(١) تقديم
إنما غرضنا في هذا القول أن نتفكر بأمر، لا يبعد أن يكون الأمر نفسه الذي دفع ابن
رشد إلى وضع كتاب مخصوص ينظر في شرعية الفلسفة، في فضاء لا يؤمن بها ولا يتقوم
لمطلوبها. ذلك الكتاب هو فصل المقال.
١ فليست الحاجة هنا في أن نتأول مسائله، أو نفحص عن طبيعة حلولها، أو
ننافس عارفيه في معرفة ما ينأى عن غيرهم طلبه، بل فقط أن نستأنف البحث في إمكان
الفلسفة، من حيث هي صناعة مطروحة في أرض لافلسفية؛
٢ أعني أن مقصودنا إنما هو أن نفكر بالأفق الذي يرتسمه هذا السؤال:
ما هو الوضع الخارجي واليومي والحِرَفي للفلسفة، من حيث هي صناعة أو فن اختُص به
رهط من الناس، في أمة لها
صناعاتها المبجلة وفنونها الشرعية، سواء لتدبير البدن أو تدبير النفس؟
٣ أعني كيف استُعملت الفلسفة على نحو «عمومي»، في فضاء عام لا يعرف من
معنى العمومي إلا ما هو شرعي
أو مِلِّي؟ فإننا لا ننظر هنا إلى كتابات الفلاسفة إلا من جهة كونها استعمالات
عمومية للعقل، في فضاء محكوم باللاعقل واللاعمومي. إذ ماذا يفهم المرء من عبارات
«المسكوت عنه»،
٤ و«المضنون به على غير أهله»،
٥ و«الذي من شأنه ألا يصرَّح به للجمهور»،
٦ وما لا يقال إلا بتخييل،
٧ وما لا يصدَّق إلا بالأقاويل الخطابية
٨ إلا أنها حدود أو أوامر، توجِّه أو تحكم أو تهدم أو تمنع الاستعمال
العمومي للعقل؟ إن الاختلاف بين ابن رشد والغزالي إنما يمكن أن نتقبله بهذه
الطريقة: إنه نزاع من أجل التحكم في الاستعمال العمومي للعقل في فضاء النقل. وهكذا فإن
كتاب فصل المقال إنما هو، مثل
كتاب إلجام العوام عن علم الكلام،
٩ كتاب يبحث في الاستعمال العمومي للعقل، لا في طبيعة أو ماهية هذا العقل.
ولا ينبغي أن نفهم من ذلك أن العرب إنما قد عرفوا معنى «العمومي»
Public، كما يستنبطه الناظر
في دساتير الدولة الحديثة، فإن هذه إنما هي دولة حقوقية في جوهرها، وليست ملة إلا بمعاندة.
١٠ والحال أن ابن رشد إنما يفكر على حدود الملة ومن أجلها. إنه على
حدودها، لأنه المشار إليه بأنه «فيلسوف»، وهو يفكر من أجلها، لأنه قاضٍ في مدينة
الملة. الفيلسوف والقاضي ينطويان فيه على خطتين متباينتين، لسنا نجد أفضل من كانط معينًا
على دركهما، بما أودعه من تمييز رشيد، في مقالة «ما التنوير؟» بين الاستعمال
العمومي والاستعمال الخصوصي للعقل.
يقول كانط: «إنما أفهم من استعمال المرء عقله الخاص استعمالًا عموميًّا، ذلك الذي
يقوم به
أحد من جهة ما هو عالم، أمام جملة الجمهور الذي [يؤلف] عالم القراء. وأسمِّي استعمالًا
خصوصيًّا، ذلك
الذي يحق له أن يفعل بعقله، في بعض منصب مدني أو وظيفة أُوكلت إليه.»
١١
فإن الفرق بين القاضي والفيلسوف إنما هو نفسه ما يفرق بين استعمالَي العقل:
الخصوصي والعمومي. لكن المشكل المعتاص، ها هنا، إنما هو أن الفصل المجرد بينهما، ليس
فقط غير ممكن، بل إنه لا معنى له. فليس على الفيلسوف أن يخترع، في كل مرة، دولة
العقل الفلسفي الذي يفكر بمنواله. ولذلك فهو مدعوٌّ دائمًا إلى الإقامة على حدود أمَّة
ما، يعاشر معقولها ولامعقولها، بحثًا عن إمكانية استعمال عمومي لهذا العقل الذي
تتوجس منه كل ملة، ما إن ينبت على أرضها اللافلسفية.
١٢ وهذا يعني أن الفيلسوف إنما هو غالبًا، وبمقتضى وضعه العمومي، «لافيلسوف»
Un Non-Philosophe.
إن هذا التعريف مقصود تمامًا؛
فصديق الحقيقة ليس صديقًا لأحد. والصعوبة إنما هي أن عليه أن يعتبر هذا الوضع اللافلسفي
بمثابة الأرضية العمومية التي ينبغي له أن ينبت عليها ويستعمل عقله في
نطاقها. إن ابن رشد «لافيلسوف»، فقط لأنه قاضي قرطبة، وبقدر ما هو قاضٍ هو
لافيلسوف؛ إنه يستعمل عقله في مدينة الملة، وذلك لأن دولة العقل ما زالت غير
ممكنة.
وهو لا يدري، دائمًا، كم سيقضي من زمان غير فلسفي في مدينة الملة، حتى تصبح دولة
العقل ممكنة. إن هذا
الوضع هو الذي يتحرك بمقتضاه شخص مرتاب ومتوجِّس منه، لأنه «عميل» دولة أخرى؛ وأعني دولة
الفلاسفة. هذا الشخص العمومي هو المشار إليه بأنه «فيلسوف».
١٣ بيد أن هذه التسمية التي كثيرًا ما حُبِّرت بوجَلٍ، إنما هي قرار عمومي يستعمله
الجمهور، سواء أكان العامة أم جمهور العلماء، علماء الملة.
١٤ وهكذا فالنزاع بين الفقهاء والفلاسفة إنما كان في جوهره نزاعًا يتيمًا
حول كيفية استعمال الجمهور لعقله.
١٥ فإن الطرفين يفترضان جدلًا أن هذا الجمهور راشد وقاصر معًا؛ فهو ذو رشد
من جهة ما هو قادر على استعمال عمومي لعقله، لكن هذا الرشد آلة قاصرة، تحتاج ضرورةً إلى
من ينورها، ولكن لا يكون ذلك
إلا بتلقينه الدرس العمومي للملة،
١٦ إذ ليس على الجمهور أن يفكر بنفسه (!).
إن هذه العَلاقة الجوهرية مع الجمهور، بوصفه مادة النزاع ورهانَه في آنٍ، إنما تجعل
مسألة الاستعمال العمومي للعقل تنقلب إلى خطط متجاورة في هيئة تركيبها، لا تضجر من
السؤال إلا عما تسكت عنه وتخفيه. ألا تقول العرب: «جمهر عليه الخبر أي أخبره بطرَف
وكتم عنه المراد به»؟ فليس الاستعمال العمومي للعقل إلا جملة من الخطط لتدبير
الجماعة؛ ونحن نفصل القول فيها كما يلي:
-
(١)
خطة المصرَّح به والمشترك والعامي والجمهوري، أو ما تُجمع عليه الأمة. إنها تقنية الإجماع
بوصفها آلة «العمومية» بما هي كذلك، ومن حيث هي أرضية لا خارج لها.
-
(٢)
خطة المضنون به على غير أهله، وغير المصرَّح به إلى الجمهور، وما لا يحق للعامة
أن تخوض فيه، وما ينبغي أن تُلجم عنه، وتلك خطة «الخاصة» تقيم بين ظاهر التنزيل وباطن
التأويل، تعتمد التحريم
والتبديع وسائل تبكيت للسائل غير الخاصِّي، يلخصها الغزالي في سبعة أمور: «التقديس ثم
التصديق ثم الاعتراف بالعجز ثم السكوت ثم الإمساك ثم الكف ثم التسليم لأهل المعرفة».
١٧
-
(٣)
خطة المسكوت عنه، والذي يكون السؤال عنه مردودًا، والخوض فيه تهمة وشبهة
ورهبة. وتلك تقنية التكفير كضرب أقصى من التبديع الذي يصيب العقل، ويؤثمه ويقصره،
فإذا استقر له ذلك يهدمه ويلغيه.
وليس ينبغي أن يُظن بنا أنَّا استعملنا ها هنا عبارات اجتثثناها من مساقاتها، دون
تثبت
فيما تشير إليه في أصلها، فإنا إنما استعملناها على جهة كونها أعراضًا أو شواهد،
عن ضرب من الاستعمال العمومي للمقول أو للخطاب عند العرب. ولنبدأ بالقول في الخطة
الأولى.
(٢)
(٢-١) خطة الإجماع
فما معنى «الإجماع»، وما عَلاقته بالسؤال عن الاستعمال العمومي للعقل؟ إن ما
يفتش عنه ابن رشد، في فصل المقال، إنما هو خرق الإجماع
١٨ الذي كان قد شاع ضد الفلاسفة بعدُ، والذي كان الغزالي قد أفلح في تنصيبه في الفضاء الإسلامي؛
١٩ فإن خرق الإجماع هو الرد الجوهري على تنصيب الإجماع. ولذلك فليس
النزاع بين الرجلين نزاعًا بين مؤمن وملحد، ولا بين عالم وجاهل، بل هو نزاع
عمومي من أجل التحكم في آلة الإجماع، بوصفها خطة لإخراج الفلاسفة من نطاق الملة أو لتنصيبهم
فيها.
فمطلب الغزالي إنما هو طرد عمومي للفلاسفة؛
٢٠ إنه ضرب من الاضطهاد «الإقليمي» للفلاسفة، بوصفهم «دخلاء» أو «غرباء» أو ممن لا انتماء
أو ملة لهم، وبكلمة
واحدة، باعتبارهم «أقلية» ثقافية.
٢١ والفلاسفة أقلية دائمًا، وذلك لأنهم ضرب من اللاجئين الكونيين، فإن دولتهم إنما تقع
في لامكان، ولذلك فما قصد إليه الغزالي بأن حَرصَ على إجماع
عمومي ضدهم، إنما هو نزع للصفة الإقليمية
Déterritorialisation للفلسفة من
خارطة الملة، وإلحاقها ببلاد الحرب وخارطة الآخر. وهكذا فإن الإجماع وسيلة
خطيرة، يستعملها «العلماء» من أجل أن يُظهروا على الناس ضربًا من «الرأي العام»،
الذي شأنه أن يرتب لعبة الحقيقة فيهم؛ إنه رأي عامٌّ عالِم، ولذلك هو استعمال عمومي للعقل،
يتم سلفًا.
ولأنه عمومي؛ فإن بإمكانه تحويلَ الفلاسفة إلى شخوص غير عمومية، لا يحميها أي إجماع ولا
تمثل أحدًا. إنهم شخوص غير عمومية لأنهم «أقلية»، و«الأقلي» هو القاصر نفسَه على
أمر يشفق الناس من التشبه به فيه؛ لأن بعض التشبه به شبهة، وقصوره ذاك ليس بأي
وجهٍ مشكلةً عددية، فعدد الفلاسفة لا تنفصم فيه ندرته عن خطورته ولاعموميته. إن
الفيلسوف شخص لاعمومي، ولذلك تُحرق كتبه أو يُنفى جسده، أو يُضطهد عقله. بيد أن
اللافت للنظر إنما هو أنه يُضطهد دائمًا بواسطة إجماعٍ ما، ولا ضر إن اصطنعه
العلماء أو الجمهور أو الحكام، فإنه لا بد من إجماعٍ ما لإخراج الفيلسوف من مدينة اللافلسفة.
ولكن هو إجماع حول ماذا؟
حول لاعمومية الفيلسوف أم حول لافلسفية الملة؟ إن ذلك إنما شأنه أن يتم من أجل
السببين معًا.
إنه إجماع مزدوج على أن الفيلسوف إنما هو نبتة غريبة، لا بد من استئصالها من
أرض الملة قبل أن تَستأصل، ولكن أيضًا هو إجماع على أن الملة إنما لا يقوم أمرها
إلا بقدر ما تكون الرعية آلةً لافلسفية، آلةً عمومية لا تفكر.
ولذلك فإن كتاب فصل المقال الذي هو كتاب في «اللافلسفة»،
٢٢ إنما هو دليل على أن ابن رشد لم يختر سبيل الفلسفة المحض وحدها.
إنه حرص بالقدر نفسه على أن يبقى في مدينة الملة، بوصفه شخصًا عموميًّا؛ إنه قاضٍ
ولا بد له، بوصفه «لا فيلسوفًا»، أن ينازع من أجل التحكم في آلة الإجماع التي
يستعملها الغزالي أيما استعمال. والنزاع بينهما إنما هو نزاع بين «لافيلسوفين»، حول الاستعمال
العمومي للعقل في مدن الملة. ولذلك فإن كتاب
فصل المقال كتاب «لافلسفي»، لكن ذلك لا يعني أنه ضد الفلسفة
Anti-Philosophique أو غير فلسفي
Aphilosophique أصلًا،
فاللافلسفي هو شبيه الفلسفي وتوأمه، ووجهه المقلوب أو السري أو الممنوع. إنه
كتاب في ماهية اللافلسفي؛ أعني في الوجه الذي جعل الفلسفة موضع نزاع، من حيث
مشروعيتها، في فضاء تفكير لم يتأسس عليها. إن ما شغل ابن رشد حقًّا إنما هو
كيفية التشريع للوجود العمومي للفلسفة؛ أعني لطريقة وجيهة لاستعمال الفلسفة
استعمالًا عموميًّا. ربما كان ذلك سببًا جعل ابن رشد لا يترك مؤلفات مبتكرة في
مسائل تخصه، فإنه ظل يدافع عن الفلسفة بما هي كذلك، وبهذا المعنى هو لم يطمح إلى تأصيل
فلسفي يخصه. وذلك أن التأصيل الجوهري إنما كان في رأيه تأصيل العنصر الفلسفي بما هو كذلك،
داخل خارطة الملة، من حيث هي أرض لافلسفية.
إن المشكل الأقصى إنما كان عنده رهين السؤال التالي: هل الفلسفة ممكنة أم غير
ممكنة في فضاء اللافلسفة؟ وهذه الأسئلة الحدودية هي التي تجعل قضية التأصيل
إنما لا تُطرح في مؤلفاته بالطريقة نفسها التي قد تُطرح بها عند ديكارت أو هيغل
أو هَيدغر. إنه لا يطمع في الإفلات من تاريخ الميتافيزيقا، أو ابتداع فلسفة
جديدة؛ لأن المشكل الذي يخصه في عجلة من أمره: إن وجود الفلسفة بما هو كذلك، هو ما هو
في خطر، وإن الخوف من إبطال صناعة الفلسفة هو الذي يجعل نقض هذه الأطروحة الفلسفية أو
تلك، أمرًا
ثانويًّا؛ فإن ذلك ضرب من النزاع العائلي بين الفلاسفة، في حين أن النزاع مع
اللافلاسفة؛ أعني مع أشباه الفلاسفة من حيث هم علماء الملة وساسة الحقيقة فيها،
إنما هو نزاع عاجل، لأنه حدودي. إنه يهدد إقليم الفلسفة بالزوال أو بالهجرة،
والفيلسوف مهاجر دائمًا. وحتى لا يزول، هو يقيم في كل أرض حسًّا ما بالوطن،
وضربًا كونيًّا وسرِّيًّا من المواطنة. إنه مهاجر سرًّا، لأنه مطالب دومًا بالبقاء خارج
الملة
التي يسكنها، لكن هذا «الخارج» هو الوطن الوحيد لمن كانت رحلته لانهائية.
إن ما فعله الغزالي إنما هو توضيح المشكلة التالية: إن الاستعمال العمومي
للعقل؛ أعني تدبير شئون الخطاب في فضاءٍ ثقافيٍّ ما، إنما هو نزاع جغرافي حول
خارطة الحقيقة في ملة ما. ولكن من يسطر خارطة الحقيقة هذه؟ ربما يقال:
الحاكم، ربما، لكن ذلك ليس سوى ما يظهر أو ما كان أظهر، وذلك أن الأمر إنما لا
يتعلق ها هنا بحقيقة السياسة أو بشكل الحكم
Gouvernement، بل بسياسة الحقيقة
وتقنية الحكم
Jugement. فإنما النزاع بين ابن رشد والغزالي نزاع من أجل سياسة
الحقيقة وضبط تقنية الحكم في الفضاء العمومي.
٢٣ ولا نقصد بالحقيقة مسألةً نظرية تمتحن مدى مطابقة الحكم للمحكوم
عليه من الأشياء.
٢٤ إنما الحقيقة قيمة تلعب دور الأساس الذي يشد نظام المعنى
واللامعنى، يرتب الحسن والقبيح والإيمان والكفر والطاعة والعصيان في
ملةٍ ما.
إنه خلاف حول «المرجع»، مرجع العقل العمومي، والمرجع الذي يجعل إجماعًا ما
ممكنًا. ولذلك فإن سياسة الحقيقة هي أعتى السياسات وأخطرها، وأكثرها سطحية في
الوقت ذاته؛ هي أخطرها لأنها سياسة «المرجع» وسياسة «الأساس»
Politique du Fondement، وهي
أكثرها سطحية، لأنها سياسة «الإجماع»، التي تقتات مادتها قسرًا من آلة الجمهور
الذي لا ينطق إلا عن الهوى.
٢٥ ولذلك فإن النزاع من أجل سياسة الحقيقة، إنما هو النزاع الذي يجعل
المواجهة بين ابن رشد والغزالي مواجهة محتومة، وذلك لأنها تكون قد وقعت بعدُ
دائمًا. لكن هذا النزاع لم يكن دومًا نزاعًا فلسفيًّا،
٢٦ أو لنقُلْ بين الفيلسوف واللافيلسوف، إذ إنه إنما كان يدور
أساسًا بين «لا فيلسوفين»، على أرض لا فلسفية، ومن أجل غاية لافلسفية. فليست سياسة الحقيقة
مسألة
خاصة بالفلاسفة، بل إنها ظاهرة لا تنفصل عن تاريخ كل ملة وخططها الخاصة وحدوسها الأساسية.
(٢-٢) خطة المضنون به
إن سياسة الحقيقة إنما هي إذن سياسة الإجماع؛ أعني كيفية استعماله العمومي
بوصفه عقلًا. لكن ذلك لا يعدو أن يكون الوجه الظاهر منه فحسب. فإن سياسة الحقيقة
إنما تنطوي أيضًا على سياسة «المضنون به على غير أهله»، وسياسة «المسكوت عنه».
وهما خطتان جوهريتان إلا أنهما خفيتان في كل تدبير للحقيقة.
فما هو المضنون به على غير أهله؟
٢٧ ضنَّ بالشيء معناه بخل، وضنَّ بالمكان لم يبرحه. ولكن يقال أيضًا هو
ضنِّي وضنَّتي أي ما أختص به فهو ما هو خاص. وضنائن الله أي خواص خلقه، والضنائن
بعامة
هي الأشياء التي يُضَن بها لنفاستها. فالمضنون به إذن إنما يقال بمعانٍ ثلاثة: إنه
المبخول به والخاص والنفيس. وبهذه المعاني مجتمعة، صيغت عبارة «المضنون به على
غير أهله». إن «أهليةً» ما هي التي تجعل المضنون به ممكنًا، وغير أهله هم
الجمهور أو العامة.
٢٨ فالمضنون به إنما هو خارج كل إجماع، ولا ينبغي له إجماع، بل هو مما
لا إجماع في شأنه، لأنه فوق طور الإجماع وما لا يستقيم الرأي فيه بإجماع. إنه
إذن لاعمومي أصلًا لأنه خاصِّي، و«لاإجماعي»، لأنه مبخول به على الجمهور، و«لاأهلي»
لأنه نادر ونفيس.
ولكن كيف نسلك إلى مسألة الاستعمال العمومي لآلة «المضنون به على غير أهله»،
بوصفه ضربًا من العقل الذي لا يشتغل به إلا «الراسخون في العلم»؟
٢٩
إن سياسةً ما للحقيقة هي التي تقسِّم الأدوار ها هنا، فتجعل العلم، أو
ضربًا من العلم، شرطًا خاصًّا حتى يصبح المرء «أهلًا» لتقلد الاستعمال العمومي
لما هو «مضنون به على غير أهله». إننا إنما نقترب من مشكلة محرجة: كيف يكون استعمال «اللاعمومي»
عموميًّا؟
فالمضنون به لاعمومي أما سياسة الحقيقة فهي عمومية دائمًا. إن هذا يعني أن معنى العمومي
نفسه في
خطر.
٣٠ ﻓ «العلماء» مضطرون إلى احتكار «العلم»، أعني «جمهرة» جزء من الحقيقة، بوصفه
يحتمل رِيبة مزدوجة؛ فهذا الجزء الملتبس إما أنه شأن نافلة، بحيث يمكن أن يستقيم
أمر الحقيقة دونما حاجة إليه، وإما أنه عنصر متوعر لا يمكن السيطرة عليه، لأن
التصريح به من شأنه أن يفسد أمر العامة، ويبطل سياسة الإجماع، من حيث هي سياسة
المصرح به إلى أهله. يبدو أن الحقيقة المضنون بها على غير أهلها إنما هي
أمر لا هو «كمالي» فيُستغنى عنه، ولا هو «عامي» فيُدفع به إلى الجمهور. ولذلك فإن حاجة
الحقيقة ها هنا لا تُلبَّى فتخمد ولا تُلغَى فيُفرغ منها، بل هي سياسة الريبة، وخصام
حدودي مع المجهول. فالمضنون به هو مجهول العامة، واللامعقول الذي يقيم على حدود
المخيال العمومي.
ولكن فيم تتمثل سياسة المضنون به على غير أهله؟ إنها خطة مزدوجة: ضد الجمهور
من جهة، وضد العلماء سواء أكانوا أعداء مثل الفلاسفة أم أصحاب مذاهب مغايرة، من
جهة أخرى. ضد الجمهور لأن المضنون به إنما هو مضنون به على الجمهور أولًا. فإن
الجمهور آلة بلا أهلية دائمًا. وبهذا المعنى فإن سياسة المضنون به إنما تجرِّد
الجمهور من أهليته؛ إنه يصبح بذلك طرفًا طفيليًّا دخيلًا على الحقيقة. ولذلك هي سياسة
تغريب لما هو أهلي: أن
تجعل ما هو أهلي غريبًا؛ فتطرحه خارج أرض الحقيقة فلا يطالها حتى يعتدي على
حدودٍ ما، داخل جغرافية الروح في ملة ما. إنها سياسة سالبة لأنها تحرص دومًا على
ترك اللاعمومي لاعموميًّا، بحمايته من آلة الجمهور؛ أعني مما هو عمومي.
فالجمهور، الذي هو آلة الملة وأصلها، قد انقلب بذلك إلى دخيل على حقيقة الملة، يقبع على
حدودها، لأنه قاصر سلفًا على احتمال جغرافيتها الخاصة.
لكن هذه السياسة إنما هي ضد «العلماء» أيضًا، فالعلماء سواء كانوا علماء
الملة أو العلماء الذين يظهرون على أرض الملة، دون التقوم بها؛ أعني الفلاسفة،
إنما يملكون أيضًا، وبالقدر نفسه، تقنية المضنون به على غير أهله، وهم
يستعملونها استعمالًا عموميًّا على طريقتهم. فالنزاع معهم محتوم، لأن لعبة الخطاب
تقود إليهم. ولا ضر أن تكون تلك اللعبة فيما بين المتكلمين، أو بين المتكلمين
والفلاسفة، فهي في كل حال نزاع من أجل الاستعمال العمومي لما هو خاصِّي، بوصفه
مضنونًا به على الجمهور. ولكن لا بد أن ننبه إلى أن هذا النزاع ليس بنزاع تقني؛
إنه ليس سباقًا نحو تملُّك كمٍّ زائد من تقنيات الضن أو البخل بالحقيقة. بل إن
المسألة أخطر من ذلك أشواطًا. إن المفارقة هي أن الحكم في هذا النزاع حول سياسة
المضنون به على غير أهله؛ أعني على الجمهور، إنما هو الجمهور نفسه. فإن كل طرَف
إنما يجهد إلى تحكيم الجمهور أو تأليبه، ضد هذا العالِم أو ذاك، دافعًا به
إلى الاستعمال العمومي لأقصى تقنيات العقاب العمومي لشخص عمومي ما؛ أعني تقنية «التكفير».
٣١ لكن ذلك لا يعني تأهيل الجمهور حتى يصبح سائسًا للحقيقة بنفسه، غير
مسوس بغيره، بل إنما يعني على العكس من ذلك استثمار عدم الأهلية وسيلة للتحكيم.
فإنما الجمهور آلة الهوى
L’Affect التي يستعملها «العلماء» ضد بعضهم بعضًا،
ولكن بخاصةٍ ضد الفلاسفة. لقد عاش الفلاسفة وفكروا على حدود الملة، وهذه العَلاقة
الحدودية إنما هي التي جعلتهم في عَلاقة جوهرية مع سياسة الحقيقة فيها. وبخاصة سياسة
المضنون به على غير أهله.
فما هو هذا الذي هو «الفلسفي»؟ أليس مضنونًا به على غير أهله هو الآخر؟ ما هي حدود
«اللافلسفي» فيه، وما عَلاقته بما هو «غير فلسفي»؟ إنما الفلسفي عنصر
غريب وخاصِّي ونادر، وبهذا المعنى فهو مضنون به. وهذا الشبه الجوهري بمضنون
الملة، إنما هو الذي يدفع إلى الريبة، ويجعل وجود الفيلسوف نفسه تهمة عمومية. فلا ننسَ
أن علماء
الملة إنما يمارسون ضربًا من «الضِّنَّة» أو البخل بالحقيقة، شبيهًا ببخل الفلاسفة،
وضِنَّتهم. وهذا التشابه المحرج إنما هو صادر عن طبيعة سياسة الحقيقة نفسها. فإن
المقصد الأسنى لعالِم الملة إنما هو السيطرة على تقنيات الاستعمال العمومي للحقيقة، فيصرِّح
ببعضٍ ويضنُّ ببعض.
فالتصريح والضِّنَّة تقنيتان أو صناعتان لتصريف آلة الحقيقة في فضاء الملة. لكن
ذلك هو مكمن الشبه المرغوب عنه بالفيلسوف. فهذا «المسمى» هو شخص عمومي، وبهذا
المعنى هو يمارس مفعولًا ما على سياسة الحقيقة، من حيث هي سياسة الضِّنَّة. لكنه بقدر
ذلك «لاعمومي»، لأنه لا يحتكم في عموميته إلى آلة الملة، وإنما إلى صناعة دخيلة
وخاصِّية وغريبة في شئون نفسها، اسمها مضنون به على غير أهله ضرورةً. لكن
«الأهلية» إنما لا تعني ها هنا الجمهور، بل علماء الملة أنفسهم، فتعريف الفلسفة
الذي يوجه تفكير ابن رشد في فصل المقال إنما هو التالي: الفلسفة صناعة مضنون
بها على غير أهلها؛ أعني على الجمهور، ولكن بخاصة على علماء الملة (!)
ولكن ما الفرق بين المضنونَين، مضنون الفلسفة ومضنون الملة؟ قبل الفرق، إنما يحدث
أنهما في صلة رحم ملتبس مع
الحقيقة وسياسة الحقيقة. فإن كلًّا منهما يزعم أنه حقيقي على طريقته.
فمضنون الفلسفة حقيقي بقدر ما هو «صعب»،
٣٢ أما مضنون
الملة فإنه حقيقي بقدر ما هو «سرِّي».
٣٣ فالصعب الفلسفي يُطلب فلا يُدرَك، حتى ينفلت طالبه من كل عِقال عامِّي، أما «السرِّي»
الذي تتحجب به الملة عن الجمهور فهو «الوحي» السحري والخفي والمغيوب.
٣٤ ولذلك فإن النزاع بين ابن رشد والغزالي إنما هو نزاع بين الصعب والسرِّي،
بقدر ما هو نزاع بين ضربين من الحقيقة: بين حقيقة تتحجب ويُبخل بها على
الجمهور، وحقيقة لا يطالها الجمهور ويفزع منها ويتوجس حضورها في أرضه كأنها
الطاعون. وإذا كان علماء الملة يشفقون على علمهم السرِّي، لأنه لا يُكشف وإلا بطل
شأنه في المسحور، فإن الفلاسفة يطرحون علمهم «الصعب» في مدينة الجمهور، وليس يحمي هذا
العلم من ظنونهم
الكسولة إلا أنه عسير على غير أهله. لكن العسر ليس مطلوب الفلسفة وإن كان مما تتقوم
به، فالفلسفة البتراء وحدها هي صناعة العسر، ألا إنها لملة مقلوبة. والحال أن
البخل بالحقيقة إنما هو جزء جوهري من حقيقة الملة، من حيث إن الضن بها إنما هو
شرط سرِّيتها؛ أعني لُغزيتها وسحريتها. السرِّي مُلغز وسحري، ولذلك هو منغلق ومسكون
بالرهبة والريبة من نفسه ومن غيره. أما الصعب فهو مطروح على العقول وعلني،
ولذلك هو مفتوح على الممكن ومحاور عنيد للمحال.
(٢-٣) خطة المسكوت عنه
لكن علماء الملة لا ينتهون في سياسة الحقيقة عند المضنون به، فهو على خطورته،
دون المسكوت عنه خطرًا على ماهية الملة. وذلك أن السكوت عن مسألةٍ
٣٥ ما، إنما هو ليس فقط منعًا للتفكير فيها، بل هو وضعها خارج المدار
الذي تتم فيه سياسة الحقيقة أصلًا. إنه ضرب من «الإبوخا»
٣٦Époché اللافلسفية، فالمسكوت عنه هو ما تتقوم به ماهية الملة، وما
يضعها موضع سؤال في الوقت ذاته، ولذلك فإن تقنية السكوت عن منطقة ما من جغرافية
الروح الإسلامي، إنما هو نوع من الاستعمال الغيابي للامسئول عنه. فاللامسئول عنه
المسكوت عنه.
وإنه ها هنا إنما يبرز الفرق الأصيل بين الفلسفة والملة أيَّما بروز؛ فحيث تُصر
الملة على جعل جزءٍ ما من ماهيتها مسكوتًا عنه وممنوعًا الخوض فيه، تجهد الفلسفة إلى
طرح كل
ما هو مسئول عنه سواء في الشرع أو في العقل، بغية استنباطه والتدليل على الممكن
والمحال في شأنه،
٣٧ فليس في الفلسفة أخطر من عدم سكوتها. فهذا اللاسكوت هو بمعنًى ما
مشتق سلفًا من ماهية الفلسفة نفسها، من حيث هي ميتافيزيقا للحضور.
٣٨ أما الملة فإنها تؤسس
حضورها على الغائب، فإنما الغائب هو المعنى المباشر لما هو فوق الخطاب، وما
وراء العقل. لكن ما يفصلنا عن الغائب هو السكوت عنه أو «الكفر»، فإننا نبلغ هنا
العتبة الأخيرة من مدينة الملة: صناعة «التكفير». فالذي لا يسكت عن المسكوت عنه
يُكفَّر. ولذلك فالسؤال هو باب الكفر والسبيل الملكي إليه في هذه الأمة.
٣٩ وبهذا المعنى كان الفيلسوف محكومًا عليه سلفًا بالإقامة الجبرية
على حدود الكفر، ما دام هو يشتغل بالسؤال وبالمسئول عنه.
وإذا كان إلجام العوام عن السؤال مسألة هينة بفعل نجاعة المخيال الذي يحركه
علماء الملة، من حيث هو الآلة الجوهرية لسياسة الحقيقة بواسطة الإجماع والمضنون به على
غير
أهله، فإن الصعوبة إنما تشتد إذا تعلق الأمر بالفلاسفة: كيف يُزجر الفلاسفة عن
إتيان السؤال، وهو حرث لهم. وعلمهم متقوم بالقدرة عليه والرغبة فيه؟ ورغم ذلك
فإنه يمكن فعل شيء، رفعه الغزالي في التهافت إلى مرتبة العصا «الميتافيزيقية»
للملة؛ أعني تكفير الفلاسفة، وإعلان المتفلسفة أعداءً للأمة يباح اضطهادهم!
٤٠ فالتكفير هو التقنية الكبرى لممارسة ضربٍ مخصوص من الاستعمال
العمومي ﻟ «المسكوت عنه». وهكذا فإن علماء الملة إنما ينقلون النزاع مع الفلاسفة من أرضية
«الحقيقة» إلى خطط «سياسة الحقيقة»؛
٤١ وذلك لأنه إذا كان نقض الفلسفة مطلبًا عسرًا، فإن تكفيرهم بشكل عمومي إنما هو مكر العقل
الفقهي، من حيث هو نقض لافلسفي للفلاسفة، باتهامهم التهمة القصوى: السؤال عن
المسكوت عنه.
لكن ذلك إنما يعني أن النقض اللافلسفي للفلاسفة كما قنَّنه الغزالي إنما يشير
أيضًا إلى أن النزاع لا يتم من أجل الحقيقة، ولا يتعلق بدحض لماهية الفلسفة بما
هي كذلك. وهذا ما فقهه عنه ابن رشد جيدًا، فرد عليه بكتب لافلسفية، من جنس ذلك
النقض، وذلك باستعمال عمومي لآلة التكفير، وبناء إمكانية المناظرة على الأرضية
اللافلسفية للملة.
فإن ابن رشد إنما يُرجِع أصل النزاع إلى العَلاقة الأصلية مع الشرع بما هو نص،
بحيث إن طريقة تأوله؛ أعني سياسة التأويل، هي بالتحديد سياسة الحقيقة في مدينة
الملة. وهذا يعني أن الخلاف ها هنا بين الفلسفة والملة إنما هو نزاع تأويلات ليس إلا.
بيد
أن هذا الصنيع إنما يعني أن ابن رشد لا يفكِّر ها هنا بالفلسفة من حيث هي كذلك، كما
تلقاها عن رسمها الإغريقي Philosophia بل بالمسماة «فلسفة» في لسان العرب، من
حيث هي صناعة دخيلة ومتلفظ هجين، في نظام الخطاب الذي يدير شئون الملة.
ولذلك فهذه «اللافلسفة» التي يجهد ابن رشد لممارستها في فصل المقال، إنما
يتعلق أمرها رأسًا بمسألة التكفير
٤٢: كيف نضبط شروط الاستعمال العمومي
لآلة التكفير؟ كيف نحدُّ خطة ملَكة الحكم، بتكفير هذا العقل أو ذاك؟ من يحق له أن يمارس
فن
التكفير؟ فإن ابن رشد، وإن بدا مقاله يجهد إلى خرق الإجماع في شأن التكفير،
٤٣ ويبني أخلاقًا نظرية، قواعدها احتمال الخطأ
٤٤ وعذر الاختلاف
٤٥ والتسامح مع المتأولين،
٤٦ فهو قد طفق فيما بعد ذلك يطبق تقنية التكفير نفسها بتوسع مخيف،
٤٧ وإن كان يعتذر عن الخوض في مسائل كهذه، ويعيب على الغزالي طرح
التأويلات على الجمهور، من حيث إن التأويل مطية التكفير!
٤٨ كيف ينهى ابن رشد عن تكفير الغزالي للفلاسفة ويشكك في حصول إجماع
في شأنه، ثم هو، من بعد هذا النهي، يعمِد إلى إصدار أحكام التكفير؟! ما الذي يزج
بالفيلسوف في ورطة التكفير مثله مثل علماء الملة؟! إن إحراجات كهذه هي التي
تجعلنا لا نأخذ فصل المقال مأخذًا فلسفيًّا، ولذلك نعتناه بأنه كتاب «لافلسفي»؛
بمعنى أنه ضرب من الاستعمال العمومي لفعل التفلسف، على أرضية لافلسفية، ومن أجل رِهانات
لافلسفية.
ففي فصل المقال لم يفعل ابن رشد سوى أنه مارس الاستعمال العمومي لآلة
التكفير، وإن كان ذلك دفاعًا عن إمكانية الفلسفة ومشروعيتها. لكنه إنما اضطُر
بذلك إلى الخروج من نطاق المحايثة الذي تسطِّره الفلسفة لنفسها، إلى إقليم
اللافلسفة حيث تعمل آلة الملة.
خاتمة
لقد افترضنا في هذه المقالة أن ثمة ضربين من الكتابة المفكرة: إما تحليلية للحقيقة
٤٩ وإما سياسة للحقيقة.
٥٠ وحيث تنشغل الأولى بتأسيس إمكان الحقيقة من خلال أُنطولوجيةٍ ما، تقتصر
الثانية على تدبيرٍ ريطوريقي لتقنيات تلقِّي الحقيقة واستعمالها المدني. فتبني الأولى
المؤلفات الكبرى والمصنفات النهائية، أما الثانية فتُنتج نصوصًا «صغيرة» ظرفية
وهامشية، تذيِّل الحقيقة ولا تؤسِّسها، نسميها عادة «نصوصًا صغرى»
Textes Mineurs؛ وفصل
المقال إنما هو نص صغير وظرفي وهامشي، وبمعنًى ما هو «قاصر»؛ أعني لم يبلغ سن النصوص
الجوهرية، لم يدرك رشدها الأُنطولوجي ولا عقلها الميتافيزيقي.
ورغم ذلك فهذه النصوص فلسفية من حيث التلقي، تدعو إلى التفكير وتحض على السؤال،
فتتولد الصعوبة التالية: إلى أي حد يمكن التفكير بواسطة نصوص «قاصرة» أو كُتبت على
هوامش الفلسفة؟
إننا غالبًا ما اهتممنا بنزاع ابن رشد مع الغزالي، أو بشكوك الغزالي حيال
الفلاسفة، في ضوء تحليلية للحقيقة، في حين أن أصل المناظرة في الحالتين إنما كان
متعلقًا بسياسة للحقيقة، هي التي وجهت الكتابة عندهما نحو تدبير ريطوريقا الاستعمال
العمومي للحقيقة، لا بنية الحقيقة بما هي كذلك.
وإن المسألة الأم عندنا؛ أعني نزاع الملة والفلسفة، لا تزال قائمة، في حين أن
وسائل المعالجة قد تغيرت: لم نعد نستعمل منطق أرسطو دفاعًا عن الفلسفة، ولا أصول
الفقه تشكيكًا بالفلاسفة. لكن مشكلة الاستعمال العمومي للعقل لا تزال محرجة، وهي
للتو مطروحة. ولذلك فالتفكير بالنصوص «القاصرة»؛ أعني هذا التفكير بلا أُنطولوجيا
أساسية تعضده، والمفتوح على جغرافية العمومي وطوبولوجية التلقي، إنما هو مهمة ستظل
مطروحة لقرن آخر: كيف نؤثث الفضاء العمومي بالحقيقة؟ كيف تُتلقى الحقيقة؟ لا ما
هي الحقيقة؟ وهنا يجدر السؤال: إلى أي حد يمكن لابن رشد أن يساعدنا على التفكير بأنفسنا؟
٥١ أعني على أن نتبين هل الحقيقة أكثر أم أقل من شبهها العمومي؟