مكالمة … من خلال الحائط
كانت السيارة «الستروين» السوداء تقترب بسُرعة حيث يقف الرجل، فأدار «البورش»، ثم أسرع في اتجاهها، وتوقَّفت «الستروين» أمام الرجل فقفز داخلها، وعندما انطلقت كان «أحمد» قد جعلها تحت مراقبته، في نفس اللحظة فكَّر بسرعة: إنه قد يتعرَّض لصدام جديد، أو قد تختفي «الستروين» ويجب أن يتصرَّف؛ حتى لا تُفلت منه مرةً أخرى!
رصد رقم السيارة، ثم ابتسم، لقد كان الرقم الأول: ٩٩٦٨٤٦. أخرج فراشةً إليكترونيةً من جيبه، فراشةً في حجم النصف قرش، ثم أطلقها في الهواء وطارت الفراشة، وعندما كان يتتبَّعها بعينَيه اختفت؛ فقد كانت شفافةً بما يكفي لأن تختفي، إلا أن الإشارات التي كانت تُرْسلها كانت تظهر من خلال جهاز الراديو في السيارة، لقد كانت تُعطي صفارةً مُتقطِّعة، وهَزَّ «أحمد» رأسه وقال: لا بأس، إن «الستروين» لن تهرب مرةً أخرى.
ظلَّ خلف السيارة التي بدأت تدخل مناطق مُزدحمة بالبيوت، حتى إنه بدأ يشعر بالضيق، بجوار أن المطاردة بهذه الطريقة غير مجدية، الآن على الأقل، إن عليه أن يعود بسرعة إلى السيرك حيث الشياطين، وحتى يعرف إن كان المهرِّج موجودًا، أو غير موجود.
دار بسرعة وأخذ طريقه إلى السيرك، وأضاء جهاز الاستقبال في السيارة، وبدأ يتلقَّى رسالة، كانت من الشياطين: «لقد ظهر المُهرِّج، وأوشك البرنامج أن ينتهي». فضغط البنزين أكثر، فانطلقت «البورش» كالصاروخ، وأرسل رسالةً سريعة: «إنني في الطريق، سوف أبقى في الخارج».
وعندما كان المُتفرِّجون يُغادرون أماكنهم، كانت «البورش» تقف بعيدًا قليلًا عن باب الخروج، وعندما رأى «أحمد» الشياطين تقدَّم بالسيارة قليلًا فاتجهوا إليه، ودخلوا الواحد بعد الآخر، وسأل «خالد»: لماذا لم تحضر البرنامج؟!
قال «رشيد»: يجب أن تُشاهده، إنه برنامج مثير!
فسأل «أحمد»: هل أنتم مُتأكِّدون أن المهرِّج الذي ظهر هو نفسه المهرِّج الذي رأيناه يدق الناقوس؟!
التقت أعين الشياطين. أخذ كلٌّ منهم يستعيد صورة المُهرِّج، ومرَّت دقيقتان دون أن يُجيب أحد على السؤال؛ فقد كان سؤالًا مفاجئًا، وقال «قيس»: إنه كان يلبس نفس القناع!
وقال «رشيد»: أظن أنه كان أنحف قليلًا من الآخر.
وقال «خالد»: لاحِظَا أن اثنَين من المهرِّجين قد ظهرا!
مرَّت لحظة صمت قال «أحمد» في نهايتها: إن المُهرِّج الذي رأيناه أمام السيرك لم يظهر أمامكم لأنه غادر السيرك فعلًا قبل بداية البرنامج!
نظر الشياطين إليه في تساؤل، إلا أنه لم يُجِب مُباشرة، لقد رفع سرعة السيارة في طريقه إلى المقر السري، وهناك شرح «أحمد» لهم كل شيء منذ أن غادر السيرك حتى عاد إليه.
سأل «رشيد»: والآن، ماذا يجب أن نفعل؟
قال «أحمد»: لقد أتيت لكم من أجل هذا!
أخرج جهاز الاستقبال الصغير الذي يحمله، ثم ضغط على زرٍّ فيه، فبدأت الصفارة المتقطِّعة، سأل «قيس»: هل نظل هكذا!
قال «خالد»: يجبُ أن نتحرَّك فورًا؛ إن المسألة كما قال رقم «صفر» مسألة وقت!
قال «أحمد»: يجب أن ينطلق اثنان منَّا إلى حيث توجد السيارة … في نفس الوقت يظل اثنان هنا استعدادًا لحدوث أي شيء!
عندما وافق الشياطين على ذلك قفز «أحمد» ومعه «خالد» في طريقهما إلى الخارج، وقال «أحمد» بسرعة: يجبُ أن نستبدل «البورش»، إننا في حاجة إلى سيارة غيرها؛ فقد أصبحت معروفة.
ثم عاد بسرعة ورفع سَمَّاعة التليفون، ثم أدار القرص، ومضت لحظة، ثم بدأ يتكلَّم: إننا في حاجة إلى سيارة. نعم، عند النقطة «ﻫ». تحياتي! ووضع السمَّاعة، ثم انضمَّ إلى «خالد» وانصرفا.
في الشارع قال «خالد»: هل تأخَّر الوقت؟
نظر «أحمد» في ساعة يده وقال: ليس بعد، إن المغامرة لا ترتبط بوقت.
هزَّ «خالد» رأسه ولم يُجِب، وظلَّا سائرَين. كان الأسفلت يلمع بعد أن غسله المطر، وكانت السماء صافيةً الآن بعد أن توقَّف المطر منذ أكثر من ساعة، وكانت برودة الجو مُحتمَلةً تلذع وجهَيهما، لكنهما لم يكونا يشعران بالبرد؛ فالمشي جعلهما أقرب إلى الدفء. أخذا طريقهما إلى النقطة «ﻫ» التي حدَّدها «أحمد»، وعندما اقتربا منها كانت سيارة زرقاء تقف بجوار الرصيف.
قال «خالد»: هذه سيارتنا!
هَزَّ «أحمد» رأسه، ثم اتجها إليها، فجلس «أحمد» إلى عجلة القيادة، وجلس «خالد» بجواره. ضغط على زرٍّ في تابلوه السيارة، فبدأ جهاز الراديو يستقبل الصفارة المتقطِّعة. كان هناك نوع من التشويش على الصفارة، وظلَّ «خالد» يحرِّك المؤشِّر حتى جاءت الصفارة واضحةً تمامًا. في نفس الوقت تحرَّك مُؤشِّر البوصلة أمام «أحمد» يُحدِّد مكان السيارة. ظلَّا في تقدُّمهما حتى ظهرت حديقة ذات سور مرتفع، وكانت الأضواء تتركَّز في بقعة مُحدَّدة في وسطها، لم يكُن يظهر شيء من خلال السور. كانت الأضواء تلمع في الفضاء.
توقَّف «أحمد» وهو يقول: ها هي «الستروين» السوداء، إنها تقف أمام الباب! كان الصمت يُخيِّم على المكان، فهمس «أحمد»: سوف أُضيء نور السيارة للحظة سريعة، فاقرأ رقمها!
ضغط زر الإضاءة، ثم أطفأه بسرعة، فقال «خالد»: نعم كما قلت ٩٩٦٨٤٦!
فقال «أحمد»: إنه أول رقم قرأته، سوف أنتظر قليلًا وأُضيء لك إضاءةً سريعة حتى تقرأ الرقم الجديد!
انتظر قليلًا، ثم أضاء فقرأ «خالد»: ٩٩٥٧٣٥!
قال «أحمد»: بالضبط، لقد تحرَّك الرقم، لا بد أن موتور السيارة مستمر في عمله!
مرَّت لحظات صامتة قال «أحمد» في نهايتها: ينبغي أن ندخل بأية طريقة!
«خالد»: هل ندور حول المكان دروة؛ لعلنا نجد مكانًا؟
تحرَّك «أحمد» بالسيارة حتى تجاوز «الستروين»، فقال «خالد»: نعم، إن الموتور دائر!
دارا حول المكان. كانت الحديقة تشمل مساحةً واسعة، والسور لا يتغيَّر في أي مكان، إنه مرتفع في كل الأمكنة، فقال «أحمد»: ينبغي أن نترك السيارة بعيدًا، ثم نقفز من فوق السور، إنها الطريقة الوحيدة.
ابتعدا بالسيارة، ثم تركاها وترجَّلا في هدوء. لم يكُن هناك أي صوت، كل شيءٍ هادئ. اقتربا من السور. كان مرتفعًا بما يكفي، وظلَّ «أحمد» يتأمَّله لحظة، ثم قال في همس: إنه يحتاج إلى قفزة القرد! ثم تراجع إلى الخلف عدة أمتار، ثم أسرع جريًا، حتى إذا وصل إلى السور وقفز إلى أعلى كأنه الكرة، وقبل أن يعود إلى الأرض، كانت أصابعه تُمسك في قمة السور، وفي هدوءٍ كان يجلس فوقه. في نفس اللحظة كان «خالد» يفعل نفس الشيء، ثم أصبح يجلس بجواره، وفي هدوء أيضًا نزلا من السور إلى الحديقة.
وفجأةً تعالت صيحات الكلاب، فهمس «أحمد»: أطلِق الغاز بسرعة!
أخرج «خالد» أنبوبةً صغيرة، ثم فتحها لحظة، وأغلقها بسرعة، فأخذ صوت الكلاب يخفت، وهمس «خالد»: لقد اختفت رائحتنا!
تقدَّما في هدوء … ومن بين الأشجار ظهرت الفيلا هناك. كانت فيلا ضخمةً تصدر عنها أضواء قوية من إحدى نوافذها، في حين كانت الإضاءة الأخرى خافتةً نوعًا ما، وكانت رائحة الورود تملأ المكان، وروائح كثيرة مختلفة. تقدَّما أكثر، لم يكُن هناك ما يلفت النظر، كانت تبدو وكأنها مسكن لعائلة قديمة تقضي ليلةً شتويةً أمام التليفزيون، أو أمام المدفأة.
همس «أحمد»: يجب أن نحذر أجهزة الإنذار!
ولم يكَد ينتهي من جملته حتى فتح باب الفيلا، وظهر عدة رجال كانوا يقفون في الضوء فتظهر تفاصيلهم، وكان يبدو عليهم الاهتمام، سمع «أحمد»: لقد أضاءت أجهزة الإنذار! فنظر إلى «خالد»، ثم أسرعا بالاقتراب منهم أكثر، كانت النباتات كثيفةً بدرجة تجعلهما يتحرَّكان بسهولة.
اقترب الرجال أكثر، وظهرت عدة كلاب، كانت تُزمجر وتنبح، فجأةً ظهر ما لم يكُن يتوقَّعه «أحمد»؛ لقد ظهر الرجل الذي خرج من السيرك وركب «الستروين» السوداء، والذي ظن «أحمد» أنه «ميمو». وقال الرجل بصوت خشن: يجب تمشيط الحديقة جيدًا؛ إن هناك أحدًا!
انتشر الرجال والكلاب في الحديقة، في نفس الوقت كان «أحمد» و«خالد» يقبعان بين أفرُع النباتات المُتسلِّقة، ملتصقَين بجدار الفيلا، فأصبحوا أقرب ممَّا يتصوَّر أفراد العصابة، حتى إنهما كانا يسمعان كل كلمة بوضوح تام.
قال رجل: يبدو أن شدة المطر قد أثَّرت على الأجهزة يا مستر «مايلز»!
وبرقت عينا «أحمد» وهو يمسك يد «خالد» ليُحدِّثه بلغة الأيدي: «مايلز»! إنه «ميمو» كما توقَّعت!
قال «مايلز» بصوته الخشن: لا أظن، إنني ما زلتُ أشك في الشاب سائق «البورش» الصفراء!
ردَّ الرجل: وكيف يصل إلى هنا، لقد عطلناه حتى اختفيت؟
صرخ «مايلز»: يجب العثور على تلك السيارة الليلة!
اختفى «مايلز»، وسمع «أحمد» و«خالد» أصواتًا لم يُميِّزاها، كانت تعني الغضب. وبلغة الأيدي قال «خالد»: يجب إخفاء «البورش» الآن حالًا!
ولم يكَد ينتهي من كلماته حتى سمعا صوت سيارة تنطلق في سرعة، وقال «أحمد»: لقد بدأ البحث عن «البورش»! ثم أخرج جهاز الإرسال، ثم أرسل رسالةً إلى الشياطين في المقر السري: «يجب إخفاء «البورش» حالًا!»
وجاءه الرد بسرعة: دعهم يأتون!
كانت أصوات الكلاب فقط هي المسموعة الآن، فأخرج «أحمد» جهاز التنصُّت الدقيق من جيبه، وألصق سمَّاعته بجدار الفيلا، ثم وضع السمَّاعة في أذنه، وبدأ يسمع ما يدور داخل الفيلا، كان ما يسمعه خليطًا لكل ما يقال داخلها:
صوت: العشاء بعد عشر دقائق!
صوت: سوف ينصرف بعده مباشرة.
صوت: سيارة أخرى سوف تحضر.
صوت «مايلز»: لا يجب أن تبقى هنا الليلة، يجب أن تبيت في مكان آخر!
صوت يسأل: هل نخرج الليلة، أو غدًا؟
مايلز بعد فترة: نحتاج بعض الوقت، إن كل المنافذ مراقبة ولا نضمن!
صوت: يجب الكشف على أجهزة الإنذار!
صوت: المطر له تأثير!
صوت: حراسة مُشدَّدة!
بعدها سمع صوت رنين جرس تليفون، وخطوات سريعةً تقترب، ثم محادثة تليفونية استطاع «أحمد» أن يسمعها كاملةً من طرفَيها، وهذه هي المحادثة التي كان يسمعها:
صوت: ألو، إنني أتحدَّث من نقطة ٩.
الرد: ماذا فعلتم؟
صوت: إن عشر سيارات قد خرجت الآن للبحث عن «البورش» الصفراء، غير أن المسألة تحتاج إلى وقت!
الرد: المهم هو العثور عليها … وعلى صاحبها. إن مستر «مايلز» ثائر جدًّا!
صوت: سوف ينتهي كل شيء على ما يرام!
الرد: هل أُبلغه شيئًا؟
صوت: لا شيء الآن!
ثم سمع صوت وضع السماعتَين، ثم صوت أقدام … بعدها جاء صوت «مايلز» يقول: الليلة، الليلة يجب أن تكون هنا!
فسمع أصوات أقدام كثيرة تتجه معًا، ثم تهدأ الأقدام، ويبدأ صوت الملاعق والشوك.
أخيرًا همس «أحمد» ﻟ «خالد»: إنهم يأخذون عشاءهم، أعتقد أنهم لن يتحرَّكوا الليلة من هنا، ونحن نُريد الحقيبة على الأقل قبل أن يتحرَّكوا بها.
خالد: هل تعتقد ذلك؟
أحمد: نعم وفكَّر قليلًا، ثم قال: إن الرد الذي جاء من الشياطين كان مُبهمًا لم أفكِّر فيه جيدًا.
خالد: ماذا كان؟
أحمد: دعهم يأتون! وصمت قليلًا، ثم همس: هل يفعلها «قيس»؟!
ابتسم «خالد» وهو يقول: أعتقد أنه سوف يفعلها!
لم يكَد ينتهي «خالد» من جملته، حتى سمع «أحمد» صوت رنين جرس تليفون، وخطوات تُسرع إليه، ثم تُرفع السماعة، ثم تبدأ المحادثة، كان يسمع، وفجأةً اتسعت عيناه، وظهرت على وجهه الدهشة.
همس «خالد»: ماذا هناك؟
أعطاه «أحمد» السمَّاعة فوضعها في أذنه، واستمع، وعلت الدهشة وجهه هو الآخر، لقد سمعا شيئًا مذهلًا فعلًا!