ماذا حدث لأرقام السيارة؟!
توقَّفوا عند الباب، وهمس «خالد» مُبتسمًا: تفضَّل أيها السيد «دام رام».
ابتسم «أحمد» وقال: هل فهمتم؟
قال «قيس»: إنها الأحرف الثلاثة، مُرتَّبةً بطريقة مختلفة.
وضحكوا جميعًا.
ثم تقدَّم «خالد» من شباك التذاكر. كانت فتاة جميلة تجلس خلف الحاجز الزجاجي، فانحنى قليلًا ونظر إليها مُبتسمًا وهو يقول: هل أجد تذاكري عندك؟
نظرت له الفتاة في تساؤل، فقال: أربع تذاكر!
ردَّت الفتاة أين اﻟ… وقبل أن تنطق كلمةً أخرى قال بسرعة: تذاكر باسم «دام رام»!
ابتسمت الفتاة وهي تنظر في عدة تذاكر أمامها، ثم قدَّمتها إليه، فأخذها وهو يشكرها، ثم انصرف. انضمَّ إلى بقية الشياطين، وكانوا جميعًا يدورون حول الصور الكثيرة المُعلَّقة، لقد كانوا يبحثون عن صورة المُهرِّج، غير أنهم لم يجدوا صورةً واحدةً له، فالتقت أعينهم وأخذوا طريقهم إلى باب الدخول، في نفس اللحظة أُضيء المكان بلونٍ أحمر جعلهم يلتفتون إلى مصدره، كان المصدر صورةً بالحجم الطبيعي لمهرِّج السيرك، وتحتها مكتوب بالنور «ميمو»، وهمس «قيس»: ها هو صديقنا!
أخذوا طريقهم إلى الباب فقدَّموا التذاكر ودخلوا إلى الساحة الواسعة قبل الدخول إلى الصالة، وكان بعض الشبان والفتيات يقفون يأكلون السندوتشات، بينما كانت أعيُن الشياطين ترصُد المكان، حيث ارتفعت فجأةً أصوات كلاب، ثم علا زئير أسد، في نفس الوقت ظهر رجل على الباب يُمسِك ناقوسًا كبيرًا … وضعه فوق كرسي.
فجأةً ظهر المُهرِّج، كان يقفز في حركات بهلوانية، ثم أمسك بالناقوس وأخذ يهزه، فتصدر عنه أصوات معدِنية وهو يصيح: هيَّا! هيَّا! إنَّ البرنامج سوف يبدأ! هيَّا! هيَّا!
تدافع الجميع إلى الداخل … إلا الشياطين؛ فقد كانوا يتراجعون ويقفون في المؤخرة، لكن شيئًا فشيئًا أصبحوا أمام باب الدخول، وتلاقت أعينهم بسرعة، وفهموا ما يريدون … فدخلوا الواحد خلف الآخر، لكن فجأةً توقَّف «أحمد» وهو يقول بصوتٍ مرتفع: آه، لقد نسيت، يجب أن أُحضر شيئًا قبل الدخول!
ثم اقترب من الرجل الواقف على الباب وابتسم قائلًا: هل أستطيع أن أخرج لدقائق؟
ابتسم الرجل وقال: طبعًا، طبعًا! وأعطاه تذكرةً صغيرة … فخرج.
أصبح بقية الشياطين داخل خيمة السيرك، في نفس الوقت الذي ظلَّ «أحمد» خارجه، وأخذ طريقه مُبتعدًا عن السيرك حتى أصبح في مكان يسمح له برؤية المهرِّج الذي تقدَّم ووقف في الشارع يؤدِّي بعض الحركات البهلوانية ويُنادي المارة للدخول. مرت دقائق، وأخذت أعداد المارة تقل، ثم توقَّف المهرِّج فجأةً ونظر حواليه، ثم اختفى في الداخل.
ظلَّ «أحمد» مكانه يرقب ما يمكن أن يحدث، ولم يكُن هناك شيء غير عادي، إلا أن ذلك لم يجعل «أحمد» يتسرَّع، فأخذ طريقه إلى السيارة، ثم اختفى داخلها، وفكَّر قليلًا، ثم بدأ يُرسِل رسالةً إلى الشياطين داخل السيرك: «من «ش. ك. س» إلى «ش. ك. س»: سوف أظل في الخارج، عليكم مراقبة الموقف في الداخل».
فجأةً لفت نظر «أحمد» خروج رجل يحمل حقيبةً سوداء، ووقف الرجل لحظة، وفي نفس الوقت كانت سيارة سوداء تقترب منه، وما إن اختفى الرجل داخل السيارة حتى انطلقت … فأسرع «أحمد» خلفها ﺑ «البورش» الصفراء، وكانت السيارة أمامه بما يكفي لأن تظل في دائرة الرؤية … أخذت السيارة طريقها إلى قلب «باريس»، وظلَّ «أحمد» يُتابعها مُفكِّرًا: هل يرسل رسالةً إلى الشياطين؟ وهل هذا الرجل هو «ميمو» المهرِّج، أو إنه رجل آخر؟ وهل هذه الحقيبة التي يحملها هي الحقيبة التي تضم الخرائط السرية؟
كانت الأسئلة تدور في رأسه دون أن يصل إلى جواب، لكنَّ ذلك لم يجعل عينَيه تبتعدان ولو للحظة واحدة عن السيارة السوداء التي أمامه. وبدأ زحام الشوارع، فضغط قدم البنزين، وارتفعت السرعة حتى أصبح خلف السيارة مباشرة، وقرأ رقمها، كان ٩٩٦٨٤٦.
ظهرت إشارة الشارع حمراء فتوقَّفت السيارات، وحاول «أحمد» أن يأخذ جانب السيارة حتى يرى الرجل، لكنه لم يستطِع أن يقف بجوارها تمامًا؛ فقد كانت بينهما سيارة أخرى، ثم تغيَّرت إشارة الشارع فانطلقت السيارات، وكان واضحًا أنه الآن يقترب من شارع «الشانزليزيه» المتسع. وتدافعت السيارات بعضها بجوار بعض حتى كاد يبتعد عن السيارة السوداء، واضطُر أن يعود إلى نفس وضعه الأول فيسير خلفها، وعندما أصبح خلفها تمامًا أخذ يستعيد رقمها، لكن الدهشة ملأت وجهه، حتى إنه اضطرب للحظة سريعة، إن الرقم لم يكُن هو، لكن السيارة هي نفسها، وكان الرقم الجديد ٩٩٥٧٣٥، وأخذ يُفكِّر بسرعة: هل يمكن أن تُغيِّر السيارة أرقامها أوتوماتيكيًّا؟!
تأمَّل الرقم مرةً أخرى، وقال في نفسه: يجبُ أن أتبعها لبعض الوقت. إن المسألة مُثيرة فعلًا!
ظلَّ «أحمد» خلف السيارة حتى انتهى شارع «الشانزليزيه»، وبدأ شارع «سان ميشيل» الأقل اتساعًا … فجأةً انحرفت السيارة يمينًا، فانحرف خلفها بسرعة، وارتفعت سرعة السيارة، فرفع سرعة «البورش». فجأةً اقتربت سيارة «رينو» منه، ثم أخذت تُضيِّق الطريق أمامه حتى تفصله عن السيارة السوداء، فألقى نظرةً سريعةً على رقم السيارة، كان الرقم قد تغيَّر مرةً أخرى، واستطاع «أحمد» بسرعة أن يلتقطه، كان الرقم ٩٩٤٦٢٤ … ظلت «الرينو» تُضيِّق الطريق، وظلَّ هو مُحافظًا على سرعته خلف السيارة السوداء، وكانت الشوارع قد بدأت تخلو من المارة في هذا الوقت المبكِّر، إلا أن الشتاء كان سببًا قويًّا في أن تخلو الشوارع.
كان «أحمد» يُفكِّر بسرعة: ماذا يمكن أن يفعل الآن؟ إن «الرينو» التي تُحاول أن تضايقه يبدو أنها تابعة لهم، ويبدو أن مطاردته للسيارة السوداء قد لفتت أنظارهم. وتأكَّدت ظنونه عندما دخلت «الرينو» بين «البورش» والسيارة السوداء، ثم أخذت تُقلِّل من سرعتها فحاول «أحمد» أن يتجاوزها، إلا أن سائقها ظلَّ مُحافظًا على وجوده بينهما، في نفس الوقت كانت السيارة السوداء قد رفعت سُرعتها وبدأت تتباعد … فجأةً توقَّفت «الرينو» حتى إن «أحمد» كاد يصطدم بها لولا أنه تدارك الموقف في آخر لحظة، فمرَّ بجانبها، لكنه لم يستطِع أن يتجاوزها؛ فقد فُتِح بابُها، ونزل منها رجل، ثم وقف مباشرةً أمام «البورش»، وابتسم الرجل في هدوء فَهِمَهُ «أحمد» جيدًا، فابتسم له، وقال الرجل: معذرة، يبدو أن الموتور أصابه عطل مفاجئ!
هزَّ «أحمد» رأسه دون أن يُجيب، لكنه كان ينتظر اللحظة التي يمر فيها …
كان باب السيارة «الرينو» لا يزال كما هو بعد أن تركه الرجل مفتوحًا، في نفس الوقت ارتفعت أصوات السيارات التي تعطَّلت حتى أوشكت أن تَسدَّ الشارع، لم يكُن أمام «أحمد» إلا أن يدوس قدم البنزين، فانطلقت «البورش» في قوة حطَّمت باب «الرينو» تمامًا، وعندما كان الرجل يستدير ليصيح على «أحمد»، كان «أحمد» قد تجاوزه بمسافة، مُحاوِلًا اللحاق بالسيارة السوداء التي كانت قد اختفت.
ظلَّ «أحمد» يرقب السيارات المَارَّة، لكن لم تكُن السيارة السوداء بينها، فوقف في جانب الطريق، وأخذ يُفكِّر بسرعة: إن السيارة «الرينو» قد تلحق به. هذا احتمال … أمَّا الاحتمال الآخر أن تأتيه سيارة شرطة … لكنه استبعد الاحتمال الثاني؛ لأن العصابة لا يمكن أن تلجأ للشرطة بنفسها. وظلَّ في جانب الشارع وأخذ يستعيد شكل السيارة السوداء، إنها من نوع «الستروين» الفرنسي الحديث، في الغالب موديل هذا العام، فرشها من الداخل أسود أيضًا، تبدو في الليل وكأنها قطعة منه. استعاد أرقامها مرةً أخرى، وتذكَّر أول رقم ٩٩٦٨٤٦، ثم الثاني الذي كان ٩٩٥٧٣٥، ثم الثالث ٩٩٤٦٢٤، ولمعت في ذهنه فكرة أنَّ الأرقام تنقص واحدًا في كل مرة، والعددَين ٩٩ هما فقط الثابتان؛ أي إن الأرقام يمكن أن تتغيَّر أوتوماتيكيًّا، إمَّا إلى النقصان، وإمَّا إلى الزيادة، لكن كيف يمكن حصر الأرقام حتى يمكن حصر السيارات؟ إنها أرقام كثيرة، ممَّا يجعل ذلك أمرًا مستحيلًا. فكَّر لحظة: هل يُرسل إلى الشياطين ليعرف إن كان المهرِّج قد ظهر أمامهم.
انتظر «أحمد» قليلًا وأخذ يرقب الاتجاه الذي يمكن أن تظهر فيه «الرينو» لكنها لم تظهر، فأرسل رسالةً إلى الشياطين، وانتظر الردَّ الذي جاءه بسرعة: «إن المُهرِّج يُقدِّم نمرته الآن، وهو الذي يُقدِّم كل نمرة قبل أن تبدأ عرضها». فتوقَّف أمام الرسالة وتساءل بينه وبين نفسه: هل هذا يعني أن الرجل الذي ركِبَ «الستروين» السوداء ليس هو المُهرِّج، أو إن هناك أكثر من مُهرِّج في السيرك؟
فجأةً لفت نظره رجل في الجانب الآخر من الشارع كان يبدو أنه يرقبه، فأدار «البورش»، ثم انطلق بها، ودار دورةً كاملةً حتى يستطيع أن يعود إلى الرجل، لكنه فجأةً رأى السيارة «الرينو» واقفةً في جانب الشارع، وقد تهشَّم بابها، ولم يكُن أحد بداخلها.
بحث عن أقرب مكان يترك فيه سيارته، وعندما وجد مكانًا للانتظار أوقف «البورش» ونزل متجهًا إلى حيث تقف «الرينو»، وعندما اقترب منها كانت تستعد للانطلاق، واستطاع أن يقرأ رقمها، كان الرقم ٨٤٦، وقال في نفسه: من يدري قد يتغيَّر بعد قليل!
ظلَّ «أحمد» يرقبها وهي تتحرَّك، ومشى في هدوء خلفها، وبعد عِدَّة أمتار انحرفت يمينًا، فأسرع خلفها حتى لا تختفي، ووقف عند ناصية الشارع، بينما كانت «الرينو» قد وقفت أمام لافتة ضخمة مكتوب عليها «رينو»، فعرف أنها محطة خدمة، وأنها سوف تقوم بتغيير الباب. كانت فرصة. دخلت السيارة داخل المحطة حتى اختفت، وظلَّ في مكانه يرقبها.
فجأةً شاهد الرجل الذي نزل منها وعطَّله في شارع «سان ميشيل»، فتشاغل عنه مبتعدًا قليلًا حتى لا يراه …
كان الرجل يمشي في اتجاهه، فقطع «أحمد» الشارع عرضًا، ثم أخذ اتجاهًا مُعَاكسًا، وكان واضحًا أن الرجل لم يرَه.
التفت «أحمد» وتتبَّعه عن بُعد، كان الرجل يتجه إلى مخزن للسجائر وقف عنده قليلًا، ثم تحرَّك، ظلَّ «أحمد» يرقبه …
اقترب الرجل من تليفون عمومي واختفى داخله دقيقة، ثم خرج، فوقف على رصيف الشارع، ففكَّر «أحمد»: لا بد أنه في انتظار أحد، ينبغي أن أتحرَّك بسرعة.
أسرع بالعودة إلى حيث تقف «البورش» فركبها وعاد بسرعة، وكان الرجل لا يزال يقف في مكانه، ففكَّر «أحمد»: إن الرجل يعرف «البورش» الصفراء. يجب أن أظلَّ بعيدًا حتى لا ألفت نظره.
دخل «أحمد» في أحد الشوارع الجانبية، ثم توقَّف، في نفس الوقت أعطى نفسه فرصة المراقبة، ومرَّت دقائق سريعة، ثم فجأةً ظهر ما لم يكُن يتوقَّعه.