لغز «عثمان»

دقَّ قلب «أحمد» سريعًا وهو يسمع كلمة «بيروت» … ماذا حدث هناك؟

وقبل أن يسترسل في أفكاره سمع أحبَّ صوت إلى قلبه؛ «إلهام»، كانت تقول له بهدوء: كيف حالك؟

ردَّ «أحمد»: خير … هل حدث شيء؟

إلهام: أبدًا … فقط فقدنا أثر الرجل … فهل أحضر مع الزميل؟

فهم «أحمد» أنها تقصد بالرجل مستر «ون بولت»، وبالزميل «بو عمير» … وكانا في حاجة إليهما فعلًا، فقال: احضرا فورًا.

قالت «إلهام» ضاحكة: ما دمت قد وافقت … فهناك احتمال أن يكون الرجل في طريقه إلى «القاهرة» أيضًا.

قال «أحمد» من قلبه: ليس المهم الرجل، المهم أن تحضري أنت … لقد كنتُ خارجًا الآن، وتذكرتك … وتمنيت أن أراك.

إلهام: إذن سنكون في «القاهرة» في الحادثة عشرة ليلًا؛ فقد حجزنا التذاكر فعلًا …

أحمد: سأكون في انتظاركما بالمطار.

وانتهت المكالمة … وأحسَّ «أحمد» أنه أسعد شابٍّ في العالم … لقد كان منذ دقائق يتمنَّى أن يسمع صوت «إلهام» ويراها، وها هو قد سمع صوتها، وسيراها بعد ساعات …

وأسرع يُخرج جريدة الأهرام، وبحث في باب الإعلانات المبوَّبة عن محلَّات تأجير السيارات. كان يبحث عن سيارة سريعة متوسطة الحجم تتناسب مع الزحام في شوارع «القاهرة». ووجد ما كان يرجوه في سيارة «رينو ١٦ ت. س»، وهي من أقوى السيارات وأسرعها. وبعد ساعة كان في مكتب السيارات، فدفع العربون، وحصلوا منه على بيانات باسمه وعنوانه، ثم انطلق بالسيارة في شوارع «القاهرة».

كانت أمسيةً جميلةً دافئة، وازدحمت الشوارع بالسيارات والمارة، وكان من الصعب على «أحمد» أن يجد طريقًا، ولكنه في النهاية اجتاز منطقة وسط المدينة حيث يزداد الضغط، وسرعان ما كان يأخذ طريقه إلى مصر الجديدة حيث يقع المطار.

وقلَّ الزحام، وأصبحت القيادة في الشوارع الواسعة النظيفة متعة … ونظر «أحمد» إلى ساعة السيارة، كانت مضبوطةً على ساعته: التاسعة وخمس وأربعون دقيقة. كان هناك متسعٌ من الوقت، فقرَّر أن يذهب إلى محل «جروبي» في مصر الجديد ليتناول قطعتَين من الجاتوه وكوبًا من الشاي … وكانت ذكريات صباه في «القاهرة» تشده؛ ففي هذه الشوارع كم سار وهو صغير … وهل كان أحد يتصوَّر أن يُصبح هذا الولد الرياضي الصغير أحد الشياطين اﻟ «١٣» المدافعين عن العدل وعن حق الشعوب العربية في الحياة والحرية!

ووصل إلى محل «جروبي»، وصعد السلالم القليلة إلى التراس الذي يطلُّ على الشارع، وكانت الصدفة قد وضعت في انتظاره مفاجأة … وجد الرجال الأربعة؛ «مالمو» وزملاءه يجلسون إلى مائدة كبيرة وسط مجموعة أخرى من الأشخاص! وكان واضحًا أنه حفل تكريم …

دُهش «أحمد»، بل ذُهل … حفل تكريم لعصابة من أعتى المجرمين؟! شيء لا يُصدِّقه العقل … ولكن لعل المحتفلين لا يعرفون بالطبع حقيقة هؤلاء الأربعة …

وتوارى «أحمد» سريعًا حتى لا يراه أحد من الأربعة، واختار كرسيًّا في ركنٍ قليل الضوء، ثم جلس يرقب الاحتفال.

كانت الأحاديث المتناثرة بين الرجال العشرة تدلُّ على أنهم يُناقشون اتفاقًا ما حول مشروع لم يعرف «أحمد» ما هو … وكان الرجال الأربعة في غاية المرح، يشربون ويضحكون … وتذكَّر «أحمد» الكلمات التي سمعها منهم في الفندق: لقد حصلت على كل المواعيد المطلوبة … هل كان هذا الاجتماع ضمن المواعيد؟

وجاء الجرسون، وطلب «أحمد» قطعتَي حلوى بالشيكولاتة وكوبًا من الشاي بغير لبن، وأخذ يُراقب الاجتماع … ولم يكن هناك شكٌّ أنه اجتماع عمل، فما هو العمل الذي يمكن أن يُمارسه الأربعة في مصر؟

وخطر له خاطر سرعان ما نفَّذه، استدعى الجرسون ودفع له الحساب، ثم منحه بقشيشًا سخيًّا جعل الجرسون ينحني له كرقم ٨، وقال «أحمد» ببراءةٍ وهو يُشير إلى الرجل الذي يتصدَّر مائدة الاحتفال: إنني أعرف هذا الرجل … أليس هو الأستاذ «إبراهيم منصور»؟

ردَّ الجرسون بأدب: لا بد أنه يُشبهه كثيرًا … ولكن هذا هو المهندس «كمال عبد الله» رئيس مجلس إدارة شركة الإلكترونيات الحديثة.

أحمد: الإلكترونيات؟! … إنها شركة جديدة.

ردَّ الجرسون: إنها الآن تحت التأسيس، وقد طلب المهندس «كمال» من إدارة «جروبي» أن تعد هذا الحفل لتكريم الأجانب الذي سيُسهمون في رأس مال الشركة، ويُقدِّمون الخبرة الفنية لها.

وشكر «أحمد» الجرسون، وأخذ يُدير هذه المعلومات في رأسه … شركة إلكترونيات … شركاء أجانب في رأس المال! … ومن هم الشركاء؟ مجموعة من المجرمين!

وفجأةً خطر له خاطر قلب كل خططه رأسًا على عقب … أليس من الممكن أن يكون «مالمو» قد انفصل عن عصابة «الورلد ماسترز»، وانضمَّ إلى مجموعة أخرى من المموِّلين في علمية اقتصاديَّة؟!

إن هذا أقرب إلى العقل من أي شيء آخر … لقد جاء «مالمو» إلى لبنان في مهمة فشلت … ولعله قرَّر أن يكتفي بهذا الفشل ويبدأ صفحةً جديدةً من العمل الجاد في «القاهرة».

وقام «أحمد» إلى السيارة فأدارها وانطلق في اتجاه المطار وهو يُقلِّب الأفكار في رأسه، دون أن يصل إلى نتيجة حاسمة.

وصل إلى المطار الساعة العاشرة والثلث، وركَن السيارة في الموقف الكبير خارج المطار، ثم دخل الصالة الكبيرة جدًّا والتي تضم مختلِف مكاتب شركات الطيران وإدارة المطار، ومحلَّات السلع السياحية والبنوك وصالة السفر …

وكان المئات من المسافرين يزحمون المكان، والضجيج والأصوات ترتفع في كل مكان … وأخذ «أحمد» يتجوَّل بين مختلِف محلَّات السلع السياحية والجرائد، وهو يضع يدَيه في جيبه متكاسلًا، وكأنما كانت هذه ليلة المفاجآت؛ فقد شاهد «عثمان» بقامته الطويلة وسمرته المتميزة يسير مع فتاة حسناء شقراء!

لم يُصدِّق «أحمد» عينَيه، لولا أنه لا يمكن أن يُخطئ «عثمانَ» زميله … وانحرف «أحمد» بسرعةٍ خلف واجهة أحد المحلَّات وأخذ يرقب «عثمان» والشقراء، وكانا يحملان حقيبتَين كبيرتَين، ويتجهان إلى «الكافتيريا» حيث اختارا ركنًا جلسا فيه، وأخذا يتحدَّثان ويضحكان.

وراقبهما «أحمد» من بعيدٍ وهو في غاية الدهشة. كانت الفتاة جميلةً جدًّا حقًّا. وقف «أحمد» لحظات يرقبهما وهو لا يُصدِّق عينَيه … ومضى الوقت واقترب موعد وصول «إلهام»، فعاد متمهِّلًا إلى داخل المطار … كان رأسه مسرحًا لشتى الأفكار: ماذا يفعل «عثمان» هنا؟! ومن هذه الشقراء الحسناء؟ وما هي حكاية الحقائب هذه؟

لم تكن هناك إجابة واضحة، وعلى كل حال — كما قال «أحمد» في نفسه — سوف يعرف بعد قليل؛ فسوف يلتقي ﺑ «عثمان» بعد ساعتَين على الأكثر.

وأخذ يتمشَّى محاولًا دفع الدفء إلى بدنه؛ فقد بدأ البرد يشتد والساعة تقترب من الحادية عشرة … ثم سمع في مكبر الصوت إعلانًا عن وصول طائرة الشرق الأوسط القادمة من «بيروت».

اتجه إلى صالة الوصول بين زحام لم يرَه منذ زمن بعيد. وبعد نحو نصف ساعة بدأ سيل المسافرين في التدفُّق خارجًا، وشاهد «أحمد» من بعيدٍ وجه «إلهام» الجميل الباسم، وبجوارها «بو عمير» بوجهه الجاد … وأخذ «أحمد» يُلوِّح لهما بذراعه دون أن يستطيع لفت أنظارهما إليه. وأخذ يرفع يده أكثر فأكثر، ولكنه اكتشف فجأةً شيئًا غريبًا … إن «إلهام» و«بو عمير» يتجاهلانه تمامًا! … شيء لا يُصدِّقه عقل! حتى إنهما مرَّا بجواره، والتقت عيناه بعينَي «إلهام»، ولكنهما ظلَّا يتحدَّثان دون أن يهتمَّا به … وأدرك من نظرات «إلهام» نوعًا من التحذير له: أن يبتعد عن طريقهما.

أنزل «أحمد» يده، ثم سار خلفهما من بعيد … وسرعان ما غادرا الصالة إلى خارج المطار، وسار حتى وصل إلى السيارة «الرينو»، ووقف بجوارها … وأخذ سيل الخارجين يدخل السيارات والتاكسيات حتى انصرف الجميع، وفجأةً سمع صوتًا في الظلام يُناديه: «أحمد» … «أحمد».

لم يكن هذا إلَّا صوت «إلهام»، والتفت إلى ناحية الصوت، ووجدها تقف وبجوارها «بو عمير».

اتجه إليها حيث تقف، وسرعان ما كانت أيديهما تتعانق في شوق، ثم سلَّم «أحمد» على «بو عمير» وقال: ما هي الحكاية؟!

إلهام: لقد اكتشفنا شخصًا معنا من أعوان «مالمو» … لقد رآه «بو عمير» أثناء الجولة الأولى مع العصابة، وقد لاحظنا أن معه عددًا كبيرًا من الحقائب، وقرَّرنا التعرُّف عليه في الطائرة.

أحمد: ولكن هذا مخالفٌ للتعليمات.

إلهام: ربما يكون هذا خطيرًا لو كان الرجل له قدرة «مالمو» على قراءة الأفكار، ولكنه شخص عادي … وقد حاولنا أن نعرف منه سبب حضوره للقاهرة، وقال لنا إنه مهندس جاء للمشاركة في إنشاء مصنع للإلكترونيات في «القاهرة».

صاح «أحمد» مندهشًا: مصنع للإلكترونيات؟!

إلهام: نعم … لقد أدهشنا هذا؛ فما دَخْل «مالمو» في إنشاء المصانع؟!

أحمد: لقد سمعتُ نفس المعلومات من ساعاتٍ في «جروبي» مصر الجديدة. إن شيئًا غريبًا يكمن وراء هذه المعلومات.

إلهام: وقد خشينا أن يكون الرجل قد رآك أثناء صراعنا في الجولة الأولى معهم؛ لهذا قرَّرتُ تجاهلك حتى يمضي في سبيله.

أحمد: وأين ذهب؟

إلهام: ركب سيارةً كانت بانتظاره فيها فتاة شقراء رأيتها على البعد، وشخص آخر كان يجلس إلى عجلة القيادة. ولكننا لم نتبيَّن شخصيته.

صاح «أحمد»: إنه عثمان!

إلهام: غير معقول!

أحمد: إنه «عثمان» … إنني الآن أكاد أفقد عقلي! ما هي الحكاية بالضبط؟! … ماذا يفعل «عثمان» مع أفراد العصابة؟! … هل خاننا مثلًا؟!

كان سؤالًا مزعجًا … وقال «بو عمير»: غير معقولٍ طبعًا! … لا بد أن عند «عثمان» أسبابًا قويةً لهذا التصرُّف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤