رسالة على زجاج الساعة
وصمتت «إلهام» لحظات، ثم قالت: أعتقد أن «عثمان» حاول أن يدسَّ نفسه وسط مجموعة «مالمو» ليعرف أسراره. ووجوده في المطار مع هذه الفتاة، والحقائب التي كان يحملها جزء من محاولته، كما هو واضحٌ من شريط التسجيل … ولعل «عثمان» خشي بعد ذلك أن يتمكَّن «مالمو» من قراءة أفكاره، وبالتالي معرفة مكاننا ونوع نشاطنا، ولهذا قرَّر ألَّا يلتقي بنا حتى لا يعرف كيف نُفكِّر، وماذا سنفعل …
وفي هذه اللحظة دقَّ جرس الباب، وظن الشياطين الثلاثة أنه «عثمان» قد عاد، ولكن عندما فتحوا الباب وجدوا ساعي البريد يحمل برقية، وعندما فتح «أحمد» البرقية وقرأها لم يعد لديه شك في صحة استنتاج «إلهام» … كانت البرقية من «عثمان» وتقع في بضع كلمات: غيِّروا مكانكم، واتركوا ورقةً بها العنوان الجديد في الشقة.
إلهام: هذا ما توقَّعته بالضبط … إنه يطلب منَّا تغيير مكان إقامتنا حتى لا يستطيع «مالمو» معرفته بفرض أنه شك في «عثمان»، واستطاع أن يقرأ فكره.
بو عمير: هل هناك أماكن أخرى في «القاهرة» يمكن أن نذهب إليها؟
أحمد: بالطبع … هناك أكثر من أربعة أماكن مجهَّزة في مختلِف أنحاء «القاهرة»، ولا يعرفها أحد سواي.
«بو عمير» ضاحكًا: عظيم … هيا إذن نُنفِّذ تعليمات الزعيم عثمان!
وانهمك الثلاثة في تجهيز الحقائب، وقال «أحمد»: إننا في حاجة إلى الاستماع لشريط التسجيل مرات ومرات؛ حتى نُحاول استنتاج ما يمكن منه. لقد اطمأننت مؤقَّتًا على أن «عثمان» بخير، وإن كنت أخشى عليه من «مالمو» …
بو عمير: هناك خطة واحدة يمكن أن تُعرِّفك ماذا يفعل هؤلاء الرجال في «القاهرة» …
أحمد: تقصد الوثائق التي تحدَّث عنها «مالمو»؟
بو عمير: بالضبط!
أحمد: إنني أُفكِّر منذ سمعت عنها في طريقة أصل بها إليها … إنها في غرفةٍ واحد من الرجال الثلاثة … فمن هو؟
بو عمير: ألم تتعرَّف عليهم من أصواتهم؟
أحمد: لا … فواحد منهم فقط هو الذي يتحدَّث معي عندما يطلبون طعامهم … لهذا يتعيَّن عليَّ أن أدخل الغرف الثلاث، وأن أُفتِّشها دون أن أترك أثرًا. وأعتقد أنها مهمة ليست سهلةً مع هؤلاء المحترفين؟
بو عمير: هل تستطيع أن تحصل على «الماستر كي»؛ أقصد المفتاح الذي يفتح كل غرف الفندق، وهو عادةً يكون عند مدير الفندق؟
أحمد: هذا ما فكَّرت فيه، وإن كنتُ لا أُريد أن أخون الثقة التي وضعها الرجل فيَّ … إلَّا أن ما يُبرِّر ما سأفعله أنني أخدم الوطن بما أفعل.
وبعد نصف ساعة كانوا يُغادرون الشقة، بعد أن تركوا ﻟ «عثمان» رسالةً بها عنوانهم الجديد. وكانت شقةً مفروشةً في فيلا تقع في حيِّ الدقي، في ميدان السد العالي، عند مجموعة المستشفيات الشهيرة في تلك المنطقة.
كانت شقةً متسعةً في دور أرضي، تُحيط بها حديقة كثيفة الأشجار. وجلس الثلاثة، وكان ظلام الشتاء قد هبط سريعًا، وبدأ مطر خفيف ينزل في الشوارع. وأخرج «أحمد» جهاز التسجيل وأمسك بورقة وقلم، وأخذ يستمع وهو يُسجِّل ما يُهمه من معلومات:
-
«كراون الكبير» من هو؟
-
الأجهزة المطلوبة، مطلوبة من أجل شركة الإلكترونيات، ولكن أي نوع من الأجهزة هي؟
-
الأوراق جاهزة للتوقيع … لا بد أنها خاصة بشركة الإلكترونيات.
-
خطة جهنمية … من أجل شيء، وضد من؟
-
الدكتور … من هو؟ ومن أين وصل؟ ولماذا؟
-
أوصلْنا المطلوب إلى صاحبنا … ما هو المطلوب؟ وما هو المقصود بصاحبنا؟
-
الشاب الأسمر يقوم بعمله على خير وجه. طبعًا المقصود بالشاب الأسمر «عثمان»، ولكن ما هو العمل الذي يقوم به؟
وانتهى الشريط عند هذا الحد. وأخذ «أحمد» يقرأ ﻟ «بو عمير» وﻟ «إلهام» ما سجَّله على الورق بصوت مرتفع، وهما يُتابعان باهتمام الأسئلة، وكلٌّ منهم يُحاول أن يحصل على إجابةٍ محدَّدة.
وبعد أن انتهى من القراءة، قالت «إلهام»: من الواضح أن «كراون الكبير» هو زعيم «الورلد ماسترز»، وأن كلمة «كراون» تعني «التاج»، فهو صاحب التاج، وهو زعيم «الورلد ماسترز» بلا شك …
بو عمير: أُوافقك على استنتاجك.
أحمد: أمَّا الأسئلة الخاصة بشركة الإلكترونيات، فهذه سوف أعرف تفاصيلها عندما أذهب للبحث عنها في غرف الرجال الثلاثة. لحسن الحظ عندي غدًا وردية مسائية في الفندق.
بو عمير: أمَّا الخطة الجهنمية فلن نعرفها الآن، ولكن ربما بعد أن نطَّلع على الوثائق، ونُقابل «عثمان» الذي لا بد أن عنده معلومات الآن عن العملية.
إلهام: أمَّا الدكتور فنحن لا نعرف عنه شيئًا، وبالتالي لا نعرف شيئًا عن مهمته.
أحمد: لعله دكتور في الإلكترونيات!
إلهام: هذا ممكنٌ على كل حال.
بو عمير: أوصلنا المطلوب إلى صاحبنا، هذا هو أهم جزء في الحديث، وللأسف أننا لا نستطيع أن نعرف عنه أي شيء، أو نضع عنه أي استنتاج، فدعْه الآن جانبًا.
إلهام: أمَّا الشاب الأسمر، «عثمان» … فأرجو ألَّا يقع في حبائل «مالمو» قارئ الأفكار، وإلَّا عرف منه كل ما يخصنا.
أحمد: لعله وضع خطته أن يتحاشى مقابلة «مالمو»، وأعتقد أن هذا ممكن.
إلهام: ولماذا طلب منَّا إذن أن نترك شقتنا الأولى؟
أحمد: على سبيل الاحتياط؛ فهو ككل الشياطين يُفضِّل أن يتعرَّض هو للخطر، ولا يتعرَّض زملاؤه.
إلهام: والآن … ما هي مهمتنا أنا و«بو عمير»؟
أحمد: لا أدري حتى الآن، ولكن بالطبع أنتما تعرفان حاليًّا كل التفاصيل التي أعرفها، فإذا حدث شيء لي أنا و«عثمان»، فسوف تُواصلان العمل بعدنا … إن عصابة «الورلد ماسترز»، أو سادة العالم، يجب ألَّا تجد طريقًا إلى بلادنا … يجب منعها من فرض سيطرتها على المنطقة العربية، وأنتما تعرفان الشفرة السرية التي نتعامل بها مع جهات الأمن المصرية، فإذا لم نتمكَّن من تحقيق انتصار على «الورلد ماسترز»، فلا يبقى إلَّا أن نُبلِّغ جهات الأمن المصرية لتتولَّى المهمة، وللأسف نحن لا نملك الآن معلومات مقنعةً عن مهمة هؤلاء الناس، وهم بالطبع تقدَّموا إلى السلطات المصرية بصفة رجال أعمال محترمين، وأي محاولة من جانبنا الآن ستجعل العصابة تأخذ حذرها، وربما غيَّرت خطتها.
إلهام: أليس من الواجب الآن إخطار رقم «صفر» بما حدث؟
أحمد: لننتظر حتى أعثر على الوثائق وأرى ما بها. ومؤقَّتًا أُريدكما أن تستأجرا قاربًا في النيل، وتكونا هناك في الساعة الحادية عشرة ليلًا، وهي الساعة التي أرى أنها مناسبة لتفتيش غرف الرجال الثلاثة؛ فمن الواضح من التسجيل أن شيئًا ما سيتم في الحادية عشرة ليلًا، ولا بد أن الرجال الأربعة سيكونون خارج الفندق في هذه الساعة. وسوف آخذ معي كشَّافًا من النوع الذي يُطلق أشعةً مستقيمة، وسأُطلق لكم أشعته حسب الرموز المتفق عليها؛ فقد أحتاج إليكم.
بو عمير: خذ معك سلاحًا …
أحمد: سآخذ معي مجموعةً من الأدوات لفتح الحقائب.
إلهام: بالمناسبة، لقد وجدتُ في حقيبتي «ماستر كي» لفتح جميع الأبواب؛ ولهذا فأنت لست في حاجةٍ للحصول على مفتاح مدير الفندق.
أحمد: عظيم … إنك دائمًا مستعدَّة لكل شيء.
وقضَوا بقية السهرة في الحديث عن «الورلد ماسترز» ومدى قوتهم، ثم ناموا …
وفي صباح اليوم التالي خرج «أحمد» و«إلهام». كانت شمس الشتاء الدافئة تفرش الشوارع، فاختارا السير على الأقدام، ومشيا عبر شارع السد العالي إلى كورنيش النيل حيث يقع فندق «شيراتون»، واختارا مائدةً منعزلةً وجلسا يتحدَّثان، وقد مدَّت «إلهام» يدها فارتاحت في يد «أحمد» الخشنة القوية، وتلاقت نظراتهما في حب وسعادة، وطافت بخاطرَيهما الأحداث والمغامرات التي مرَّت بهما وسط الشياطين اﻟ «١٣»، وكيف ربطت بين القلبَين الشابَّين برباط المودَّة والفهم المتبادل.
كان فندق «الميريديان» حيث تدور أحداث مغامرة لا مثيل لها يقف أمامهم عبر النيل، وقد بدت واجهته المستديرة مثل خلية النحل. وأشار «أحمد» إلى النافورة التي تقع بين فندق «الميريديان» وفندق «الشيراتون» في وسط النهر العظيم، وقال: أُريدكما أنت و«بو عمير» أن تكونا قرب النافورة. إن هذا أحسن مكان يمكن أن أُحدِّد وجودكما عنده.
ابتسمت «إلهام» وقالت: في هذا الجو الشاعري، والأزهار تتألَّق على جانبَي النيل، والشمس دافئة، نُفكِّر في الليل ومغامراته.
ابتسم «أحمد» في خجل وهو يقول: آسف جدًّا … إن حياتنا العاصفة تُسيطر علينا، خاصةً وأننا نُواجه عصابةً فريدةً من نوعها، عصابة تستخدم أحدث وسائل العلوم في الوصول إلى أغراضها، والمشكلة أننا لا نعرف ماذا تُريد هذه العصابة من «القاهرة»، لماذا جاءت؟ إن «القاهرة» عاصمةٌ آمنة، وقوى الأمن فيها ضخمة ويقظة، ومن الصعب أن يُفلت مجرم هنا من يد العدالة … ولا بد أن العصابة وضعت خطةً دقيقةً حتى يمكن أن تُنفِّذ ما تُريد دون خوف من الوقوع في يد رجال الأمن.
قالت «إلهام»: لا تنسَ أنهم وصفوها بأنها خطة جهنمية وضعها زعيمهم، «كراون الكبير».
وعاد الصمت يلف الشابَّين، وأخذا ينظران إلى النهر الهادئ وهو ينساب بين ضفتَيه. وفجأةً هبطت عليهما مفاجأة … فقد ظهر «عثمان» في هذه اللحظة، ومعه الشقراء الفاتنة يسيران بين الموائد! … وكانت الفاتنة الأجنبية تُمسك بيد «عثمان» وتسبقه إلى إحدى الموائد. وتلاقت عينا «عثمان» بعينَي «أحمد»، ثم بعينَي «إلهام»، ولكنه مضى دون أن يلتفت إليهما … ولاحظ «أحمد» أن «عثمان» اختار مائدةً قريبة، وأنه جلس في مواجهته. وفهم «أحمد» أنه يُريد أن يُبلِّغه رسالة.
استعدَّ «أحمد» لاستقبال الرسالة، التي تمَّت بواسطة ساعة «عثمان» … كان «عثمان» يضع ساعته في مواجهة الشمس، فتنعكس عليها، ويصل بريقها إلى عينَي «أحمد»، الذي ركَّز انتباهه في تلقِّي الرسالة حسب القواعد التي تعلَّموها في مقرهم السري الرئيسي، ومال «أحمد» على «إلهام» وقال لها: احفظي معي.
وأخذ ينظر إلى الضوء المنعكس من زجاج الساعة ويقول بصوت هامس تسمعه «إلهام»: العصابة … الفتاة. عملية كبيرة … غير متأكِّد. الليلة. ربما. سلاح. سري.
وأغمض «عثمان» عينَيه … وفهم «أحمد» أن الرسالة انتهت، والتفت إلى «إلهام» … وانهمكا في تناول إفطارهما.