الدبوس الألماسي
كان الوقت قد تجاوز الساعة الثانية لما خرجت مس إيفا كروس من منزلها، ولم تدر حينئذٍ أنَّ حبيبًا آخر يترقبها عن بعد وهو في ثوب رمادي وقبعة رمادية أيضًا، وقد تتبعها حتى أدركها قبل أن وصلت إلى مدخل محطة «القطار النفقي» (وهو قطار كهربائي يسير في نفق تحت شوارع نيويورك)، فلما وقعت عينها على عينه ابتسمت له ابتسامة ضعيفة فحياها، وتقدم ومشى معها؛ فقالت: «أرجو إما أن تسبقني أو أن أسبقك.»
– أإلى بناية نادي المراقص حيث كنا أول أمس؟
فامتقع وجهُها، وقالت: ليس من مرقص الآن وما أنا متنكرة؛ فلا تذكر لي نادي المراقص بعد الآن.
– إذن إلى أين تريدين أن أسبقك أو تسبقيني؟
– أريد أن لا تماشيني الآن، فإما أن تمشي أمامي أو أن تتأخر عني، أو أن تتخذ طريقًا غير طريقي.
– عجبًا! أراكِ تغيرتِ عليَّ؛ فكم مرة ماشيتك قبل الآن فلم تتحذري مثل الآن؟
– لا تُطِل الحديث معي؛ فإني أود أن أبقى وحدي.
– فليكن ما تشائين يا أميرتي، ولكن هل آمل بلقاءٍ آخر نتفاهم فيه؟
– لا تتعرض لي في مكان أو زمان حتى أنا أتعرض لك، فلا تمشِ معي خطوة بعد.
فتركها عند ذاك ودخل إلى محطة القطار النفقي، وفي بضع دقائق كان في جهة من شارع برودواي، فدخل إلى حانة، واختلى في قفص التليفون، وأسقط القرش في الفوهة المهيئة لذلك وتكلم.
(وهنا نخبر القارئ أنَّ طريقة المخاطبة في التليفون في أميركا ميسرة جدًّا، فأينما كنت ورغبت أن تخاطب أحدًا في التليفون تجد على كل أبواب المحلات العمومية كالحانة والصيدلية والفندق والبقال … إلخ؛ علامة أنَّ هناك تلفونًا عموميًّا، فتدخل من غير استئذان إلى قفص التليفون (وهو شبه خزانة)، وتقفل الباب عليك، وتخاطب من تشاء من غير أن يسمع أحد ماذا تتكلم.)
وبعد أن تكلم بضع كلمات خرج، ودخل في باب بناية كبيرة عليها رقم ١٦٠، وصعد إلى الطبقة التي فيها مراحيض ودخل إلى مرحاض، وفي هنيهة سمع صوتًا خافتًا يغني، فجاوبه على غنائه، فدخل صاحب الصوت إلى مرحاضه، دخل بثوب أسود وبلا قبعة، وفي دقيقة خرج بثوب رمادي وقبعة رمادية، وبقي الأول في المرحاض وقد أوصده من الداخل، وبعد برهة عاد الذي خرج بالثوب الرمادي، ونقر على المرحاض نفسه ٣ نقرات، ففتح ذاك له فدخل، وفي دقيقة خرج بثوبه الأسود وبلا قبعة كما كان قبلًا، أما الأول فبعد هنيهة خرج ومضى إلى جهة أخرى من المدينة.
في الشارع الثامن مخزن كبير للجواهر والحلي باسم «أفلن وشركاه»، ففي ذلك الحين دخل إليه رجلٌ، فاستقبله مدير المحل بالترحاب قائلًا: أهلًا يا مستر هوكر.
فتقدم إليه ذاك باسمًا وصافحه قائلًا: بعت أمس خاتمًا وسوارًا، أما هذا الخاتم فلم أقدر أن أبيعه؛ لأن بعض حجاره مكمدة، فأرجو أن تسترده كما اتفقنا، وهاك ٣٢٠ ريالًا بقية حسابي.
فتناول أفلن الخاتم والنقود منه باسمًا، وقال: إني مستعد أن أسترد كل حلية لا تقدر أن تبيعها يا مستر هوكر؛ تسهيلًا للمعاملة فهل تريد شيئًا آخر؟
– أريد أن تعطيني الدبوس الألماسي الثمين الذي أعجب مس كروس.
– هل وجدت من يشتريه؟
– مس كروس نفسها تشتريه الآن إن شاء الله، وقد أتيت من قبلها لكي آخذه إليها لتراه ثانية الآن، فكم تدفع لي عمولة؟
– أدفع لك ٥ بالمائة.
– بل تدفع ١٠.
– ثمنه عشرة آلاف ريال، فيكفيك منها ٥ مائة.
– بل ألفًا تعطيني.
– خذ ٧٠٠ ريال، خذ ٧٥٠.
– كلا، تعطيني ألف ريال إذا بعته بعشرة آلاف، وليس غيري من يضمن لك بيعه لهذه المفتونة، ولي الأمل أن أتوصل بواسطتها إلى غيرها من الغنيات المفتونات مثلها، ولا سيما حين ينظرن هذا الدبوس على صدرها، فيسهل عليَّ جدًّا حين ذاك أن أبيعهنَّ حليًّا كثيرة.
ففكر المستر أفلن هنيهة، وقال له: «أمهلني لحظة.»
ثم ذهب إلى التليفون، وطلب رقم مس إيفا كروس، وعند ذلك جرى الخطاب التالي في التليفون: حضرتك مس كروس؟
– نعم، من أنت؟
– هنا محل أفلن وشركاه.
– حضرتك المستر أفلن نفسه؟
– نعم، هل قررتِ أمرًا بشأن الدبوس المعلوم؟
– أريد أن أراه ثانية، فقد وعدني المستر هوكر أن يأتي به إليَّ في هذا الوقت، أفما مرَّ بك؟
– نعم، هو هنا الآن.
– إذن أرسل لي الدبوس معه؛ لأني وعدته أن يتم الشراء عن يده، وإني أرى هذا الفتى مهذبًا؛ فأريد أن ينتفع قليلًا، كم هو الثمن النهائي للدبوس؟
– أحد عشر ألف ريال يا سيدتي.
– هو يقول إنه يمكنني أن أشتريه بقيمة عشرة الآف ريال فقط، فهل تعني أنك تبتغي أن تحصل عمولة هوكر مني؟
– كلَّا، ولكن …
– أنت حرٌّ أن ترسله أو لا.
وعند ذلك شعر أنَّ بوق الجانب الآخر من التليفون عاد إلى مكانه كأن مخاطبته استاءَت، فعاد إلى هوكر محمر الوجه وناوله الدبوس قائلًا: عسى أن تعود إلينا اليوم بتحويل بقيمة عشرة الآف ريال.
– ليس اليوم بل غدًا الساعة العاشرة على الأرجح.
عند ذلك خرج هوكر بالدبوس وبلاك يقول في نفسه: «إذا بقي هذا الفتى سائرًا على هذه الخطة يتحبب للمثريات ويحببنه، فقد أبيع كل بضاعتي وتربح ألفي ألفًا.»