سجن ولا سجين
لم ينم شفلر أكثر من ٣ ساعات، فلما سمع ساعة السجن تقرع الخامسة نهض ولبس ثوب زيمر، فأصبح ذلك العامل الذي نزل ضيف ليلة في السجن، فخرج وأقفل غرفته، وتقدم إلى باب الدار، ونقر عدة نقرات، فنهض السجان من سريره، وفتح باب غرفته، وهو محاذٍ لباب الدار، وقال: ماذا تريد يا ثقيل؟ فإني كنت أحلم بالسعادة فقطعت عليَّ حلمي.
– وأنا كنت أحلم بالجوع فنهضت مرتعبًا، وتذكرت في الحال أنَّ المستر برون ينتظرني.
– أيُّ برون هذا يصحو الآن؟! فعد إلى غرفتك يا ثقيل.
– بربك أطلقني الآن؛ فإني مضطر أن أمشي على قصب رجليَّ حتى شارع ٩٣، رحماك يا سيدي إذا لم أشتغل اليوم أموت جوعًا.
وكاد صوته يملأ الدار، فعاد السجان بالمفتاح، وفتح له حتى إذا خرج ركله برجله قائلًا: لا تعد إلى هنا بعد اليوم؛ فإني لا أقبل ضيوفًا يزعجونني في نومي الهنيء.
فخرج وهو يتعثر ببعض الشرطة الذين غلب عليهم النعاس وهو يقول: ماذا أشتري بخمس سنوت لأملأ جوفي يا رباه؟!
فكان يركله الواحد بعد الآخر حتى صار في الشارع.
فلما كانت الساعة الثامنة، فتح السجان باب دار السجن، فوجد السجين الآخر يتمشى؛ فسأله: هل صحا هوكر؟
– يظهر أنه لم يصحُ بعد.
– حان موعد الفطور؛ فإلى متى النوم؟!
ثم تقدم إلى غرفته ونقر فلم يسمع صوتًا؛ فحرَّك مصراع الباب فانفتح فدخل، ودهش إذ لم يجد أحدًا ففتح بعض الغرف حتى وصل إلى الغرفة التي يعهد أنَّ الضيف كان فيها، فلما فتحها وجدَ فيها رجلًا نائمًا خافت النفس، ثم تقدم إليه فوجد على أنفه منديلًا. وفي الحال، شم رائحة الكلورفورم، والتفت فرأى زجاجة كلورفورم على الطاولة، ولكنها مقفلة، ولم يبقَ فيها إلَّا النزر اليسير، فأسرع واستدعى مدير البوليس فحضر، وفي الحال حملوا الرجل إلى غرفة أخرى نقية الهواء، فعاد نفسه إليه، فأجلسوه وجعل يلتفت حوله وهو يقول: أين أنا؟ ماذا جرى بي؟ كنت أحلم أحلامًا سعيدة؛ فلماذا قطعتموها عليَّ؟ حلمت أنَّ أمامي غرفة من العيش، وقصعة من الأوت ميل، وعجلًا كله ستيك، وديكًا روميًّا مقليًّا.
فالتفت المدير بالسجان، وقال: من هذا؟
فأجاب السجان مذعورًا: مولاي هذا … هذا هوكر، هذا …
– أراك جُنِنتَ ما هذا هوكر، من هذا؟
فأجاب وهو ينتفض من الخوف: هذا ضيف يا سيدي ولكن …
– ولكن ماذا؟
– الضيف خرج، وبقي هوكر.
– يا لله! خرج هوكر؟!
– أظن كذا يا سيدي خرج بدل هذا.
– قبحك الله! ألا تميِّز بين هوكر وغيره، ثم التفت المدير إلى الرجل، وقال: من أنت؟
– أنا عامل فقير لا أملك شروى نقير، ولم يبقَ معي أجرة سرير، فأويت إلى هنا في الليلة الماضية، والآن صحوت بين أيديكم لا أدري ما الخبر، كم الساعة الآن؟ ويلاه! المستر برون يستبطئني الآن لا يقبلني بعد فماذا أفعل؟ كيف أحصل قوت اليوم يا ناس ارحموني؟!
وكاد الرجل يعول؛ فجرَّه المدير إلى غرفته التي نام فيها وأجلسه على الكرسي، وجعل يتأمل في الغرفة، فرأى ثوب هوكر معلقًا، فقال له: أين ثوبك؟
فالتفت الرجل إلى الثوب المعلَّق، وقال: لا أدري أين هو؟ ليس ذاك ثوبي، لعلَّ القسيس أبدله شفقةً عليَّ إذ رأى ثوبي رثًّا.
فقال المدير: أي قسيس هذا؟
– كيف تسأل؟! قسيس السجن زارني أمس، ووعظني وكلمني كلامًا حلوًا ولطيفًا، ووعد أن يساعدني وبقينا ساهرين معًا نحو ساعة وهو يسألني عن كل دقيقة من حياتي.
فقال السجان: وهل أخبرته أنك ستشتغل اليوم عند المستر برون؟
– بالطبع؛ لأن المستر برون صاحبه على ما فهمت؛ فقال المدير: والله إنها لفعلة هوكر اللعين لقد خدعنا بحيلة غريبة، ولكن ألم تفتشه قبل أن أدخلته إلى السجن؟
فقال السجان: فتشته جيدًا فلم أرَ معه زجاجة كلورفورم.
– مثل هوكر لا يعجز عن أن يخبئها في مكان لا يهتدى إليه.
ولكن أنت أحمق يا هذا، أما أنعمت النظر في من خرج من عندك لتعلم إن كان الخارج ضيفًا أو سجينًا؟!
– كانت الساعة الخامسة والوقت ظلام، وأنا لم أزل ناعسًا فلم يخطر لي أنَّ هوكر يخرج بهذه الحيلة.
ثم أذن المدير لذلك الضيف أن يلبس ثوب هوكر ويخرج إلى مُسترزَقه، وجلس إلى مكتبه مكتئبًا جدًّا لفرار هوكر، وما هي إلَّا هنيهة حتى دخل على المدير المستر جوزف بلاك المحامي باسمًا، وقال له: ورد إلَّي هذا التلغراف من جان شفلر يقول إنه يصل إلى هنا الساعة التاسعة، فرأيي أن نستقبله في المحطة، ونأتي به إلى هنا لكي يقابل شبيهه.
– فضحك المدير مكفهرًّا، وقال: يظهر أنَّ هذين الشخصين لن يجتمعا معًا.
– ماذا تقول؟
– أقول أنَّ هوكر قد فرَّ.
وعند ذلك روى له ما كان في السجن؛ فاستغرب بلاك كل الاستغراب، ثم ذهبا معًا إلى المحطة قبل التاسعة، ولما وصل القطار كان شفلر أول الخارجين منه، فصافحهما باسمًا متوددًا، وقال بلاك: وصلني تلغرافك، وأنا على أهبة أن أعد صديقًا أن أقبل دعوته للغداء اليوم؛ فأريته تلغرافك واستأذنته أن يعفيني.
– هل تلغرافي معك؟
– نعم، ها هو.
ومدَّ شفلر يده إلى جيبه، واستخرج أوراقًا منها وتناول من بينها التلغراف بعينه ودفعه لبلاك.
أما مدير البوليس فعاد إلى مقره، وبث الشرطة والجواسيس في كل جهة من نيويورك وضواحيها وشدد عليهم النكير في أن يجدوا هوكر.
وأما شفلر فذهب مع بلاك إلى مكتبه، وهناك سأله عن الغرض الذي لأجله أرسل تلغرافًا يستدعيه؛ فقال بلاك: جاءني بعض من معارفي وأقاربي يودون أن يشتروا قطعًا من الأرض التي لنا في «لون آيلند»، وإلى الآن لم نقطعها ونخططها ونعلن عنها؛ فوددت أن نهتم بذلك سريعًا.
– الحق معك، ولكني أتأسف أني منشغل جدًّا في هذه الأيام؛ فلا أقدر أن أقوم بذلك فإذا كنت أنت أو بكاروف تستطيعان أن تتوليا هذه المهمة، فالذي يقوم بها منكما يحسب أتعابه على الشركة.
– وبكاروف يقول كذلك أيضًا.
– إذن تولَّ الأمر أنت يا مستر بلاك، خذ غدًا عملةً وخطِّط لهم الأرض حسب خارتتنا ودعهم يشتغلون.
على هذا الأمر افترق الاثنان.