مؤامرة في السجن
في الساعة الحادية عشرة مساءً، جاء إلى مركز البوليس رجلٌ في ثوبٍ قديمٍ وسخٍ كلُّ قطعة منه بلونٍ وشكل، وعلى رأسه قبعة عريضة الحاشية جدًّا ولقدميتها صارت الحاشية مدلاة قليلًا، وطلب إلى مأمور سجن البوليس أن يفتح له إحدى غرف السجن لكي ينام؛ إذ ليس معه أجرة فندق لينام، وهذه عادة مألوفة في أميركا، فإن بعض العمال الذين تشتد بهم الفاقة حتى لم يعد معهم أجرة نوم ليلة يلجَئُون إلى مراكز البوليس وينامون في سجونها، فلما وافى هذا الرجل وطلب هذا الطلب سأله مأمور السجن: ماذا تشتغل أو بالأحرى ما هي صناعتك؟
– لا صناعة خاصة لي، ولكني اشتغلت بالأكثر في دهن الجدران والأخشاب.
– ألا شغل لك الآن؟!
– مرَّ عليَّ إلى الآن شهران من غير شغل؛ فأنفقت كل ما جمعته.
– أنفقته في الحانات يا تعس!
– لا وايم الحق، ولكن قلة الأشغال في هذه الأيام تذل الرجال، على أنَّ المستر برون سكريتير جمعية الشبان المسحيين وعدني بشغل في الجمعية غدًا، ولهذا يجب أن أعود باكرًا جدًّا؛ لأني أضطر أن أمشي إلى هناك؛ إذ ليس معي إلَّا ما أدفعه ثمن فطوري، فأرجو أن تتكرم عليَّ بغرفة أنام فيها الليلة.
ففتح المأمور دار السجن ودخل الرجل وراءَه، ثم فتح له غرفة فيها سرير وكرسي ومائدة ومصباح، ثم دله على المرحاض وعاد، فأقفل باب الدار وأوى إلى غرفته.
أما الرجل فبعد أن قعد في غرفته برهة، وهو يقرأ في إحدى الجرائد، خرج إلى المرحاض وهو يُغَنِّي بصوت خافت، ثم عاد وهو يُغَنِّي، وما دخل إلى غرفته حتى وجدها مظلمة، وسمع فيها رجلًا آخر يقول له: أخاف أن غناءك يوقظ القوم.
– هل شعر بك أحدٌ إذ أتيت من غرفتك إلى غرفتي؟
– كلَّا، فإن غرفتي الثالثة بعد غرفتك وليس بيننا دخيل، ولكن يوجد سجين واحد فقط أظنه نائمًا.
– حسنٌ جدًّا، هاتِ ثوبك وحذاءك وقبعتك وقميصك إلى هنا وخذ ثوبي وقبعتي وحذائي في الحال، ثم عد فأخبرك.
وفي الحال نزع ضيف السجن ثوبَه؛ فأخذه ذاك إلى غرفته بكل خفَّة من غير أن يشعر أحدٌ، وعاد بثوبه إلى غرفة الضيف، ثم أقفلا الغرفة — وهي لا تزال مظلمة — وجلسا معًا على السرير؛ فقال السجين: ثم ماذا؟
– يجب أن تستيقظ الساعة الخامسة صباحًا، وتنقر على باب الدار حتى يصحو السجَّان، فتقول له: «بربِّك افتح لي لكي أذهب؛ لئلا يستبطئني المستر برون.» فإذا قال لك: «لم يزل الوقت فجرًا.» قل له: «إني مضطر أن أمشي إلى شارع ٩٣، فإذا لم أبكر فلا أصِل في الموعد المعيَّن.» ويجب أن تعرف أنَّ صناعتك دهن الجدران والخشب، والمستر برون سكريتير جمعية الشبان المسيحيين ينتظرك صباح اليوم الساعة السابعة لتشتغل عنده، وليس معك إلَّا خمسة سنوت فقط؛ ثمن فطور بسيط.
– بارك الله بهمتك يا زيمر ثم ماذا؟
– متى خرجت من هنا تصعد إلى محطة القطار العلوي الغربية (القطار الذي يسير على صقالات فوق الشوارع)، فتجد هناك «نوبلي» فتدخلان إلى المرحاض الواحد بعد الآخر وتتبادلان ثوبيكما، ويعطيك نقودًا وهو يعرف إلى أين يذهب، وأنت تذهب إلى محطة سكة بنسلفانيا، وتسافر في أول قطار إلى ترنتون، وهناك يلتقي بك بهل عائدًا من فيلادلفيا ويخبرك ماذا تفعل، فقم.
– هل أنت ناعسٌ يا زيمر الآن؟
– كلَّا، ولكني أخاف أنَّ السجان يداهمنا هنا.
– لا تخف؛ السجَّان أتى مرة فلا يأتي بعد؛ لأجل سجينين برهن سلوكهما أنهما هادئان إلَّا إذا كان يوجس منك.
– مني لا يوجس قط؛ لأني أتقنت تمثيل دوري كما تعهد.
– إذن لا تَخَفْ فلا يأتي بعد؛ فقل إذن ما هي وظيفة أخينا بهل؟
– بهل ذهب منذ أمس ليلًا أي على أثر القبض عليك إلى وشنطون، وهناك مثل دور جان شفلر.
– حسن جدًّا؛ فإن هناك بعضًا يعرفونه بهذا الاسم.
– ولهذا ما زلت أنت هوكر في نظرهم هنا، وإن ادعيت أنك شفلر لأن …
فقاطعه قائلًا: لأن النقطة السوداء لا تزال في عنقي، وما حسبنا نحن حساب القبض عليَّ لكي نزيلها، فاكتفينا بتغطيتها بالطوق العريض، ولكن لا بأس فقد فهمت قصدك من أغنيتك «أحبك ولو كنت تجهلني.» فأبقيتهم يعتقدون أني هوكر ويؤكدون ذلك؛ لأن مدير البوليس أراني هارتمان ونوبلي فتجاهلتهما، وبذلك أعتقد أني هوكر بعينه وإن كنت أنا ما زلت أدَّعي أني شفلر.
– صدق ظني بأن تكون فطنًا وتلقي تبعة كل الجرائم على هوكر وحده لكي يبقى شفلر بريئًا، ونحن نتكفل.
– أؤكد أنكم تتكفلون بتخليص هوكر، بقي أنك قلت لي أنَّ بهل عائدٌ من فيلادلفيا، ثم قلت لي إنه ذهب إلى وشنطون، فكيف ذلك؟
– ذهب إلى وشنطون أمس، وفي هذا المساء خاطبناه تلفونيًّا أن يأتي إلى فيلادلفيا، وينام في فندق ريمون، ومنذ الساعة الخامسة ينتظر تلفونًا منك تخبره فيه أنك ذاهب في القطار التالي إلى ترنتون فيلاقيك إليها، ثم تعود في نفس القطار بناءً على تلغرافٍ من جان شفلر من فيلادلفيا إلى شريكه جوزف بلاك المحامي يخبره فيه أنه قادم في قطار الساعة التاسعة.
– برافو زيمر، الحق إنك لتستحق أن تكون نائب الرئيس، بقي أن أعلم كيف تخلص أنت؟
هذه مسألة بسيطة لا تهتم بها، فقم نم الآن، وها زجاجة فيها محلول يودور البوتاس لإزالة النقطة قبل الخروج من هنا.
فتناولها شفلر أو هوكر وفتحها في الحال لكي يزيل النقطة فشم رائحة قوية منها؛ فقال: ويحك يا زيمر! هذا كلوروفورم (بنج).
– بالله هاتِها، هذه زجاجتي، وخذ هذه زجاجتك وقم في الحال.
عند ذاك عاد هوكر إلى غرفته وأزال النقطة؛ فأصبح في لحظة شفلر، ثم نام.