الفصل الثاني
فبينما أنا في بعض الليالي وقد تطلعت من نافذتي بصرت على مقربة مني بنافذة مُنارة قد اتكأت عليها فتاة لم أرَ منها في بادئ الأمر إلا يدًا كأنها المرمر الشفاف، ترفع ضفائر شعرها فتنجلي عن وجه ينعكس منه نور القمر عن محيًّا صافي الأديم أصفر شفافٍ يزينه شعرٌ حالك كالغراب، قد لصقت منه خصلةٌ مدوَّرة على صدغها فزادته جمالًا. ثم سمعت صوتها وقد كلمت من معها في داخل الغرفة، فإذا به غريب اللهجة صافي الرنَّة لطيف الوقْع في الآذان أثَّر في نفسي وإن لم يَدُرْ في مسمعي معناه، حتى خِلتُ أن صداه ما برح يتردد في أذني بعد وقعه بساعات كما يتردد صدى الأعواد في آذان الطَّرُوب النَّشْوان، وحتى حسبت أنه رنَّة أوتار لا صوت إنسان، وأنا لا أعلم أنه سيكون له نصيبٌ في نفسي وشركة في حياتي لا تقطعها عوامل الأيام، ثم انتبهت في اليوم الثاني وقد ذهب عني كل ذلك كأن لم يكن شيء مما كان.
وبينما أنا عائد يومًا وقد بلغت المنزل قبل المساء بصرت بتلك الفتاة الغريبة جالسة على مقعد مستندة إلى الجدار في طرف الحديقة، فلم تنتبه إلى وقع أقدامي حتى تقدمت فتواريت وراء كرمة تبعد عنها بضع خطوات ووقفتُ مدة أراها ولا تراني، فرأيت وجهًا تتردد عليه خيالات الأوراق بين شعاع الشمس الغاربة فتزيده حسنًا، وقامةً فوق الرَّبْعة كأنها تمثال رخام ملتفٌّ برداء يظهر منه شكله ولا تظهر تقاطيعه، وقد عقدتْ يديها على ركبتيها وغطت رأسها بفضل ردائها وقاية من ندى الليل، وهى مائلة العنق، مطبَقَة الأجفان، ناحلة الأعضاء، صفراء اللون، جامدة الحركة، كأنها تمثال الموت ولكنه الموت الذي يميل بالنفوس ويجتذب القلوب والأبصار إلى الحياة الخالدة ودار النعيم.
ثم سمعتْ وقع أقدامي ففتحت أجفانها عن عينين ملؤهما السحر والحَوَر، يتقوَّس فوقهما حاجبان كأنهما خُطَّا بحِمَم، ولهما نظرات لم تحْوِها مقلةُ ناظر، وأنفٌ كأنه حدُّ السيف في دقَّته وحسنه، فوقه جبينٌ واسع الجبهة ناتئُها كأنه جبين عالِم ضغطته كثرة الأفكار، وفمٌ أحمر الشفتين رقيقُهما ينفرج عن ثغر كأنه اللؤلؤ المنظوم، وهي قد بدا عليها الذبول والانتحال حتى يخيل لناظرها أنها خطرة فكر لا هيئة إنسان فلا يتحول عنها إلا وقد ارتسمت في فؤاده كما يرتسم المعنى الدقيق في النفس الوقادة، بحيث كانت على ما بها من ظواهر السقم وهزال الداء كأنها أجمل تمثال من كف أحذق صانع.
فلما رأيت أنها رأتني حيَّيْتها بإكرام، ومررت مسرعًا من أمامها وأنا منكس الرأس خافض الطرف كأني أسألها العذر عن إزعاجها بعد أن نظرتُ إلى خدَّيها وقد صبغت صفرتهما حمرة الخجل، ثم دخلت إلى حجرتي وأنا مضطرب الأعضاء خافق القلب، وأحسب أن ذلك من تأثير التعب وبرد المساء. ولم يمضِ قليل حتى رأيتها مرت من أمام بابي ذاهبة إلى حجرتها، فكنت بعد ذلك أراها كل يوم في مثل تلك الساعة في تلك الحديقة أو في صحن الدار وأنا لا يخطر لي ولا أتجاسر على أن أكلمها، ثم كنت أراها في بعض الأيام سائرة في الحقول أو راكبة زورقًا في البحيرة فلا أقابلها إلا بسلام معتاد، ثم يأخذ كلٌّ منا في طريقه إما في الجبال أو على الماء. إلا أنني كنت أشعر بانقباض واشتغال كلَّ مساء لا يتفق لي أن أراها فيه، فأنزل إلى الحديقة وأنا لا أعلم لماذا، أو أجلس في النافذة ساعات لا أشعر ببرد الليل وعيناي محدقتان في نافذتها، فلا أنصرف عنها حتى أرى خيالًا منها من خَلَل الستائر، أو أسمع رنة عودها أو صوتها، أو أنصرف حزينًا كئيبًا.
وكانت الحجرة التي تسكنها محاذيةً لحجرتي لا يفصل بينهما إلا باب ضخم ذو مصراعين، بحيث كنت أسمع منها وقع أقدامها وحفيف ثوبها وتقليب صفحات كتابها، حتى كان يخيل لي أحيانًا أنني أسمع أنفاسها تتردد في صدرها، فوضعت منضدة (طاولة) كتابتي تلقاء ذلك الباب، وأسندت مصباحي إليه؛ لأنني كنت أشعر بخفة الوحدة عليَّ عندما أسمع همس تلك المخلوقة على مقربة مني، وأنني على انفرادي كأنني مع رفيق.
وبالجملة فقد كنت أجد في نفسي كل عوامل الحب وهواجسه وخطراته قبل أن يداخلني الظن في أنني بلغت إليه، وإنما كان ذلك لأني لم أكن أعتبر الصبابة تنشأ في قلبي في ساعة أو مكان أو نظرة أو اتفاق أقدر أن أتجنبها وأتجافى عنها، بل كنت أجدها أشبه بذرات الأثير التي تُحدِق بالمرء بين الهواء والنور واختلاف الفصول ومدى الحياة. ولقد زاد بي الأمر حتى صرت أرى الحب ينبعث إلى قلبي من قرب تلك الفتاة مني ومن تباعدي عنها أحيانًا تباعدًا أراه يزيدني تقربًا منها واتصالًا بها، ومن ردائها الأبيض الذي كان يلوح لي من خلال أشجار الغابات كأنه راية الحب تدعوني إليها، ومن شعرها الأسود حين تنشره رياح البحيرة على جانب زورقها، ومن وقع أقدامها على السُّلَّم، وبريق نورها من النافذة، وصرير قلمها على أوراقها، حتى من سكوتها نفسه في تلك الليالي الطويلة التي كانت تقضيها في جواري بين قراءة أو كتابة أو تأمل، بل من ذلك الجمال الباهر الذي ارتسم على صفحات قلبي فصرت أراهُ ولا أراهُ، كأن الجدار بيني وبينها قد استحال أمامي إلى زجاج شفاف، وما هو إلا فؤادي ارتسمت عليه فشفَّ عنها للعيان كل ذلك، وأنا لم تداخلني رغبة أو يخطر لي فكر في أن أطلع منها على سر وحدتها أو أُزيل ذلك الحجاب بل ذلك الباب الفاصل بيني وبينها، وما عسى أن تهمني فتاة مريضة القلب والجسم، ألقتها يد الاتفاق في طريق حياتي بين تلك الجبال في غربة نازحة وأنا قد نفضت غبار الحب عني، وعزمت على ألا أصل رغبتي في أسباب الحياة بحب أو ميل قلب على الإطلاق، واحتقرتُ الحب احتقار من مارسه فلم يجد فيه إلا همومًا وخفةً ولم يلقَ منه إلا أهوالًا وصنوف عذاب.
ثم أغرقتُ في الفكر فقلت: ما عسى أن تكون تلك الفتاة، أإنسيةٌ مثلي أم خيال وهمٍ يمر على مقلة الفكر فلا يترك بعده إلا دهشة العينين؟! ثم هل هي من وطني أم من وطن بعيد نازح لا تلبث أن تعود إليه وتتركني بعدها دامع العين على فراقها وأنا لا أجد السبيل إلى اتِّباعها ولا أقدر على لحاقها؟ وفوق ذلك فهل هي خلية القلب مثلي فتجيبني إلى هواي، وإلَّا فكيف يجوز في العقل أن مثل هذا الجمال الباهر يقطع مراحل العمر بين ركب الناس ولا تَعْلَق به آثار حب أو لَاعِجَة صبابة وهو في إبَّانها؟! ثم هل هي ذات أبٍ وأهل أم ذات حليل أو خليل قضت الأيام ببعدها عنه إلى حين ولا تزال تَلْهَج بذكره حتى تراه؟
ولقد كنت أخاطب نفسي بكل ذلك كأنني أريد أن أخدعها؛ لأثنيها عن عزمها في حب لا أريده لها وهي تريده مدفوعةً إليه بالرغم عنها، والقلبُ بيننا عصيٌّ طيِّعٌ، ثم زاد بي الأمر حتى صرت أرى سعيي في استطلاع أمر تلك الغريبة حِطَّة ونقصًا في شأني، ووجدت أنه خيرٌ لي أن أظل تائهًا عن حقيقتها لا أهتدي إلى عرفانها إلا أن أسرة الطبيب ونزلاءه لم يكونوا من رأيي هذا، فكانت تدفعهم رغبة المحادثة في كل اجتماع إلى مفاتحتي بشأنها ومحادثتي عنها، بحيث كنت أطَّلع على بعض أمورها وأنا لا أريد، بل كثيرًا ما كنت أحوِّل مجرى حديثهم عنها حتى لا أقف على شيء منه فأجده ملءَ أفواه الجميع بين رجال ونساء وفتيان وفتيات وأدِلَّة طريق ونوتية سفائن؛ لأنها كانت قد أثرت في جميع القلوب، ومازجت كل النفوس من غير أن تكلم أحدًا، فكان مثلهم في ذلك مثَل الأعمى الذي يشعر بحرارة الشمس ولا يراها.
وكان جُلُّ ما علمته عن تلك الفتاة أنها تقطن باريز، وأن زوجها رجلٌ عجوز قد اشتُهر بالعلوم والفلسفة، أثَّر فيه جمالها وعقلها فتبناها ليورثها لقبه وماله، وكانت تحبه محبة الأبناء للآباء، وتكاتبه في كل يوم بجميع ما يمر عليها، وكان قد أصابها من عامين نحولٌ طال أمره، فأشار عليها الأطباء بالاستشفاء في إيطاليا فقدِمَتْها وحدها، ثم أشار عليها أحد أطبائها بالاستحمام في مياه إكس، وواعدها بأن يجيء فيأخذها إلى باريز في أوائل الشتاء.
ذلك كل ما علمته عن سيرة تلك الإنسانة التي كنت أدافع نفسي عن حبها، وأصور لها أنني غير مهتم في الذي أسمعه عنها. إلا أنني مع ذلك قد وجدت زيادة حزن عليها من هذا المرض الذي أصاب صباها كما تصاب الزهرة في نضارتها، وصرت على اهتمامي بما أدهشني من جمالها، وأنا أشد اهتمامًا بما لاح لي من ظواهر سقمها وانتحالها. ثم استمرت سيرتنا بعد ذلك أيامًا ونحن متقاربان في الجوار ومتباعدان في الألفة والتعارف.