دمياط في عصر الأسرة المحمدية العلوية
(١) في عصر محمد علي الكبير
وفي السنين الأولى من عصر محمد علي الكبير حافظت دمياط على مكانتها؛ فقد كانت ثاني مدينة في القطر بعد العاصمة «القاهرة» كما كانت ميناء مصر الأول، عنها تصدر، وإليها ترد معظم التجارة الخارجية، وكان يقوم بها كثير من الخانات والوكائل.
وقد عُني بها محمد علي في أوائل عهده عنايةً خاصة، ذكر الجبرتي في حوادث سنة ١٢٣١ / ١٨١٦ أن أحد أبناء البلاد، واسمه حسين شلبي عجوة، اخترع آلة لضرب الأرز وتبييضه، وقدَّم نموذجًا لها إلى محمد علي، فأُعجِب بها وأنعم على مخترعها، وأمره بتركيب مثل هذه الآلة بدمياط وأخرى برشيد، ويقول الجبرتي: «إن الباشا لما رأى هذه النكتة من حسين شلبي هذا، قال: إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف.» وأمر في الحال بإنشاء مدرسة للهندسة في القلعة لتعليم المصريين العلوم الهندسية، وهي أول مدرسة للهندسة أنشئت في عصر محمد علي، ثم تلتها مدارسُ أخر.
وفي عهد محمد علي أيضًا أُنشئت مدرسة للمشاة في دمياط، وكانت مهمتها إعداد الضباط لسلاح المشاة، وكانت تضم ٤٠٠ طالب، كما أنشئ بها مصنع للغزل يشبه المصانع الآلية الكثيرة التي أنشئت في مدن القطر المختلفة وقتذاك، وفي عهده (١٢٣٣–١٨١٨) جعلت دمياط محافظة.
غير أن محمد علي اتجه في إصلاحاته كلها إلى النقل عن أوروبا، سواء أكان ذلك في التعليم أو الصناعة أو الجيش والبحرية … إلخ، ولما كانت الإسكندرية أقرب الموانئ المصرية إلى أوروبا فقد حباها بعطفه، وبنى فيها القصور لإقامته، واتخذها مقرًّا لدار صناعة السفن، وحفر ترعة المحمودية. ومنذ تم حفر هذه الترعة استعادت الإسكندرية مكانتها القديمة — كميناء مصر الأول — وساعد على هذا أن البخار استُخدم في ذلك الوقت لتسيير السفن، وحلَّت السفن البخارية الكبيرة الحجم محل السفن الشراعية، وميناء دمياط ميناء رملي كثير الرواسب لا تستطيع السفن الكبيرة الدخول إليه والرسو بشاطئه.
(٢) في عهد عباس باشا الأول
بدأت دمياط إذن تَفْقد مكانتها كميناء مصر الأول، وغدت الميناء الثاني بعد الإسكندرية، ولكنها لم تفقد أهميتها الحربية كثغر من ثغور مصر المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط؛ ولهذا عُني بها عباس باشا الأول العناية كلها، فأنشأ بها طريقًا عسكريًّا يمتد من المدينة إلى البوغاز، وأنشأ عباس الأول بدمياط أيضًا قشلاقًا كبيرًا على شاطئ النيل، ومجموعة من مخازن البارود والمهمات العسكرية، كما أنشأ بها مبنًى للحجر الصحي ومحلًّا للجمرك جنوبي هذه القلعة على شاطئ النيل.
(٣) في عصر إسماعيل باشا
وكان عصر إسماعيل العظيم عصر إصلاح مدني، وقد نالت دمياط حظَّها من هذا الإصلاح، فوصلت السكة الحديدية والتلغراف إلى بر المدينة الغربي (السنانية) وبالقرب من محطة السكة الحديد أنشئت في عصر إسماعيل ثكنات جديدة للجند، وإلى جانبها أقيم مستشفًى عسكريٌّ يسع خمسمائة سرير، وأُوصلت أسلاك البرق إلى قلاع البوغاز جميعًا، وخاصة قلعة عزبة البرج، وأجريت إصلاحات كثيرة بهذه القلعة، وعُمر جامعها القديم والمنزل القائم وسط مبانيها، وأنشئت إلى جانب الأبراج القديمة قلاعٌ حصينة جديدة، وزُوِّدت هذه القلاع جميعًا بالمدافع العظيمة ذات العيار الكبير والمرمى البعيد، وقد وَضع تصميمات هذه القلاع أمير اللواء محمد باشا المرعشلي باشمهندس عموم الاستحكامات وقتئذٍ.
وفي عهد إسماعيل أيضًا أنشئ عددٌ من الفنارات على طول الشاطئ الشمالي لمصر، ومن بينها فنار دمياط، ويمتاز على غيره من هذه الفنارات بأن نوره يظهر ويختفي، ويدور دورةً كاملة مدتها دقيقةٌ واحدة.
وفي أواخر سنة ١٢٥٩ / ١٨٤٣ — في عصر إسماعيل — أنشئ مجلس بلدي دمياط.
(٤) في عهد توفيق باشا
وفي أبريل سنة ١٨٨٠ زار الخديو توفيق باشا دمياط، وبعد هذه الزيارة بقليل قامت الثورة العرابية، وفي إبَّانها سافر آلاي عبد العال حلمي — أحد أبطال الثورة — إلى دمياط في أكتوبر سنة ١٨٨١ للإشراف على حمايتها وتحصينها، وقد استقر هذا الآلاى في ثكنات المدينة.
ولما دخل الإنجليز الإسكندرية وانتصروا في وقعة التل الكبير، ضعفت الهمم، وبدا أن المقاومة لم تعُدْ مجدية، ولكن البطل عبد العال حلمي قائد دمياط أبَى التسليم في أول الأمر، وحاول أن يقنع الجند والأهلين أن عرابي لا يزال يقاوم، ودعاهم للقتال، ولكن أخبار تسليم طابية الجميل وصلت إلى دمياط؛ فضعفت العزائم، وأرسل الجنرال «وود» فرقة من جيشه إلى دمياط، وأرسل قائدها — وهو في السنانية — إلى عبد العال حلمي يطلب إليه التسليم، فرفض أيضًا، فعبر الإنجليز النيل إلى دمياط ودخلوا الثكنات وقبضوا على عبد العال، وأرسلوه إلى القاهرة حيث حوكم مع زعماء الثورة، وحكم عليه بالنفي، فنُفي إلى «كولمبو» ميناء سيلان، وبها تُوفي ودُفن في ١٩ مارس سنة ١٨٩١. أما آلاي دمياط فقد سرَّح الإنجليز جنوده، وأمروهم بالعودة إلى بلادهم، ثم خربوا ثكنات السنانية ودمياط وهدموها جميعًا بعد أن جرَّدوها من سلاحها تجريدًا تامًّا وأتلفوا مدافعها.