قلق إيفا وأفلن
دقت الساعة العاشرة صباح اليوم التالي، فالتفت المستر أفلن إلى الباب، كأنه يتوقع دخول المستر هوكر حسب الاتفاق بينهما، ولا سيما لأنه تعود منه فيما مضى المحافظة على المواعيد بالضبط، ولكنه لم يرَ أحدًا داخلًا؛ فقال في نفسه: «لا بد أن يكون قادمًا الآن.» فنهض من مكانه وتمشى ببطءٍ نحو الباب، ثم خرج وتلفَّت هنا وهناك، فلم يرَ هوكر قادمًا، فعاد إلى مكانه، والتفت إلى الساعة فإذا بها صارت ٥ دقائق بعد العاشرة، فقال في نفسه: «لعلَّ له عذرًا ونحن نلوم؛ الفتى أمين، وقد اختبرناه بضع مرات.»
مرَّ نصف ساعة بعد العاشرة وهوكر لم يعد كما وعد، وحاول أفلن مرتين أن يمسك بوق التليفون لكي يخاطب مس إيفا كروس؛ فخشي أن يسوءُها، ولكن لم يعد يطيق صبرًا؛ فطلب رقم تلفونها، وفي الحال جرى بينهما الخطاب التالي: مس إيفا كروس؟
– نعم، من أنت؟
– أنا المستر أفلن، نهارك سعيد مس كروس.
– نهارك سعيد مستر أفلن.
– لا بد أن تكوني قد رأيتِ الدبوس الآن أجمل منه قبلًا.
فقالت إيفا في نفسها: «يظهر أنَّ هوكر أخبره شيئًا عن علاقتنا المستقبلة؛ فلا بأس لأني سأكون قريبًا زوجته.» ثم أجابت المستر أفلن: الحق أنَّ دبوسًا كذاك كلما نظرت إليه ازددت حبًّا له.
فتنهد أفلن الصعداء كأن همًّا كان على صدره فزال، فقال: إذن قررتِ أن تشتريه؟
– أما وصل إليك المستر هوكر بثمنه؟
– كلَّا، كان المنتظر أن يأتي الساعة العاشرة والآن الدقيقة ٤٠ بعد العاشرة.
– لعل أمرًا فوق العادة أعاقه.
وفي الحال تصوَّرت تلك الغبية المفتونة هوكر وزوجته في المحكمة يتطلقان، وقالت في نفسها: «عجيب كيف يعده أن يعود إليه الساعة العاشرة، وهو يعلم أنَّ عنده موعدًا آخر في المحكمة.» فقال أفلن: إذن؛ ننتظره بعد.
– بالطبع.
ولما حانت الساعة الواحدة بعد الظهر جعلت مس إيفا كروس تتوقع قدوم المستر هوكر الدقيقة بعد الدقيقة، وفي إبان قلقها ووجدها سمعت الجرس يقرع؛ فخفق قلبها فرحًا، ولكن وفي لحظة انقلب فرحها إلى غم؛ إذ دخلت الخادمة، وقالت: مستر أفلن يريد مقابلتَك مس كروس.
– ماذا يريد؟ أدخليه إلى القاعة.
ولما دخلت إلى القاعة وجدت المستر أفلن لا يزال واقفًا وهو مضطرب، فقالت: ألم ترَ المستر هوكر؟
– ولا أثره ولا سمعت بخبره.
فاسودت الدنيا في عَيْنَيْ مس كروس، وقالت: لا بأس؛ لعلَّ له عذرًا.
– لعلَّ ذلك يا مس كروس، ولكن التاجر الذي له عشرة آلاف في غير بنكه أو خزنته كالمريض الذي له روح في يد عزرائل؛ فأرجو من فضلك أن تسألي بنكك الآن إذا كان قد صرف تحويلًا لأحدٍ باسمي.
– التحويل ليس باسمك بل باسم المستر هوكر نفسه.
– فبالأولى إذن يجب أن تسألي عن فلوسك.
– أما أنا فلست خائفة؛ لأني أعرف أنَّ المستر هوكر يُؤمَن على كل ثروتي.
ورأى المستر أفلن في ملامح إيفا كروس عبوسة وشبه غضب، فاحتار كيف يخاطبها؛ فتردَّد في الخطاب قائلًا: إذا كنتِ لا تخافين على فلوسك في يد المستر هوكر؛ فبالأحرى أنا لا أخاف على دبوسي وهو في مأمن عندك.
– ليس لك أن تقول لي هذا القول، بل تقوله للذي بعته الدبوس، وإذا كنت تستخونه فلماذا سلمته إياه من غير أن تقبض ثمنه؟!
فخفق قلب أفلن جزعًا، وشعر أنَّ دبوسه صار تحت خطر فقال: سواءٌ استخونته أو ائتمنته؛ فالدبوس أصبح في مأمن عندك يا مس كروس.
– كلا، ليس الدبوس عندي بل لا يزال مع المستر هوكر.
– كيف ذلك؟ قلت لي أنك أرسلتِ لي ثمنه مع المستر هوكر.
– الدبوس وثمنه كلاهما مع المستر هوكر ليعرضهما عليك؛ لتختار إما الدبوس أو العشرة آلاف ريال.
– ولكن لا داعي لهذا التخيير، فقد اتفقنا على عشرة آلاف، ومع ذلك فقد فات الوقت المعين ٣ ساعات، وإلى الآن لم أحصل لا على العشرة آلاف ولا على الدبوس.
– لعل الرجل منشغل بأمر ضروري، فلا تلمه إذا لم يوافك في الموعد المقرر، وزد على ذلك فإني أعهده فتى أمينًا فلا تخف منه.
– على أي حال لا أخاف يا مس كروس؛ لأني سلمته الدبوس بناءً على أمرك فهو …
– بناءً على أمري! متى أمرتُ؟
– أمسِ في مثل هذا الوقت تقريبًا.
– أنا! أمسِ! لا تمزح يا مستر أفلن.
– بل أنت تمزحين مس كروس.
وبدت علائم الغضب والاضطراب على الاثنين.
فقالت: أرجو أن تسترد كلامك مستر أفلن؛ لم أعتد أن أمزح معك قبل الآن.
– إذا كنتِ لا تمزحين مس كروس فإنك تنكرين.
– أنكر ماذا؟!
– تنكرين أنكِ أمرتني تلفونيًّا أمس أن أرسل لكِ الدبوس مع مستر هوكر!
– أنا كلَّمتُك تلفونيًّا أمس؟!
– نعم؛ أنا كلمتك أولًا وأخبرتك أنَّ المستر هوكر جاءَ إليَّ من قبلك؛ لكي يأخذ الدبوس إليكِ لتريه ثانية. هل نسيتِ؟!
فأوجست مس إيفا شرًّا من المستر أفلن، وظنته يلعب عليها دورًا؛ لأنها حتى تلك الدقيقة لم تشُكَّ بإخلاص هوكر وأمانته، وقالت: تقول أنك كلمتني في مثل هذا الوقت.
فالتفت إلى ساعته، وقال: ليس مثل هذا الوقت تمامًا، بل كان ذلك نحو الساعة الثانية ونصف على الأرجح.
– في ذلك الحين لم أكن هنا في البيت.
– إذن؛ من خاطبني من هنا؟
– لا أدري.
فكاد المستر أفلن يجن من شدة قلقه، وقال: راح دبوسي إذن يا مس كروس راح دبوسي، بربك حقِّقي بين الخدم هنا عمَّن خاطبني في التليفون أمسِ.
فاستدعت إيفا وصيفتها، وسألتها إن كان أحد قد طلب مخاطبتها أمسِ وهي غائبة بعد الظهر، فأجابتها تلك: نعم، سمعت جرس التليفون يقرع نحو الساعة الثانية ونصف فوافيت إليه، فوجدت السيدة التي تركتها هنا أمام التليفون، فلما رأتني قالت: إنَّ خادمتها تخاطبها فعدت إلى شغلي ولم أعبأ، وغير ذلك الحين لم يخاطبنا أحدٌ تلفونيًّا في غيابك.
عند ذلك أمرتها إيفا أن تعود إلى مكانها، والتفتت إلى أفلن وهو ينظر إليها، وكلاهما متحيران، ثم سألها: من هي تلك السيدة التي خاطبتني بلسانك إذن؟
فاحتارت إيفا ماذا تجيب وشق عليها أن تظن السوء بهوكر وزوجته فبقيت ساكتة، فقال لها: مس إيفا أرجو منك أن تخبريني من كانت تلك السيدة، فإن عشرة آلاف ريال قسم كبير من رأس مال تجارتي.
فخافت إيفا أن يسيء أفلن الظن بها أيضًا، فأجابته هي زوجة هوكر نفسه.
فصاح الرجل مضطربًا: ذلك اللعين وزوجته خاناكِ وخاناني، فهي تأخذ الدبوس، وهو يأخذ العشرة آلاف ريال.
وعند ذلك نهض أفلن وهرول مسرعًا من غير أن يودع مس كروس، أما إيفا فراحت سكرتها وجاءت فكرتها، وهي لا تكاد تصدق أنَّ هوكر يلعب عليها هذا الدور، فاستدعت خادمها وأمرته أن يذهب إلى منزل ٢٨ غربًا في شارع ١١٠، ويسأل إن كان يسكن فيه رجل وزوجته باسم هوكر، وإذا كان أحدهما هناك يستدعيه أو يستدعيها إليها.
فذهب الخادم وبعد برهة عاد وقال لها: إنه ليس بين السكان في ذلك الرقم أحد باسم هوكر، ولكن إحدى ربات المنازل هناك قالت: إنَّ سيدة استأجرت منها غرفة أول أمس، ونامت فيها ليلةً فقط وليلةَ أمس لم تنم فيها، وأنه وَرَدَ إلى المنزل خطاب باسم مسز هوكر فادعته تلك السيدة، وبعد أن أخذت ذلك الخطاب خرجت ولم تعد، والظاهر أنها لن تعود؛ إذ أخذت حقيبتها معها.
فتأكَّدت مس كروس حينئذٍ أنَّ هوكر وزوجته لعبا عليها دورًا هائلًا، ولكن الواحد والستين ألف ريال لا تهمها، فلم تشأ أن تحرك ساكنًا لئلا تفضح أمرها.
أما المستر أفلن فخرج من عندها، وفي الحال أبلغ الأمر إلى مدير البوليس بالتفصيل.