هل يكون شخص في مكانين؟
اسْتُدعِيَ المستر جوزف بلاك المحامي، فلما دخل حيَّا فحيَّاه المستر جيروم النائب العمومي تحية صديق لصديق مسميًا إياه باسمه، ولما جلس سأله المدير بنهام: هل تعرف رجلًا باسم جاك هوكر؟
– كلا.
– هل تعرف هذا الرجل (وأشار إلى شفلر)؟
– نعم؛ أعرفه جيدًا وهو صديقي.
– ما اسمه؟
– جان شفلر.
– هل تعلم ماذا يشتغل؟
– يشتغل بسمسرة الأراضي، وله مكتب في ١٦٠ برودواي.
– متى رأيته آخر مرة؟
– أول أمس بعد الظهر كان عندي.
– أية ساعة كان عندك؟
– من الساعة الواحدة ونصف تقريبًا حتى بعد الساعة الثالثة.
– ماذا كان يفعل؟
– كان هو والمستر إبراهام بكاروف يتفقان معي على شركة على أراضٍ مقطعة للبناء في «لون آيلند».
– ولماذا بقي كل هذا الوقت عندك؟
– لأننا تناقشنا في الأمر برهة، ثم كتبت صورة الاتفاق لكي أطلعهما عليها.
– أما خرج من مكتبك كل ذلك الوقت؟
– لا أعلم أنه خرج، وكنت معظم الوقت في غرفتي الخاصة، أكتب صورة عقد الشركة، وكان هو والمستر بكاروف في قاعة المقابلة، فكانا يدخلان عليَّ حينًا بعد آخر ليناقشاني في بعض مواد العقد؛ ولذلك لا أعتقد أنه خرج من مكتبي حتى بعد الساعة الثالثة على الأقل. ثم استُدعِيَ المستر بكاروف، فسأله المدير: هل تعرف هذا الرجل (مشيرًا إلى شفلر)؟
– نعم؛ أعرفه، هو شريكي المستر جان شفلر.
– هل اجتمعت به أول أمس؟
– نعم، بعد الظهر في مكتب المحامي بلاك؛ حيث تباحثنا في مشروع شركة على أرض مقطعة للبناء في «لون آيلند».
– في أي وقت كنتما معًا عند المستر بلاك؟
– منذ الساعة الواحدة ونصف حتى بعد الساعة الثالثة.
– أما خرج المستر شفلر من مكتب المستر بلاك في خلال ذلك الوقت؟
فهزَّ بكاروف رأسه قائلًا: لا.
– هل كنتما كل الوقت معًا؟
أجاب: تقريبًا كنا معًا كل الوقت.
– لا أفهم معنًى لِتَقْريبًا، فهل كنتما معًا متلازمين مدة الساعتين؟
– كنا برهة في غرفة المقابلة نتناقش مع المستر بلاك في شروط الشركة، ثم دخل المستر بلاك إلى غرفته الخاصة ليكتب صورة العقد، وبعد قليل خطر لي خاطر فدخلت إلى غرفة المستر بلاك وعرضته له فتناقشنا، ثم عدت إلى شفلر لكي أستدعيه، فنتباحث جميعنا في النقطة المختلف عليها، فلم أجد إلا قبعته على الطاولة، فدخلت إلى غرفة الكتبة لعلي أجده هناك، فقيل لي: إنه خرج من هنيهة ليقضي حاجة نفسه؛ لأنه سألهم عن المكان، ثم عدت إلى المستر بلاك وتناقشنا حتى حمي الجدال بيننا، فعدت إلى قاعة المقابلة لأستدعي شفلر؛ فوجدته مكبًّا يتألم من مغصٍ، فشجعته على احتمال الألم، وأدخلته إلى غرفة المستر بلاك، وهناك سقاه بلاك كأس (وسكي كنادي) لتسكين مغصه، وبقينا نتناقش على كل مادة من العقد حتى انتهينا منه وبيَّضه الكتبةُ وأمضينا عليه، وكانت الساعة تناهز النصف بعد الثالثة.
– كم هي المدة التي تركت فيها المستر شفلر وحده في غرفة المقابلة؟
– لا أقدر أن أعلمها تمامًا؛ لأني كنت منهمكًا في جدال مع المستر بلاك.
– أتظنها تتجاوز نصف ساعة؟
– لا أظنها تبلغ عشر دقائق؛ لأن المرء لا يبقى أكثر من ذلك في بيت الماء، ولا أظنه يخرج إلى الشارع بلا قبعة (ولا يخفى على القارئ أنه متى كان اثنان يتجادلان يمر الوقت بسرعة فلا يشعران).
– من هو أحد الكتبة الذي سألته عن شفلر حين لم تجده في غرفة المقابلة؟
– أظنه يدعى المستر أنس.
ثم استُدعِي المستر أنس؛ فسأل المديرُ المسترَ بكاروف: أهذا هو الكاتب الذي سألته عن شفلر؟
– نعم هو.
عند ذلك، استأذن بكاروف المدير أن يعود إلى معمله، فأذن له فانصرف.
ثم وجه المدير الخطاب لأنس قائلًا: هل تعرف المستر جان شفلر؟
– نعم، أعرفه.
– من هو مِن الذين ها هنا؟
فدل الكاتب عليه؛ فسأل: أين رأيته آخر مرة؟
– في مكتبنا أول أمس بعد الظهر.
– أما خرج من المكتب قط في أثناء وجوده هناك؟
– لا أعتقد أنه خرج إلا برهة قصيرة لقضاء حاجته.
– كم هي البرهة التي خرج فيها؟
– لا أقدر أن أعينها لأنه كان جالسًا في غرفة المقابلة، ثم قرع جرس تلفوننا، فجاوبت القارع، فسألني عن المستر شفلر إن كان عندنا، فقلت: نعم؛ إنه عندنا. فقال: قل له إن هارتمان كاتبه يريد أن يكلمه، فأتيت إلى المستر شفلر فوجدته وحده في القاعة فاستدعيته، وقبل أن يصل إلى التليفون سألني أين المكان لقضاء الحاجة، فدللته ثم تناول بوق التليفون.
– وماذا سمعته يقول؟
– لم أسمع منه إلَّا كلمة «نعم» بضع مرار متقطعة.
– ألم يقل كلمة غيرها؟
– كلَّا.
– وبعد ذلك ماذا جرى؟
– خرج من مكتبنا، وأنا أعتقد أنه خرج لقضاء حاجته ولكني لم أره؛ لأن باب غرفتنا مقفل، فلا نرى من في غرفة المقابلة، ولكن بعد بضع دقائق جاءَ المستر بكاروف، وسألنا عنه، فقلت: إنه خرج لقضاء حاجته، وبعد ذلك لم أعد أعلم شيئًا حتى الساعة الثالثة تقريبًا إذا جاءَ لنا المستر بلاك بصورة العقد لنبيِّضها.
ثم استُدعِيَ هارتمان؛ فسأله المدير: هل تعرف المستر شفلر؟
– نعم، وأنا كاتب أسراره.
– أين كان أول أمس بعد الظهر، هل تعرف؟
– أعرف أنه كان في مكتب المحامي بلاك، وقد خاطبته بالتليفون في وسط الساعة الثالثة إلى هناك فأجابني.
– ماذا خاطبته؟
– زارنا زبون جديد لا أعرفه يريد أن يشتري أرضًا، فأخبرت المستر شفلر عنه، وقلت له: «إنك لا تعود على ما أظن قبل الساعة الرابعة إلى المكتب، فلا يليق أن أدع الرجل ينتظر، فسأقول له أن يأتي غدًا.» فكان يوافق على قولي.
وقد استُدعِيَ بقية الشهود، فكانوا يؤكدون أنه هو المستر شفلر إلا مستخدمو أفلن، فكانوا يقولون: هو هوكر؛ حتى حار مدير البوليس بهذا الأمر الذي لم يقع له مثله في مدة حياته مع ما مرَّ عليه من الحوادث.
فهمس في أذن النائب العمومي، وهو جالس إلى جانبه، وسأله: «ما رأيك بهذا الحادث؟» وكان النائب العمومي قد عرف ملخَّص التحقيق كله من سياق ما سمعه منه، ومن أجوبة مدير البوليس لأسئلته حينًا بعد آخر.
فقال له جيروم: الحق أنَّ المسألة محيرة، فلا أقدر أن أعتقد أنَّ المستر أفلن ومستخدميه ومس كروس يتهمون هذا الرجل أو غيره زورًا، ومن جهة أخرى لا أقدر أن أعتقد أنَّ شهود الرجل المتعددين متواطئون معه، ولا سيما لأننا نعرف المحامي بلاك جيدًا.
– إذن لا بد أن يكون هوكر وشفلر شخصين متشابهين جدًّا.
– ولكن أيكون التشابه إلى حد أن لا يقدر أفلن ومستخدموه أن يميزوا فرقًا؟
– لا تستغرب ذلك؛ فقد يتشابه الأشخاص إلى ذلك الحد حتى لا يتميز عارفوهم الفروق الزهيدة، وزد على ذلك أنَّ أفلن وحزبه لم يعرفوا هوكر طويلًا حتى يميِّزوا بينه وبين شبيهه، ومع ذلك دعنا نستقصِ عن الفروق الآن.
ثم نظر إلى أفلن وسأله: هل كان هوكر في هذا الثوب الذي ترى هذا الرجل يرتديه الآن؟
– كلا، بل كان في ثوب رمادي وقبعة رمادية أيضًا، ثم سأل المحامي بلاك: في أي ثوب كان شفلر حين كان عندك؟
– في ثوبه وقبعته الأسودين اللذين يلبسهما الآن. وقال كل شهوده: لم نره في ثوب رمادي قط. عند ذلك التفت مدير البوليس إلى أفلن، وقال له: لا نقدر يا مستر أفلن أن نتهم هذا الرجل، وقد ثبت لنا بشهادة العديدين أنه كان في مكتب المستر بلاك المحامي في حينما ادعيت أنه كان عندك.
فكاد أفلن يتمزق غيظًا وحنقًا، وقال: لا أقدر، أعتقد أنَّ رجلًا غير هذا أخذ الدبوس مني.
فقال المدير: سواء اعتقدت أو لم تعتقد، فلا نقدر أن نتهمه ما دامت بيناتك قاصرة عن إثبات التهمة عليه، ولا بد أن يكون جاك هوكر شخصًا آخر غير المستر جان شفلر، وأنت ومستخدموك مشتبهون بالمستر شفلر غلطًا، فلعل غريمك رجل آخر يشبهه!
– يستحيل أن يكون الشبه شديدًا إلى هذا الحد.
– ألا تجد في ملامح المستر شفلر شيئًا يختلف عن ملامح هوكر؟
– كلا البتة، ولا أقدر أن أعتقد أنَّ هذا الرجل ليس جاك هوكر الذي أخذ دبوسي، وإذا نزع طوقه (ياقته) رأيتم في أيمن عنقه نقطة سوداء كأنها أثر خالٍ كنت أراها فيه حين كان يأتي إلى عندي بطوقٍ قليل العرض، فإذا تشابه اثنان فلا يتشابهان إلى حد أن يكون في مكان واحد من بدنهما نقطة سوداء.
– هل أنت واثق من وجود هذه النقطة في أيمن عنقه؟
– رأيتها مرارًا، ولا ريب عندي أنه يواريها الآن وراء طوقه العريض.
– إذا ثبت ما تقول يا مستر أفلن …
فقاطعه أفلن قائلًا: تثبت دعواي؟
– كلا، بل نضطر إلى إعادة التحقيق من وجوه أخرى؛ لأن شهودًا كثيرين شهدوا أنَّ هذا الرجل يدعى جان شفلر، وأنه كان بعد ظهر أول أمس في مكتب المحامي المستر بلاك؛ ولذلك يجب أن نحقق ما إذا كانت دعواك على الرجل صحيحة.
فاستشاط أفلن قائلًا: ما أنا مدَّعٍ زورًا.
– لا تغضب يا مستر أفلن، إذا لم تكن دعواك زورية كانت شهادات شهود المستر شفلر زورية، وحينئذٍ نحقق لنعلم أي الجانبين مزورًا وكاذبًا.
فقال شفلر حينذاك: لا داعي لهذا التنازع يا هذين؛ فقد لا يكون أحد من الجانبين مزورًا، ها عنقي فانظروه.
وعند ذلك، نزع شفلر طوقه وأدار عنقه إلى جميع الجهات، فلم يرَ أحدٌ فيه نقطة سوداء، فبُهِت المستر أفلن، وقال: هذا هو العجب العجاب، ليتني أعرف هذا السر ولو فقدت ربع ثمن الدبوس.
ثم التفت مدير البوليس إلى مس إيفا كروس، وسألها: هل لاحظت نقطة سوداء في أيمن عنق هوكر؟
فلم تجب مس كروس، بل كانت عيناها شاخصتين إلى شفلر من غير أن تجولا في محجريهما، فأعاد عليها السؤال فلم تجب، فهزها من كان جالسًا إلى جانبها قائلًا: أجيبي.
فقالت: ماذا؟
– هل كنتِ ترين نقطة سوداء في أيمن عنق هوكر؟
– نعم، والآن أراها أيضًا.
فالتفت الكل إليها مستغربين، وسألها شفلر: أين ترينها يا سيدتي؟
فنهضت من مكانها وتقدمت إليه، ووضعت أصبعها على عنقه، وقالت: هنا هي.
فازداد استغراب الحضور، وتهامسوا قائلين: لا بدَّ أن تكون هذه السيدة مخبولة الآن. والحق أنَّ هذا الحادث جنن إيفا وأطار صوابها.
عند ذلك، أعلن مدير البوليس اختتام المحضر، وقال: إنَّ المستر شفلر غير مُتَّهَم، ولسوف نُوالي التحقيق في دعوى المستر أفلن، ولا بدَّ أن نهتدي إلى الغريم الحقيقي.
أما شفلر فتهدد المستر أفلن بأنه سيرفع قضية عليه يطالبه بشرفه وبتعويض، وما قرعت الساعة الحادية عشرة حتى تفرق الحضور.