لقاء في الظلام
عندما عاد «أحمد» و«إلهام» إلى المنزل، كان «بو عمير» يعدُّ طعام الغداء؛ فقد اتفقوا على أن يقوم «بو عمير» بإعداد الطعام على الطريقة الجزائرية، وقد كان غداءً شهيًّا بحق. فتناوله الثلاثة وهم يتحدَّثون عن «الكلمات» التي تلقَّاها «أحمد» من «عثمان» بطريق الشفرة الضوئية.
وقد قضى «أحمد» و«إلهام» الوقت يُركِّبان جملةً مفيدةً من الكلمات المتناثرة، وكان أفضل جملة ممكنة هي «الفتاة من أفراد العصابة، إنهم يقومون بعملية كبيرة، لستُ متأكِّدًا منها، ولكن ربما سأعرف الليلة، وربما تكون متعلِّقةً بسلاح سري.»
قال «بو عمير» معلِّقًا: لقد حصل «عثمان» على معلوماتٍ قيمة حقًّا … وإن وجوده بقرب الفتاة سوف يصل به إلى أسرار كثيرة.
إلهام: ولكنه معرَّض لمخاطر كثيرة، بل نحن جميعًا معرَّضون، فلو شك «مالمو» في حقيقته فسوف يعرف كل ما يدور في ذهنه.
أحمد: وهل هناك عملية من هذا النوع بلا مخاطر؟
وانتهى الغداء وقالت «إلهام»: عظيم يا «بو عمير» … إنك ستُصبح منافسًا خطيرًا لي.
وفي المساء خرج «أحمد» بعد أن تمَّ ترتيب المراقبة التي سيقوم بها «بو عمير» و«إلهام» خارج الفندق عند النافورة، وأخذ معه حقيبةً بها بعض الثياب والأدوات. ومضى كل شيء في سبيله حتى اقتربت الساعة العاشرة. وانتهت نوبة العمل، فدخل إلى غرفة تغيير الملابس حيث غيَّر ثيابه … وأمام مرآة في دورة المياه قام بعمل ماكياج سريع للوجه، ووضع «باروكةً» من الشعر الأصفر. وفي لحظات تغيَّرت ملامحه وهيئته … ثم اتجه إلى الدور التاسع حيث يُقيم الرجال الأربعة … ومضى في جيبه الأيمن مسدَّس كاتم للصوت، وفي جيبه الأيسر أدوات فتح الأبواب والحقائب، وضمنها مفتاح «إلهام» الذي يفتح كل الأبواب.
وقف في الممر يُجيل البصر حوله … كان كل شيء ساكنًا، ولا أحد يسير هنا أو هناك، وتقدَّم بهدوء وأخرج المفتاح، وأداره في قفل الباب، وسرعان ما كان يدفع باب الغرفة ويدخل، ثم يُغلق الباب خلفه في هدوء …
أضاء كشَّافًا كهربائيًّا، أطلق شعاعًا رفيعًا كالخيط أداره في أنحاء الغرفة، لم تكن هناك حقائب على الإطلاق، وكأن أحدًا لا يسكن الغرفة … وأدرك أن ساكن الغرفة يضع حاجياته في الدولاب المغلق لمزيد من الحذر. وسرعان ما كان يُخرج أدواته الدقيقة. وفي لحظات كان باب الدولاب مفتوحًا … ووجد ثلاث حقائب متفاوتة الأحجام، اختار أصغرها … وفي لحظات فتح القفل، ووجدها كما توقَّع حافلةً بالأوراق …
أخذ يُقلِّب الورق سريعًا. كانت بعض الأوراق رسومات هندسيةً لمبنًى، والأخرى رسومات لماكينات … وقرأ أسماء الماكينات بسرعة، ثم وجد ثلاث صفحات على رأسها هذا العنوان «مشروع خط «الميكرويف» للتليفونات». وأخذ يقرأ بسرعة اتفاقًا بين شركة «م. ك. م» ومركزها الرئيسي سويسرا، وبين هيئة التليفونات، وكلها تفاصيل هندسية عن المشروع.
وترك الأوراق مكانها، وأخذ من باب حب الاستطلاع يُفتِّش جيوب الحقيبة … ووجد ورقةً وحيدةً بها رسم لمبنًى ضخم … أدهشه شيئان؛ الأول: أن شكل المبنى ليس غريبًا عليه … والثاني: أنه مرسوم بالقلم الرصاص … ثم وجد تفصيلات عن ممرَّات المبنى، وأبواب الخروج والدخول.
أخذ يتفرَّس في شكل المبنى ويُحاول تذكُّره … إنه متأكِّد أنه رآه من قبل، ولكن أين؟!
ومضت لحظات وهو يُفكِّر، وفجأةً سمع صوت مفتاح يوضع في الباب، وبسرعة ألقى الأوراق في الحقيبة كما كانت، وأطفأ مصباحه، وخطا إلى خلف الباب في خطوة واحدة … ولكنه نسي في غمرة انفعاله أن يُغلق باب الدولاب بالمفتاح، وأدرك أن الداخل سيكتشف الحقيقة، وقرَّر أن يُهاجم على الفور.
فُتح الباب ودخل شخص … وما كاد يُغلق الباب خلفه حتى انقضَّ عليه «أحمد»، وكمَّم فمه حتى لا يُطلق صراخًا يلفت إليهما الأنظار، وحاول بالذراع الأخرى أن يضربه على رقبته، ولكن الشخص الآخر كان قويًّا ومتمرِّنًا، فسرعان ما أمسك بذراع «أحمد» ولواها بشدة، ودار ليُواجه «أحمد»، وأطلق يده في ضربة قوية، ولكن «أحمد» أحنى رأسه بسرعة، ووجَّه بيده اليسرى لكمةً هائلةً في بطن الآخر جعلته يتأوَّه، ولكنه في نفس الوقت وهو يتراجع إلى الخلف أطلق قدمه في ضربة موجعة أصابت ساق «أحمد»، وجعلته يهتز ويكاد يسقط … لكنه تمالك نفسه، ومدَّ يده في جيبه يُخرج مسدَّسه، وعندما رفعه ليُطلق الطلقة القاتلة حدثت مفاجأة … فقد سمع الاثنان صوت مفتاح ثالث يوضع في قفل الباب، وتوقَّف «أحمد» عن إطلاق النار، وتوقَّف الآخر عن الهجوم؛ فقد كان القادم يُصفِّر في مرحٍ وسرور … وهذا يعني ببساطة أنه ساكن الغرفة، فلو كان متسلِّلًا لما أحدث أي صوت … ومعنى هذا كما فكَّر «أحمد»، أن الشخص الذي كان يُصارعه متسلِّل مثله … فمن هو؟
وأطلق «أحمد» شعاع ضوء سريع إلى الشخص الذي كان يُصارعه، وكانت مفاجأةً مذهلة … لم يكن هذا الشخص إلَّا «عثمان»!
تمَّ كل هذا في أقل من ثانية، ورغم حرج الموقف، لم يتمالك «أحمد» نفسه من الابتسام وهو يقول في الظلام: «عثمان»!
وفُتح الباب … وبالطبع انقضَّا معًا على الداخل، وفي لحظات كان طريحًا على الأرض ساكنًا.
وأغلق «عثمان» الباب، وأضاء نور الغرفة، ونظر إلى «أحمد» في دهشة شديدة … وابتسم الصديقان، وقال «عثمان»: هل فتشت المكان؟
أحمد: نعم!
عثمان: وعرفت ما هي مشروعاتهم؟
أحمد: مشروع تركيب أجهزة «ميكرويف» للتليفونات.
عثمان: المشكلة الآن أنهم سيعرفون أننا نتبعهم، وربما غيَّروا خططهم.
أحمد: لقد فكَّرتُ في نفس الشيء، والحل الوحيد هو أن نتظاهر بأننا من لصوص الفنادق، ونسرق بعض الأشياء ونترك الأوراق مكانها، وكأنها لا تعنينا …
عثمان: إذن هيا سريعًا.
وقاما معًا بسرقة بعض ملابس الرجل، ثم فتحا حافظة نقوده واستوليا على ما معه من نقود، وجرَّداه من ساعته، وفي هذه اللحظة سمعا صوتًا على الباب يقول: «هوبي» … هيا!
أدرك الاثنان أنه أحد الرجال، وأنه يستعجل زميله للخروج … وأصبح الموقف في غاية الخطورة.
عاد الصوت يقول: «هوبي»!
ومرةً رابعةً في هذه الليلة فُتح الباب، وبسرعة أطلَّ وجه أحد الرجال وتلقَّفه «عثمان» بلكمة هائلة، هوى الرجل على أثرها فوق الأرض، وصاح «عثمان» ﺑ «أحمد»: أسرع!
وانطلقا في الدهليز يجريان، وسمعا الرجل يصيح طالبًا النجدة، وأدركا أن كل من في الفندق سيشترك في مطاردتهما.
قال «أحمد»: أسرِع إلى السلم الخلفي … إن «بو عمير» و«إلهام» ينتظرانني في قارب. وأخذا يجريان وهما يسمعان أصواتًا كثيرةً تتعالى في قلب الفندق. نزلا السلم مسرعَين وانتهيا إلى الشرفة الدائرة التي تُحيط بالفندق على النيل، وكانت خاليةً في هذه الساعة التي اشتدَّ فيها البرد، وأخرج «أحمد» مصباحه، وأطلق ثلاث ومضات سريعةً في اتجاه النافورة، ثم نزلا إلى شاطئ النهر، وجلسا بين الأعشاب. كانت الريح عاصفة، والبرد شديدًا، والظلام كثيفًا.
ومضت دقائق رهيبة، وهما يسمعان أصوات المطاردين، والأضواء تلمع هنا وهناك، ولكن «بو عمير» و«إلهام» وصلا في الوقت المناسب. ورسا القارب رغم ارتفاع الأمواج قربهما، فأسرعا يقفزان إليه، وسرعان ما أخذ يبتعد عن الفندق الكبير الذي أغلق أبوابه كلها، وبدأ البحث فيه عن اللصوص.
مضى القارب بالأصدقاء الأربعة حتى رسا على الجانب الآخر للنيل قرب فندق «شيراتون»، وصعدا إلى الشاطئ، وسارا معًا إلى شقتهم القريبة في ميدان السد العالي، على مسيرة دقائق قليلة من الشاطئ.
عندما فتحوا الباب وجلسوا، أطلق «عثمان» ضحكةً صاخبةً وقال: لقد كدتَ تقتلني باللكمة التي وجَّهتَها إلى بطني في الظلام.
أحمد: لو لم يأتِ «هوبي» هذا؛ لأطلقت عليك رصاصة … فقد أخرجت مسدسي ولم ينقذك إلَّا حضور «هوبي»!
التفت «عثمان» إلى «إلهام» قائلًا: كوب من الشاي بمليون جنيه!
ردَّت «إلهام» بابتسامة: وكم معك من المليون؟
وأسرعت «إلهام» لإعداد الشاي، وقال «أحمد»: والآن ماذا حدث؟ … تذهب في موعد غرامي ثم لا تعود!
تنهَّد «عثمان» وهو يقول: وهل عمَلنا هذا يسمح للإنسان بمغامرة غرامية؟!
وهزَّ رأسه ومضى يقول: المسألة أنني كنت أخدم هذه الحسناء عندما سألتني إذا كنتُ أعرف شخصًا يُساعدها في بعض الأعمال مقابل أجر مغرٍ، وانتهزت الفرصة وعرفت خدماتها، ولم أكن أعرف أنها من أفراد العصابة، ولكنني عرفت في لحظات أنها منهم بعد أن تبعتها من بعيد، ووجدت أنها صعدت إلى غرفة «مالمو» وغابت فيها نحو ربع ساعة … وقرَّرتُ أن أُخاطر بالتعاون معهم، محاولًا في نفس الوقت الابتعاد عن قارئ الأفكار؛ حتى لا يوقعني في براثنه كما وقع ﻟ «ش. ٢٨» في المغامرة الماضية … وأُعرِّض الشياطين اﻟ «١٣» كلهم ورقم «صفر» للخطر … وهكذا رأيت ألَّا أتصل بكم مطلقًا، حتى بفرض أن «مالمو» استطاع أن يقرأ أفكاري؛ لما استطاع الوصول إليكم.
قال «أحمد» و«إلهام» تضع الشاي أمامهم: هذا ما فكَّرتْ فيه «إلهام» … إنك تبتعد لئلا تُعرِّضنا للخطر.
ابتسم «عثمان» وقال: إنها تفهمني.
أحمد: إن الوقت يمر سريعًا، فهم قد قالوا إن كل شيء سينتهي بعد ٤٨ ساعة، فماذا عملتَ يا «عثمان»؟
عثمان: الحقيقة إنها معلوماتٌ متناثرة … مثلًا هناك عدة أجهزة تُنقل إلى أماكن متعدِّدة في «مصر» لا أعرف الهدف منها. كذلك علمت من الفتاة أنهم في انتظار دكتور قادم من «أوروبا» لإجراء عملية جراحية.
وهنا دقَّ «أحمد» جبهته بيده وقال: الآن عرفت.
عثمان: ماذا عرفت؟
أحمد: لقد رأيتُ في حقيبة الرجل مجموعةً من العقود لتركيب «أجهزة «ميكرويف»»، وهي موجة قصيرة وقوية للدوائر التليفونية. ورأيتُ رسمًا كروكيًّا لمكان أذكر أنني رأيته من قبلُ ولكنني نسيت ما هو … الآن تذكَّرتُ عندما قلتَ لي إنهم في انتظار دكتور لإجراء جراحة أن المكان هو مستشفى المعادي الكبير، وهذا الرسم الكروكي يعني شيئًا هامًّا … إنهم يُريدون معرفة مداخل ومخارج المستشفى، وهذا لا يهم إلَّا شخصًا يُريد السطو على مكان، فماذا يُريدون من مستشفى المعادي؟!