من السجن إلى النصب رأسًا
في صباح اليوم التالي، صدرت جرائدُ نيويورك الصباحية كلها، وفيها تفصيل الحادثة كما عُرِفت من سياق التحقيق المنصوص.
والظاهر أنَّ هوكر هذا داهية هذا الزمان ولعله زعيم الجان؛ فيعرف الأسرار ويفعل فعل الأشرار باسم الناس الأبرار، فإنه بينما كان الناس يلغطون بهذا الحادث الغريب، وكان المستر إبراهام بكاروف صاحب معمل الأزرار في ١٢ من شارع بليكر في مكتبه منهمكًا في مشاغله دخل عليه رجل بثوب بني وقبعة سوداء في منتصف الساعة الثانية، فرحب به المستر بكاروف قائلًا: أهلًا وسهلًا بالشريك الجديد، أظنك أتيت لتأخذ التحويل بالقيمة؟
أجاب: لا بأس إذا كنت تعطيه الآن.
– قد أمضيته وكنت مزمعًا أن أرسله لك في البريد.
– لا موجب لذلك، وقد حضرت أنا بنفسي.
– هل دفع لك المستر بلاك؟
– أنتظر تحويله اليوم أو غدًا صباحًا.
– متى نسجِّل الأرض باسم الشركة؟
– يوم الاثنين إن شاء الله.
ثم التفت بكاروف إلى سكريتيره، وقال: أين التحويل الذي باسم المستر جان شفلر؟
قال: هذا هو.
قال: أعطِهِ للمستر شفلر.
فتناوله المستر شفلر وهو يحك في رقبته، فاستلفت بذلك نظر المستر بكاروف، فنظر إلى عنقه فوجد نقطةً سوداءَ تبان تحت حافَّة طوقه.
فقال بكاروف: ما هذه في عنقك؟ أظنها شامة.
– يقولون كذلك، ولكنها شامة بلا شعر.
– أظنك تحلق شعرها، فلو كنت تقصر الموسى عنها لكانت جمالًا شرقيًّا فيك.
– أظنك تحب الجمال الشرقي.
– أما أنا شرقي الأصل؟! أين منبع الإسرائليين؟!
والدي من جزيرة رودس وجدي من أودسا.
– أما أنا فلا يهمني هذا الجمال الشرقي، ولا سيما لأن هذه القبعة واقعة من تحت حافة الطوق.
وبالفعل، لم يرَ بكاروف تلك النقطة السوداء إلاَّ لمحة واحدة، عند ذلك خرج المستر شفلر مزودًا بتحويل بقيمة عشرة آلاف ريال.
ولما كانت الساعة الثانية ذهب سكريتير بكاروف إلى بنك كونصوليداتيد، وبعد أن انتهى من مهمته وخرج، التقى بالمستر شفلر الذي رآه منذ نصف ساعة في مكتب المستر بكاروف؛ فقال هذا له: «أرجو أن تعرِّفني بأحد عمال البنك فإنهم لا يعرفونني؛ لأن أشغالي مع بنك نكر بوكر.»
فأجابه: هل تريد أن تفتح حسابًا هنا؟
– كذا أفتكر، إذا وجدت شروطهم موافقة لي.
فتقدم شفلر وسكريتير بكاروف إلى صراف البنك، وقال السكريتير للصراف: حضرته المستر جان شفلر، أرجو أن تكون لكم معه معاملة حسنة في المستقبل.
وكان شفلر حينذاك يعرض التحويل الذي أخذه من بكاروف، وقال: وسترى من هذا التحويل أني سأكون زبونًا كبيرًا إن شاء الله.
فقال الصراف وهو ينظر فيه: تحويل بإمضاء المستر بكاروف؟!
فأجاب السكريتير ضاحكًا: نعم؛ فإذا كنت تعلم أنَّ رصيد حساب بكاروف لا يغطي هذا المبلغ، فقد أودعت الآن عندكم ضعفيه.
فضحك الصراف قائلًا: أنا عالم أنَّ رصيد حساب بكاروف يغطينا كلينا.
عند ذلك استأذن الصراف، وودَّع الاثنين، وهرول مسرعًا عائدًا إلى شغله. أما الصراف فقال: هل تشاء يا مستر شفلر أن تفتح حسابًا عندنا؟
– ليس الآن، ولكني أحب أن أعرف شروطكم.
– إذن أرجو منك أن تخاطب سكريتير البنك، ولكن لا تجده الآن؛ لأن الآن وقت التصفية، فتعالَ غدًا قبل هذا الوقت.
– سآتي غدًا، فأرجو منك الآن أن تدفع لي قيمة هذا التحويل.
– ماذا تريد القيمة؟
– ٩ ورقات كل ورقة بألف، و٩ ورقات كل ورقة بمائة، و٩ عشرات، وخمستين.
وفي الحال دفع له القيمة ومضى.
أما سكريتير بكاروف، فما وصل إلى مكتبه حتى وجد رجلًا يسأل عن المستر بكاروف؛ فدله على غرفته، فلما دخل قال: أرسلني المستر شفلر لكي آخذ منك التحويل.
فرفع المستر بكاروف نظره فيه مندهشًا — وقلبه يخفق خفوقًا — وقال: أي تحويل هذا؟!
– التحويل الذي بقيمة عشرة آلاف ريال، حسب الاتفاق بينكما.
– أتى إلى هنا المستر شفلر منذ نصف ساعة وأخذه، فتلفَّت الرسول إلى ما حوله مدهوشًا، وقال: أليس هنا مكتب المستر بكاروف؟
– قال: نعم؛ هو، أنا هنا، وأنا بكاروف.
– شريك شفلر على الأرض في لون آيلند؟
– نعم، هنا هنا، أنا بكاروف.
– تقول: إنَّ المستر شفلر أتى إلى هنا؟
– نعم، منذ نصف ساعة، وأخذ تحويلًا بعشرة آلاف ريال.
– يستحيل أن يكون الأمر كما تقول.
فقاطعه السكريتير قائلًا: ولا ريب في ذلك، ومنذ دقائق رأيته في بنك كونصوليدايتد، يريد أن يفتح حسابًا هناك.
فأجاب الرسول: يستحيل ذلك، فإن المستر شفلر لم يفارق مكتبه منذ الساعة الأولى بعد الظهر، ولا سيما لأنه كان قبل الظهر متغيبًا بسبب القضية الزورية التي علمت أمرها يا مستر بكاروف.
فجال ألف فكر في دماغ بكاروف حينئذ، وصارت مقلتاه تضطربان وقلبه يزداد خفوقًا، وقال: قل أنك تمزح.
قال: ليس الآن وقت مزاح يا مستر بكاروف إلَّا إذا كنت أنت مازحًا.
وكانت يد بكاروف قد قبضت على بوق التليفون، وسأل الرسول عن رقم تلفون شفلر، فأجابه ٩٠٠١ برودواي، وفي الحال دار الحديث الآتي:
– مستر شفلر؟
– نعم، من أنت؟
– إبراهام بكاروف.
– هل وصل رسولي إليك؟
– نعم، هو هنا يمزح ولم يقل ماذا يريد؟
– عجيب! لم أعهده يمزح فكيف ذلك؟ سأطرده إذا صح ما تقول؛ لأني لا أريد كاتبًا يضع الهزل موضع الجد.
– ولكنه لم يقل ما هي مهمته.
– إذا لم يقل يا مستر بكاروف، فأنت عالم أني أنتظر التحويل منك اليوم؟
– أي تحويل؟!
– كيف تقول: أي تحويل؟!
– أنت تمزح أيضًا.
– يظهر أنك أنت المازح يا مستر بكاروف.
– ما أنا ولد حتى تداعبني يا مستر شفلر.
– الوقت عندي ذهبٌ يا هذا؛ فلا أضيعه في المداعبة والممازحة، أرسلت إليك رسولًا يأتيني بالتحويل، فأرسله بلا إبطاء قبل أن تقفل البنوك.
– تعني أنك لم تكن عندي منذ نصف ساعة؟
– يظهر أنك جننت.
– إذن أنت تتكلم بجد؟
– نعم؛ وأستغرب أنك تهزل.
– وأنا أستغرب أنك تنكر الشمس وهي طالعة.
– أنكر ماذا؟
– تنكر أنك أتيت بنفسك إلى هنا وأخذت التحويل.
وهنا قاطع بكاروف سكريتيره قائلًا: وقل له أنَّ سكريتيري رآك في بنك كونصوليدايتد، وعرَّفك بالصراف، وأَريتَ الصرَّاف التحويلَ.
فقال بكاروف هذا القول، فأجابه شفلر: تضطرني يا مستر بكاروف أن أقول كلامًا قاسيًا، ومع ذلك لا يهمني الأمر جدًّا ما دمت لم أوقع على ظهر تحويلٍ منك بعد.
عند ذلك، ردَّ بكاروف بوق التليفون إلى مكانه، وبعد هنيهة عاد وأمسكه، وطلب أن يخاطب بنك كونصوليدايتد، وطلب إلى الصرافين أن لا يدفعوا التحويل الذي صدر باسمه بقيمة ١٠ آلاف ريال باسم جان شفلر، فأجابوه أنَّ التحويل دُفِع بناءً على تعريف سكريتيره عن حقيقة الشخص الذي قبضه.
فالتفت بكاروف إلى سكريتيره، وقال: هل عرفت عن جان شفلر في البنك؟
– نعم، رأيته داخلًا وأنا خارج، فقال: «تعالَ، عرِّفني بأحد من رجال البنك؛ لأني أريد أن أفتح حسابًا.» فدخلت معه وعرفته بأحد الصرافين، وتركته هناك وأتيت.
– هل أنت واثق أنَّ الذي عرفت الصراف به هو جان شفلر الذي كان هنا؟
– هو هو بعينه وبثوبه، ولكن جان شفلر ينكر أنه أتى إلى هنا أيضًا.
عند ذلك نهض المستر بكاروف من مكانه كالمجنون، وخرج وخرج وراءَه رسول شفلر.