الفصل الخامس
ثم دخلت حجرتها بعد العشاء فوجدتها جالسة وراء مكتبتها دامعة الطرف وأمامها كتب مفضوضة، فاستقبلتني وهي تقول: يا ليتنا متنا معًا! فهذا موت الفراق قد بلغ إليَّ.
وكان زوجها قد استطال غيابها وخشي عليها برد الشتاء، فأخذ يكاتبها بالحضور وأنه يُحسُّ دنو أجله ويريد أن يراها قبله، وكان لديها بين تلك الرسائل كتاب من الطبيب القادم لأخذها يقول لها فيه إنه عرض له عائق في الطريق فأرسل لها رجلًا ينوب عنه في صحبتها وهو حامل كتابه إليها، وقد عيَّن لها موعد السفر في الغد. فكان وقع ذلك الخبر علينا على شدة توقعنا له كأنه فاجأنا ولم يكن لنا في حساب، فقضينا سواد ليلتنا لا نتكلم ولا ينظر أحد منا إلى وجه صاحبه خوفًا من أن يصادف نظره فتسيل دموعه، ثم قمت وقد عزمت على أن أسافر أيضًا.
وكان اليوم التالي آخر يوم للوداع، فتركنا القوم يشتغلون بزَمِّ الركائب وقصدنا الجبل لنقضي واجب الوداع، فأخذنا نمر على كل أثر لنا من الآكام والأشجار والصخور والشواطئ حتى انتهينا إلى مكان مُحْجِر فجلسنا على أحد صخوره، فأشارت بيدها إلى نكتة سوداء في أقصى الأفق لا تكاد تميزها العين لبعدها، ثم قالت: قد يأتي عليك يوم لا تذكر فيه مواقف حبنا إلا كما تبصر هذا السواد.
وكان صوتها تمازجه رقة حزن ورنة صبابة استنزلت دموعي، فسترت وجهي بيدي لكي لا ترى بكائي، ولكنها رأت مدامعي تنساب بين بناني فعادت وقالت: يا روفائيل، إنك لا تنساني ولكن الغرام قصير والحياة بطيئة، وإنك لا بد عائش بعدي سنين طويلة تستنزف بها ما في الطبيعة من سرور وكدر، ثم تكون رجلًا عظيمًا بما يظهر لي من مخائل آدابك ودلائل نجابتك وذكائك، ولتُمتَّع بما يستلذه الناس من هذه الحياة الدنيا، أما أنا … ثم وقفت برهةً ورفعت عينيها إلى السماء وقالت: أما أنا فقد عشت وقد كفاني حياةً بعد الذي وجدته فيك من ضالة حياةٌ كنت أنشدها ألا وهي الغرام الذي أموت به صبية ولكنني أموت غير آسفة، علمًا بأني أكون حية في ذاكرتك ما بقيت، ثم أنظر إلى هذه السماء والشاطئ والبحيرة والجبال، وأعلم أنها كانت خير أمكنة حياتي في هذه الدنيا، فأقسم لي أنك لا تزال تذكرها وتذكرني معًا حتى لا أكون في قلبك وتكون مناظرها في عينيك، إلا شيئًا واحدًا وأخيرًا أنك إذا رجعت يومًا فرأيت هذه الطبيعة تذكَّرني بها كأنني لا أزال حية أمامك وعاشقة لك … ثم أمسكت عن الكلام وقد خنقتها العبرة، فبكت وبكيت ساعة لا أذكر منها سوى امتزاج زفراتنا بهدير الأمواج ووقع مدامعنا على صفحة الماء، وعلم الله أني أخط هذه الذكرى وقد مرَّ عليها عشرون سنة وأنا لا أتمالك عن البكا.
أيها الناس، لا يشغلنكم أمر وجداناتكم، ولا تخشون أن يذهب بها الزمان، فإن ذاكرة الإنسان ليس لها اليوم ولا الغد بل الأبد، وعندي أن الذاكرة نوعان: الذاكرة الحسية، وهي التي تذهب بذهاب المحسوس، وذاكرة النفس التي تخلد كخلودها ولا تزول.
ويا أيها العشاق، اطمئنوا فإن الزمان لا قدرة له إلا على ساعاتكم لا على شعائركم.
ولقد حاولت أن أكلمها فلم أستطع، ولكن كانت زفراتي تنطق ودموعي تتكلم عني بأفصح من لساني. ثم نهضنا وعدنا وقد مالت الشمس إلى المغيب فدخلنا المنزل عشاءً، ورافقتها إلى غرفتها فجلست معها إلى نصف الليل، ثم قمت لأفسح لها وقتًا تنام فيه فشيَّعتني إلى الباب، فقلت لها: إلى الغد. وانصرفت حزينًا كئيبًا وأنا أسمعها تقول: هيهات ليس لي غد! ولما كان الفجر نهضت فأيقظتها ورحلنا من غير أن نوقظ أحدًا هربًا من وداع صديق أو دموع مودِّع، وما زلنا نتشاكى النَّوَى ونتذاكر سابق أيامنا وغرامنا حتى بلغنا شامبيري وواديها البهيج، فلم نحب أن نبرحها قبل أن نزور منزل جان جاك روسو، ونذكر أحاديث غرامه وحوادث صباه مع دي وارين وما كان له في ذلك المكان من خطرات الحب ولواعج الصبابة والشباب؛ لأننا لم نكن نعتبر المكان إلا الرجل الذي كان فيه أو المرأة التي نزلته، وإلا فما عسى أن تكون فوكلوز لولا بترارك، ولورات لولا الشاعر ليتاس، وسيسيليا لولا تيوكريت، وشامبيري لولا جان جاك روسو إلا أن تكون كلها:
وعندي أن الرجل لا يحرك الرجل فقط بل يحرك الطبيعة بأسرها إذا وجَّه أفكاره إليها، وأنه إذا وجد الخلود بعد الموت فإنما يترك الخلود أيضًا للمكان الذي كان فيه حتى لا تمَّحى آثاره منه ولا يزول ذكره من كل من وقف عليه.
وقد وجدنا في منزل روسو امرأة عجوزًا تسكنه، فسمحت لنا بأن نقيم فيه ساعة نذكر فيها ذلك الرجل وبدء حياته ومكان اشتهاره، فنزلنا إلى الحديقة التي كان يطارح فيها معشوقته الغرام، ورأيت أن هذه الذكرى قد أثرت في فؤاد غصن البان كما أثرت فيَّ، فجعلت أتبعها حيث تسير حتى وجدتها قد انزوت عني في مكان وغاصت في لُجٍّ من الأفكار عميق، فتبعتها وقلت لها بلهجة اللائم: بماذا تفكرين وحدك دوني، أترينني أفكر بشيء دونك؟! قالت: إنني كنت أشتهي أن أكون لك دي وارين أخرى شهرًا واحدًا ولو تكون نهاية حياتي كنهاية حياتها في الهجر والعار وتكون أنت مثل روسو في العقوق والنميمة.
ثم رفعت عينيها إلى السماء كأنها تناجي صورة تلك المخلوقة التي تغبطها، وقالت: رحمها الله، ما كان أسعدها! فقد قدرت أن تبذل نفسها في سبيل من تهواه. فطوقتها بذراعي وعدت بها إلى المنزل وأنا أقول لها: بالله ما هذا الكفران بالنعمة التي نحن فيها؟! فهل ظهر لك بكلمة من كلماتي أو لحظة من لحظاتي أنني أشكو من نقص سعادتي معك؟! أوَلا ترَيْن في نفسك أنك دي وارين ثانية لي؟ أنا روسو الثاني ولكنك دي وارين صبية عذراء طاهرة نقية عاشقة وأختًا معًا، باذلة نفسك الشريفة الزاهرة بدلًا من النفس الفانية والجمال الزائل الذي بذلته تلك، معطية كل ذلك لأخٍ ضالٍّ مهتدٍ، شابٍّ شارد، فاتحة له عوضًا عن أبواب منزلك وحديقتك أبواب حنوك وغرامك، مطهِّرة له بشعاع جمالك، غاسلة أدران حياته بماء دموعك، ممهدة له سبل الطهارة والمحبة والعفاف بمحاسن كلامك وعظاتك، مظهرة له الدنيا وزخرفها وفضائلها وفخرها وبهاءها في قلب امرأة شريفة جميلة، وهي سعادة لو قُفلت دونه أبوابها في هذه الحياة الدنيا لم يكن يجد مثلها إلا في جنان السماء.
ولم أكد أُتِمُّ كلامي هذا حتى سقطت على كرسيٍّ هناك وقد سترت وجهي بيدي، وبقيت على حالتي تلك ساعة لا أعرف مدتها، إلى أن قالت لي: هلمَّ بنا نعود، فإني أشعر ببرد هنا. فقمت وأعطيت صاحبة البيت ما تيسر وعدنا أدراجنا إلى شامبيري، فقضينا فيها سحابة النهار، ثم سافرت حبيبتي في الغد إلى ليون.
وكان صديقي لويس قد زارني في ذلك اليوم، فعرضت عليه أن يذهب معي فنقضي أيامًا في بيت أبي على طريق ليون فرضي، ونزلنا فاستأجرنا مركبة صغيرة وسرنا في أثر من أهواها، وكنا عند كل مرحلة ننزل من مركبتنا فنسأل عن صحتها، فنجدها حزينة ذابلة كأن بُعدها عن مكان غرامنا قد نزع ما كان فيها من رونق الحياة والشباب، أو كأنها الزهرة تُنقل من منبتها لتُغرس في مكان آخر فتذْبُل في الطريق. وكانت كلما قربنا من الموضع الذي سنفترق فيه تزيد حزنًا وذبولًا، وتظهر آثار ذلك على وجهها بأفصح مما يوحيه كلام أو سطور.
حتى إذا كنا ذات يوم وقد دنونا من ليون دخلت وصاحبي إلى مركبتها، وسألتها أن تغني لنا الصوت الذي غنَّته ونحن في الزورق، فأخذت في الغناء ولكنها لم تبلغ منه إلى ذكر الفراق حتى انقطع صوتها وخنقتها العَبْرة فسترت وجهها بيديها وشَهَقَت بالبكاء، ولم تأتِ على تمام الصوت حتى أُغمي عليها، وكنا قد وصلنا إلى ليون فنقلناها إلى فندق هناك وأقمنا نعالجها حتى تعافت، فرحلنا في اليوم التالي إلى ماكون حيث كان لا بد من الفراق فودَّعناها أمرَّ وداع. وسألت صاحبي أن يذهب فينتظرني في بيت أبي، ووعدته بأني أذهب إليه في الغد، ولكنه لم يكد يغيب عني حتى نسيت الوعد الذي وعدته، ورأيت أنني لا أقدر أن أفارقها وهي في مثل حالها من لوعة الحزن والجَوَى، فعزمت على أن أتبعها إلى باريز من وراء وراء بحيث لا تشعر بلحاقي وأكون رفيقًا لها في سفرها تلافيًا لأمر يحدث لها في الطريق؛ لأنني كنت أتصور أنها رحلت وحدها وأصابها مرض أو إغماء وجعلت تناديني وتستغيث بي، فتضيق بها الدنيا ولا أجد صبرًا على المقام.
فذهبت إلى سائق مركبتها وأعلمته بما عزمت عليه من لحاقها، وسألته أن يخبرني عن المنازل التي يقف فيها والفنادق التي ينزلها؛ لكي أقتفي أثرها ولا تراني، فأجابني إلى كل ما سألت. ثم أركبتها في المركبة وسارت بها وأنا في مركبة على آثارها أنظر إليها سائرة أمامي كما ينظر البخيل إلى ماله يؤخذ منه والسعيد إلى سعادته ترحل عنه، ثم أُطْبِق عيني فأتصور جمالها كأنها واقفة لديَّ حتى أكاد من الوهم أسمع أنفاسها تتردد في صدرها، وأحسب أنها جالسة إلى جانبي في حقيقة لا في خيال، وما أدري الآن كيف كنت صابرًا عن مرآها كل هذه الرحلة الشاسعة، وكيف لم أتقدم إليها وأركع على قدميها عاشقًا عابدًا، وأُظهر لها أنني أتبعها وأنني لا أقدر على فراقها، ثم ليكن ما يكون.
وما زلنا سائرين نطوي البلاد، أرى مركبتها أمامي وهي لا تراني حتى جاوزنا مدينة أفالون وقد غامت السماء وسقط الثلج واشتد البرد، فنظرت أمامي فرأيت مركبتها قد وقفت في وسط ذلك الطريق المقفر ونزل سائقها عن مكانه وجعل يصيح وينادي، فأقبلت مسرعًا وقد استطار فؤادي رعبًا فرأيتها بين يدي خادمتها مغشيًّا عليها من تأثير البرد والتعب، فصعدت إلى المركبة وأسندت رأسها إلى صدري وجعلت أتأمل فيها تأمل العاشق الخائف وأنا إخال أنني أحس الموت والحياة يتنازعان ذلك الجسم الجميل على صدري. وما زلت أنفخ على جبينها ويديها والخادمة تفرك رجليها وأناملها حتى انتشرت الحرارة في أطرافها فتحركت وتنفست نفسًا دلني على قرب إفاقتها فألقيت رأسها على وسادة هناك وخرجت مسرعًا كيلا تراني، حتى وقفت وراء مركبتها فسمعتها تقول بصوت ضعيف: حبذا لو كان روفائيل هنا فقد ظننت أنه هو.
فتركتها ورجعت إلى مركبتي، وسارت بنا الخيل عَدْوًا، وأنا أسال في كل موقف عن حالها فيقال لي إنها قد تعافت، حتى صرنا على مقربة من باريز، وقد بلغنا مكانًا تنفرج فيه الطريق إلى طريقين، وكلتاهما توصلان إليها، فأخذت في الطريق القريبة لأسبقها وأرى وصولها وأتمتع بجمالها وهي داخلة إلى منزلها، فوصلت إلى المدينة قبل الليل، وانطلقت إلى الفندق الذي كنت أنزل فيه فوضعت أمتعتي في إحدى غرفه، وعدت إلى منزل حبيبتي — وقد كنت أعرفه من وصفها لي إياه كأنني قضيت فيه حياتي — فوقفت على جسر تلقاءه، وأقمت أنتظر وصولها وأنظر إلى نوافذ المنزل وأنا أرى الأنوار تتردد من وراء زجاجها كأن من فيه يستعد للقاء ضيف عزيز. ثم أبصرت شبحًا قد أقبل إلى إحدى النوافذ وأطل ينظر إلى الطريق، فعرفت أنه زوجها أو أبوها ينتظر وصولها كما أنتظره أنا، وشتان ما القلبان في هذا الانتظار!
وبعد أن مضى على وقوفي ساعة وقد خيم الظلام رأيت مركبة قد أقبلت حتى وقفت أمام المنزل، فأسرعت وكمنت بحيث أرى من فيها فرأيتها قد نزلت على أيدي الخدم، وأقبل الشيخ يعانقها كما يعانق الوالد ولده بعد غياب طول، ثم صعدت السلم وتبعها أهل منزلها ومضت المركبة في طريقها وبقيت وحدي، فعدت إلى مكاني من الجسر ووقفت أنظر إلى النوافذ وأنا أرى الخدم يجولون من ورائها مدة طويلة، ثم انطفأت أنوارهم وسكن المنزل بمن فيه، ولم أعد أرى منه إلا نافذة منارة بنور ضعيف، وبعد قليل رأيت خيالها يرسم على زجاج النافذة كأنه غصن البان في طوله واعتداله، ثم أقبلت ففتحته ونظرت إلى النهر مدة، واستقر نظرها فيَّ حيث كنت كأنه انجذب بمغناطيس الغرام من غير أن تدري، ثم التفتت فنظرت إلى نجم في الشمال كنا نراه معًا ونتواعد على أن تلتقي أبصارنا وأفكارنا فيه إذا افترقنا، وما أشبه هذا المعنى بما قاله الشاعر العربي:
فشعرت أن نظرتها تلك جذوة نار نزلت في صدري، وحرك ما بي من لواعج الغرام اتفاق أفكارنا وأميالنا ونظراتنا، ووجدت أنني قد زدت بها هيامًا حين رأيتها تنظر إلى ذلك النجم كأنها تقول لي إنها تفكر بي وتوافيني إلى ذلك الموعد الوهمي، فهممت بأن أثب إليها وأركع تحت نافذتها وأناديها باسمها وأُعْلمها بوقوفي أمامها ولكنها قَفَلت النافذة وعادت وانطفأ النور على أثرها. وكان نصف الليل قد قرب فدنوت من الباب فقبَّلته قبلة خاشع عابد كمن يقبِّل باب هيكل مقدس، ثم ركعت على عتبته وجعلت أسأل تلك الحجارة والأخشاب والرخام القائم منها المنزل أن تحفظ لي تلك الوديعة الثمينة التي أودعت معها فؤادي وحياتي.
لقد تبعتك وكنت حارسًا عليك كل الطريق من غير أن تعرفي، ولم أقدر أن أتركك إلا بعد أن رأيتك بين أيدي من يحبونك ويحرصون عليك، ثم لما فتحت النافذة أمس عند منتصف الليل ونظرت إلى النجم كنت واقفًا تجاهك أتأملك وأنظر إليك، ولقد كدت أتقدم وأُسْمعك صوتي لو لم تسرعي بقفل النافذة، أما الآن فأنتِ تقرئين هذا الأسطر وأنا قد برحت باريز وأصبحت بعيدًا عنها وعنك.
وكنت أسير الليل والنهار وأنا في حالة من الارتباك والاضطراب لا أقوى على وصفها جعلتني لا أشعر ببرد ولا جوع ولا تعب حتى وصلت إلى قرية «م»، لا أذكر شيئًا مما مرَّ عليَّ، ولا أكاد أتذكر أنني رحلت إلى باريز إلا كمن يتذكر حلمًا أو كمن هبَّ مُنْتَاشًا من لُجٍّ عميق، فوجدت صديقي لويس ينتظرني في البيت الصغير الذي كان مصيف أبي كما تقدم لي منه الوعد، وشعرت من وجوده معي بتعزية وسلوى عن بعض مصابي؛ لأنني كنت أقدر أن أحدثه عمن أحب، وكان يقدر أن يساعدني على ترديد اسمها وذكراها، فأخذنا ننام في غرفة واحدة، ونقطع أكثر ليالينا بحديثها والكلام عنها حتى خلت أنه لا يقل عني حبًّا لها وإعجابًا بمحاسنها وآدابها، ووجدت أنه كان يعتبرها أشبه بمثال الوهم وطيف الخيال، ويرى أنها امرأة فوق طبائع النساء وأعظم مدارك ومقامًا من سائر طبقات الناس؛ أي شاعرة عاشقة فاضلة أبدعها الله صورة كاملة تجوز الأرض طائرة لا تمسها بقدميها، ولا تقف على مكان منها إلا ريثما تدهش الأبصار وتجتذب القلوب وتميل بالنفوس إلى التأمل الدائم والتفكير المستمر والنظر المستطيل، وتكون آخر ما يبلغ إليه مدى التصور ونهاية ما يقف عنده مدى الأفهام والأوهام.
كل ذلك وهو لم يكن يجسر أن يرفع درجة غرامه بمحبوبتي إلى أكثر من درجة إعجابه بها؛ لأن فؤاده كان قد تعلَّق صغيرًا بهوى فتاة يتيمة من عشيرته، وكان جل ما يصبو إليه من دنياه أن يقترن بها ويعيش وإياها في عزلة وانفراد، وكان يمنعه من ذلك ما هما عليه من فقر كانا يخشيان أن يحط من شأن بيتيهما ويكون عارًا وذلًّا على بنيهما حتى عاجلت الفتاة المنيَّة فقصفتها غصنًا رطيبًا في شرخ صباها على أثر همومها وافتقارها وهي أجمل زهرة رأيتها تذبل وتجف؛ لامتناع بعض أنوار السعادة عنها، وكانت قبل وفاتها قد أثر بها البكاء والسهر من سوء حالها، فذهب بصرها وأصبحت تدور كفيفة تقودها إحدى أخواتها. وأذكر أني قابلتها مرة على تلك الحال، فلما سمعت صوتي اصفرَّ لونها اصفرارًا شديدًا، وقالت وهي تبكي: لا تؤاخذني إذا بكيت لديك، فقد اعتادت أذني أن تسمع صوتًا آخر معك. تريد به صوت حبيبها. وقد شقي كل منهما بصاحبه بين الموت والحياة.
ولقد قضيت شهرين بعيدًا عمن كنت أحب خلتهما عامين؛ من ضجري ومرارة صبري. ثم نفد ما معي من المال الذي كان يجريه أبي راتبًا عليَّ، قبل أوانه، وأصبحت مضطرًّا لانتظار الراتب الجديد؛ لأعود به إلى باريز وأقيم فيها بقرب من أهواه ولو قضيت أيامي هناك بالإمساك والصوم، وكنت أرجو أن أحصل بعد أيام على مقدار من المال من راتب أبي وهدايا أمي وإمداد بعض ذوي قرباي، أستعين به على رحلتي والإقامة في الجوار الذي كنت لا أتمنى سواه ولو أُعطيت ملك الدنيا جميعًا، فجعلت أقطع أيامي بتذكارها والاشتغال بهواها اشتغالًا كان بيني وبينها على السواء؛ إذ كنا نصرف أَصْباح أيامنا في أن يكتب كل منا لصاحبه، فلا يَرِدُني كتاب منها حتى يَرِدَها مثل ذلك مني مع كل بريد، وفي كل يوم، بحيث كانت كتبنا وأفكارنا تختلف بيننا مستمرة.
ولم تكن بيننا على ذلك فرقة وابتعاد إلا بعض ساعات من النهار حين لا أكتب لها ولا تكتب لي، إلا أنني لا أسمي ذلك ابتعادًا ولا فراقًا؛ لأنني كنت لا أستريح من الكتابة إليها إلا للتفكير بها ولا من التفكير بها إلا لقراءة رسائلها ولا من قراءة رسائلها إلا للتأمل في معانيها، فكنت أنشرها على مكتبتي في النهار وأنثرها على سريري في الليل، وأحفظها عن ظهر قلبي في ساعات الفراغ وأنا أكرر منها كل معنى لطيف وأترنم بكل عبارة غرامية صادقة، وأنا أمثل في ذلك صوت صاحبتها ولهجة إلقائها وحركة أعضائها، ثم أجيب نفسي بما كنت أحب أن أجيبها به لو كانت لديَّ.
وتمادى بي الأمر وأفرط بي هذا الجنون الذي يسمونه الغرام إلى أن صرت أحتسب الخيال حقيقة، ومناجاة الضمير سماعًا وعيانًا، وأسخط على كل من يقطعني عن تلك الحال من زائر يزورني أو غلام فندق يدعوني للطعام، كأن كل داخل عليَّ يبعدني عنها أو يطردها من أمامي.
وكنت أخرج غالبًا إلى النزهة في المروج الخضراء والغابات الكثيفة وشطوط الأنهار المزبدة ومعي من رسائلها قراءة أيام، فأجلس على بعض الصخور وأعيد تلاوتها كأنني لم أقرأها من قبل أو كأنها بناءٌ مزخرف كلما دخلت إليه مرة وجدت فيه شيئًا جديدًا. وكانت الوجهة التي أقصدها في نزهتي وجهة باريز اعتقادًا مني أن كل خطوة فيها كانت تقربني إليها، فأبعد في سيري ولا أدري حتى أمسي وقد قطعت أرضًا بعيدة، فأعود على أعقابي كارهًا وأنا أقدم رجلًا وأؤخر أخرى، وأحسد كل ما يمر بي من الطير لو يكون لي جناحاه أطير بهما إليها، ولسان حالي ينشد:
وكان أطرب صوت في مسمعي وقع أقدام الموزِّع أمام حجرتي حين يأتيني برسائلها، حتى إذا أطلَّ عليَّ ورأيت كتابها في يده أشعر أن الأرض قد دارت بي، وأن سحابة قد غشيت عيني فأتناوله منه بيد راجفة وقلب خافق، ثم أختلي في حجرتي وأوصد بابها كأنني أخشى أن يفاجئني أحد ينزع ذلك الكتاب مني أو يكدر تلك الخلوة عليَّ، فلا أفرغ من قراءة الرسالة إلا وقد محوت أسطرها بدموعي، وأثَّرت كتابتها في شفتي، ثم أجلس بعد أن يسكن روعي وآخذ في الإجابة عليها ساعات تنخطف بها نفسي إلى عالم الخيال، وأحسب فيها أنني أخاطبها بلسان لا بقلم، فأنسى الدنيا جميعًا وأذهل عن لوعة الفراق، ثم أنظر في رسائلي فأجدها مضطربة مرتبكة لا مطلع لها ولا ختام ولا مخلص، ولا نحو فيها ولا صرف ولا بيان، ولا ما يسمى بالترسل وحسن الإنشاء؛ وذلك لأنني كنت أضع فيها شعائر قلبي مجردة عن كل صنعة، وأعرض فيها خواطر لبي عاريةً عن كل كلفة إلى خواطر لب مثلها لا تكلف بينها ولا تجمل، ولأنني كنت أجد لغة الناس لم يخلق بيانها وفصاحة إنشائها إلا لمخاطبات اللسان، وأنها بكل بلاغتها وإبداعها عاجزة عن بيان خفقة قلب من مُغْرم وعلامات غير كاملة الدلالة على ما يخامر فؤاد المحب الولهان، بل كنت أشعر أن كل عبارة من فصاحتها تذوب على قلبي كما يذوب الثلج على حرارة النار، فأعدِل عنها إلى لغة غرامي وألفاظ صبابتي التي لا يدركها إنسان سواها ولا يكتبها كاتب سواي. ثم كنت أتصور أنه لو انبسط هذا الفلك قرطاسًا لديَّ، وجرى ذلك البحر مدادًا على قلمي، وصار إليَّ أمر الله أن أملأه غرامًا وشرح وداد ووصف هيام؛ لما وسع بعضًا مما كنت أشعر به وأتصور مقداره في نفسي، فكنت أملأُ صفحاتي سطورًا لا يقف القلم إلا في آخرها وأنا أحسب أنني لم أقل شيئًا مما أحب أن أقول، وما عساني أبلغ المستحيل وأحصر ما لا نهاية له بين صفحتَي كتاب.
وعلى ذلك لم تكن رسائلي بنات أفكار يُفتخر بها، بل بنات قلوب يحنُّ إليها الفؤاد، ويحسن وقعها في القلوب لا في الآذان، وكنت أحاول فيها أن أصور شعائر قلبي كما هي فيخونني ضيق اللغة، وقلة ألفاظها، وقصر تراكيبها عن الغاية التي يبلغ إليها الفكر، فأصبح وإياها في نزاع شديد كأنني أحاول غصب المعاني منها فلا تعطي مقادًا، ولا يتسع بها لفظ يمثل أنَّات قلبي وما أنا فيه من حالة الوجد والهيام، فأتضايق منها وأشُدُّ على القلم في يدي حتى ينكسر رأسه على القرطاس، فيخرج من كسره الصوت الذي يشبه أنَّة القلب، وكنت أرجوه في مداده لا في انكساره كضارب الآلة لا يزال يشد وترها يبتغي منه النغم العالي حتى ينقطع في يده، فلا يخرج منه ذلك النغم إلا بانقطاعه، ثم أنهض بعد فراغي من الكتابة وأنا أتصبب عرقًا كمن يخرج من قتال عنيف، وقد تركت على صفحات تلك الرسائل آثار دموع ذرفتُها هي أفصح لغة وأبلغ بيانًا من كل ما كتبت.
أما رسائلها إليَّ فكانت أَطْلى من رسائلي كلامًا وأسمى عبارة، أو كنت أحسبها كذلك؛ إذ كنت إخال منها أنها أقدر مني على بيان الشعائر وجلاء الوجدانات، حتى كنت إخال عند قراءة كتبها أنها ماثلة لديَّ وأنني أرى خيال جمالها وأسمع رنَّة صوتها من خلال السطور؛ لأنها لم تكن تستعمل التراكيب الفصحى، ولا تنتقي الألفاظ انتقاءً كما تفعل الكتاب، بل كان كلامها سهلًا مرسلًا لا يمكن أن يأتي به إلا أمثالها من النساء.
وماذا عساني أصف ما كان فيها من حدة المطالع، ورشاقة الألفاظ، ورقة المعاني، وانسجام العبارات، وامتزاج الشوق بالحنو، واتحاد الحب بالنصح كما يمتزج الماء والنار في الحجر الكريم ويتحد السرور والحياء على جبين العاشقة العذراء؟