الأدب وتاريخه
(١) درس الأدب في مصر
والآخر مذهب الأوروبيين الذي استحدثته الجامعة المصرية بفضل الأستاذ «نلِّينو» ومن خلفه من المستشرقين، والذي كان ينحو في درس الآداب العربية نحو النقاد ومؤرخي الآداب، حين يعرضون لدرس الآداب الأوروبية الحية أو الآداب الأوروبية القديمة. وكنت ألاحظ أن الفرق بين المذهبين عظيم.
وكنت ألاحظ أن كلا المذهبين لا بد منه إذا أردنا أن نتقن الآداب العربية إتقانًا صحيحًا ونفقه تاريخها فقهًا مقاربًا وننشئ في نفوس الطلاب ملكة النقد والكتابة ونأخذهم بمناهج البحث المنتج. وكنت ألاحظ أن قد كان بين هذين المذهبين مذهب ثالث مشوه رديء كله شر، والخير كل الخير في أن يصرف عنه الأساتذة والطلاب صرفًا؛ وهو هذا المذهب الذي كان قائمًا في مدرسة القضاء ودار العلوم وفي المدارس الثانوية المصرية كلها، والذي لا يأخذ بحظ من أسلوب القدماء في النقد ولا من أسلوب المحدثين في البحث، وإنما يحاول أن يقلد الأوروبيين فيما يسمونه تاريخ الآداب، فيعمد إلى الكُتاب والشعراء والخطباء والفلاسفة فيترجم لهم أو يختلس لهم ترجمة من كتب الطبقات على اختلافها، ثم يتبع كل ترجمة بشيء من شعر الشاعر أو نثر الكاتب أو بيان الخطيب، ثم يلم في كل عصر بطائفة من المعاني يلفق بعضها إلى بعض في غير فقه ولا فهم ولا احتياط ولا دقة، ويُسمى هذا الخليط كله «أدب اللغة العربية» حينًا و«تاريخ أدب اللغة العربية» حينًا آخر. وكانت العادة قد جرت بأن يكتب أساتذة الآداب هذا الكلام للطلاب ويذيعوه فيهم، فيستظهره هؤلاء الطلاب استظهارًا يستعينون به على أداء الامتحان، حتى إذا فرغوا من هذا الامتحان انصرفوا عما حفظوا أو انصرف عنهم ما حفظوا، لم ينتفعوا منه بقليل ولا كثير، ولم يتعلموا منه نقدًا ولا بحثًا، ولم يفيدوا منه ذوقًا ولا شيئًا يشبه الذوق. وإنما كان يخيل إليهم — وقد رأوا أنفسهم يمرون بالآداب العربية منذ خلقها الله إلى أيامنا هذه — أن صدورهم قد وعت العلم كله، لم يفتهم منه شيء ولم تخطئهم منه دقيقة ولا جليلة. وكانوا يزدرون بحكم هذا الغرور البريء علماء الأزهر وطلابه؛ لأنهم لم يدرسوا تاريخ آداب اللغة، ولم يعرفوا العصر الجاهلي، ولا تكسب الشعراء بالشعر، ولا تنقل الشعر في القبائل، ولم يعرفوا العصر الأموي، ولا مناقضة جرير والفرزدق، ولا نشأة العلوم. ولم يعرفوا العصر العباسي، ولا ما استحدث فيه من الشعر السهل والنثر الرقيق، ولا ما ترجم فيه من فلسفة اليونان. ولم يعرفوا انحطاط الأدب بعد أن سقطت بغداد في يد التتار، ولا رقي الأدب يوم قامت في مصر دولة محمد علي الكبير.
كانت هذه هي الحال في مدارس الحكومة في أوائل هذا القرن، وكانت الجامعة المصرية القديمة قد أخذت تغير هذا تغييرًا قيمًا، فعُنيت بالمذهبين النافعين في وقت واحد: عهدت إلى المرحوم حفني ناصف، ثم إلى المرحوم الشيخ مهدي بدرس الأدب، وعهدت إلى الأستاذ جويدي، ثم الأستاذ نلِّينو، ثم الأستاذ فييت بدرس تاريخ الأدب. فبينما كان الأولان يدرسان الأدب ونصوصه المختلفة درس نقد وتحليل فيه حظ عظيم من العناية بالنحو والصرف واللغة والبيان، فيبثان في نفوس الطلاب حب الأدب العربي القديم والميل إلى قراءته واستظهار الجيد من نصوصه المختلفة، وينشئان فيهم الذوق وملكة الإنشاء؛ كان الآخرون يدرسون التاريخ الأدبي بمناهجهم الغربية الحديثة، فيعلمون الطلاب كيف يبحثون ويقارنون ويستنبطون. وكان كلا الأسلوبين في الدرس يتم صاحبه، ويقوي أثره، ويُكوِّن للطالب مزاجًا أدبيًّا علميًّا مستقيمًا خليقًا أن يغير حياة الأدب العربي في شكلها وموضوعها، كما يقول أصحاب القانون.
وكانت الجامعة المصرية القديمة خليقة أن تصل إلى هذه النتيجة وتنتهي إلى هذه الغاية؛ لولا أن صدمتها الحرب الكبرى وأصابها العسر المالي، ووقع الخلف بين أعضاء إدارتها، وظهر فيها الميل الشديد إلى الاقتصاد؛ فعجزت طائعة أو كارهة عن دعوة الأساتذة المستشرقين، وأضافت درس تاريخ الآداب إلى درس الآداب، وكلفت المرحوم الشيخ المهدي أن ينهض بالأمرين جميعًا. ولم يكن المرحوم الشيخ مهدي مؤرخ آداب، وإنما كان رجلًا أديبًا يستطيع أن يقرأ القصيدة فيفهمها ويُعين تلاميذه على فهمها، يصيب هذا الفهم حينًا ويخطئه حينًا. ومهما أنسَ فلن أنسى درسًا سمعته من المرحوم الشيخ مهدي، بعد أن عهد إليه بتاريخ الآداب. كان هذا الدرس في تاريخ الأدب العربي في الأندلس، وكنت حديث عهد بدروس الأستاذ نلينو، وكنت حديث عهد بدروس الأدب الفرنسي في فرنسا، فلم أملك نفسي ولم أستطع أن أسيغ ما سمعت، فخرجت من الدرس. وما هي إلا أن نشرت في إحدى الصحف نقدًا عنيفًا، غضب له الأستاذ وشكاني من أجله إلى مجلس إدارة الجامعة، وطلب عقوبة قاسية لم تكن أقل من محو اسمي من بين طلاب البعثة العلمية للجامعة. وانقسم مجلس إدارة الجامعة في هذا، ولم يظفر أهل الخير فيه بإصلاح الأمر وإرضاء الأستاذ وتمكيني من العودة إلى فرنسا إلا بعد مشقة وجهد.
عادت الجامعة بدرس الآداب إلى النحو الذي كانت الآداب تُدرس به في مدرستي القضاء ودار العلوم، ولقد كنت أتمنى منذ عشر سنين في مقدمة «ذكرى أبي العلاء» أن تُوفق الجامعة لاستئناف أسلوبها القيم المنتج في درس الأدب وتاريخه؛ ولكن الجامعة القديمة لم تُوفق مع الأسف لاستئناف هذا الأسلوب.
أما مدرسة القضاء ودار العلوم والمدارس الثانوية، فلم يكن يُنتظر ولا يُرجى أن يتغير منهجها في درس الأدب العربي. وكيف يُرجى أن يتغير هذا المنهج وقد أغلقت أبواب هذه المدارس ونوافذها إغلاقًا محكمًا، فحيل بينها وبين الهواء الطلق، وحيل بينها وبين الضوء الذي يبعث القوة والحركة والحياة؟ وظلت كما هي تُعيد ما تبدأ وتبدأ ما تُعيد، وتكرر في كل سنة ما كانت تكرر في السنة الماضية، والأساتذة مطمئنون إلى هذا البدء والإعادة. والطلاب مطمئنون إلى هذه المذكرات، يستظهرونها استظهارًا وينقشونها نقشًا على أوراق الامتحان، و«يكرونها كرًّا» أمام لجان الامتحان، حتى إذا فرغوا من الامتحان أصبحوا أساتذة ومعلمين، واختصروا لتلاميذهم مذكرات أساتذتهم، وحفظ هؤلاء التلاميذ ونقشوا و«كروا» وظفروا آخر الأمر بالشهادات.
ولم يكن يُنتظر ولا يُرجى أن يتغير منهج الدرس الأدبي في مدارس الحكومة، ولقد كنت أقرأ منذ أشهر إحدى هذه المذكرات التي تُذاع في طلاب دار العلوم، فإذا هي ما كنت أقرؤه منذ عشر سنين أو منذ خمس عشرة سنة، لم تتغير، أستغفر الله؛ بل تغيرت فاختصرت، وعمد صاحبها إلى الإيجاز وأسرف فيه؛ رفقًا بالطلاب، وتيسيرًا لأمر الامتحان عليهم!
وبينما كانت هذه المدارس محتفظة بأسلوبها العقيم، كان الأزهر الشريف كلفًا بهذا الأسلوب العقيم نفسه، تواقًا إليه، مشغوفًا به أشد الشغف، ولِمَ لا؟ لقد كان الأزهر يطمع في النظام، ويريد أن يكون طلابه كطلاب دار العلوم والقضاء، لعلهم يظفرون بما يظفر به أولئك وهؤلاء من رضا الحكومة وإعجاب العامة. وإذن فلينقل نظام هاتين المدرستين إلى الأزهر، وقد نقل إليه كله أو بعضه نقلًا سيئًا، وعرف الأزهر الشريف شيئًا غريبًا يقال له: أدب اللغة، هو شر ألف مرة ومرة مما عرفته دار العلوم ومدرسة القضاء! وما رأيك في أدب يدرسه قوم لا صلة بينهم وبين الأدب، يقلدون فيه تقليدًا كما يقلدون في الفقه؟ نستغفر الله؛ بل هم يقلدون في الفقه عن علم بالفقه، ويقلدون في الأدب عن جهل بالأدب. وكم كان لاذعًا ذلك الألم الذي أحسسته يوم رأيت الأستاذ الشيخ سيد المرصفي يلتمس الكتب المدرسية في «أدب اللغة» ليتعلم منها كيف يدرس الأدب على النظام الجديد ليُرضي حاجة الأزهر إلى النظام وكلفه بهذا الرقي الذي لم يكن في حقيقة الأمر إلا انحطاطًا وضعة، والذي نرجو مخلصين أن يبرأ منه الأزهر في وقت قريب.
لم يتقدم درس الأدب في مدارس الحكومة، وانحط درس الأدب في الأزهر، وكانت نتيجة هذا كله أنك تستطيع أن تنظر إلى ألوان العلم التي تدرس في مدارسنا على اختلافها، فإذا كلها قد ارتقى وتقدم تقدمًا يختلف قوة وضعفًا، وإذا المصريون قد أخذوا منها بحظوظ لا بأس بها، إلا لونًا واحدًا من ألوان العلم لم يتقدم إصبعًا، بل لست أشك في أنه تأخر تأخرًا منكرًا، وهو الأدب العربي، فليس بين الأستاذ الذي يدرس الأدب في هذه السنة والأستاذ الذي كان يدرسه من خمس عشرة سنة فرق ما، وليس بين التلميذ الذي ظفر بالشهادة الثانوية الآن والذي كان يظفر بها منذ خمس عشرة سنة فرق ما. وليس أدل على هذا كله من أننا حين أردنا أن ندرس الأدب في الجامعة لحملة الشهادة الثانوية، اضطررنا إلى أن نبدأ الدرس من أوله، فنعلمهم أوليات النحو والصرف والبلاغة والتاريخ، فضلًا عن أوليات الأدب. وليس معنى هذا أن الأدب لم يتقدم في مصر، وإنما معناه أن الأدب لم يتقدم في مدارس الحكومة والمدارس التي تقلدها وتذهب مذهبها لتظفر بالشهادات والإجازات. وأنت تعلم أن الفرق عظيم بين مصر ومدارس مصر، فبينما مصر تحيا ويعظم حظها من الحياة كلما تقدمت بها السن، وبينما يشتد الاتصال بينها وبين أوروبا فتستغل هذا الاتصال وتنتفع به في فروع الحياة المختلفة، تظل المدارس فيها حيث كانت قبل الحرب، وحيث كانت قبل الحماية، وقبل الاستقلال وقبل الدستور، في الأدب بنوع خاص؛ ذلك لأن هذه المدارس — كما قلنا — مغلقة قد حيل بينها وبين الهواء والضوء. ومن غريب الأمر أن الحكومة ترسل البعثات العلمية إلى أوروبا، حتى إذا عاد أعضاء هذه البعثات عهدت إليهم بدرس العلوم المختلفة في المدارس، ولكن الحكومة لا تُفكر في أن ترسل بعثات لدرس الأدب، وتعهد إلى أعضاء هذه البعثات بتحديد هذا العلم في دار العلوم والمعلمين وغيرهما من المدارس. ولكن مصر — كما قلنا — ماضية في طريقها، قوية الحظ من الحياة والقوة والحركة والاتصال بأوروبا، وقد أثر هذا كله في حياة الأدب العربي تأثيرًا ظاهرًا، ولكن خارج المدارس حيث الهواء والضوء والحرية، وحيث يستطيع الناس أن يتنفسوا ويتكلموا ويكتبوا في غير حرج ولا ضيق، فإذا شئت أن تلتمس الأدب العربي الذي لا يخلو من حياة وقوة ونشاط، فالتمسه في الصحف اليومية وفي المجلات وفي الكتب وفي الأندية وفي الأحاديث، فستظفر منه بالشيء الكثير الذي لا يخلو من طرافة وشخصية واستعداد صالح للنمو.
وإذا ظلت مدارسنا حيث هي، وظل الأدب فيها مثقلًا بهذه الأغلال والقيود، محتكرًا في هذه الجماعة التي لا تستطيع أن تجدد ولا أن تحيي، وإنما هي مضطرة بطبيعتها إلى السكون والجمود — وقد كدت أملي كلمة الموت — فلن يستطيع الأدب العربي أن يأخذ من الحياة بحظه المقدور له، ولن تستطيع اللغة العربية أن تأخذ بحظها من القوة، ولا أن تصبح لغة علمية حية بالمعنى الصحيح. ولا بد إذا ظلت الحال كما هي الآن أن يختل التوازن بين رقينا السياسي والعلمي والاجتماعي المطرد، وحياتنا الأدبية الجامدة، ذلك بأن الميدان الصالح للحياة الأدبية، الميدان الذي تعتمد عليه الأمم في أدبها ولغتها، ليس هو الصحف ولا المجلات، بل هو المدارس التي يتكون فيها الشباب وتنشأ فيها العقول والملكات، وتعد فيها أجيال الأمة للجهاد في الحياة، فإذا أردت أن تُرقَّى الأمة حقًّا في ناحية من نواحي حياتها فاعمد إلى المدرسة، فأنت واجد في المدرسة وحدَها أصلح السبل وأقومها وأوضحها إلى هذا الرقي.
ما أكثر ما نشكو من أن اللغة العربية ليست لغة تعليم! وما أكثر ما نضيق ذرعًا باضطرارنا إلى اصطناع اللغات الأجنبية في التعليم العالي! ولكن ما أقل ما نبذل من الجهد لنجعل اللغة العربية لغة التعليم، بل نحن لا نبذل في هذا جهدًا ما! وكيف تكون اللغة العربية لغة التعليم وهي لا تُدرس في المدارس المصرية! فاللغة العربية لا تُدرس في مدارسنا، وإنما يُدرس في هذه المدارس شيء غريب لا صلة بينه وبين الحياة، لا صلة بينه وبين عقل التلميذ وشعوره وعاطفته، وآية ذلك أنك تستطيع أن تمتحن تلاميذ المدارس الثانوية والعالية، وأن تطلب إليهم أن يصفوا لك في لغة عربية واضحة ما يجدون من شعور أو إحساس أو عاطفة أو رأي، فإن ظفرت منهم بشيء فأنا المخطئ وأنت المصيب، ولكنك لن تظفر منهم بشيء، أو لن تظفر من أكثرهم بشيء، فإن وجدت عند بعضهم شيئًا فليس هو مدينًا به للمدرسة، وإنما هو مدين به للصحف والمجلات والأندية السياسية والأدبية.
(٢) سبيل الإصلاح
وإذن فالإصلاح محتوم لا مفر منه، وما سبيل هذا الإصلاح؟
لهذا الإصلاح سبيلان: إحداهما تعلة نلجأ إليها الآن مضطرين؛ لأننا لا نجد خيرًا منها، فلا بد لنا من أن نتعلل بها، حتى نستطيع أن نصل إلى السبيل الثانية، وهي القويمة المتينة المنتجة.
فأما الأولى فهي أن نجتهد ما استطعنا في أن نحبب إلى طلاب المدارس العالية وتلاميذ الثانوية والابتدائية قراءة النصوص العربية وتفهمها، ونقرب إليهم هذه النصوص، ونحسن لهم اختيارها، ونظهرهم على أن الأدب العربي ليس — كما يمثله لهم معلموه من الشيوخ — جافًّا جدبًا عسر الهضم، لا سبيل إلى إساغته ولا إلى تذوقه، وإنما هو على عكس هذا كله لين هين خصب لذيذ، فيه ما يرضي حاجة الشعور، وفيه ما يُقوم عوج اللسان، وفيه ما يُصلح من فساد الخلق، وفيه ما يُرضي حاجة الإنسان في حياته الفردية والمنزلية والوطنية والإنسانية أيضًا. وإذا كان الشيوخ من المعلمين قد عجزوا إلى الآن عن أن يظهروا تلاميذنا وطلابنا على هذه النواحي العذبة الخصبة من أدبنا العربي، فلا أقل من أن تلجأ وزارة المعارف إلى الذين يستطيعون أن يعرضوا على شبابنا هذه الصور الجذابة الحلوة من هذا الأدب البائس بأهله ومحتكريه! نعم، يجب أن تلجأ وزارة «المعارف» إلى طائفة من الفنيين الذين يدرسون الأدب العربي في ذوق، ويقرءون اللغة العربية في فهم وفقه، ويتخذون منهما ومن العناية بهما لذة ومتعة، لا وسيلة إلى العيش وقبض الراتب آخر الشهر. يجب أن تلجأ وزارة المعارف إلى طائفة من هؤلاء الفنيين، تطلب إليهم أن يتخيروا للشبان من آثار الشعراء والكُتاب والعلماء في العصور الأدبية المختلفة ما يقرءون ويدرسون في المدارس، أو بعبارة أدق ما يتعللون به في المدارس، حتى تستطيع الوزارة أن تصل إلى تلك السبيل الثانية، التي هي وحدها طريق الإصلاح الأدبي المنتج، وهذه السبيل الثانية هي إعداد المعلمين.
نعم! إعداد المعلمين الذين يعلمون اللغة العربية؛ فليس في مصر أساتذة لهذه اللغة، لا من حيث إنها أداة للتعبير ووسيلة من وسائل البيان، ولا من حيث إنها مظهر من مظاهر التاريخ ومرآة لحياة الأمة وموضوع للبحث العلمي، ليس في مصر أساتذة للغة العربية وآدابها، وإنما في مصر أساتذة لهذا الشيء الغريب المشوه الذي يسمونه نحوًا وما هو بالنحو، وصرفًا وما هو بالصرف، وبلاغة وما هو بالبلاغة، وأدبًا وما هو بالأدب؛ إنما هو كلام مرصوف، ولغو من القول قد ضُم بعضه إلى بعض، تُكره الذاكرة على استيعابه فتستوعبه، وقد أقسمت لتقيئنه متى أُتيح لها هذا! ومن الذي يستطيع أن يقول: إن في مصر أساتذة للغة العربية وآدابها؟! وأنت تستطيع أن تتقصى هذه الطائفة التي احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون، فلن ترى فيها إلا قليلًا عرفوا أو يمكن أن يعرفوا بالذوق الأدبي والفقه اللغوي، وأين منهم الكاتب! وأين منهم الشاعر! وأين منهم الناقد! وأين منهم القادر على أن يبتكر فنًّا من فنون القول أو لونًا من ألوان العلم أو أسلوبًا من أساليب البيان؟! ها هم أولاء قد احتكروا تعليم اللغة وآدابها منذ نصف قرن، فهل تراهم استحدثوا في اللغة وآدابها بحثًا طريفًا، أو نشروا فيها كتابًا قيما؟! تعالَ نحصِ آثارهم العلمية في اللغة وآدابها منذ نظم التعليم المدني في مصر: كتاب مدرسي في النحو والصرف، لا يشك أحد الآن في أنه ضئيل نحيف جدب لا يفي بالحاجة، ولا يمكِّن الطلاب من أن يقرءوا نصًّا عربيًّا، عسيرًا بعض العسر على وجهه، ويفهموه كما ينبغي أن يُفهم، وشيء مثله في البلاغة، من الإثم أن يُسمى بلاغة؛ لأنه حوَّل هذه الفنون الأدبية الحلوة التي ينبغي أن يجد فيها الطلاب لذة ونعيمًا إلى صيغ جافة معضلة كصيغ الجبر والهندسة، إلا أن صيغ الجبر والهندسة تدل على علم قيم، وصيغ البلاغة هي التي لا تدل إلا على جمود وجفوة في الطبع، وكتاب أو كتابان في الأدب وقاك الله شر النظر فيهما، يكفي أن تذكرهما للتلاميذ لتعرف في وجوههم السأم والضجر، وبغض اللغة العربية وأساتذة اللغة العربية …
ثم ماذا؟ ثم مذكرات تذاع في طلاب المدارس العالية، استخذى أصحابها أن ينشروها على أنها كتب، وعجز أصحابها أن يخرجوا للناس خيرًا منها؛ فهم مكرهون على كتابتها، والطلاب مكرهون على استظهارها.
ثم ماذا؟ ثم لون من السطو على الأدب القديم والعلماء المتقدمين يُسمى حينًا بالاختصار، وحينًا بالاختيار، وحينًا بالتهذيب؛ وما هو من هذا كله في شيء، إنما هو المسخ والتشويه والبتر وما إلى هذا كله من ألوان الإفساد التي ذكرها الجاحظ فيما روى عنه ياقوت في أول كتابه «معجم البلدان».
أليس من شيوخ الأدب في مصر من يعلم طلابه الآن أن ليس لليونان أدب ولا شعر ولا خطابة كما لأهل الضاد؟! وكيف السبيل إلى درس الأدب العربي إذا لم ندرس اللغات الإسلامية المختلفة، ولا سيما الفارسية منها، ونتبين ما كان لهذه اللغات وآدابها من تأثير في أدبنا العربي الذي لم ينشأ في برج من العاج، وإنما تأثر بالآداب المختلفة وأثر فيها؟ وهل تظن أن من شيوخ الأدب في مصر من قرأ الشاهنامة، أو ألم بشيء من شعر عمر الخيام أو من شعر السعدي أو الحافظ؟ وكيف السبيل إلى درس الأدب العربي إذا لم ندرس اللغات الأوروبية الحية، ونتبين تأثيرها في أدبنا الحديث؟ ثم كيف السبيل إلى درس الأدب العربي إذا لم نأخذ بمناهج البحث العلمي الحديث، وندرس آدابنا كما يدرس الفرنسيون والإنجليز والألمان آدابهم؟
هذا كله ولم أشر من المسألة إلا إلى أظهر أنحائها، إلا إلى هذه الأنحاء التي لا تتحمل جدلًا ولا خلافًا، ولو أني تعمقت بعض التعمق فأشرت إلى الصلة بين مناهج البحث عن فقه اللغتين اليونانية واللاتينية وفقه اللغة العربية لأطلت وأثقلت، ولكني أكتفي بهذه الإشارة الموجزة التي هي أشبه بالتحدث إلى العامة منها بالتحدث إلى العلماء، وأعتقد أن هذه الإشارة وحدها تكفي لإثبات ما أزعم من أن دار العلوم قد أصبحت لا تصلح لما يُطلب إليها الآن من إعداد أساتذة لتعليم اللغة العربية وآدابها؛ فليعدل عنها إلى المعهدين اللذين يستطيعان أن ينهضا بهذا العبء، وهما مدرسة المعلمين، والجامعة.
(٣) الثقافة ودرس الأدب
وهنا نلاحظ أن شيوخ الأدب العربي في مصر لم يقف الأمر بهم عند القصور على مهمتهم، بل تجاوزا هذا القصور إلى ما هو شر منه؛ تجاوزوه إلى التقصير فيما كان القدماء أنفسهم يرونه أمرًا لا منصرف عنه؛ فقد كان القدماء من أدباء العرب يرون — وشيوخ الأدب في مصر يعرفون ذلك — أن الأدب هو «الأخذ من كل شيء بطرف»، وليس لهذا معنى إلا أن القدماء كانوا يتخذون الثقافة المتينة الواسعة أساسًا لكل بحث أدبي منتج. كان الجاحظ أديبًا؛ لأنه كان مثقفًا قبل أن يكون لغويًّا أو بيانيًّا أو كاتبًا. وليس من شك في أن الجاحظ وأمثاله من الأدباء في بغداد والبصرة والكوفة وغيرها من أمصار المسلمين كانوا — إبان العصر العباسي — يتقنون قديمهم من لغة وأدب وفقه وحديث ورواية، وكانوا إلى إتقان هذا كله يحسنون الجديد، ويتصرفون في كثير من فنونه؛ كانوا يحسنون فلسفة اليونان وعلومهم، وسياسة الفرس، وحكمة الهند، وكانوا يحسنون التاريخ وتقويم البلدان، كانوا يأخذون من كل شيء بطرف، فكانوا أدباء وكانوا كُتابًا، واستطاعوا أن يتركوا لنا هذا التراث الخالد. ولو عاش الجاحظ في هذا العصر لحاول إتقان الفلسفة الألمانية والفرنسية، كما حاول في عصره إتقان فلسفة اليونان. أفتظن أن لشيوخنا حظًّا من الثقافة يشبه حظ أدبائنا القدماء أو يدانيه؟ كلا! هم يقولون: إن الأدب هو «الأخذ من كل شيء بطرف»، ولكنهم أبعد الناس عن أن يأخذوا من كل شيء بطرف، هم يجهلون القديم نفسه فكيف الجديد! وكم من شيوخ الأدب بمصر يستطيع أن يحدثك عن فلسفة اليونان التي عرفها العرب كما كان يتحدث عنها الجاحظ ومن إليه! وإذا كانوا يجهلون القديم العربي؛ فكيف سبيلهم إلى الجديد الأوروبي، فضلًا عن القديم اليوناني واللاتيني والسامي؟!
فأنت ترى أن إتقان الأدب العربي والوصول بدراسته إلى حيث تنتج وتفيد، ليس من الأمور الهينة، وإنما هو يحتاج إلى هذه الثقافة التي أشرت إليها، وإلى كل هذه الدراسات التي أوجزت القول فيها إيجازًا.
ستقول: ومن الذي يستطيع أن يُصدق أن رجلًا واحدًا يستطيع أن ينهض بكل هذه الدراسات، فيتقن اليونانية واللاتينية واللغات السامية ولغات الأمم الإسلامية، ويلم بكل ما ذكرت من ألوان الفنون وضروب العلم، أليس اشتراط هذا كله فنًّا من فنون التعجيز، وضربًا من الإغراب والتيه والتخييل إلى الناس أنك قد أخذت من هذا كله بطرف، وأنك لهذا تستطيع وحدك أن تدرس الآداب وأن تحتكر درسها احتكارًا؟! ومن الذي يستطيع أن يُصدق أن أستاذ الأدب في فرنسا أو في إنجلترا يتقن مثل هذا المقدار الضخم من الدراسات، قبل أن يأخذ من درس أدبه الفرنسي أو الإنجليزي؟
ستقول هذا، وأنا كنت أنتظر أن أسمعه منك، ولم أكن أشعر بشيء من المشقة في أن أرد عليك هذا القول، فلنلاحظ قبل كل شيء أني لا أعرف — وأزعم أنك لن تعرف — أستاذًا للأدب الفرنسي أو الإنجليزي يستحق هذا اللقب إلا وقد أتقن اليونانية واللاتينية لغة وفقهًا وأدبًا وفلسفة، ثم أتقن إلى جانب هذا كله لغتين من اللغات الحية على أقل تقدير، ثم فرغ بعد هذا وبعد ثقافة متقنة متينة لناحية بعينها من أنحاء أدبه فأنفق فيها حياته. ثم لنلاحظ بعد هذا أن قد ذهب العصر الذي كان الناس يقبلون فيه أن يلم الرجل الواحد بكل شيء وينفرد بنوع من أنواع العلم يدرسه وينبغ فيه، انقضى هذا العصر وأصبح الأفراد عمالًا يتأثرون في العلم كما يتأثرون في الصناعة، ويتأثرون في الجامعة والكلية كما يتأثرون في المصنع والمتجر بقانون توزيع العمل، ولكن تأثرهم بهذا القانون ليس معناه أن كل واحد منهم يتقن المسألة أو المسألتين ويجهل ما عداهما. وإنما معناه أن كل واحد منهم يتخذ العدة المتقنة لعمله، ثم يوفر جهوده وقواه على فرع من فروع هذا العمل ليكون له أشد إتقانًا، في حين يفرغ رجل آخر لفرع آخر، وعلى هذا النحو. فإذا قلنا: إن هذه الدراسات المتقدمة أساسية لدرس الأدب فإنما نريد أن يفرغ لكل واحد من هذه الدراسات طائفة من الإخصائيين، وأن يعتمد الأديب في بحثه الأدبي على خلاصة ما ينتهي إليه هؤلاء الإخصائيون من النتائج العلمية.
ودع الأدب واقصد إلى أصحاب العلم الخالص فحدثني: أيستطيع صاحب الحيوان أو صاحب النبات أن يعرض لعلم الحيوان أو علم النبات ولما يأخذ لهذا العلم عدته من إتقان الطبيعة والكيمياء على اختلاف فروعهما؟ وهل يستطيع أن يتقن الطبيعة والكيمياء دون أن يأخذ بحظ موفور من الرياضة والجيولوجيا والجغرافيا؟ وهل يستطيع أن يأخذ بحظ من هذا كله دون أن يظفر قبل كل شيء بهذه الثقافة المتينة العميقة الواسعة التي يحتاج إليها كما قدمنا العالم والأديب والرجل المستنير؟ وهل نعرف عالمًا فرنسيًّا خليقًا بلقب العلماء لا يتقن اللغات الحية الأوروبية الراقية، ولا يأخذ بحظه من اليونانية واللاتينية؟
ثم حدثني بعد هذا، أتظن أن هذا العالم الذي اتخذ هذه العدة وتسلح بهذا السلاح يستقل بعلم الحيوان أو علم النبات، أو يفرغ لما يحتاج إليه في مادته من الكيمياء والطبيعة والرياضة؟ كلا! إنه يفرغ لفرع من فروع علم الحيوان، ويعتمد على ما يصل إليه أصحاب الطبيعة والكيمياء من النتائج العلمية، ولكنه مضطر إلى أن يتقن وسائل علمه، ليكون قادرًا على المراقبة والمراجعة والملاحظة والتحقيق كلما احتاج إلى شيء من هذا، وكذلك الأدباء أو أساتذة الأدب في أوروبا، وكذلك نريد أن يكون أساتذة الأدب في مصر، فأين «دار العلوم» من هذا كله؟
(٤) الأدب
ولكن ما هذا الأدب الذي ندور حوله منذ بدأنا القول دون أن نحاول التعمق فيه؟ أليس من الخير أن نعرفه لنتبين أن من الحق اتصاله بكل هذه الدراسات، وأن من الحق أن تتجدد به عناية وزارة «المعارف» على النحو الذي قدمنا؟ بلى! وقد أحب أن أبسط رأيي في الأدب في غير تكلف ولا حيلة، بل في غير حرص على لغة العلماء وأسلوب العلماء، فالأمر في نفسه أيسر من هذا كله، وإن كان الناس في مصر قد تعودوا أن يعتقدوا أن الأدب شيء غريب صعب تحديده، وعسير أن نصل إلى كنهه. ولا تكاد ترى باحثًا محدثًا عن الأدب العربي إلا عُني بكلمة «الأدب» ومعانيها المختلفة في العصور العربية المختلفة، فوُفق في هذه العناية أو لم يُوفق، حتى إذا فرغ من هذا عُني بتحديد المعنى الذي ينبغي أن نفهمه الآن من هذا اللفظ، وهو في هذا التحديد يتكلف؛ فإن كان من أنصار القديم سجع وزاوج وأسرف في السجع والزواج، وإن كان من أنصار الجديد تحذق وتكلف ووضع لك جملًا غريبة كأنه يحدد أصلًا من أصول الفلسفة العليا، أو كأنه يستنزل وحيًا من السماء. وموقف الباحثين من الفريقين بإزاء الشعر كموقفهم بإزاء الأدب؛ أولئك يسجعون ويزاوجون، وهؤلاء يتحذقون ويستوحون، ولست أريد أن أبتكر، وإنما أريد أن آخذ الأشياء كما هي، وأتمثلها كما يتمثلها المستنيرون من الناس. والقول كثير في أن لفظ «الأدَب» قد اشتق من «الأدْب» بمعنى الدعوة إلى الولائم، والقول كثير أيضًا في تكلف الصلة بين لفظ «الأدَب» وبين «الأدْب» بمعنى الدعوة إلى الولائم، ثم القول كثير فيما دلت عليه هذه الكلمة من المعاني التي اختلفت باختلاف العصور.
قد ذكرت في غير هذا الموضع أن لأستاذنا نلينو رأيًا في اشتقاق هذه الكلمة؛ فهو يشتقها من «الدأب» بمعنى العادة، ويرى أن هذه الكلمة لم تشتق من المفرد، وإنما اشتقت من الجمع؛ فقد جُمعت «دأب» على «أدآب» ثم قلبت فقيل: «آداب» كما جُمعت «بئر» و«ورئم» على «أبآر» و«أرآم» ثم قلبت فقيل: «آبار» و«آرام».
قال الأستاذ نلينو: وكثر استعمال «الآداب» جمعًا «للدأب»حتى نسي العرب أصل هذا الجمع وما كان فيه من قلب، وخُيل إليهم أنه جمع لا قلب فيه، فأخذوا منه مفرده أدبًا لا دأبًا، وجرى استعمال هذه الكلمة بمعنى العادة، ثم انتقل من هذا المعنى الطبيعي القديم إلى معانيه الأخرى المختلفة.
وظاهر أن رأي الأستاذ نلينو كرأي غيره من أصحاب اللغة، يعتمد في أصله على الفرض؛ فليس لدينا من النصوص أو القرائن العلمية الواضحة ما يُبين لنا أن لفظ «الأدَب» قد اشتق من «الأدْب» بمعنى الدعوة إلى الولائم، أو قد اشتق من «الأدآب» جمع «دأب». ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أننا لا نعرف نصًّا عربيًّا جاهليًّا صحيحًا ورد فيه لفظ «الأدب»، والشيء الذي لا شك فيه أيضًا هو أننا لا نعرف أن لفظ «الأدب» قد ورد في القرآن، وكل ما نعرفه هو أن هذه المادة قد وردت في حديث، مهما يكن رأي المحدثين فيه فليس هو بالحجة القاطعة على أن النبي قد استعمل هذه المادة، وهذا الحديث هو قوله ﷺ: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»، هذا الحديث لا يثبت حكمًا لغويًّا إلا إذا ثبت ثبوتًا لا يقبل الشك، أو كان من الراجح على أقل تقدير أنه صح بلفظه عن النبي، ولكننا بعيدون عن هذا كله، فنستطيع إذن أن نقول في غير تردد: إنه ليس لدينا نص صحيح قاطع يُثبت أن لفظ «الأدب» وما يتصرف منه من الأفعال والأسماء قد كان معروفًا أو مستعملًا قبل الإسلام أو إبان ظهوره.
والكلام المحمول على الخلفاء الأربعة كثير، وليس هناك سبيل لتحقيق ما صح أو لم يصح من هذا الكلام، فليس لدينا ما يمكننا من القطع بأن هذه الكلمة وما يتصرف منها قد كانت شائعة في الحجاز أثناء السنين التي تلت وفاة النبي. وإذا كانت النصوص الصحيحة القاطعة تعوزنا لإثبات أولية هذه الكلمة وما يتصرف منها في اللغة العربية الفصحى، فقد يكون من العسير أن نشك في أن هذه الكلمة قد كانت شائعة مستفيضة أيام بني أمية، دون أن نستطيع تحديد الوقت الذي ظهرت فيه. ولكنك إذا قرأت كثرة النصوص التي استعملت فيها هذه المادة أيام بني أمية أحسست إحساسًا لا يخلو من قوة أن أول ما استعملت فيه هذه المادة إنما هو التعليم، والتعليم على النحو الذي كان مألوفًا أيام بني أمية؛ أي التعليم بطريقة الرواية على اختلاف أنواعها: رواية الشعر، ورواية الأخبار، وأحاديث الأولين، وكل ما يتصل بالعصر الجاهلي وسيرة الأبطال قدمائهم ومحدثيهم، وكل ما كان من شأنه تكوين الثقافة التي كان يحرص عليها العربي المستنير من الأرستقراطية الحاكمة، أو من الأرستقراطية التي يعتز بها الخلفاء، ولا نكاد نرى هذه المادة مستعملة في أول الأمر إلا فعلًا أو اسم فاعل: فهم يستعملون «أدب»، ويستعملون بنوع خاص لفظ «المؤدب»، وهم لا يطلقون لفظ «المؤدب» هذا على رواة الحديث والدين، وإنما يطلقونه على رواة الشعر والخبر، وعلى الذين كانوا يحترفون تعليم الشعر والخبر وما إلى ذلك لأبناء الأرستقراطية، وقد يقال: إن هذه الكلمة لا تُعرف في اللغات السامية الأخرى، وإذا كانت لا تُعرف في اللغات السامية الأخرى، وليس بين النصوص العربية الجاهلية الصحيحة ما يُثبتها، وليست في القرآن ولا في الحديث، ولا فيما ورد عن الخلفاء بطريقة قاطعة، فمن أين تكون قد جاءت؟
هنا نستطيع أن نفترض، كما افترض الأستاذ نلينو وكما افترض غيره من اللغويين القدماء، وليس في مثل هذا الافتراض حرج — على أني لا أحرص على هذا الفرض، ولا أقول: إني أرجحه أو أقويه — من المحقق أن لغة قريش قد أثرت في لغات العرب الآخرين، بعد أن جعلها الإسلام لغة رسمية؛ لغة سياسة وإدارة ودين، فتكلمها العرب كافة في آثارهم الأدبية على أقل تقدير. ولكن من المحقق أيضًا أن لغة قريش هذه قد تأثرت بلغات العرب المختلفة بعد الإسلام، كما تأثرت بها قبل الإسلام؛ فهي مؤثرة في هذه اللغات وهي متأثرة بها، وليس في هذا ما يحتاج إلى بحث أو إلى إثبات، فهو طبيعي في كل لغة وفي كل لهجة، وإثباته بالقياس إلى لغة قريش يسير، ولكنك سترى — حين تتعمق في درس ما كان من تدوين اللغة العربية الفصحى — أن علماء اللغة لم يدونوا في كتبهم ومعاجمهم لغة قريش وحدها، وإنما دونوا ألفاظًا كثيرة كانت شائعة في قبائل مختلفة من العرب، ولم تكن تعرفها قريش، وليس من اليسير الآن — مع الأسف — أن تُرد هذه الألفاظ التي تمتلئ بها المعاجم إلى مواطنها الجغرافية الصحيحة؛ فقد سُميت كلها لغة عربية، وحُملت كلها على هذه اللغة الفصحى، ونسي الناس أن هذه اللغة العربية الفصحى، إنما هي لغة حي من أحياء العرب، أو لغة إقليم من أقاليم البلاد العربية هو الحجاز. والذي نريد أن نصل إليه هو أن علماء اللغة مهما يكونوا قد دونوا من غير لغة قريش، فهم لم يدونوا منها إلا شيئًا قليلًا بالقياس إلى ما أهمل إهمالًا، لبعد ما بينه وبين لغة قريش بوجه عام، ولبعد ما بينه وبين القرآن بوجه خاص، وآية ذلك هذه اللغات اليمنية التي أشار القدماء إليها إشارة، وحفظوا منها ألفاظًا ورد بعضها في القرآن، وورد بعضها الآخر فيما قيل من الشعر بلغة قريش، ولكنهم أهملوها إهمالًا لبعد ما بينها وبين اللغة القرشية في أصول النحو والتصريف والاشتقاق، وأخذ المحدثون يستنبطونها استنباطًا من النقوش. ضاع إذن شيء كثير جدًّا من أصول اللغات اليمنية وغير اليمنية، ولم تُدون فيها المعاجم كما دُونت في لغة قريش وفي اللغتين الساميتين الأخريين العبرية والسريانية، فإذا لم نجد مادة «الأدب» في لغة قريش ولا في العبرانية ولا في السريانية، فليس ما يمنع أن تكون هذه الكلمة قد دخلت في لغة قريش إبان العصر الأموي، انتقلت إليها من إحدى اللغات العربية التي ضاعت، ولكن من أي اللغات؟
ذلك شيء قد لا تكون السبيل إلى معرفته يسيرة، ومهما يكن أصل هذه الكلمة ومصدرها الذي اشتقت منه، فقد كانت تدل منذ العصر الأموي على هذا النحو من العلم الذي ليس دينًا ولا متصلًا بالدين، وإنما هو شعر وخبر أو متصل بالشعر والخبر. وكانت تدل على ما تعودنا أن نفهمه منها الآن في حياتنا العملية اليومية، من لين الجانب، وحسن الخلق، ورقة الشمائل، والحياة الملائمة لما تواضع الناس على أنه خير بوجه عام. وكان الناس يقولون: «أدب فلانًا» فيفهمون منها هذين المعنيين: علمه الأدب، وهو هذا النوع من العلم الذي أشرنا إليه، وأخذه بالأدب وهو هذا النوع من الحياة التي ذكرناها. وظل لفظ «الأدب» يدل على هذين المعنيين طوال العصر العربي الفصيح، بل إلى أيامنا هذه. وقد تطور هذان المعنيان تطورًا كثيرًا، فاتسعا حينًا وضاقا حينًا آخر، ومضى اللفظ مع هذين المعنيين في سعتهما وضيقهما، فكان «الأدب» بمعناه الأول — أيام بني أمية وصدر العصر العباسي — عبارة عن الشعر والأنساب والأخبار وأيام الناس، ثم ظهرت علوم اللغة ودُونت ووُضعت أصولها، فدخل كل هذا في الأدب. ثم قويت هذه العلوم، وتأثر المشتغلون بها بهذا القانون الطبيعي، قانون توزيع العمل، فكان التخصص، وأخذت هذه العلوم تستقل واحدًا فواحدًا، حتى إذا كان القرن الثالث للهجرة كان معنى «الأدب» قد عاد إلى الضيق بعد السعة، وأصبح لا يدل إلا على هذا النحو من العلم الذي تجده في كتب كالكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وطبقات الشعراء لابن سلام، والشعر والشعراء لابن قتيبة. ومعنى هذا أن الأدب قد عاد أو كاد يعود في القرن الثالث إلى معناه الذي كان يدل عليه في القرن الأول إبان العصر الأموي، وهو الشعر وما يتصل به ويفسره من الأخبار والأنساب والأيام، وزاد أيام بني العباس فشمل هذا النثر الفني الذي استحدث منذ انتشرت الكتابة وارتقى العقل العربي، كما سترى فيما بعد. وزاد شيئًا آخر لم يكن معروفًا أيام بني أمية، وهو هذا النحو من النقد الفني الذي نجده أحيانًا في كتب الجاحظ والمبرد وابن قتيبة وابن سلام التي ذكرناها آنفًا.
وإذن فلم يكن النحو أدبًا، وإن لم يكن بد منه للأديب، ولم تكن رواية اللغة من حيث مادتها أدبًا، وإن لم يكن بد منها للأديب، ولم تكن رواية الأخبار من حيث هي تاريخ، ولا رواية الأنساب من حيث هي تاريخ، أدبًا، وإن لم يكن منهما للأديب بد، إنما كان الأدب بمعناه الصحيح ما يؤثر من الشعر والنثر، وما يتصل بهما لتفسيرهما والدلالة على مواضع الجمال الفني فيهما، وكان هذا الذي يتصل بالشعر والنثر لغة حينًا، ونحوًا حينًا، ونسبًا وأخبارًا حينًا ثالثًا، ونقدًا فنيًّا في بعض الأحيان. ومع أن علوم اللغة قد استقلت منذ القرن الثاني، فقد ظل النقد متصلًا بالأدب تابعًا له، أو قل: جزءًا منه طوال القرن الثالث والقرن الرابع، ولم يكد يستقل أو يظفر بشيء من الاستقلال أثناء هذين القرنين؛ فأنت ترى في كتب الجاحظ والمبرد وابن سلام وابن قتيبة ملاحظات فنية مفرقة في غير نظام وعلى غير قاعدة. ولم يكن الأمر في القرن الرابع خيرًا منه كثيرًا في القرن الثالث: فأنت ترى كتبًا قوي فيها النقد وكاد يستأثر بها، ولكنه مع ذلك لم ينفصل ولم يصبح فنًّا أو علمًا بعينه، ولعل أوضح الأمثلة لهذا النوع من الأدب الذي يغلب فيه النقد على الرواية كتب أبي هلال العسكري وأبي الحسن الجرجاني والآمدي؛ فأما أبو هلال فبين أيدينا من كتبه «كتاب الصناعتين» وقد عرض فيه للشعر والنثر، وحاول أن يدل على مواضع الجمال الفني فيهما، وأن يضع لذلك شيئًا يشبه الأصول والقواعد، وبين أيدينا من كتبه أيضًا كتاب «ديوان المعاني»، وبينما النقد يغلب في الصناعتين إذ الرواية تغلب في ديوان المعاني، ولكنها رواية منظمة قد قُسمت أبوابًا وصُنفت فنونًا، وقل مثل هذا في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه. وفي هذا القرن الرابع كانت الخصومة عنيفة بين أنصار البحتري من ناحية وأنصار أبي تمام من ناحية أخرى … فلما تقدم هذا القرن ظهرت الخصومة قوية أيضًا بين أنصار المتنبي وخصومه. واستفاد النقد في هذه الخصومة؛ فألف الآمدي كتابه «الموازنة بين الطائيين»، وألف الجرجاني كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، وظهرت كتب كثيرة من هذا النحو. وهمَّ النقد أن يستقل، ولكن هذا الاستقلال لم يتم له إلا بعد مشقة، وما كاد يظفر به حتى جمد وأخذه الفساد من جميع أطرافه. استقل في علم البلاغة، وكان مظهر استقلاله كتاب عبد القاهر الجرجاني «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، ولكن هذا الاستقلال لم ينفع النقد بل أماته وقضى عليه، والواقع أنا لا نكاد نرى بعد كتابي عبد القاهر شيئًا قيمًا في النقد أو في البلاغة، وإنما هي كتب فاترة وأصول جافة، ليست حرية أن تورق ولا أن تثمر، وحسبك أنها قد جدت وتكلفت ألوان المشقة، فكانت ثمراتها الأخيرة هذا السخف الذي يُدرس في الأزهر والمدارس الرسمية، والذي يُسمى علوم البلاغة.
من هذا كله تفهم أن «الأدب» قد كان في القرن الثاني والثالث والرابع يدل — كما قدمنا — على ما يُؤثر من الشعر والنثر، وما يتصل بهما، لتفسيرهما من ناحية، ونقدهما من ناحية أخرى.
وهل يدل الأدب الآن على شيء غير هذا؟ وهل يدل على شيء أكثر من هذا؟ ألست إذا سمعت لفظ «الأدب» الآن فهمت منه مأثور الكلام نظمًا ونثرًا وما يتصل به من هذه العلوم والفنون التي تعين على فهمه من ناحية وتذوقه من ناحية أخرى؟
ثم هل يدل «الأدب» عند الأمم الأجنبية القديمة أو الحديثة على شيء غير هذا الذي يدل عليه عندنا؟ فنحن إذا ذكرنا الأدب اليوناني لا نفهم منه إلا مأثور الكلام اليوناني شعرًا ونثرًا: نفهم منه الإلياذة والأوديسة، ونفهم منه شعر بندار وسافو وسيمونيد، نفهم منه قصص الشعراء الممثلين، ونفهم منه تاريخ هيرودوت وتوسيديد، ونفهم منه نثر أفلاطون وإيسوقراط، وخطب بيريكليس وديموستين، وقل مثل هذا في الأدب الروماني، وقل مثله في الأدب الحديث. فلا يدل الأدب الفرنسي إلا على مأثور الكلام الفرنسي نظمًا ونثرًا، فالأدب إذن لا يستطيع في جوهره أن يتجاوز مأثور الكلام. ولكنَّ هنا اعتراضًا له من القوة حظ عظيم؛ إنك لا تستطيع أن تفهم الأثر الفني للكاتب أو الشاعر إذا اعتمدت على ما تعودنا أن نعتمد عليه من علوم اللغة ومن الأنساب والأخبار ومن النقد، وإنما قد تحتاج إلى أن تعتمد على أشياء أخرى ليس بينها وبين الأدب صلة ظاهرة، ولنضرب مثلًا بشاعر عربي كالمتنبي أو أبي العلاء، فكن أقدر الناس على فهم النحو وعلوم اللغة كلها والأخبار والتاريخ، وكن أمهر الناس في علوم المعاني والبيان والبديع، فلن يكفيك ذلك في فهم شعر المتنبي وشعر أبي العلاء، وإنما أنت محتاج إلى الفلسفة الخلقية لتفهم المتنبي، وأنت محتاج إلى فلسفة الطبيعة وإلى ما بعد الطبيعة وإلى الفلك وإلى علم النجوم، بل إلى الرياضة أحيانًا، لتفهم شعر أبي العلاء.
وإذن فنحن حين نُعرف الأدب بأنه مأثور الكلام وما يتصل به لتفسيره وتذوقه، لا نقول شيئًا، أو نقول كل شيء؛ لا نقول شيئًا إذا فهمنا مما يتصل بمأثور الكلام هذه العلوم اللغوية الفنية؛ فقد رأيت أنها لا تكفي لتفسير الشعر والنثر أو إعانتك على تذوقها، فالتعريف إذن غير جامع، كما يقول أهل المنطق. ونقول كل شيء إذا فهمنا من هذا الذي يتصل بمأثور الكلام كل ما يحتاج إليه هذا الكلام ليفهم أو يذاق؛ فقد رأيت حاجتنا إلى الفلسفة وفروعها لفهم المتنبي وأبي العلاء. ويكفي أن تنظر في أبي العلاء لترى أننا في حاجة إلى علوم الدين الإسلامي كلها وإلى النصرانية واليهودية ومذاهب الهند في الديانات، لنفهم شعر أبي العلاء، وإذن فكل هذه العلوم والفنون تدخل في الأدب، وإذن فالأدب كل شيء، وإذن فالتعريف غير مانع، كما يقول أهل المنطق.
ولكن يجب أن تعود فتفكر فيما قدمت بين يديك في صدر هذا الكتاب من أن الأدب كغيره من العلوم لا يمكن أن يوجد ولا أن يثمر إلا إذا اعتمد على علوم تعينه من جهة، وعلى ثقافة عامة متينة عميقة من جهة أخرى. فقد ضربت لك الأمثال بعلوم طبيعية يتصل بعضها ببعض ويحتاج بعضها إلى بعض، دون أن يكون بعضها من بعض؛ فالطبيعة محتاجة إلى الرياضة دون أن تكون الرياضة فصلًا من فصول الطبيعة، أو الطبيعة فصلًا من فصول الرياضة. وهنا يظهر الفرق بين الأدب وتاريخ الأدب؛ فالأدب مأثور الكلام كما قدمنا، والأديب الذي يُعنى بالأدب من حيث هو أدب يستطيع ألا يتجاوز هذا الكلام الجيد نظمًا كان أو نثرًا، ولكن مؤرخ الأدب لا يستطيع أن يكتفي بمأثور الكلام، ولا بهذه العلوم والفنون التي تتصل بمأثور الكلام اتصالًا شديدًا لتمكِّننا من فهمه وتذوقه، وإنما هو مضطر إلى أن يتجاوز هذا الإنسان من حيث هو حيوان ناطق يجب أن يعرب عما في نفسه بصورة كلامية فنية؛ فهو مضطر إلى أن يدرس تاريخ العقل الإنساني، وهو مضطر إلى أن يدرس تاريخ الشعور. ولنعد إلى التبسط فنقول: إن مؤرخ الآداب مضطر إلى أن يلم بتاريخ العلوم والفلسفة والفنون الجميلة، وتاريخ الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أيضًا، إلمامًا يختلف إيجازًا وإطنابًا ويتفاوت إجمالًا وتفصيًلا باختلاف ما لهذه الأشياء كلها من تأثير في الشعر والنثر أو تأثر بهما. ومن هنا لا يكتفي مؤرخ الآداب اليونانية بما قدمنا، بل هو يدرس الفلسفة اليونانية، ويدرس تاريخ النظم السياسية اليونانية على اختلافها، ويدرس تاريخ الحياة الاقتصادية اليونانية. ولا تظن أنا نسرف أو نغلو، ولكنك لن تفهم قصص أرسطوفان المضحكة، بل لن تفهم منها شيئًا إلا إذا ألممت إلمامًا واضحًا بكل هذه الأنحاء من الحياة الأثينية في القرن الخامس قبل المسيح. وقل مثل هذا في أي عصر من عصور الأدب وفي أي أمة من الأمم القديمة أو الحديثة التي كان لها أدب. ولأضرب لك مثلًا آخر عربيًّا غير الذي قدمته لك: فهل تزعم أنك تستطيع أن تفهم همزية أبي نواس:
دون أن تعرف النظَّام خاصة، والمعتزلة عامة، وما كان لهم من مذهب وقوة أيام أبي نواس؟ وكيف تستطيع أن تفهم قوله:
إذا لم تعرف أنه يريد النظَّام؟ فإذا عرفت أنه يريد النظَّام فأنت في حاجة إلى أن تعرف من النظَّام، ولم عرَّض به أبو نواس؟ فسترى أن النظام كان من المعتزلة الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار؛ وإذا كان شرب الخمر كبيرة فصاحبها مخلد في النار، وإذن فأنت في فلسفة النظام، وأنت متعمق في فلسفة المعتزلة، وأنت مضطر إلى ذلك اضطرارًا، مضطر إلى أن تدرس التوحيد واختلاف أهل السنة والمعتزلة فيه، لتفهم خمرية من خمريات أبي نواس.
تاريخ الآداب إذن لا يكتفي بالآداب، وإنما هو يؤرخ معها كل شيء وأي غرابة في هذا! فهل يكتفي تاريخ الحياة السياسية بالحياة السياسية؟ أليس هو مضطرًّا إلى أن يؤرخ الأدب والعلم والفلسفة والاقتصاد والفنون ليعينك على أن تفهم هذه الحياة السياسية؟ وهل يستطيع أن يفعل غير هذا؟ ومتى كانت حياة الإنسان مقسمة إلى هذه الأقسام المنفصلة التي يستطيع بعضها أن يستغني عن بعض استغناء تامًّا؟
يدرس مؤرخ الآداب تاريخ السياسة والاقتصاد، كما يدرس مؤرخ الاقتصاد والسياسة تاريخ الآداب، وكل ما بينهما من الفرق هو أن مؤرخ الحياة السياسية يدرس هذه الحياة لنفسها، ويدرس الأشياء الأخرى من حيث هي مكملة لبحثه، وكذلك مؤرخ الآداب يدرس الحياة الأدبية لنفسها، ويلم بالحياة السياسية من حيث هي مكملة لدرس الحياة الأدبية.
فقد ظهر لك إذن أن بين الأدب وتاريخ الأدب صلة ما بين الخاص والعام، فالأدب مأثور الكلام، ولكن تاريخ الأدب يتناول مأثور الكلام هذا ويتناول إليه أشياء أخرى لا سبيل إلى فهم هذا الكلام ولا إلى تذوقه إلا إذا فُهمت، وعُرف تأثيرها فيه وتأثرها به.
وقد نستطيع أن نوجز هذا كله فنقول: إن الأدب في جوهره إنما هو مأثور الكلام نظمًا ونثرًا، وإن هذا الكلام المأثور لا يستطيع أن ينهض الأديب بفهمه وتذوقه إلا إذا اعتمد على ثقافة عامة قوية، وعلى طائفة من العلوم الإضافية لا بد منها. على حين يُعنى تاريخ الأدب قبل كل شيء بهذا الكلام المأثور وما يتصل به، ولكنه في الوقت نفسه مضطر إلى أن يوسع ميدان بحثه، ويتناول أشياء قد لا يستطيع أن يتناولها من يُعنى بالأدب من حيث هو أدب في تفصيل وإسهاب. وأنت إذا سألت عن هذا التاريخ الأدبي ما قيمته وما نفعه، رأيت أنه ينبغي أن ننتظر منه أمرين لا بد منهما: أحدهما تاريخي صرف؛ فهو ينبئنا بالأدب وما اختلف عليه من أطوار وما عمل فيه من مؤثرات متباينة بتباين العصور والبيئات، والثاني يتجاوز التاريخ بعض التجاوز ويهوِّن على طلاب الأدب درس الأدب والتعمق فيه، دون أن يضيعوا من وقتهم الشيء الكثير في تحصيل أشياء لا بد لهم من خلاصاتها دون أن يتعمقوا فيها، ولا سيما إذا كانوا لا يريدون أن يتخصصوا في الأدب ويتخذوه لهم صناعة. فالتاريخ الأدبي يريح الطلاب وعامة المستنيرين من قراءة «إشارات» ابن سينا و«شفائه»، وما ترجم لأرسطاطاليس، وما عرف من أمور الهند ليفهموا شعر أبي العلاء. يريحهم من هذا كله لأنه يضع لهم خلاصات هذه الأشياء ويبين لهم مبلغ تأثيرها في تكوين الفلسفة العلائية والأدب العلائي، فإن كانوا من عامة المستنيرين اكتفوا بما يقرءون وقنعوا بما يفهمون؛ وإن كانوا من الذين يريدون الدرس والتخصص اتخذوا هذه الخلاصات التي يقدمها إليهم تاريخ الآداب وسيلة إلى بحث جديد ينهضون به هم أنفسهم. فتاريخ الآداب على قيمته التاريخية الصرفة نافع لعامة المستنيرين؛ لأنه يريحهم ويقدم إليهم ما يحتاجون إليه، نافع للطلاب؛ لأنه يبعث فيهم الشوق إلى البحث والدرس ويعلمهم كيف يبحثون ويدرسون.
(٥) الصلة بين الأدب وتاريخه
(٦) الأدب الإنشائي والأدب الوصفي
وهنا أعود إلى ما قلته في غير هذا الموضع من أن الأدب أدبان: أحدهما أدب إنشائي، والآخر أدب وصفي. فأما الأدب الإنشائي فهو هذا الكلام نظمًا ونثرًا، هو هذه القصيدة التي ينشدها الشاعر، والرسالة التي ينشئها الكاتب، هو هذه الآثار التي يحدثها صاحبها لا يريد بها إلا الجمال الفني في نفسه، لا يريد بها إلا أن يصف شعورًا أو إحساسًا أحسه أو خاطرًا خطر له في لفظ يلائمه رقة ولينًا وعذوبة، أو روعة وعنفًا وخشونة، هو هذه الآثار التي تصدر عن صاحبها كما يصدر التغريد عن الطائر الغَرِد، وكما ينبعث العَرْفُ من الزهرة الأرجة، وكما ينبعث الضوء عن الشمس المضيئة. هو هذه الآثار الطبيعية التي تمثل نحوًا من أنحاء الحياة الإنسانية، هو هذا النحو الفني حين يتخذ طريق الكلام؛ مثله كمثل التصوير والغناء وغيرهما من هذه الفنون التي تمثل ناحية الجمال في نفوسنا، هذا الأدب الإنشائي هو الأدب حقًّا، هو الأدب الصحيح بمعنى الكلمة، هو الأدب الذي ينحل إلى شعر ونثر، والذي ينتجه الكُتاب والشعراء؛ لا لأنهم يريدون أن ينتجوه، بل لأنهم مضطرون إلى إنتاجه اضطرارًا في أول الأمر، بحكم هذه الملكات الفنية التي فطرهم الله عليها.
وهذا الأدب الإنشائي خاضع لكل ما تخضع له الآثار الفنية من تأثر بالبيئة والجماعة والزمان وما إلى ذلك من المؤثرات الأخرى، ومن تأثير في هذه المؤثرات أيضًا. هو مرآة لنفس صاحبه، وهو مرآة لعصره وبيئته كلما عظم حظه من الجودة والإتقان؛ وهو بحكم هذا متغير متطور قابل للتجديد. وإذن فنستطيع أن نفهم في سهولة أن يكون فيه قديم وجديد؛ وأن يكون بين أصحابه أنصار القديم وأنصار الجديد، يأتي ذلك من أنه متصل بمزاج الأديب، أو من أنه مظهر لمزاج الأديب، ونحن نعلم أن الناس كانوا وسيظلون أبدًا منقسمين في حياتهم وشعورهم إلى محافظين ومتطرفين ومعتدلين، أولئك يقلدون القدماء وهؤلاء يجددون، والآخرون يتوسطون بين أولئك وهؤلاء، وهذا الأدب متفاوت بطبعه في الحظ من الجودة والرداءة، وفي الحظ من الاتصال بنفس صاحبه والبعد عنها، هذا الشاعر صادق قوي الشخصية قليل الحفل برضا الناس عنه أو سخطهم عليه؛ فشعره خليق أن يكون قطعة من نفسه، وهذا الشاعر محب لإرضاء الناس كاره لسخطهم حريص على أن يفنى فيهم لا على أن يفنوا فيه؛ فشعره يمثل لنا الناس أكثر مما يمثله هو، أو قل: شعره يمثل الناس ولا يمثل منه هو إلا هذه الناحية التي أشرنا إليها، فأما عواطفه الخاصة وآراؤه الخاصة فلا تكاد تظهر فيه، وعلى هذا النحو يخضع الأدب الإنشائي لكل هذه المؤثرات التي أشرنا إليها ولمؤثرات أخرى لا نستطيع أن نلم بها.
فليس تاريخ الأدب حديثًا إذن، وليس هو علمًا متكلفًا، وإنما هو قديم وهو طبيعي أيضًا، وكل ما في الأمر أنه كغيره من العلوم والفنون، متصل بالزمان والمكان والبيئة والجماعة، متأثر بكل تلك المؤثرات التي تؤثر في الحياة الإنسانية كلها. وإذن فهو يتغير ويتطور، ويتقدم ويتأخر، ويرقى وينحط، وإذن فتاريخ الأدب الذي نريد أن نستحدثه الآن ليس إنشاء ولا اختراعًا، وإنما هو تجديد وإصلاح لما ترك القدماء لا أكثر ولا أقل، فعلى أي قاعدة أو على أي منهج نريد أن نأخذ في هذا التجديد والإصلاح؟
(٧) مقاييس التاريخ الأدبي
(٧-١) المقياس السياسي
أما إن أردنا أن نذهب مذهب شيوخ الأدب في مصر وننحو نحو هذا الأدب الرسمي المألوف في المدارس العالية والثانوية، فالأمر يسير كل اليسر، وأي شيء أيسر من أن نسلك هذه الطريقة المعبدة التي استحدثت منذ حين ففتن بها الناس، وخُيل إليهم أنها ستغير الأدب كله، وأنها ستضمن لهذا الجيل شرف الاختراع والابتكار في العلم؛ وهذه الطريقة هي النظر إلى الآداب من حيث العصور التي ظهرت فيها، وتقسيمها من هذه الناحية إلى آداب جاهلية، وآداب إسلامية، وآداب عباسية، وآداب نشأت في عصر الانحطاط، ثم آداب نشأت في هذا العصر الحديث، ثم يقف الباحث عند كل عصر من هذه العصور وقفة تطول إن كان يريد أن يضع كتابًا طويلًا، وتقصر إن كان يريد أن يضع كتابًا قصيرًا، وهو في هذه الوقفة يحاول أن يحيط بما ظهر في هذا العصر من أنواع الأدب وفنونه: فكلمة عن الشعر، وأخرى عن النثر، وثالثة عن الأمثال، ورابعة عن الخطابة، وخامسة عن العلم … وهلم جرَّا، حتى إذا فرغ من هذه الملاحظات العامة تناول الشعراء والخطباء والكتاب والعلماء قلتهم أو كثرتهم، فترجم لهم في إيجاز، مختزلًا ترجمتهم اختزالًا من كتاب الثعالبي أو من كتاب ابن خلكان أو من كتب الطبقات على اختلافها. وهو إن كان من أصحاب القديم متكلف للسجع والزواج، وإن كان من أصحاب الحديث مجتهد في الإغراب محاول أن يسبغ على ما يكتب لونًا فرنسيًّا أو إنجليزيًّا أو ألمانيًّا. وعلى هذا النحو يتم له تاريخ الآداب، ويخيل إليه أنه قد استحدث علمًا جديدًا وأحاط بالأدب كله، وكفى قراءه عناء البحث والدرس، ويُخيل إلى قرائه وإلى طلاب العلم منهم بنوع خاص أنهم إذا قرءوا هذا الكتاب واستوعبوه فقد قرءوا الأدب كله وحفظوه. وماذا ينقصهم وقد درسوا الأدب في جاهليته وفي إسلامه وفي عصوره الراقية والمنحطة، وحفظوا أسماء الشعراء والكُتاب والخطباء، استظهروا لكل واحد منهم أبياتًا من الشعر أو قطعة من النثر! وأي علم بالأدب يعدل هذا العلم؟! وأي حاجة بمن حصل هذا المقدار من العلم إلى أن يبحث أو يستزيد؟ يقنع المؤلف بأنه عالم، ويقنع الطالب بأنه محصل، ويظل الأدب مجهولًا مقبورًا في بطون الكتب والأسفار.
نحن لا نحب هذه الطريقة ولا نريد أن نسلكها، بل نحن إنما نعلم ما نعلم في الجامعة، ونكتب ما نكتب في الرسائل والصحف، لنمحو آثار هذه الطريقة ونطمس أعلامها، ونمد مكانها طريقًا أخرى أقوم وأوضح وأهدى إلى الحق.
ونحن نكره هذه الطريقة لأمرين: أحدهما أنها تتخذ الحياة السياسية وحدها مقياسًا للحياة الأدبية: فالأدب راقٍ خصب إذا ارتقت الحياة السياسية وازدهرت، وهو منحط جدب إذا انحطت الحياة السياسية وعقمت. وآية ذلك أن الأدب العربي كان راقيًا أيام بني أمية وصدر العصر العباسي؛ لأن الحياة السياسية في هذا العصر كانت فيما يظهر راقية، فقد تمت الفتوح للعرب وسيطروا على جزء ضخم من العالم القديم، فأزالوا دولة الفرس وهابهم يونان القسطنطينية. حتى إذا أخذ السلطان العربي في الضعف وأخذ السلطان الأعجمي في القوة، أخذ الأدب في الضعف والانحلال، فإذا تمت الغلبة للترك فقد محي الأدب العربي أو كاد، وهو يظل في ذبوله وجموده حتى يأتي محمد علي إلى مصر وفي يده عصًا سحرية، يضرب بها الأدب فينتعش ويزهر وتمتد أغصانه النضرة، فتظل الشرق العربي كله.
وليس معنى هذا أننا ننكر الصلة بين الأدب والسياسة، إنما نريد ألا نسرف في أمر هذه الصلة حتى تصبح السياسة مقياسًا للأدب، ونريد ألا نأخذ السياسة على علاتها كما نأخذ الأدب على علاته، وإنما الاحتياط محتوم في هذا؛ فقد يكون الرقي السياسي مصدر الرقي الأدبي، وقد يكون الانحطاط السياسي مصدر الرقي الأدبي أيضًا، والقرن الرابع الهجري دليل واضح على أن الصلة بين الأدب والسياسة قد تكون صلة عكسية في كثير من الأحيان، فيرقى الأدب على حساب السياسة المنحطة. أليس من المعقول إذا انقسمت دولة ضخمة كالدولة العربية، ونجم في أطرافها الملوك والأمراء والثائرون، أن يقع بين هؤلاء التنافس، وأن ينشأ من هذا التنافس تشجيع الشعراء والكُتاب والعلماء، وأن ينشأ من هذا التشجيع جد وكد، ثم توفيق إلى الإجادة وظفر بها؟ هذا هو الذي كان إبان القرن الرابع الإسلامي. وكان شيء مثله إبان النهضة الحديثة في إيطاليا نشأ من تنافس المدن الإيطالية، وكان شيء مثله في بلاد اليونان إبان القوة اليونانية في القرن الخامس نشأ من تنافس المدن اليونانية في بلاد اليونان الحقيقية من جهة وفي المستعمرات اليونانية الإيطالية من جهة أخرى. ومع ذلك فقد يكون الرقي السياسي سبيلًا إلى الرقي الأدبي؛ فليس من شك في أن السياسة العربية كانت قوية عزيزة أيام الرشيد والمأمون، وكانت الحياة الأدبية كذلك راقية مزهرة. وكان سلطان أغسطس قويًّا شديد البأس، فأثر ذلك في الأدب اللاتيني. وكان سلطان لويس الرابع عشر قويًّا وكان قصره مترفًا، فأثر ذلك في رقي الأدب الفرنسي إبان القرن السابع عشر.
فأنت ترى أن الحياة السياسية لا تصلح مطلقًا لأن تكون مقياسًا للحياة الأدبية، وإنما السياسية كغيرها من المؤثرات، كالحياة الاجتماعية، كالعلم، كالفلسفة، تبعث النشاط في الأدب حينًا وتضطره إلى الخمول والجمود حينًا آخر، فلا ينبغي أن يتخذ واحد من هذه الأشياء مقياسًا للحياة الأدبية، كما لا ينبغي أن يتخذ الأدب نفسه مقياسًا لواحد من هذه الأشياء. إنما ينبغي أن يُدرس الأدب لنفسه وفي نفسه من حيث هو ظاهرة مستقلة يمكن أن تؤخذ من حيث هي وتحدد لها عصورها الأدبية الخالصة، فهذا أحد الأمرين اللذين يبغضاننا في هذه الطريقة الرسمية.
والأمر الآخر شر من هذا الأمر وأقبح منه أثرًا، وهو أن هذا المذهب الرسمي قد يكون طويلًا وقد يكون عريضًا، ولكنه بريء من العمق، هو سطحي، كما يقولون، هو قائم على الكذب والتضليل من جهة، وعلى الغفلة والانخداع من جهة أخرى، هو يُخيل إلى صاحبه أنه قد أحاط بالأدب والأدباء مع أنه لم يحط من الأدب والأدباء بشيء، إنما عرف جملًا وصيغًا وحفظ ألفاظًا وأسماء. وآية ذلك أن هذا العلم الجديد الرسمي الذي يسمونه تاريخ الآداب العربية لم يكشف للناس عن شيء جديد في أمر هؤلاء الشعراء الجاهليين أو الإسلاميين أو العباسيين، وإنما ظل هؤلاء الشعراء كما كانوا، أستغفر الله! بل خفيت شخصياتهم واضمحلت بعض الاضمحلال؛ لأن التاريخ الأدبي الجديد لم يأخذ من هذه الشخصيات إلا شيئًا قليلًا اقتطفه من الكتب اقتطافًا واكتفى به، وحمل قراءه على أن يكتفوا به أيضًا. وما أشك في أن جمهرة المتأدبين الآن لا تعرف من امرئ القيس والفرزدق وأبي نواس والبحتري شيئًا يُذكر بالقياس إلى ما كان يعرفه المتأدبون في القرن الخامس أو السادس فضلًا عن القرن الرابع أو الثالث. فهذا التاريخ لم يُقَوِّ حظنا من العلم بالأدب العربي، وإنما أضعفه ومحاه وأتى عليه أو كاد. هو علم صوري، الأمر فيه كعلوم البلاغة حين انتهت إلى ما انتهت إليه في كتاب «التخليص» أو في هذا الكتاب الذي يُدرس في المدارس الثانوية. كان القدماء يعرفون التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والفصل والوصل، والقصر، والجناس، كانوا يعرفون هذا كله معرفة علمية وفنية متصلة بالأدب اتصالًا قويًّا، ولكن الرغبة في الاختصار والإيجاز والتعميم واستيعاب النظريات حملت طائفة من العلماء على أن يبسطوا ويخففوا، حتى أصبحت هذه الأشياء كلها تعريفات يمكن أن تحفظ وتستظهر، ويُخيل إلى حافظها، وهو يستظهرها، أنه قد أحاط بالعلم كله. وأمر التاريخ الأدبي الآن كأمر هذه الفنون البيانية، لم يتكلف الباحث درس حياة امرئ القيس وقراءة ديوانه والجد في فهمه، وهو يعلم أن اسمه حندج بن حجر، وأن أباه كان ملكًا قتله بنو أسد، وأنه ذهب إلى قسطنطينية، وأنه صاحب «قفا نبك …» و«ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي …» ولكن ما «قفا نبك …» هذه؟ وما «ألا عم صباحًا …»؟ وما موضوعهما؟ ما أسلوبهما؟ ما قيمتهما الفنية؟ ما مكانتهما من الشعر المعاصر لهما؟ ما مكانتهما من الشعر الذي جاء بعدهما؟ ما الصلة بينهما وبين نفس الشاعر؟ ما الصلة بينهما وبين نفوس الناس الذين قيلتا بينهم؟ كل هذه مسائل لا تخطر للباحث على بال، وهي لا تخطر للقارئ، بل ربما ضاق القارئ بك ذرعًا إذا لفته إلى هذه المسائل كلها أو بعضها؛ لأنك تقلقله وتزعجه وتشق عليه، وتحاول أن تثيره عن هذا الكسل الذي اطمأن إليه اطمئنانًا.
هذا النحو من البحث السطحي شر؛ لأنه قاصر، ولأنه عقيم، ولأنه مرغب في الكسل، مثبط للهمم، حاثٌّ على الخمول، ولأنه سبب انحطاط الحياة الأدبية حقًّا. ثم شر من ناحية أخرى ليست أقل قيمة من كل ما قدمناه، فهو يأخذ الأدب العربي على أنه وحدة مستقلة لا تنقسم إلا بانقسام العصور، ولكن أكان الأدب العربي كذلك؟ أو بعبارة أدق: أكان الأدب العربي وحدة غير متجزئة طوال حياته؟ كلا! لم يكن كذلك إلا قرنين على أكثر تقدير، لعله لم يكن كذلك قرنين كاملين، فليس هناك شك في أن هذه البلاد الكثيرة التي افتتحها المسلمون لم تخضع للسلطة المركزية العربية خضوعًا تامًّا متصلًا يفني شخصيتها في شخصية العرب، وإنما أخذت تسترد شخصيتها شيئًا فشيئًا بعد الفتح، وما كاد القرن الرابع يظل المسلمين حتى أخذت هذه الشخصيات تظهر وتتمايز في الأدب والعلم والاقتصاد والسياسة، والدين أيضًا. وإذن فقد ظهرت الآداب القومية في مصر وفي سورية وفي بلاد الفرس وفي بلاد الأندلس. ومن الإثم العلمي أن يتخذ أدب دمشق وبغداد مقياسًا لهذه الآداب كلها؛ فقد كان الأدب منحطًّا في القاهرة وقرطبة وحلب حين كان مزهرًا في بغداد أو في دمشق، بل كان الأدب منحطًّا في دمشق حين كان مزهرًا في مكة والمدينة، وكان منحطًّا في بغداد حينما كان مزهرًا في البصرة والكوفة. وإذن فمن الإثم والجهل أن تتخذ بغداد مركزًا أدبيًّا للمسلمين في جميع أوقات الخلافة العباسية؛ لأنها كانت مركزًا للخلافة، وماذا تصنع بكل هذه الشخصيات الأدبية التي تتمثل في مصر والأندلس وفي سورية والفرس، بل في صقلية وإفريقية الشمالية؟ لا تصنع بها شيئًا؛ لأنك لا تعرف منها شيئًا، تجهلها لأنك لم تحاول أن تدرسها ولا أن تدرس بيئاتها المختلفة، وإنما اكتفيت بدرس الحواضر الإسلامية الكبرى، متأثرًا في ذلك بهذا المذهب الرسمي العقيم، مذهب اتخاذ السياسة مقياسًا للأدب، فلنعدل إذن عن هذا المذهب، ولنلتمس لنا مذهبًا آخر.
(٧-٢) المقياس العلمي
الفرد، ما هو؟ هو أثر من آثار الأمة التي نشأ فيه، أو قل: من آثار الجنس الذي نشأ منه: فيه أخلاقه وعاداته وملكاته ومميزاته المختلفة. وهذه الأخلاق والعادات والملكات والمميزات ما هي؟ هي أثر لهذين المؤثرين العظيمين اللذين يخضع لهما كل شيء في هذه الدنيا: المكان وما يتصل به من حاله الإقليمية والجغرافية وما إلى ذلك؛ والزمان وما يستتبع من هذه الأحداث المختلفة سياسية كانت أو اقتصادية أو علمية أو دينية، هذه الأحداث التي تخضع كل شيء للتطور والانتقال. الكاتب أو الشاعر إذن أثر من آثار الجنس والبيئة والزمان، فينبغي أن يلتمس من هذه المؤثرات، وينبغي أن يكون الغرض الصحيح من درس الأدب والبحث عن تاريخه إنما هو تحقيق هذه المؤثرات التي أحدثت الكاتب أو الشاعر، وأرغمته على أن يصدر ما كتب أو نظم من الآثار.
وإذن فليس شأن الكاتب أو الشاعر في نفسه عظيمًا، وإنما الشأن شأن هذه الفنون الأدبية التي يعالجها الكتاب والشعراء: كيف نشأت ومن أين نشأت؟ وكيف تطورت، وإلى أين تطورت؟ وخذ مثلًا لذلك الشعر التمثيلي: انظر إليه كيف نشأ عند اليونان ومن أين نشأ، وما هذه الأسباب الدينية والسياسية والأدبية والاجتماعية التي عملت في إنشائه، ثم انظر إليه كيف تطور وارتقى حتى بعد الأمد جدًّا بين آثار سوفوكل وأوريبيد وأرسطوفان وما كان يأتيه أول الأمر المحتفلون بأعياد باكوس. ثم انظر إليه كيف جرى بالأطوار المختلفة المتباينة، حتى وصل إلى ما وصل إليه في القرن السابع عشر في فرنسا، مجتهدًا دائمًا في أن تكون حياته ملائمة للبيئة التي يعيش فيها، ثم انظر إليه كيف يمضي في تطوره هذا، حتى إذا كان القرن التاسع عشر ظهر أنه لا يستطيع أن يلائم البيئة التي يعيش فيها فأدركه من التطور ما أدركه فأماته أو كاد يميته. واعتمدت الملاعب على النثر أكثر من اعتمادها على الشعر، واجتهد ما بقي من التمثيل الشعري نفسه في أن يلائم عصره وبيئته، وعلى هذا النحو يمضي صاحبنا معنيًّا بالفنون نفسها وتطورها أكثر من عنايته بالأشخاص ومميزاتهم.
وأنت تستطيع أن تقرأ هذه الآثار القيمة التي تركها سانت بوف؛ فسيكون موقفك منها موقفك من الآيات الفنية القيمة، وستجد في قراءتها لذة تعدل اللذة التي تجدها عند ما تقرأ آثار موسيه أو لامارتين أو فيني أو غيرهم من اللذين كتب عنهم سانت بوف؛ ولن تجد هذه اللذة العلمية التي لا تخلو من جفاء حموضة عند ما تقرأ هذه الآثار؛ ذلك لأن سانت بوف لم يستطع أن يكون عالمًا ولا أن يستنبط قوانين … لم يستطع أن يمحو شخصيته ولا أن يخفف من تأثيرها، فأنت تراه فيما يكتب وأنت تسمعه وأنت تتحدث إليه وأنت تستكشف عواطفه وميوله وأهواءه، وتستكشفها في غير مشقة ولا عناء، وأنت تعرف أنه كان متأثرًا بالحب في هذا الفصل، وكان متأثرًا بالبغض والحسد في ذلك الفصل، أفتظن أنك تستطيع أن تظفر من شخصية نيوتون ولامارك ودروين وباستور في آثارهم العلمية الخالصة بمثل ما تظفر به من شخصية سانت بوف في آثاره الأدبية؟ كلا! لأن هؤلاء كانوا علماء، ولأن هذا كان أديبًا؛ والعلم شيء، والأدب شيء آخر.
لا سبيل إذن إلى أن يبرأ مؤرخ الآداب من شخصيته وذوقه، وهذا نفسه كافٍ في أن يحول بين تاريخ الأدب وبين أن يكون علمًا. وهبه استطاع أن يبرأ من ذوقه ومن شخصيته، وأن يعالج آثار الأدباء كما يعالج صاحب الكيمياء عناصره في معمله، فأول نتيجة لهذا أن يصبح تاريخ الأدب جافًّا بغيضًا، وأن تنقطع الصلة انقطاعًا تامًّا بينه وبين الأدب الإنشائي، وأن يصبح جدبًا لا يحبب هذا الأدب الإنشائي إلى القراء ولا يرغبهم فيه، بل أن يصبح جدبًا لا يميل الناس إلى قراءته هو. ومتى رأيت رجلًا من المستنيرين يفرغ لكتاب من كتب الكيمياء أو الطبيعة أو الجيولوجيا، لينفق وقته على نفسه ويستنير في العلم؛ إذن فيصبح تاريخ الأدب نوعًا من الكيمياء والطبيعة والجيولوجيا يُعنى به المختصون وحدهم وينصرف عنه المستنيرون، وقد يكون احتمال هذا يسيرًا لو أن تاريخ الأدب استفاد من هذا الضيق الذي يضطره إليه حرصه على أن يكون علمًا، ففسر لنا الظواهر الأدبية واستنبط لنا قوانينها، كما تفسر لنا العلوم الطبيعية ظواهر الطبيعة وتستنبط لنا قوانينها، ولكنه لن يظفر من هذا بشيء ذي غناء؛ ذلك لأنه مهما يقل في البيئة والزمان والجنس، ومهما يقل في تطور الفنون الأدبية، فستظل أمامه عقدة لم تحل بعد ولن يُوفق هو لحلها، وهي نفسية المنتج في الأدب والصلة بينها وبين آثارها الأدبية، ما هي هذه النفسية؟ ولِمَ استطاع فكتور هوجو أن يكون فكتور هوجو وأن يحدث ما يحدث من الآيات؟
العصر؟ فلِمَ اختار هذا العصر شخصية فكتور هوجو دون غيره من أبناء فرنسا جميعًا ومن فرنسا خاصة؟
البيئة؟ فلِمَ اختارت البيئة فكتور هوجو دون غيره من الفرنسيين؟
الجنس؟ فلِمَ ظهرت مزايا الجنس كاملة أو كالكاملة في شخص فكتور هوجو دون غيره من الأشخاص الذين يمثلون هذا الجنس تمثيلًا قويًّا صحيحًا؟ وبعبارة موجزة: سيظل التاريخ الأدبي عاجزًا عن تفسير النبوغ، ولن يُوفق هو لتفسير النبوغ، وإنما هي علوم أخرى تبحث وتجد، قد تظفر وقد لا تظفر، لن يستطيع التاريخ الأدبي أن يكون علمًا منتجًا حتى تظفر هذه العلوم وتحل لنا عقدة النبوغ، وما دام التاريخ الأدبي لا يستطيع أن يُفسر لنا، بطريقة علمية صحيحة، نفسية المنتج والصلة بينها وبين ما تنتج، وما دام التاريخ الأدبي لا يستطيع أن يبرأ من شخصية الكاتب وذوقه، فلن يستطيع أن يكون علمًا، والحق أني لا أفهم لِمَ يحرص على أن يكون علمًا!
مهما يكن من شيء، فنحن مضطرون إلى أن نعدل عن هذا المذهب العلمي كما عدلنا عن ذلك المذهب السياسي، وأن نلتمس لنا مذهبًا آخر غيرهما.
(٧-٣) المقياس الأدبي
وما أظن إلا أنك قد أحسست هذا المذهب الثالث الذي نختاره ونقف عنده ونتخذه سبيلًا إلى البحث عن أدب اللغة العربية وتاريخه، أحسست هذا المذهب ولمحته في كل ما قدمنا من الفصول. فنحن لا نطمئن إلى أن يكون تاريخ الآداب علمًا كله؛ لأن ذلك يبرئه من شخصية المؤلف ويحرمه الذوق ويضطره إلى أن يكون جافًّا عقيمًا، ونحن أشد الناس حرصًا على أن يكون تاريخ الآداب من اللين والخفة والخصب بحيث يحبب الأدب إلى الناس من جهة، ويستطيع تفسير الظواهر الأدبية واستكشاف الصلة بينها من جهة أخرى. ونحن لا نطمئن إلى أن يكون هذا التاريخ فنًّا كله؛ لأن ذلك يحول بينه وبين أمرين لا قوام له بدونهما: أحدهما الإنصاف، وما رأيك في مؤرخ للآداب يدرس الشعراء والكُتاب فلا يتأثر في هذا الدرس ولا فيما ينتهي إليه من النتائج إلا بذوقه وميله وهواه! وهل تظن أن من الميسور أن يطمئن الإنسان إلى كاتب يتخذ ذوقه وحده مقياسًا للأذواق جميعًا، ويتخذ هواه وحده وسيلة إلى محو الأهواء جميعًا، ويتخذ شخصيته وحدها وسيلة إلى إفناء الشخصيات جميعًا؟ وهل تظن مؤرخًا كهذا ينتج في تاريخه غير نفسه أو يعرض عليك صورة غير صورته؟ إني أحب أن أتبين في تاريخ الآداب ذوق المؤرخ وشخصيته، ولكني أحب أن أتبين إلى جانبهما أذواقًا وشخصيات أخرى هي أذواق الكُتاب والشعراء وشخصياتهم، بل أنا أحب أن أتبين هذه الأذواق والشخصيات قبل أن أتبين ذوق المؤرخ وشخصيته، ولا أحب أن أرى المؤرخ نفسه إلا عن بعد، ولا أحب أن يظهر في كتابه إلا في شيء من التلطف وعلى شيء من الاستحياء، وإلا فإني أنصرف عنه انصرافًا وأزهد فيه زهدًا، وأحس أنه يريد أن يكرهني على ما يحب هو لا على ما أريد أنا، وقد يكون العلم نفسه أبغض الأشياء إليَّ إذا أكرهت عليه إكراهًا.
أما الأمر الثاني فهو العقم؛ فكما أن تاريخ الآداب يضطر إلى الجدب والعقم حين يحاول أن يكون علمًا كله؛ لأنه يتكلف من الأمر ما لا يطيق، فهو يضطر إلى الجدب والعقم حين يكتفي بأن يكون فنًّا كله؛ لأنه يضطر نفسه إلى شيء من القصور أعتقد أنه يستطيع أن يبرأ منه، وأي نفع لهذا التاريخ الذي لا يحاول فيه صاحبه بحثًا ولا استقصاء ولا تجردًا من ميوله وأهوائه، وإنما هو يعيد عليك صورته وذوقه وميله كلما عرض لكاتب أو شاعر أو أديب؟!
فتاريخ الآداب إذن يجب أن يجتنب الإغراق في العلم، كما يجب أن يجتنب الإغراق في الفن، وأن يتخذ لنفسه بين الأمرين سبيلًا وسطًا. ومع ذلك فأنا أحس أن لا بد من معالجة هذه المسألة بشيء من الوضوح والجلاء، فلنلاحظ قبل كل شيء أن مؤرخ الآداب لا يستطيع أن يستغني عن طائفة من العلوم الصرفة التي لا أثر فيها للفن، وهو مضطر إلى أن يتقن هذه العلوم إتقانًا ويحسن الانتفاع بها؛ فهو مضطر مثلًا إلى أن يتقن فقه اللغة، ولست أستطيع أن أفهم مؤرخًا للآداب لا يتقن لغة الآداب التي يريد أن يُؤرخها؛ وليس فقه اللغة من الفنون، وليس للذوق الشخصي والهوى الشخصي أثر فيه، وإنما هو علم له أصوله وقوانينه ومناهجه، وهو مضطر أيضًا إلى أن يتقن علوم النحو والصرف والبيان والتاريخ، وإلى أن يتقن بنوع خاص مناهج هذه العلوم كلها.
فأنت ترى أن تاريخ الآداب منقسم بطبعه إلى هذين القسمين: القسم العلمي، والقسم الفني، ولكن هذين القسمين ليسا متمايزين: فليس الكتاب من كتب التاريخ الأدبي ينقسم إلى جزأين أحدهما علمي والآخر فني، وإنما الحقيقة الواقعة أن القسم العلمي الخالص يستقل في كثير من الأحيان، فينفرد فريق من العلماء بالبحث عن علومهم وتدوين الكتب فيها، وربما يُعنى أحدهم بالموضوعات الخاصة الضئيلة في ظاهر الأمر فيقتلها بحثًا واستقصاء ويضع فيها الكتاب أو الكتب الممتعة، أولئك يعنون باستكشاف النسخ المخطوطة ووصفها وتاريخها ونقدها من الوجهة المادية الصرفة: من جهة الحبر والورق، وخصائص الخط، وما كُتب عليها من تعليقات وما اختلف عليها من أحداث، وما تنقلت إليه من دور الكتب، ومن وقعت في أيديهم من الملاك.
وهؤلاء يعنون بدرس نص من النصوص من الوجهة اللغوية الصرفة، ومن حيث هو متصل بالعصر اللغوي الذي أنشئ فيه أو غير متصل، ومن حيث مقدار هذا الاتصال، ومن حيث ما للمؤلف من حظ في العلم بلغته وإتقانه، ومن حيث ما يمكن أن يكون للغات الأجنبية من تأثير في لغة المؤلف، وغير ذلك مما يتصل بهذا النحو من البحث. وربما يفرغ رجل آخر للبحث عن شخصية كاتب أو شاعر أو عالم، فيسلك إلى ذلك سبلًا مختلفة، يلتمس شاعره أو كاتبه أو عالمه فيما ترك من الآثار، ويلتمسه في آثار غيره من المعاصرين له، ويلتمسه في آثار غيره من الذين جاءوا بعده، بل يلتمسه أحيانًا في آثار مزاجه وطبعه، ثم يجتهد في تحقيق الصلة بينه وبين عصره وبيئته وجنسه، وفي تحقيق ما بينه وبين هذه المؤثرات من تفاعل. ومثل هذا النوع من البحث العلمي الخالص كثير لا يكاد يبلغه الإحصاء، هو الزهرة الحقيقية لجهود اللغويين والباحثين عن الأدب وتاريخه، وعلى هذه الجهود الخصبة في حقيقة الأمر — والتي يزدريها في كثير من الأحيان المشغوفون بما يحقق المنفعة العاجلة أو يبهر لضخامته وفخامته — نقول: على هذه الجهود يقوم التاريخ الأدبي الصحيح، فلو أن عالمًا فرنسيًّا مثلًا أراد أن يضع كتابًا في تاريخ الأدب الفرنسي مستوفيًا لشرائط البحث العلمي الفني جميعًا لما وُفق لشيء مما يُريد ولأنفق حياته في غير غناء لو لم يكن هؤلاء العلماء المتواضعون الذين أشرنا إليهم قد مهدوا له سبيل البحث، ووضعوا بين يديه خلاصات قيمة لهذا الدرس القوي العنيف الخصب الذي تناولوا به أنحاء الحياة الأدبية الفرنسية في عصورها وظروفها وموضوعاتها المختلفة، هذا يقف حياته على درس شخصية شاعر، وهذا يقف حياته على تحقيق النصوص واستكشافها … وهلم جرًّا. وأنت تستطيع أن تنظر في المجلات الأدبية الفرنسية مثلًا، سواء منها ما يصدر لجمهور المستنيرين كمجلة العالمين ومجلة باريس والمجلة الفرنسية، وما يصدر منها للمتخصصين من العلماء كمجلة العلماء، لتعرف مقدار ما يبذل العلماء من الجهود في النحو العلمي الخالص من تاريخ الآداب.
يستقل إذن هذا النحو العلمي من حيث هو ويعرض له العلماء؛ ولكن مؤرخ الآداب يستغله ويستثمر نتائجه، ويضيف إليها جهده العلمي الخاص وجهده الفني الخاص أيضًا، ومن هذه الجهود كلها يتم له في كتابه هذا المزاج الذي نسميه تاريخ الآداب، والذي نجد فيه حين نقرؤه لذة العقل ولذة الشعور والذوق جميعًا.
(٨) متى يوجد تاريخ الآداب العربية؟
ومن هنا يظهر لك في وضوح وجلاء أن تاريخ الآداب الذي ليس علمًا كله ولا فنًّا كله ليس من اليسر والسهولة بحيث يظن هؤلاء الذين يتهالكون عليه ويتنافسون فيه ويستبقون إلى وضع الكتب في موضوعاته العامة والخاصة؛ فهو — إلى ما يحتاج إليه من شخصية قوية لها من الذوق الأدبي حظ عظيم، ومن شخصية قوية لها من العلوم الأدبية التي أشرنا إلى بعضها حظ عظيم أيضًا — محتاج إلى شيء آخر لا بد له منه، وهو هذه الجهود العلمية المتفرقة التي لا تُحصى، والتي تُهيئ له مواده الأولية، إن صح هذا التعبير، محتاج إلى من يستكشف له النصوص ويحققها ويفسرها ويعدها للدرس والفهم، محتاج إلى من يقدم له هذه العلوم المختلفة من لغة ونحو وصرف وبيان، وإذا كان المؤرخ لا يستطيع أن ينهض وحده ببعض هذا العبء فلا بد من أن ينهض بهذا العبء قبله هؤلاء العمال المتواضعون الذين ينفقون حياتهم في دور الكتب ويرون أنفسهم أسعد الناس يوم يظفرون باستكشاف نص أو تحقيقه أو فهمه.
من هنا نستطيع أن نقول: إن الوقت لم يأن بعد لوضع تاريخ أدبي صحيح يتناول آدابنا العربية بالبحث العلمي والفني؛ ذلك لأن هذه الجهود المتفرقة لم تُبذل بعد، ولأن هذه العلوم المختلفة لم تُعرف على وجهها العلمي الصحيح عندنا بعدُ. وكيف تريد أن تضع تاريخ الأدب العربي وأنت لم تستكشف ولم تحقق ولم تفسر كثرة النصوص العربية القديمة في الجاهلية والإسلام! وكيف تريد أن تضع تاريخ الأدب العربي ولم يُدون للغة العربية فقهها على نحو ما دُون فقه اللغات الحديثة والقديمة، ولم ينظم للغة العربية نحوها وصرفها على نحو ما نُظم للغات الحديثة والقديمة نحوها وصرفها؟! ولم يُعن الباحثون بوضع المعاجم التاريخية التي تبين لك — معتمدة على النصوص الصحيحة — تطور الكلمات في دلالتها على المعاني المختلفة، فتمكنك بذلك من أن تفهم النصوص الأدبية على وجهها وكما أراد أصحابها لا كما تريد هذه المعاجم المختلفة التي تعتمد عليها في البحث! ثم كيف تُريد أن تضع تاريخ الآداب العربية وما تزال شخصيات الكُتاب والشعراء والعلماء مجهولة أو كالمجهولة، لا نكاد نعرف منها إلا ما حفظه «الأغاني» وكتب التراجم والطبقات؟!
ثم كيف تُريد أن تضع تاريخ الأدب العربي والتاريخ السياسي العربي لم يُدون بعد على وجهه، والتاريخ العلمي العربي لم يُدون بعد على وجهه، والتاريخ الفني العربي لا يزال مجهولًا، وتاريخ المذاهب والآراء لم يتجاوز كتاب «الملل والنحل» وما يشبه كتاب «الملل والنحل»، وآداب الكثرة من الأمم الإسلامية التي تكلمت العربية مجهولة أو كالمجهولة، لا نستثني من ذلك إلا هؤلاء الذين عاشوا في الشام والعراق والحجاز أثناء القرون الثلاثة الأولى بعد الإسلام؟!
فتاريخ الآداب معناه وصف الآداب وصفًا علميًّا من بعض الوجوه، كما أن التاريخ الطبيعي معناه الوصف العلمي للكائنات الطبيعية، ومن أراد أن يصف شيئًا من الأشياء وصفًا علميًّا فنيًّا صادقًا يعطيك منه صورة مشابهة أو مقاربة، فلا بد له من العلم بما يصف، وما رأيك فيمن يصف ما يجهل؟ هو إما كاذب أو صاحب خيال، والحق لي أن كثرة الذين يكتبون في تاريخ الأدب العربي يكذبون ويتخيلون: يكذبون حين يصفون لك حياة بغداد من الوجهة الأدبية والعلمية والفنية والسياسية، فهم لا يعرفونها؛ لأنهم لم يبحثوا عنها ولم يلتمسوها في مصادرها، وإنما قرءوا صحفًا في «الأغاني»، فقلدوا وأسرفوا في التقليد أو بالغوا فأسرفوا في المبالغة، يكذبون حين يرسلون لك هذه الأحكام التي يتناولون بها الكُتاب والشعراء؛ لأنهم لم يقرءوا الكُتاب ولا الشعراء، وأنت تستطيع أن تصدقني مطمئنًّا؛ فليس بين أولئك وهؤلاء الذين يتهالكون على تاريخ الأدب ويحتكرون تعليمه والكتابة فيه من قرأ ديوان البحتري كله قراءة فضلًا عن الدرس والنقد التحليلي، وأمر الشعراء جميعًا كأمر البحتري عند هؤلاء الناس، شعراؤنا لا يزالون مجهولين، وكُتابنا لا يزالون مجهولين، وأدبنا كله لا يزال مجهولًا؛ لأن الذين يتكلفون تعليمه ونشره يجهلونه، وهم يجهلونه؛ لأنهم لا يقرءونه، وإن قرءوه — أو قل: إن قرءوا منه شيئًا — فهم لا يفهمونه على وجهه. وإذن فليس من الغلو ولا من التشاؤم ولا من تثبيط الهمم في شيء أن نقول: إن هذا الجيل الذي نعيش فيه لن يستطيع أن ينتج تاريخ الآداب العربية، وكل ما يستطيع أن يعمل — وليته يستطيع — هو أن يُعنى بكلية الآداب ومدرسة المعلمين عناية تمكنهما من إخراج هؤلاء العمال الذين أشرنا إلى أمثالهم في أوروبا والذين يقفون حياتهم وجهودهم على تهيئة الأرض وإعداد مواد البناء، فإذا تهيأ لهم من ذلك شيء ملائم، فقد يمكن أن يُنتظر البدء في وضع تاريخ الآداب.
(٩) الحرية والأدب
على أن هناك شرطًا أساسيًّا آخر أحببت أن أفرد له هذا الفصل؛ لأنه ليس ضروريًّا بالقياس إلى تاريخ الآداب وحده، بل هو ضروري بالقياس إلى الأدب الإنشائي، وهو ضروري بالقياس إلى العلم، وهو ضروري بالقياس إلى الفلسفة، وهو ضروري بالقياس إلى الفن، وهو ضروري بالقياس إلى الحياة العقلية والشعورية كلها، أريد به حرية الرأي.
وأنا أحب ألا تضجر ولا تسأم؛ فلن أحدثك عن حرية الرأي كما تعود أصحاب القانون والدستور والصحف أن يحدثوك عنها، وأكبر ظني أنك تعلم من هذا الحديث مثل ما أعلم، وأنك تقدس الحرية كما أقدسها وتراها شرطًا أساسيًّا للحياة الصالحة كالحرية السياسية وكالحرية الاجتماعية، إنما أريد أن أحدثك عن هذه الحرية التي يطمع فيها كل علم ناشئ ليستطيع أن يقوى وينمو ويأخذ بحظه من الحياة. هذه الحرية التي تمكنه من أن ينظر إلى نفسه كأنه كائن موجود ووحدة مستقلة ليس مدينًا بحياته لعلوم أخرى أو فنون أخرى أو عوامل اجتماعية وسياسية ودينية أخرى، أريد أن يظفر الأدب بهذه الحرية التي تمكنه من أن يُدرس لنفسه، التي تمكنه من أن يكون غاية لا وسيلة. فالأدب عندنا وسيلة إلى الآن، أو قل: إن الأدب عند الذين يعلمونه ويحتكرونه وسيلة منذ كان عصر الجمود العقلي والسياسي. بل قل: إن اللغة كلها وما يتصل بها من علوم وآداب وفنون لا تزال عندنا وسيلة لا تُدرس لنفسها، وإنما تُدرس من حيث هي سبيل إلى تحقيق غرض آخر، وهي من هذه الناحية مقدسة وهي من هذه الناحية مبتذلة. وقد يكون من الغريب أن تكون اللغة والآداب مقدسة ومبتذلة في وقت واحد، ولكنها في حقيقة الأمر مقدسة ومبتذلة؛ مقدسة لأنها لغة القرآن والدين، وهي تدرس في رأي أصحاب الأدب القديم من حيث هي وسيلة إلى فهم القرآن والدين، ومبتذلة لأنها لا تدرس لنفسها، ولأن درسها إضافي، ولأن الاستغناء عنها قد يكون ميسورًا لو أمكن أن يفهم القرآن والحديث بدونها، ولأن الفقه خير منها وأشرف، ولأن التوحيد خير منها وأشرف؛ لأن هذه العلوم الدينية تدرس لنفسها، تُدرس لأن الله قد أخذ الناس بدرسها والعلم بها، تُدرس لأنها تُحقق منافع الناس في الدنيا والآخرة. اللغة والآداب إذن مقدسة ومبتذلة، وهي من حيث هي مقدسة لا تستطيع أن تخضع للبحث العلمي الصحيح، وكيف تريد أن تخضعها للبحث العلمي الصحيح، والبحث العلمي الصحيح قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار، والشك على أقل تقدير، وما رأيك في الذي يُعرض الأشياء المقدسة لمثل هذه الأمور! وهي من حيث هي مبتذلة لا تستطيع أيضًا أن تخضع للبحث العلمي الحديث، ومن ذا الذي يُعنَى بالأدب واللغة وعلومها وهي وسائل؟ أليس خيرًا من ذلك أن يُعنَى بالغايات؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يُعنَى باللغة والأدب وعلومهما وهي قشور؟ أليس خيرًا من ذلك أن يُعنَى باللباب؟ وعلى هذا النحو يصبح الدرس العلمي للغة والأدب خطرًا من جهة، ومزدرًى مهينًا من جهة أخرى، وكيف تريد أن يدرس علم درسًا ينشئه وينميه ويمكنه من الإزهار والإثمار وهو خطير مهين في وقت واحد؟
أظن أنك استطعت الآن أن توافقني على أن الحرية بهذا المعنى شرط أساسي لنشأة التاريخ الأدبي في لغتنا العربية. فأنا أريد أن أدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف، كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات، لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان. وأنا أريد أن يكون شأن اللغة والآداب شأن العلوم التي ظفرت بحريتها واستقلت بها من قبل، والتي اعترفت لها كل السلطات بحقها في الحرية والاستقلال. أتظن أن في مصر مثلًا سلطة تستطيع أن تعرض لكلية الطب أو كلية العلوم وما يدرس فيهما من مذاهب التطور والنشوء والارتقاء وما إلى ذلك؟ كلا! لأن هذه العلوم قد استقلت وحملت السلطات في العالم كله على أن تعترف لها بالاستقلال؛ لأن هذه العلوم تُدرس لنفسها وقد أُرغم الناس جميعًا على أن يعترفوا لها بأنها تُدرس من حيث هي غايات لا وسائل. وقد وصل الأدب في أوروبا الآن إلى هذه المنزلة، وصل بعد جهد ومشقة، ولم يصل إلا في هذا العصر الأخير، ولكنه قد وصل بالفعل وأصبح يُدرس لنفسه، وأصبح يستمتع من الحرية بمثل ما تستمتع به الطبيعة والكيمياء، وأصبح خصومه لا يحاربونه بالسلاح الإداري أو القضائي كما كانوا يفعلون من قبل، وإنما يحاربونه بالسلاح العلمي الأدبي الخالص، فيقيمون الحجة ويتجادلون بما يلائم مزاجهم من قوة أو ضعف ومن لين أو عنف.
على هذا الشرط وحده يستطيع الأدب العربي أن يحيا حياة ملائمة لحاجات العصر الذي نعيش فيه من الوجهة العلمية والفنية، وإلا فما لي أُدرس الأدب لأعيد ما قال القدماء؟ ولِمَ لا أكتفي بنشر ما قال القدماء؟ وما لي أدرس الأدب لأقصر حياتي على مدح أهل السنة وذم المعتزلة والشيعة والخوارج وليس لي في هذا كله شأن ولا منفعة ولا غاية علمية؟ ومن الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرًا بالإسلام أو هادمًا للإلحاد وأنا لا أريد أن أبشر ولا أريد أن أناقش الملحدين، وأنا أكتفي من هذا كله بما بيني وبين الله من حظ ديني؟! تستطيع أن تصدقني، فأنا أوثر أي صناعة من الصناعات مهما تكن مهينة مزدراة على صناعة الأدب كما يفهمها هؤلاء الذين يدرسون الأدب من حيث هو وسيلة لا أكثر ولا أقل، وهب السلطة السياسية أخذت المؤرخين بأن يضعوا تاريخهم تحت تصرف السياسة، فلا يكتبون ولا يدرسون إلا إذا كان فيما يكتبون أو يدرسون تأييد للسلطة السياسية أو نحو من أنحاء تصرفها، أليس المؤرخون جميعًا، إن كانوا خليقين بهذا الاسم، يؤثرون أن يبيعوا الفول أو الكراث على أن يكونوا أدوات في أيدي السياسة يفسدون لها العلم والأخلاق!
الأدب في حاجة إذن إلى هذه الحرية، هو في حاجة إلى ألا يعتبر علمًا دينيًّا ولا وسيلة دينية، وهو في حاجة إلى أن يتحرر من هذا التقديس، هو في حاجة إلى أن يكون كغيره من العلوم قادرًا على أن يخضع للبحث والنقد والتحليل والشك والرفض والإنكار؛ لأن هذه الأشياء كلها هي الأشياء الخصبة حقًّا، واللغة العربية في حاجة إلى أن تتحلل من التقديس، هي في حاجة إلى أن تخضع لعمل الباحثين كما تخضع المادة لتجارب العلماء. يوم يتحرر الأدب من هذه التبعية ويوم تتحلل اللغة من هذا التقديس يستقيم الأدب حقًّا ويزهر حقًّا ويؤتي ثمرًا قيمًا لذيذًا حقًّا. أتذكر القرون الوسطى حين لم يكن يُباح للناس تشريح الجسم الإنساني؛ لأنه كان مقدسًا لا ينبغي أن يمس بما يهينه؟ ثم أتذكر ماذا كان تأثير ذلك في علوم الطب وفي فنون التصوير والتمثيل؟ ثم أتذكر يوم أبيح للناس أن يدرسوا جسم الإنسان بالتشريح ويخضعوه لهذا الدرس الدقيق؟ أتذكر ماذا أحدث ذلك من الأثر في العلوم الطبيعية وفي الفنون الطبية، وكيف نشأ عن ذلك أن استقامت فنون التصوير والتمثيل استقامة صحيحة منتجة؟ هذا بعينه شأن اللغة والأدب: لن توجد العلوم اللغوية والأدبية ولن تستقيم فنون الأدب إلا يوم تتحلل اللغة والأدب من التقديس ويباح لنا أن نخضعهما للبحث كما تخضع المادة لتجارب العلماء. ولكن هذه الحرية التي نطلبها للأدب لن تنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمنى، وما كان الأمل وحده منتجًا، وما كان يكفي أن تتمنى لتحقق أمانيك، إنما ننال هذه الحرية يوم نأخذها بأنفسنا لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة ما؛ فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقًّا للعلم، وقد أراد الله أن تكون مصر بلدًا متحضرًا يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون.
فلتكن قاعدتنا إذن أن الأدب ليس علمًا من علوم الوسائل يدرس لفهم القرآن والحديث فقط، وإنما هو علم يدرس لنفسه ويقصد به قبل كل شيء إلى تذوق الجمال الفني فيما يؤثر من الكلام.