الرجل صوت والمرأة صدى
بعد الساعة الحادية عشرة مساءً، كان جمهور من الناس يخرجون من ملعب الهبودروم المشهور في نيويورك، وكان بينهم سيدة تمتاز على غيرها من السيدات بنفاسة ثوبها وحلاها وأبهة مظهرها؛ حتى كان الرائي يخالها ملكة خارجة من قصرها والقوم كلهم حشمها. لم تكن لتقل عن الأربعين عمرًا، ولكنها كانت تتراءَى في الخامسة والعشرين؛ لأن صبا بنت النعماء طويل.
وكان يمشي إلى جانبها شاب لا يكاد يبلغ الثلاثين من العمر، طويل الطلعة، باهي المحيا، ربع القامة، أنيق الملبس. مشيا إلى أن وصلا إلى أتوموبيل ينتظر، فتوقفت السيدة، وقالت: لا أشعر أني ميالة إلى العودة إلى منزلي الآن، فهل تريد يا مستر هوكر أن تتناول معي كأس شاي في مطعم الهيبودروم؟
قال: وهل أستطيع أن أرفض هذا منك يا مس كروس؟
فابتسمت، وقالت: نعم، تستطيع إذا كنت تخاف غضب زوجتك.
قال: إذا كنت تحسبين ذهابي معك جريمة؛ فلا بد أن أخاف غضب زوجتي.
فتوردت وجنتاها خجلًا، وقالت: لست أعني ما فهمت، ولكن الغيرة طبع في البشر، ولا سيما النساء؛ فإذا كنت تعهد أن زوجتك ليست غيورة عليك ولا تستاء من تأخرك، فأود أن تتناول معي كأس شاي.
– قلت لك يا مس كروس: إنَّ هذا اللطف العظيم ليس لمثلي أن يرفضه في حال من الأحوال.
فالتفتت إلى الحوذي، وقالت: جونستن، أنا في ذلك المطعم المقابل لنا.
وعند ذلك تقدَّمَتْ ومستر هوكر يأخذ بيدها إلى أن دخلا مطعمًا فاخرًا، تتألق فيه الأنوار الكهربائية حتى صار ليله أبهى من نهاره، وجلسا إلى مائدة منفردة بين حياض نبات وأزهار، وبعد أن سمع الساقي أمرهما بطلب الشاي وما يتبعه؛ قالت وعيناها تلتهم جاك هوكر وجدًا: إذن؛ لا تبالي مهما عرضتك صحبتي.
فقال مبالغًا في الابتسام: لا تعرضني صحبتك إلا للسرور والشعور بالسعادة.
– إذن تحبني؟!
– وأعتبرك أيضًا.
فتململت مس كروس قليلًا، ثم قالت باسمةً متوردةً: أوما من خطر من مسز هوكر عليك في حبي؟
– عجيب! أي خطر في ذلك؟!
فأطرقت هنيهة، ثم رفعَتْ نظرَها إليه، وقالت: لا بد من أحد أمرين: إما أنك لا تحبني، أو أنَّ زوجتك لا تحبك.
فضحك، وقال: إنَّ منطقك هذا كحبي لك مختصر اللفظ مطوَّل المعنى.
– إلى الآن لم تجاوِب على قولي، ولم أدرك سرَّ حبك هذا؛ لأن بين حبٍّ وحبٍّ فرقًا كالفرق بين ماء وماء وهواء وهواء.
– ما هو الحب الذي تتوقعينه مني؟
– أتوقع منك حبًّا لي كحبي لك.
– ومن أدراك أنَّ حبي أشدُّ وأعظم؟
قالت: أنا أحلم بك كلَّ ليلة.
قال: وأنا أحلم بك كل نهار أيضًا؛ لأني لا أكاد أنام الليل.
قالت: صرف حبُّكَ فكري عن كتبي وجرائدي ومراقبة ثروتي.
قال: أما أنا فأصبحت أشغالي لغوًا.
– أشغلني حبكَ عن أصحابي.
– وأشغلني حبكِ عن زوجتي.
عند ذلك اغرورقت عينا مس كروس بالدموع، وألقت يدها على كفه، فتناول خمسة أقلام من عاج، وضغطها على شفتيه هنيهة، شعرت في خلالها أنَّ قطرة دمع أحرقت معصمها النضير، فجذبت كفَّه إلى صدرها.
وقالت: هل تشعر بخفقان قلبي؟ ما زال خافقًا منذ ذلك العهد يوم التقينا لأول مرة في المرقص، منذ ذلك اليوم ابتدأت سعادتي وابتدأ شقائي أيضًا؛ سعادتي بحبك وشقائي ببعدك.
فأجاب: ومنذ ذلك الحين اضطرمت النار في فؤادي، وما زلت في عذاب دائم — شقاء بلا هناء — وما التقينا مرة بعد ذلك الحين إلا ألقيت وقيدًا في أتون صدري.
عند ذلك تنهدت وابتسمت، ثم قالت: الآن أشعر أني في نعيم يا جاك.
– أما أنا فما هذه أول مرة ألقيت نفسي في جحيم.
فاختلجت مس إيفا كروس قليلًا، وقالت: ماذا تعني؟
– أتظنين أننا التقينا هذه الليلة هنا مصادفة؟
– كيف عرفت أني آتية الليلة إلى الهيبودروم؟
– ما هذه معجزة! سليني كيف عرفت أنك كنتِ ذاهبة أمس مثل هذا الوقت متنكرة إلى بناية نادي المراقص في شارع ١٤؟
فاضطربت مس كروس، وشعرت أنَّ قلبها هبط في صدرها، وقالت: يا لله! هل رأيتني؟!
فقال ماكرًا: هل ظننتِ أنَّ الله وحده يعلم أنكِ تتفقدين الأرملة ويتاماها؟
– أي أرملة هذه؟!
– هل تتجاهلين زوجة البواب الذي مات عن ٦ صغار منذ أسبوع، وتظنين أني لم أعلم أنكِ زرتِ أرملته وتصدقتِ عليها؟
فهدأ روع إيفا كروس قليلًا، وقالت وهي تظن أنها تمكر عليه: عجيب أن تعلم ما لا يعلمه إلا الله.
– الحب أعظم ما خلقه الله، وهو قوَّة تقدرنا على كل شيء حتى على معرفة الأسرار.
– إذن كنت تراقبني!
– حاشا، ولكن قلبي كان يقودني إلى حيث يمكن أن أراكِ أحيانًا.
– إذن تحبني يا جاك!
– وهل تسمين هذا حبًّا فقط؟
وكان وجهها قد ضاء بشرًا، فألقت كفها في كفه، فطبع فيها قبلة ثانية، فأمسكت بيديه وجذبته، فانتقل إلى كرسيٍّ بجانبها، وهمت أن تقبله فنفر مبتعدًا فقالت: لا يرانا أحدٌ هنا.
– ضميرنا يرانا.
فاحمرت خجلًا، وقالت: إذن هو حب عقيم.
– لهذا ما زلت شقيًّا منذ تعارفنا.
وكان سكوت بعض دقائق تنهدت إيفا في خلالها بضع مرار، وأتمت شرب شايها وعيناها تتقدان، ثم قالت: جاك! إني أحبك حبًّا لا أطيق معه الصبر عنك.
– الله كتب لنا الشقاء يا إيفا وإلا لما سهل تعارفنا.
– الله لم يكتب لنا شيئًا، بل نحن نكتب لأنفسنا إما الشقاء أو السعادة.
– كيف نستطيع أن نكون سعيدين مع هذا الحب القاتل؟
قال: ماذا يمنعنا أن نتمتع به؟!
– كيف نستطيع؟
– نكون زوجين.
فاضطرب جاك قليلًا، وقال: معاذ الله أن أرتكب جريمة تعدد الزوجات، والقانون يعاقب عليها.
قالت: إذن أنت تضحك عليَّ.
– ماذا تعنين؟
– أنت لا تحبني بل تحب زوجتك وتحبها وحدها، فلماذا تكذب في قولك أنك تحبني؟
– قد أكذب إذا قلت «إني أحبك» فقط؛ لأني أعبدك.
قالت: إذن ماذا يمنعك أن تُطَلِّق من لا تحب لتتزوج من تحب؟!
فَبُهِتَ جاك، وبعد هنيهة قالت إيفا: نعم، نعم، لماذا لا تطلقها لكي تتزوجني إذا كنت تحبني؟!
قال: لم أدرِ أنه يمكنني أن أنال هذه السعادة يا إيفا، فتنهدت وألقت ذراعها على ظهره، وجذبته بكل قوتها لكي تقبله، فنفر من بين يديها، وعاد إلى كرسيه الأوَّل فقالت: لقد روعتني، لماذا فعلت كذلك؟ إني أكاد أذوب وجدًا.
فقال بكل لطف ورقة: إيفا، لم أطلق بعد.
– أما صممت أن تطلق؟
– لا يكفي تصميمي، تعلمين أنَّ الطلاق كالزواج لا بد فيه من رضى اثنين معينين.
فخمد في الحال اتقاد إيفا، وفكرت هنيهة ثم قالت: نبحث في الأمر بجدٍّ، هل تريد أن تطلق لتتزوجني؟
– أريد من كل قلبي إذا أمكن الطلاق.
– هل تحبك زوجتك كثيرًا؟
– لا أدري كم تحبني، بيد أني أظن أنَّ الرجل صوت والمرأة صدى.
قالت: ألا يسهل عليك أن تقنعها؟
– بل يصعب عليَّ جدًّا؛ لأنها لا تجد مستندًا سواي، وهي تبتغي أن تعيش منعمة مباهية، ولا تؤمل بأن تعيش هذه العيشة مع سواي.
ففكرت إيفا هنيهة ثم قالت: أعطني عنوان زوجتك.
قال: منزل ٢٨ شارع ١١٠.
قالت: أرجو أن تكتبه هنا.
فتناول برنامج التمثيل في الهيبودورم من يدها، وكتب العنوان على بياض منه، فأودعته في حقيبتها، ونهضت وخرجا وودعا أحدهما الآخر، وهي ركبت أوتوموبيلها وهي تقول له: «غدًا مساءً تزورني في منزلي.»
فأكد لها ذلك، وركب القطار العلوي — الذي يسير على صقالات فوق الشوارع — وهو يقول: «جئت أصطاد عصفورًا، فإذا بي قد اصطدت نعامة.»