الفصل الأول
حكى صاحب الرواية عن نفسه، قال: يوجد عند مدخل سافوا بين جبالها وآكامها وادٍ متسع يتصل بقرية شامبيري على سفح جبال الألب، قد كسته الخضرة بنضارتها، وآنسته الجداول بخريرها، وحلَّته البحيرات بمائها الشفاف كأنه سبائك الفضة في إطارٍ من الزمرد، وإلى شمال هذا الوادي جبلٌ ينطح النجوم برَوْقَيْه، ويناجي السماء بأسراره، وقد ألبسته الطبيعة هيئةً قاتمة ينعكس النور عما برزَ منها، فتظهر كثنايا الجبين في الوجه العابس على شكلٍ لم تعمل فيه غير يد الله، ثم يأخذ بالانبساط على مقربة من شامبيري حتى لا يعود فيه سوى بعض هضبات تجلِّلها أشجار السنديان والجوز مُكلَّلة أعاليها بأغصان الدوالي والأعراش، فإذا بلغ السائر إليها رُفعت له منازل القرى البيضاء كأنها الحمائم في المروج، وفي أسفلها بحيرة واسعة تبلغ مساحتها ستة أميال تتدلَّى فيها أغصان ما حولها من الأشجار والأغراس.
ثم تنفرج من أحد جوانبها فرجةٌ واسعة بين صخور سوداء تنسرب منها مياهها وتصبُّ في نهر الرون، وعلى صفحتها بعض زوارق للصيادين تدفعها الرياح فتجري أمامها كأنها السوابح في الميدان.
وعلى جانب هذا الوادي تقوم مدينة إكس ذات المياه الحارَّة المعدنية، ومن حولها أغراس الكروم وأشجار الصفصاف قائمة على صفين متقابلين بينهما طريق تؤدي إلى تلك البحيرة، وتنبسط عن جانبيها مروجٌ خضراء تزينها الكروم بعناقيدها، وتظهر منها البحيرة على أشكال مياهها تبعًا لألوان السماء بين صفو وكدر.
ولما وصلت إلى إكس وجدتها خالية من زوارها، ووجدت فنادقها وقاعاتها مقفولة الأبواب مقفرة من كل من كانت آهلةً بهم ممن يقصدونها في أيام الصيف؛ طلبًا للاستشفاء بمائها وهوائها، ولم يبقَ فيها إلا بعض سكانها الفقراء أو بعض مرضاها المعضَلين. وكان يومئذ فصل الخريف، وقد أخذت أوراق الأشجار تتناثر عن غصونها تحت صقيع الصباح، والضباب يغشى الآفاق إلى حد الظهيرة حتى يسد ذلك الوادي فلا تعود تظهر منه إلا أعالي الأشجار الباسقة، وقمم الجبال الشاهقة، حتى إذا بلغت الشمس كبد السماء وهبت نسائم الهاجرة جَلَت ذلك الضباب عن تلك البحيرة كما تجلو كفُّ العذراء صدى أنفاسها عن مرآتها، ثم تمر بين معاقل تلك الجبال فتسمع لها همهمة كأنين العاشق وزفير المشتاق، ثم يسود السكوت على أثرها لا تخالطه رنة ولا يكدِّره صوت حتى يكاد شاهدها يمسك أنفاسه خوفًا من تكديره، ثم يعاود السماء بهاؤها، وتظهر جبال الألب شامخة الذُّرى في جلدٍ أزرق صافٍ لا تغشاه كُدُورة ولا يمر فيه سحاب.
إلا أن ذلك لا يطول إلا ريثما تميل الشمس إلى مغربها فيقابلها ضباب الأفق كأنه يتلقاها بالراحتين ثم تتوارى بالحجاب، وتصبح الطبيعة بعدها كأنها ماتت كما يموت الشباب في نضارته ونمائه أو الجمال في ريعانه وبهائه. فكانت تلك البلاد في مثل ذلك الفصل وتلك المناظر على مثل شبابي وقلق أفكاري داعية إلى شرود نفسي وهواجس قلبي، فأغوص في بحر من الحزن عميق، كلُّه تأملٌ وجمودٌ، يضيعُ به فكري في ذلك الفضاء فأستريح منه حتى لا أحب أن يرجع إليَّ، وحتى عزمت على أن أستأنس إليه، وأنفِر من كل مخلوقٍ يكدِّر مسمعي إلى سكوتٍ ووحدةٍ وسكون لا أرى فيه غير مناظر الطبيعة وأعمال الله.
وكنت عند مروري على شامبيري قد وجدتُ صديقًا لي يُدعى لويس في مثل حالتي من الأكدار والأحزان، يتأفَّف من مرارة الحياة، ودهرٍ يضع الرجال في غير مواضعها، ونفسٍ تطمح بأبصارها إلى العلاء وهي مقيدة بقوم هم لأصحاب العقول والأقلام بمنزلة حديد القيود من الأقدام، فهي منخفضة عنها في المقام ولكنها مانعة لها عن التخلص والإقدام. فحادثته في شأني وما عزمت عليه، فدلني على بيت في أعلى مدينة إكس مُعدٍّ لنزول المرضى والقيام بما يقتضونه، قد افتتحه طبيبٌ شيخٌ، وأقام فيه مع أسرته، وهو منزل واقع على طرف المدينة، ومن ورائه حديقة زاهرة تفرشها الخضرة والأعشاب، وتكلِّلها الدوالي والأعناب، ثم وعدني بأنه يتبعني متى فرغ من شأن كان له في شامبيري على أثر وفاة أمه، فوعدت نفسي منه بصديق حلو العشرة طيب الصحبة؛ لمشابهة في أخلاقنا، ومشاكلة في أحوالنا. وعندي أن التشابه في المصائب والاشتراك في الأحزان أدعى إلى الصحبة وأقرب إلى السكون من الاشتراك بالسعادة والمسرات، وإنما كان ذلك لأن رابطة الحزن أقوى أثرًا في القلوب وأشد اتصالًا بالنفوس من رابطة الغبطة والهناء، فودَّعتُه على هذا الأمل، وانصرفت وأنا أعلِّل نفسي بلقائه على عجل.
فقابلني الطبيب وأهله بكل ترحيب وإكرام، وأخلَوْا لي قاعة تنفتح نافذتها على تلك الحديقة وما وراءها من الحقول، وكان المنزل فارغ القاعات إلا القليل منها، ومائدة الطعام لا يشغلها إلا أهل المنزل وثلاثة أو أربعة من المرضى أنحلهم الفقر أكثر مما أنحلهم الدهر، فجاءوا بعد عودة المرضى إلى أوطانها رغبةً في فراغ المكان وبخس أجرة السكنى، فأخبرني الطبيب وامرأته أن عندهما فتاة غريبة الأهل بقيت بعد انصراف الناس طمعًا بالشفاء من نحول تولَّاها فأَزْمَن فيها، وأنها مقيمة وحدها من أشهر في أقصى مكان من المنزل يؤتى إليها فيه بالطعام، فلا تنزل إلى المائدة ولا تُرى إلا في نافذة غرفتها من خلال ستائر الأغصان أو على السلَّم وهي عائدة من التنزه في تلك الجبال، فوجدت بيني وبينها مشابهةً في الانقباض، ومشاكلة في الغربة، ومماثلة في المرض؛ لأنها قادمة للاستشفاء، ومضارعةً في الحزن؛ لأنها تتجافى عن الضجيج وتتوارى عن أبصار الناس. ولكني على كثرة ما كنت أسمع من ذكرها وإظهار العجب من أحوالها لم أكن أحب أن أراها؛ لأن ما قاسيته من أهوال العشق وصنوف عذابه صيَّر قلبي رمادًا ونفسي خامدة وأبصاري ناكسة كأنها لا تريد أن ترى إنسانًا أو أن يراها إنسان، ولأني وجدت الحب مع ما فيه من فكاهة اللهو ولذة اللُّقيا لا يخلو صاحبه من لواعج الوجد وحرقة الصبابة، ووجدت أنني عاجز عن أن أحمل هموم نفسي وأُستهدف لمصائب دهري، فكيف أجمع إليها نفسًا أخرى لأحمل همومهما جميعًا، وأعظِّم ذلك الهدف حتى تتضاعف فيه نبال الزمان؟ وأقول الهموم والمصائب لأن السعادة لم تخطر لي في بال.
فكنت أصرف صباح يومي في مطالعة الكتب ودرس الأسفار والرسائل، ومساءه في قطع تلك الجبال والوديان والغابات وحيدًا فريدًا لا مؤنس لي غير أفكاري ولا سمير إلا همومي حتى أعود وقد أخذ مني التعب كل مأخذ، فأدخل إلى غرفتي وأتكئ على نافذتها تمر عليَّ الساعات وأنا ناظرٌ إلى السماء نظرات أحسب أن نفسي تنطاد فيها على آثارها كما يغوص الحجر الصُّلْب في لجة البحر العميق، حتى لقد ذهبت إلى أن في السماء قوة تجذب النفوس كما أن في الأرض قوة تجذب الأجسام وشبه الشكل منجذبٌ إليه، ثم أعود فأنام بين مساورة الأفكار ولجج الهواجس حتى توقظني قارصة الشمس، فأستفيق على نغمات الأطيار وخرير المياه لأعود إلى مثل شأني بالأمس.