التاريخ الصناعي
وقد اشتهرت دمياط في كل العصور بأنها كانت مدينةً صناعيةً هامة، وامتازت خاصة بصناعة النسيج. والنصوص التي وصلتنا عن ازدهار هذه الصناعة في دمياط وما جاورها ترجع في معظمها إلى العصر العربي، غير أننا نستطيع أن نقول واثقين: إن دمياط ومنطقتها اشتهرت بصناعة النسيج منذ عهد الفراعنة، وإن هذه الصناعة كانت قائمة بها في العصرين اليوناني والروماني، وما ازدهارها في العصر العربي إلا استمرار وتقدم لما كانت عليه في العصور السابقة، ودليلنا في هذا أن منطقة دمياط من أصلح المناطق لقيام صناعة النسيج؛ فهذه الصناعة تحتاج إلى جوٍّ معتدل وافر الرطوبة، وهي غالبًا تقوم في المدن المجاورة للمجاري المائية، لحاجة هذه الصناعة للماء، ولأن هذه المجاري المائية تكون عادة وسيلةً سهلة ورخيصة لنقل منتجات مصانع النسيج إلى مختلف الأسواق. وهذه الشروط جميعًا كانت تتوافر في دمياط والمنطقة المحيطة بها منذ أقدم العصور.
ويؤكد رأينا أيضًا أن معظم المؤرخين العرب يشيرون إلى أن القائمين بهذه الصناعة في دمياط والمدن المحيطة بها في العصر العربي الأول كانوا في معظمهم من الأقباط سكان البلاد الأصليين، فهم كانوا أصحاب هذه الصناعة المهرة فيها، ثم ظلوا القائمين عليها بعد الفتح العربي بقرون.
وقد ساعد على قيام صناعة المنسوجات في منطقة دمياط قُربُ المادة الخام ووفرتها — وهي الكتان — فقد كانت منسوجات هذه المنطقة كلها من الكتان، إلا أن يدخل في نسجها خيوط من الحرير أو الذهب أو الصوف. والكتان كان يُزرَع بوفرة — في تلك العصور — في أراضي شرق الدلتا أو الفيوم.
ونمت هذه الصناعة وازدهرت ازدهارًا عظيمًا في العصر العربي في مدينة دمياط والمدن المحيطة بها في بحيرة المنزلة وحولها، وخاصة: شطا وتنيس ودبيق وتونة وبورة ودميرة، وكانت كل مدينة من هذه المدن تختص بإنتاج نوع بعينه من المنسوجات، فدمياط تنتج المنسوجات البيضاء وحدها، وتنيس تنتج المنسوجات الملوَّنة بألوانها المختلفة، ودبيق امتازت بالمنسوجات الصفيقة المتينة … وهكذا.
ولهذا نسب كل نوع من هذه الأقمشة إلى المدينة التي تنتجه وشهر بها؛ فنسمع في كتب المؤرخين عن: القماش الدبيقي والدمياطي، والثياب الشطوية … إلخ، وإن لم يمنع هذا من أن بعض هذه المدن كانت تصنع الثياب المشهورة بصنعها البعض الآخر.
هذه الحقائق كلها يردِّدها المؤرخون والرحَّالة من العرب وغير العرب منذ القرن الثاني للهجرة، فابن حوقل — وهو من جغرافيي القرن الرابع — يقول: «تنيس ودمياط … وبهما يتخذ رفيع الدبيقي والشرب والمصبغات من الحلل السنية التي ليس في جميع الأرض ما يدانيها في الحسن والقيمة … وضياعها شطا ودبق ودميرة وتونة وما قاربها من تلك الجزائر، يعمل بها الرفيع من هذه الأجناس.» ثم نصَّ على أن نسج تنيس ودمياط كان يفوق نسيج هذه المدن والقرى جميعًا، فقال: «وليس ذلك بمقارب للتنيسي والدمياطي.»
ووصف المقدسي — وهو من جغرافيي نفس القرن — تنیس وصفًا جميلًا يدل على عظم مكانتها في ذلك العصر، قال: «تنيس … مدينة وأي مدينة، هي بغداد الصغرى، وجبل الذهب، ومتجر الشرق والغرب، أسواقٌ ظريفة، وأسماكٌ رخيصة، وبلدٌ مقصود، ونعمٌ ظاهرة، وساحلٌ نزيه، وجامعٌ نفيس، وقصورٌ شاهقة، ومدينةٌ مفيدةٌ رفقة، إلا أنها في جزيرة ضيقة، والبحر عليها كحلقةٍ ملولةٍ قذرة، والماء في صهاريج مغلقة، أكثر أهلها قبط … وبها يعمل الثياب والأردية الملونة.» وترك المقدسي تنيس إلى دمياط، فرآها تفضل أختها في كثير، فقال مقارنًا: «دمياط … تسير في هذه البحيرة (بحيرة تنيس) يومًا وليلة إلى مدينة أخرى، هي أطيب وأرحب، وأوسع وأفسح وأحزب، وأكثر فواكه، وأحسن بناء، وأوسع ماء، وأحذق صناعًا، وأرفع بزًّا، وأنظف عملًا، وأجود حماماتٍ وأوثق جداراتٍ، وأقلُّ أذايات من تنيس، عليها حصن من الحجارة، كثيرة الأبواب.»
ولسنا نعرف بالتحديد عدد مصانع النسيج في دمياط في القرون العربية الأولى، ولكن المسعودي ذكر أن تنيس كان بها نحو خمسة آلاف منسج، فإذا تذكرنا قول المقدسي إن دمياط كانت أوسع من تنیس وأفسح، وأحذق صناعًا وأرفع بزًّا، استطعنا أن نقول إن دمياط كان بها في نفس الوقت نحو ستة آلاف منسج على أقل تقدير.
وكانت هذه المصانع تُنتِج الأقمشة الشعبية، كما كانت تُنتِج الطُّرُز الملوكية مما يلبسه الولاة وأُسراتهم، ومما يخلعه هؤلاء الولاة على الأمراء ورجال الدولة، أو مما يُهدَى إلى الخليفة والسفراء والملوك.
واختصت دمياط والمدن المحيطة بها منذ أوائل العصر العربي بنسيج كسوة الكعبة، ومع أن مصر كانت ولاية تابعة للخلافة العباسية، فإن الخلفاء العباسيين كانوا يأمرون بصناعة الكسوة التي يرسلونها إلى الكعبة في مصانع دمياط ومُدنها. ولم تكن مدينة من هذه المدن تستأثر وحدها بصناعة الكسوة، بل كانت جميعًا تتبادل هذا الشرف؛ فهي مرةً تُنسَج في شطا، ومرة أخرى في تنيس أو تونة أو دمياط … إلخ.
وكانت دمياط — كما ذكرنا — تَنسِج المنسوجات البيضاء وحدها، كما كانت تنيس تصنع المنسوجات الملوَّنة، وكان ينسج في دمياط وتنيس نوع من الثياب الدقيقة الرقيقة يسمى البدنة، يباع الثوب منه — إذا نُسج من الكتان وحده — بمائة دينار، وإذا نُسج من الكتان والذهب بمائتي دينار، ويقول ابن زولاق: «ويبلغ الثوب الأبيض بدمياط وليس فيه ذهب ثلاثمائة دينار.»
ويبدو أن دبيق كانت تمتاز علی رصيفتيها دمياط وتنيس في أول العصر العربي بجودة نسيجها ومتانته؛ ولهذا أطلق العراقيون في ذلك العصر على إحدى قرى بغداد «دبقية»، وكانوا يبيعون منسوجاتها على أنها دبيقية لتروج في السوق رواج منسوجات دبيق المصرية المشهورة بالجودة والمتانة.
روينا أن المسعودي ذكر أن تنیس كان بها خمسة آلاف منسج، وقدَّرنا نحن أن مناسج دمياط كانت تزيد على هذا العدد، فإذا أضفنا إلى هذه وتلك مناسج المدن المجاورة المحيطة بدمياط كتنيس ودبيق وبورة وتونة ودميرة؛ استطعنا أن نعرف أن إنتاج هذه المنطقة من المنسوجات في ذلك العصر كان إنتاجًا ضخمًا يغطِّي حاجة السكان ويفيض منه قدرٌ كبير يُصدَّر إلى الخارج. ولسنا نقول هذا استنتاجًا وإنما يؤيدنا فيه أقوال المؤرخين، وكانت أكبر كمية من هذه المنسوجات تُصدَّر إلى العراق مقرِّ الخلافة العباسية، وبلغت منسوجات دمياط شهرةً عظيمة في بلاد فارس حتى إن أكبر مدينة فارسية لصناعة النسيج — وهي كازرون — كانت تُسمى «دمياط الأعاجم» وكانت منسوجات دمياط وما حولها تُصدَّر أيضًا إلى جدة، وقد تُحمَل منها إلى الشرق الأقصى، فالمقدسي يروي أن الضريبة التي كانت تؤخذ بثغر جدة «على سفط ثياب الشطوي ثلاثة دنانير، ومن سفط الدبيقي ديناران.»
وكانت مصانع النسيج في المدن المصرية في العصر العربي تسمى: «دار الطراز»، وكان في كل مدينة من هذه المدن نوعان من هذه الدور؛ دار طراز الخاصة، ودار طراز العامة، والراجح أن النوع الأول — وهو دار طراز الخاصة — كان يُنتِج المنسوجات التي تُصنَع منها كسوة الكعبة أو ملابس الخلفاء والوزراء والولاة ونسائهم أو الخلع التي يخلعها هؤلاء جميعًا على القُوَّاد والعلماء وكبار رجال الدولة، أما النوع الثاني — وهو دار طراز العامة — فكان ينتج المنسوجات التي تُباع للشعب أو تُصدَّر للخارج.
وكانت هذه الدور جميعًا ملكًا للحكومة تُشرف عليها، وتُعيِّن موظفيها، وتؤجِّر عمالها، كما كان يقوم إلى جانب هذه الدور مناسجُ أهلية يعمل فيها الأهلون لحسابهم — النساء يقُمن بالغزل والرجال يقومون بالنسيج، ولكن الحكومة كانت تُشرِف أيضًا على هذه المصانع الأهلية، فكانت تمد النساجين بالمواد الخام، فلا يستعملون منها إلا ما كان عليه خاتم السلطان، أما مصنوعاتهم فما كانوا يستطيعون بيعها إلا عن طريق موظف الحكومة المعيَّن لذلك. أما الأقمشة المعدَّة للتصدير فكانت تخضع لنظامٍ حكومي دقيق، كل ذلك للمحافظة على القيمة الصناعية للمنتجات وعلى المستوى الرفيع الذي اكتسبته وامتازت به منسوجات هذه المنطقة.
وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان أن هذه المصانع الأهلية في دمياط كانت تقوم قبلي المدينة على الخليج الذي كان يمر عبر المدينة ويصب في بحيرة تنيس، کما ذكر أن هذه المصانع كانت تسمى «بالمعامل». قال: «ومن ظريف أمر دمياط أنه في قِبليِّها على الخليج مستعمل فيه غرف تعرف بالمعامل يستأجرها الحاكة لعمل الثياب الشرب، فلا تكاد تنجب إلا بها، فإن عمل بها ثوب وبقي منه شبر، ونُقل إلى غير هذه المعامل، علم بذلك السمسار المبتاع للثوب فينقص من ثمنه لاختلاف جوهر الثوب عليه.»
وعندما استقل الفاطميون بمصر عُنوا عنايةً خاصة بصناعة النسيج وبدور الطراز، فقد امتازت الحياة في عصرهم بالبذخ والترف، وسنَّ خلفاؤهم تقاليد خاصة للاحتفال بالمواسم والأعياد، وكانوا يسبغون في هذه المناسبات الهدايا والخلع من منسوجات دمياط وتنيس ودبيق على وزرائهم وكبار رجال دولتهم.
وظل الحال على هذا في العصر الأيوبي وإن كانت الحروب الصليبية التي توالت على دمياط قد أثرت في نشاط هذه الصناعة. وفي نهاية هذه الدولة هُدمت دمياط؛ فهدمت بتهديمها مصانع النسيج بطبيعة الحال.
ولكن الموقع الجغرافي كما ذكرنا يساعد على قيام هذه الصناعة في هذه البقعة؛ ولهذا لم تلبث أن قامت صناعة النسيج ثانية في دمياط الجديدة، ولكنها لم تستطع أن تستعيد سابق مجدها، أما تنيس فقد هُدمت بمصانعها ومبانيها في عهد الملك الكامل محمد الأيوبي.
وظلَّت دمياط تشتهر أيضًا بصناعة النسيج طول العصرين المملوكي والعثماني، وهذا يفسر لِم أنشأ محمد علي بها مصنعًا آليًّا جديدًا لصناعة الغزل. ومصانع النسيج الأهلية المتناثرة في دمياط حتى اليوم هي الأثر الباقي لمجد هذه الصناعة والمنحدر مع المدينة من أقدم العصور، ولكن يبدو أن دمياط في هذه العصور المتأخرة اتجهت إلى نسج الحرير، وخاصة بعد انتشاره من الصين في أنحاء العالم، وبعد أن كثر إنتاجه بالشام ذات الصلات التجارية الدائمة مع دمياط. وقد انتهى الأمر كما نرى اليوم إلى قيام مصانع بنك مصر الجديدة التابعة لشركة مصر لنسج الحرير.
وقد كانت تقوم في دمياط في العصور القديمة صناعاتٌ أخرى غير النسيج أهمها عصر السمسم وصناعة الأكياب، وصيد الأسماك والطيور، هذا عدا الصناعات المنزلية المختلفة كالنجارة والحدادة والصناعات الجلدية … إلخ.
وقد اتجه سكان دمياط أخيرًا — بعد القضاء على تجارة المدينة الخارجية — إلى العناية بهذه الصناعات حتى عمَّموها وأتقنوها وبزُّوا فيها الصنَّاع الأوروبيين، فغدت دمياط أهم مدن القطر جميعًا في إنتاج الأثاث والأحذية والجبن، وكان لوفرة إنتاجها في هذه الصناعات جميعًا أثر كبير في إنقاص كميات الوارد منها إلى المملكة المصرية، بل إن مصر تصدر الآن كمياتٍ كبيرة مما تنتجه دمياط من هذه السلع إلى الخارج.
وإن ننسى لا ننسى أخيرًا صناعة ضرب الأرز، فهي صناعةٌ قديمة بدمياط، وقد ساعد على وجودها صلاحية الأراضي المجاورة للمدينة لإنتاج هذا النبات، وقد كان الأرز دائمًا من أهم صادرات دمياط إلى الخارج.
•••
وبعد فهذه صورةٌ سريعة لتاريخ دمياط من أقدم العصور حتى الآن — سياسيًّا واقتصاديًّا، أرجو أن أكون قد وُفقتُ في تقديمها وإيضاحها، كما أرجو أن يوفِّقني الله سبحانه وتعالى إلى استكمال ألوانها وإبرازها للناس أتمَّ وأوفى وأوضح مما هي عليه هنا في فرصةٍ قريبة إن شاء الله.