوجود المدني للفيلسوف، الذي هيمنت عليه إشكالية المدينة الفاضلة. كأن ابن باجة يُرجِع بذلك للفيلسوف أفقه قبل-الأفلاطوني، أفق البحث عن السبيل الخاص بالفيلسوف من حيث إن مقصوده هو حب الحكمة وليس حب المدينة، حتى وإن كانت فاضلة.
التوحد هو حب الحكمة من حيث إن هذه الحكمة هي التدرُّب على الإتيان إلى الفلسفة من غير المرور بإشكالية المدينة الفاضلة. ولأن هذا التوحد هو فن وجود خاص بالفيلسوف الذي يختص بكونه نابتة في المدن غير الفاضلة، فإن معنى الحكمة إنما كان ها هنا معنًى أصيلًا؛ إنه التفرغ للبحث عن فن إقامة الفيلسوف في المدن غير الفلسفية، أو هو البحث عن سبيل السعادة للذي لا يأتي إلى السعادة إلا فردًا. فالتفرد ها هنا مصرَّفٌ على نحو جذري، وليس مجرد عزوف عن الجماعة. ففلسفة الجماعة تمر حتمًا بالتفكير الأفلاطوني عن شروط وطبيعة المدينة الفاضلة. في حين أن فلسفة النابتة إنما هي لا تصل إلى انكشافها الذي من شأنها إلا بالخروج عن الأفق الذي رسمته إشكالية المدينة الفاضلة.
أفلاطون وابن باجة قد قاما، كلٌّ على نحو جذري، بطرح إشكالين حاسمين في تاريخ الفلسفة؛ الأول: أدخل مبحث المدينة في أفق الفلسفة، والثاني: خلص التفلسف من هذا الحدث الأفلاطوني، وأعاد للفلسفة إمكانية التفرغ لفحص واقعة الفيلسوف كما ينبت في مُدُن زمانه.
بل نحن نقصد فقط أن ابن باجة بمحاولته الكف عن الاضطلاع بإشكالية المدينة الفاضلة، وحرصه على إبراز خصوصية مبحث المتوحد الذي يُقدِم عليه، قد وقع على مشارف انزياح عميق في صناعة الفلسفة لا يبدو أنه قد أفلح في إنجازه على الوجه الذي هو من شأنه، بل ما لبث أن انحسر بحثُه عنه.
إن ضربًا من الارتداد إلى الموضع الذي يقف فيه الفيلسوف في المدن الناقصة لمساءلته ورسم إمكانية موجبة للتفكير فيه هو ما يجعل كتاب تدبير المتوحد على درجة عالية من الابتكار. فلم يكن من السهل قط الإمساك عن التقليد الأفلاطوني الذي كان الفارابي قد فرغ من تبيئته في فضاء التفكير العربي على نحو جريء وغير مسبوق. ولذلك نحن نفترض أن ابن باجة، وإن كان ذلك بعُدَّةٍ مفهومية تقليدية، قد قام بما يشبه الارتداد الفينومينولوجي إلى القَبْل الذي يسبق حدوث المدينة الفاضلة، أي إلى الإمكان الأصلي لتلك المدينة، وهو لا يزال «نابتة» غريبة عن «الزمان» ومتفردة عن «أهله». كأن قدر الفيلسوف ألا يظهر إلا حيث لا يُنتظر، أو أنه لا ينبت أو يتنبت إلا حيث لا يكون ممكنًا.
إنما اللافلسفة هي مرض ألمَّ بطبع الفيلسوف بسبب إقامته غير الطبيعية في مدينة الجمهور. ولذلك فالفلسفة هي صناعة دفع ما يخرج عن الطبع. ولأن ما يخرج عن الطبع ضرب من المرض، فالفلسفة إنما تنقلب إلى طب جذري للنوابت. أما الدواء الكلي فهو التوحد. إنما الفلسفة إذن صناعة الانفراد وفن الوحدة، وهي ليست كذلك إلا لأن واقعة الفيلسوف نفسها هي نابتة. فالتوحد موقف ميتافيزيقي ناتج عن حالٍ أُنطولوجي هو وضع النابتة، وكما أن انفراد المريض صحة، كذلك توحد الفيلسوف: إنه سعادة. إنه اعتزال للجماعة من جهة اعتبارها آلة اللافلسفة ومدينة بلا وطن أو عاجزة عن الوطن.
أجل إنما التوحد اعتزال، لكنه ليس اعتزالًا بالمعنى المدني، فإن ماهية الوجود الإنساني إنما يهدمها الاعتزال. كيف رفع ابن باجة هذا الإشكال الذي يبدو أنه لم يُسبق إلى طرحه؟
لا بد من الإشارة إلى أن ابن باجة إنما يهم ها هنا بالربط الأصيل بين إمكانيتين فلسفيتين أساسيتين:
- الأولى: أفق التفكير الذي يرسمه العلم المدني كما ارتسمه الفارابي باستناد إلى التراث اليوناني.
- الثانية: تجرِبة الاعتزال التي هي إمكانية عملية مستحدثة ابتكرها فضاء ثقافي بلغ فيه الاعتزال مبلغ الفِرقة السياسية.
ولذلك، فالتوحد واقعة فلسفية قُدَّت من إمكانيتين فلسفيتين، هو ثمرة سعيدة عن التفكير بهما معًا. غير أن العُدة المفهومية لذلك التفكير إنما جاءت من جنس الخطاب الميتافيزيقي لليونان. رُب عُدة اعتمدت أساسًا على التمييز التقليدي بين ما هو بالذات وما هو بالعرَض. فالتوحد اعتزال بالعرَض. إنه ليس هدمًا للوجود المدني، بل هو محاولة ضرب من «الاستعمال الخاص» للوجود المدني. التوحد استعمال عرَضي للاعتزال. ولكنْ أيُّ عرَض هذا، يجعل القول الفلسفي ممكنًا؟ هل يتعلق الأمر بفلسفة بالعرَض هي ما تبقى للفيلسوف من مهمة بعد أن فرغ اليونان من إتمام العلوم التي هي بالذات مثل العلم الطبيعي والعلم المدني؟ يبدو أن ابن باجة لا يرى من فلسفة إلا ما يحتاجه النابتة، أعني لا معنى للتفلسف عنده إلا معنى التدبير، تدبير المتوحد. ولأن هذا المتوحد ليس جزءًا من مدينة، فإنه ليس حقيقًا به الخوض في العلم المدني، ففلسفة المتوحد ليست مدنية إلا بالعرَض. كذلك فإن التوحد إنما هو في مقابل ذلك ليس اعتزالًا إلا بالعرَض.
التدبير فن مدني بالعرَض لأن مقصوده سعادة المفرد لا سعادة المدينة. والمتوحد ليس معتزلًا إلا بالعرَض لأن مقصوده ليس هدم الطبيعة المدنية للوجود الإنساني. ما هو موضوع فلسفة المتوحد إذن؟ يبدو أن النابتة الذي تطبَّع بما هو خارج عن الطبع إنما لا يحتاج إلى الفلسفة إلا بقدر شوقه إلى الشفاء مما ألمَّ به من الخارج عن الطبع، أي من المرض. فمنزلة المرض كما نرى منزلة عرَضية بالنظر إلى حال الصحة. ولكن يبدو أن ابن باجة يجعله الحال الأصلي للفيلسوف، حال نابتة يفترض أن ما هو غير طبيعي أو مرضي، أي ما هو عرضي، إنما هو حال مستقرة في النفس المتفلسفة وليس مجرد زائدة كسولة (!).
إن هذا الانكباب على ما هو بالعرَض لفحص الإمكانية الفلسفية التي يحتملها لهو أمر مبتكر. ولا نقصد العرَض كحالٍ أُنطولوجي عام، فذلك معروف، بل العرَض كصفة مخصوصة لطبيعة الوجود الإنساني. فكون الاعتزال خيرًا إذا كان بالعرَض إنما يعني أن التوحد الذي هو اعتزال بالعرَض إنما هو ضرب مبتكر من التفكير في الوجود الإنساني بوصفه وجودًا مدنيًّا بالعرَض. لقد انقلب مبحث المدينة من أفق فلسفة بالذات إلى أفق فلسفة بالعرَض. أو لنقُلْ: إن ابن باجة اتخذ هامش المدينة الفاضلة الفارابية (النوابت) مركزًا لإشكالية المتوحد (تدبير النفس). إن موضوع فلسفة المتوحد هو إذن ما هو خارج عن الطبع وما هو بالعرَض وما هو كالمرض للجسد. والمقام اللامدني الذي تشير إليه هو مقام التوحد. ولأن المتوحدين هم «سبب حدوث المدينة الكاملة»، فإن فلسفة المتوحد هي فلسفة مؤقتة أيضًا، وطرافة الطابع المؤقت للفلسفة أنه لا يصدر عن ضرب من القول بتهافت الفلسفة سواء أكان ذلك على نحو وضعي (ابن خلدون) أم كلامي (الغزالي). الفلسفة مؤقتة بسبب الطابع العرَضي لوجود المتوحد. ولذلك فبدلًا من الانخراط في العلم المدني الذي يدرس إمكانية المدينة الفاضلة، ينزع ابن باجة إلى نحت ضرب من المقام اللامدني، وهو ليس لامدنيًّا إلا بالعرَض، وذلك انتظارًا لحدوث المدينة الكاملة.
إن التوحد ضرب من الانتظار الجذري لمدينة لم تحدث بعد. ولأنه استعمال فلسفي للانتظار، فهو تدبير وليس توحشًا.
ولكن إلى أي حد يمكن للمتفلسف أن يطمئن إلى هذا الاستعمال «العرَضي» للعُدَّة المفهومية التي توفرها الأُنطولوجيا التقليدية، وبخاصة في نطاق إشكالية تبقى في جوهرها إشكالية عملية؟ وإذا كان ابن باجة يصر على تمييز مقصده من التدبير عن المقصد المدني التقليدي فبمَ يمكننا أن نصف هذا التدبير؟ صحيح أن ابن باجة بلجوئه إلى استعمال مفهومات الذات والعرَض الأُنطولوجية لتبيين ماهية التوحد من حيث هو اعتزال بالعرَض إنما هو اصطلح سُنة في التعبير وفي التجوُّز رائجةً لدى المتفلسفة من قبله. غير أن ما هو لافت إنما هو انكبابه على معنى العرَض بوصفه محمولًا على ضرب من الوجود الإنساني هو الاعتزال.
إن الأمر يتعلق في الحقيقة باستعمال إتيقي لمفهومات أُنطولوجية. ولكن إلى أي مدى يمكن حقًّا أن نفصل بين وجاهة موقف إتيقيٍّ ما وبين الخطاب الأُنطولوجي الذي يستعمله؟ صحيح أن التدبير مشكل إتيقي وليس مسألة مدنية، ولكن رغم ذلك فإن ابن باجة يحرص على عدم مناقضة ما تبين بعدُ في العلم الطبيعي والعلم المدني (؟) إن هذا هو الطابع الإشكالي لموقفه الفلسفي: كيف نفكر في مسألة عملية مبتكرة بواسطة عُدة نظرية تقليدية؟
(٣) كتاب «تدبير المتوحد» وطرح إشكالية «الإنسان»
(٣-١) ما هو «علم الصور الروحانية»؟
-
(١)
بأي معنًى يقرن ابن باجة سيرة المتوحد بالعلوم النظرية؟
-
(٢)
ما هو «علم الصور الروحانية»؟ هل هو علم مستحدث لم يظهر فيه بعدُ قول صناعي أم هو اسم آخر للأُنطولوجيا اليونانية؟
-
(٣)
بأي وجه يمكن لابن باجة أن يقر بأن طلب العلوم النظرية قد يفيد المتوحد مقصوده إفادة بالعرَض؟
نحن نعرف أن مقصود المتوحد وإن لم يكن مقصودًا مدنيًّا فإنه ليس مقصودًا نظريًّا، بل إنما هو في ماهيته مقصود عملي، وإن كان أمرًا غير ممكن الطلب بغير علوم نظرية. إن ابن باجة يدفع بالعَلاقة بين سيرة المتوحد والجهاز النظري للميتافيزيقا اليونانية إلى وجهة طريفة: الإفادة بالعرَض. ولكن ذلك يعني أن ابن باجة قد أقدم، بطرحه لإشكالية المتوحد، على التفكير في مسألة لم يأتِ عليها التقليد الميتافيزيقي، مما يعني أن هذا التقليد لا يمكن أن يفيد ها هنا إلا باعتباره أفقًا استكشافيًّا وليس غرضًا مستقرًّا.
بل إن كتاب تدبير المتوحد إنما يوشك أن ينقلب، متفلِّتًا من بين يدي ابن باجة، من قول في المتوحد إلى قول صناعي هو «علم الصور الروحانية». ونحن نجد في استعمال ابن باجة لمفهومَي «ما هو بالذات» و«ما هو بالعرَض» وسيلة طريفة للتفطين إلى الفرق بين المقصد الذي كرس له ابن باجة تأليف كتاب تدبير المتوحد وبين المهمة «الاضطرارية» التي استوجبها إنجاز ذلك المقصد. ذلك أنه إذا كان ابن باجة يقصد أول أمره إلى تكشيف معنى التدبير الذي يحتاجه المتوحد تكشيفًا بالذات، فإنه لم يرَ بُدًّا من استحداث قولٍ في «علم الصور الروحانية» استحداثًا بالعرَض.
إن ما هو لافت للنظر ها هنا هو إقحام الأقاويل البلاغية والانفعالية في حقل علم الصور الروحانية أو هكذا يبدو. وإن في ذلك لصعوبةً واضحة: إنه باستطاعة المتوحد إذن أن يستعمل كل الأقاويل، سواء أكانت نظرية أم بلاغية أم انفعالية، حتى يبلغ مقصوده. غير أنه يبدو أن ثمة صعوبةً أخرى: إلى أي حد يمكن إنشاء قول صناعي يكون موضوعه استعمالات المتوحد للأقاويل النظرية لغرض عملي؟
(٣-٢) ما هو الإنسان؟
من البيِّن أن هذا الوصف لطبيعة الإنسان إنما هو من طبيعة أُنطولوجية وليس مدنية، ونحن نفترض أن هذا الانخراط في محاولة وصف أُنطولوجي للوجود الإنساني إنما يحقق ثلاثة مكاسب طريفة:
-
(١)
إخراج القول في الإنسان من أفق العلم المدني الذي بقي حبيس إشكالية المدينة الفاضلة، ومحاولة طرح الاهتمام بالإنسان من زاوية الوجود الذي يخصه، وهو إجراء يبدو أنه قد مارسه في حقول أخرى.٦٥
-
(٢)
الانخراط في بناء إشكالي لمعنى الإنسان، والانكباب على تفحصٍ مفرد بنفسه وصريح للصعوبة الخاصة بذلك، بما هو موضوع فلسفي قائم بذاته.
-
(٣)
وضع الفلسفة في أفق تأصيل إشكالية الإنسان بما هي إشكالية عملية في جوهرها.
غير أن اللافت للنظر هو أن ابن باجة وما إن يشرع في مساءلة معنى الإنسان حتى يسقط في الشناعات «المنطقية» التي يفترضها مفهوم الإنسان الذي توفره العلوم النظرية التي تركها القدماء. إن وجه الصعوبة هو التالي: إن ابن باجة قد هَمَّ بمساءلة معنى الإنسان على نحو جديد، ولكن بواسطة عُدة نظرية لا تتجاوز من حيث الجوهر بُنية المنطق الأرسطي. وذلك يعني أنه لم يكن على بيِّنة من أنه لا يمكن حقًّا أن نفصل مفهوم الإنسان التقليدي عن طبيعة العلوم النظرية التي يفترضها. لكنه عاين هذه الصعوبة من باب التوجس من الشناعات المنطقية اللازمة عن هذا النحو من البحث. وبهذا المعنى يمكننا التفكير بضربٍ من الانحسار الذي أصاب إشكالية «تدبير المتوحد» فانقطع عند النهاية التي نعرفها.
خاتمة
ما معنى انخرام كتاب «تدبير المتوحد»؟ – محاولة تأويلية
إن ابن باجة قد انتهى إلى طرح السؤال عن ماهية الإنسان، وعيَّن ذلك على أنه المهمة التي يجدر به أن ينخرط فيها. وهذه النتيجة هي النقطة الأخيرة من تطويره لمسألة المتوحد المستحدثة. غير أن ذلك يعني أيضًا أن الاضطلاع بمسألة المتوحد إلى آخر نتائجها، أي إلى حد طرح السؤال عن ماهية الإنسان، قد أدى في الوقت عينه إلى الوقوف على الحدود الداخلية لطريقة التفكير القديمة في معنى الإنسان؛ «الشناعات» المنطقية التي تلزم دفع السؤال عن معنى الإنسان إلى أقصاه في نطاق إشكالية الحد التقليدية.
وبذلك فإن انقطاع كتاب تدبير المتوحد هو نتيجة فشل جوهري في دفع إمكانية التفلسف في معنى الإنسان — الذي عُيِّن على أنه في مقامه الخاص متوحد أو نابتة — إلى آخره، أي إلى حد السؤال عن «المسبقات» التي تحكمها سلفًا. إن ما انحسر عنه ابن باجة هو ضرورة الانتقال إلى مراجعة جذرية لطبيعة الجهاز النظري للفلسفة التقليدية، أي مراجعة صلاحية مفهوم الحد اليوناني للاضطلاع بمهمة تبيينٍ حاسم لمعنى الإنسان.