حيلة صغيرة تنجح
استقلَّ الثلاثة السيارة «الرينو» السريعة، وأطلق لها «أحمد» العنان في طريق المطار المتسع. وكانت «إلهام» تُحدِّثه عن كيفية اختفاء مستر «ون بولت» الغريب … وكيف تصوَّر رقم «صفر» أنه لحق بقارئ الأفكار في «القاهرة» …
وروى لهم «أحمد» ما فعل هو و«عثمان» والتحاقهما بالعمل في فندق «ميريديان». وقال «بو عمير»: إن «عثمان» لا يمكن أن يخوننا بالطبع، ولكن سلوكه هذا غير معقول!
أحمد: سنعرف كل شيء الآن.
واشترى «أحمد» في الطريق شريطًا لاصقًا، واشترت «إلهام» ما يكفي من طعام العشاء، ووصلوا إلى الشقة في مدينة المهندسين … وأخذ «بو عمير» يُفرغ حقيبته وهو يقول: لقد أحضرت مجموعةً من الأسلحة في جيوب سريَّة بالحقيبة.
أحمد: إنني أتوقَّع ألَّا نخوض صراعًا مسلَّحًا هذه المرة … إنني أرجو فقط أن أعرف ماذا يُريد «مالمو» من وجوده في «القاهرة»؟ وما هي حكاية الإلكترونيات هذه؟ … إننا — فيما أعتقد — لا نستطيع وحدنا القضاء على «الورلد ماسترز»، وكل ما أرجوه أن نتمكَّن من وقف نشاطهم في المنطقة العربية.
ومضت السيارة تشق طريقها في شوارع مصر الجديدة المتسعة، حتى وصلت إلى منطقة وسط البلد، ثم مضت إلى مدينة المهندسين.
دخلت «إلهام» الشقة وهي سعيدة … وأخذت تطوف بغرفها المتسعة وتُطلُّ من الشرفات رغم البرد، وقالت: إنها ممتازة.
أحمد: المهم أنها أيضًا في منطقةٍ هادئة، حيث يحلو النوم.
بو عمير: من الواضح أن «عثمان» لم يعد!
أحمد: شيءٌ مقلق.
وجلسوا يتناولون عشاءهم وقد ران عليهم الصمت؛ فقد كان غياب «عثمان» يُقلقهم تمامًا … وفجأةً قال «أحمد»: هل يمكن أن يكون «عثمان» قد وقع في أيدي الرجال الأربعة؟
إلهام: ماذا يجعلك تُفكِّر بهذه الطريقة؟
أحمد: لقد فهمت منه أنه خرج في موعد مع فتاة حسناء، وإذا بي أراه في المطار يحمل حقائب إلى سيارة معها، فهل لهذا علاقة ﺑ «مالمو» وبقية الرجال؟
إلهام: أظنُّ أنك يجب أن تعرف أن «عثمان» لا يمكن أن يخرج في مواعيد غرامية في هذه الظروف، وإنني أعتقد أنها مهمة عمل لم يُفصَح عنها.
أحمد: إن هذا شيءٌ مقلق … خاصةً مع رجل مثل «مالمو» لا يستطيع أحدٌ أن يُخفي عليه شيئًا.
مضى الوقت دون أن يظهر «عثمان»، ولم يجد الثلاثة بدًّا من النوم.
وفي الصباح الباكر استيقظ «أحمد»، وخرج من غرفته يبحث عن «عثمان» ولم يجِده، فتزايد قلقه … ولكنه ارتدى ثيابه، ثم نزل فركب السيارة إلى الفندق لعله يجد «عثمان» هناك.
ولكن «عثمان» لم يظهر.
دخل «أحمد» القاعة الواسعة … لم يكن هناك إلَّا ثلاثة أشخاص في أماكن متفرقة، واختار «أحمد» نفس المائدة التي جلس إليها «مالمو» وزملاؤه الثلاثة، ثم أخرج جهاز التسجيل والشريط اللاصق في يده، وتظاهر بأنه يقوم بترتيب الكراسي، وأسقط كرسيًّا على الأرض، وانحنى ليعدله، وبسرعة ثبَّت جهاز التسجيل في قاع الكرسي من أسفل، وأحكم تثبيته بشريط لاصق.
تمَّ كل شيء في ثوانٍ دون أن يلفت أنظارَ الثلاثة الجالسين. ومضى «أحمد» في عملية التنظيف والترتيب بشكل عادي جدًّا، وهو ينظر إلى الباب بين لحظة وأخرى … لعل «عثمان» يظهر، ولكن «عثمان» لم يظهر.
وبدأ زبائن الفندق الكبير يتقاطرون على أماكنهم، وأبلغ «أحمد» رئيس الجرسونات أن زميله متعب، وأنه لن يحضر اليوم على الأغلب؛ حتى يقوم الرئيس بتدبير من يحل محله.
كان «أحمد» يُحاول قدر الإمكان إبعاد الزبائن عن المائدة التي اختارها ليجلس إليها «مالمو» حيث يوجد جهاز التسجيل الصغير، وقد وضع لافتة «محجوز» على المائدة.
وفي التاسعة تمامًا ظهر «مالمو» والرجال الثلاثة، وكان «أحمد» مشغولًا بخدمة بعض الزبائن، وأحسَّ بأعصابه تتوتَّر وهو يرى الرجال الأربعة يتجهون إلى مائدة أخرى قبل أن يلحق بهم ويقودهم إلى المائدة التي اختارها.
وأسرع «أحمد» يُنهي مهمته مع الزبائن، ثم يتجه إلى الرجال الأربعة، ولكن هذه الخطوة جاءت بعد فوات الأوان؛ فقد اختار الأربعة مائدةً مجاورةً للمائدة التي يُريدها «أحمد»، ولم يكن من الممكن لجهاز التسجيل أن يُسجِّل حديثهم على هذا البعد … ولكن فجأةً طرأت ﻟ «أحمد» فكرة أسرع لتنفيذها؛ كان بجوار الرجال تمامًا قبل أن يجلسوا وقد مدَّ كلٌّ منهم يده ليشد كرسيه، فقال «أحمد» لأحدهم: لحظة يا سيدي … إن هذا الكرسي يحتاج إلى تغيير.
وسحب «أحمد» الكرسي الذي كان الرجل سيجلس عليه، ثم جذب الكرسي الذي به جهاز التسجيل، وقدَّمه للرجل الذي أخذه شاكرًا.
كانت فكرةً بسيطة، ولكنها حلَّت المشكلة … وبعد أن جلس الرجل تظاهر «أحمد» أنه يفحص الكرسي الذي أخذه من الرجل وكأنه مكسور، ثم تركه وتقدَّم منهم وهو يبتسم ليُسجِّل طلباتهم، ثم أسرع إلى تلبيتها.
انهمك «أحمد» في خدمة الزبائن، وفي نفس الوقت كان يُراقب من طرف خفي «مالمو» وجماعته، وكان واضحًا اليوم أنهم سعداء، كأنهم أنجزوا عمليةً صعبة … وقرب نهاية الإفطار وتناول الشاي، ظهرت الفتاة الشقراء التي رآها «أحمد» أمس مع «عثمان»، وأحسَّ «أحمد» بقلبه يدق سريعًا، فلا بد أن هناك تطوُّرات جديدةً قادمة.
مضت الفتاة برشاقةٍ إلى حيث كان يجلس الرجال الأربعة، وجرَّت كرسيًّا وجلست بجوارهم.
وانهمكوا جميعًا في حديثٍ سريع مستمرٍّ نحو دقيقة، وسرعان ما كان اثنان من الرجال يُغادران الفندق معها، بينما اتجه «مالمو» والرجل الآخر إلى الشرفة الواسعة، حيث جلسا يستمتعان بالشمس.
كان «أحمد» يُريد الحصول على جهاز التسجيل بسرعة، ولكن المكان ما زال مزدحمًا؛ لهذا أسرع إلى التليفون واتصل بالشقة، وتحدَّث مع «إلهام» التي قالت له إن «عثمان» لم يصل ولم يتصل.
أمضى «أحمد» بقية وقت العمل يُراقب «مالمو» ورفيقه اللذين جلسا وقتًا طويلًا في الشرفة يستمتعان بالشمس ويُراقبان النيل … كان غياب «عثمان» يقلقه، وهو يعرف أن «عثمان» مثل بقية الشياطين اﻟ «١٣»، يعرف واجبه جيدًا … وأنه لا يحق له أن يتصرَّف وحده بهذه الطريقة … وربما كان التعليل الوحيد لغيابه أن يكون أسيرًا في مكان ما … ولكن كيف حدث هذا؟!
وعندما خلت الصالة من رُوَّادها، أسرع «أحمد» إلى الكرسي الذي به جهاز التسجيل، ثم تظاهر بأن قلمه الذي يكتب به الطلبات قد وقع تحت الكرسي، وانحنى لإحضاره، وفي نفس الوقت مدَّ يده إلى حيث كان جهاز التسجيل وانتزعه من مكانه، ثم وضعه في جيبه … وأحسَّ بالسعادة والرضا لأنه استطاع الانتصار في هذه المعركة الصغيرة، وأنه استطاع أن يُسجِّل حديثًا للرجال الأربعة قد يكشف عن حقيقة مهمتهم، وقد يكشف أيضًا سر اختفاء «عثمان» الغامض.
انتهى موعد العمل الرسمي، وأسرع «أحمد» إلى سيارته يقودها إلى البيت. لم يجد «إلهام»؛ فقد خرجت لشراء بعض الأطعمة للغداء، ووجد «بو عمير» يجلس وحده وقد وضع أمامه مجموعةً من الأسلحة يقوم بتزييتها.
قال «أحمد»: ألم يظهر «عثمان»؟
بو عمير: لا … ولم يتصل.
أحمد: شيء غير معقول!
بو عمير: ماذا فعلت؟
أحمد: لقد سجَّلت لهم الحديث … المهم أن يكون مفيدًا لنا.
وفي هذه اللحظة دقَّ جرس الباب، وأسرع «بو عمير» يفتحه و«أحمد» ينظر عله يرى «عثمان»، ولكنها كانت «إلهام» … وجلس الثلاثة، وأخرج «أحمد» جهاز التسجيل الصغير، وأدار الشريط، وأخذ الثلاثة يستمعون.
كانت الضجة في صالة الطعام قوية … صوت الأقدام، أحاديث الزبائن، وفي وسط هذا كان حديث الرجال الأربعة متقطِّعًا … استطاع «أحمد» أن يُميِّز فيه صوت «مالمو» الرفيع الحاد.
مالمو: إنني موافق … ولكن يجب أن نكون حذرين.
صوت: لا تدع هزيمتكم الصغيرة في «بيروت» تُؤثِّر عليك.
مالمو: أنت تعرف أن «كراون الكبير» لا يقبل الهزيمة مرةً أخرى. فإذا حدث هذا فسوف نُحاسب حسابًا قاسيًا.
(لحظة صمت.)
ثم عادت الأصوات من جديد، قال أحد الرجال: حتى الآن يبدو أننا نجحنا؛ فقد وصلت الأجهزة المطلوبة، ووصل عدد من الرجال … والأوراق جاهزةٌ للتوقيع.
(أصوات ضجة وشوشرة.)
«مالمو» يضحك … ثم يقول: إنها خطة جهنميَّة تليق ﺑ «كراون الكبير» … المهم أن يصل الدكتور؛ فقد أوصلنا المطلوب إلى صاحبنا.
صوت: إنه سيصل في ٤٨ ساعة، وبعدها يبدأ التنفيذ.
(صوت أقدام تقترب سريعة، ودقَّاتها تُؤكِّد أنها لسيدة.)
صوت فتاة: إن صديقنا الشاب الأسمر يقوم بعمله على خير وجه … لم أتوقَّع أن نجد في هذه البلاد رجلًا بهذه الخبرة والمهارة … وغدًا في الحادية عشرة ليلًا سيتم كل شيء.
صوت رجل: وهل أوضحتِ له مهمة هذه الأجهزة؟
ضحكت الفتاة وقالت: في حدود الرسميات.
مالمو: وأين هو الآن؟
صوت شوشرة … وقرَّب «أحمد» رأسه من الجهاز … إنه يُريد إجابة هذا السؤال، ولكن لا شيء، شوشرة فقط … وأعاد «أحمد» الشريط عند السؤال الأخير: وأين هو الآن؟
واقترب بأذنه أكثر من جهاز التسجيل، ولكن صوت الشوشرة كان شديدًا … إنها طائرةٌ كانت فوق الفندق في هذه اللحظة.
وعاد الحديث إلى الموضوع فقال رجل: سأذهب الآن لأرى ما فعله صديقنا الشاب الأسمر.
ضحك … وصوت يقول: ستجده غارقًا في الحب لأذنَيه.
وصوت «مالمو»: سنلتقي في المساء.
ودار الشريط بصوت الشوشرة، فأغلق «أحمد» الجهاز … وقال: خيوط كثيرة متقاطعة، وليس واضحًا حتى الآن ماذا يُريدون.
بو عمير: المهم أنه من الواضح أن الصديق الأسمر ليس إلَّا «عثمان»!
أحمد: واضح فعلًا!
إلهام: لعل «عثمان» يعمل وحده لسبب هام.
والتفت إليها «أحمد» و«بو عمير»، وقالت «إلهام»: كيف لم يخطر على بالكما ما خطر لي الآن؟! … إنه التعليل الوحيد المعقول!