الجاهليون
(١) تمهيد
وهذا نحو من البحث عن تاريخ الجاهليين ولغتهم وأدبهم جديد، لم يألفه الناس عندنا من قبل، وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه، وبأن فريقًا آخر سيزورون عنه ازورارًا، ولكني على سخط أولئك وازورار هؤلاء أريد أن أذيع هذا البحث، أو بعبارة أصح أن أقيده؛ فقد أذعته قبل اليوم حين تحدثت به إلى طلابي في الجامعة، وليس سرًّا ما تتحدث به إلى أكثر من مائتين.
ولقد اقتنعت بنتائج هذا البحث اقتناعًا ما أعرف أني شعرت بمثله في تلك المواقف المختلفة التي وقفتها من تاريخ الأدب العربي، وهذا الاقتناع القوي هو الذي يحملني على تقييد هذا البحث ونشره في هذه الفصول، غير حافل بسخط الساخط ولا مكترث بازورار المزورِّ. وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قومًا وشق على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم في حقيقة الأمر عدة المستقبل وقوام النهضة وذخر الأدب الجديد.
ولقد تناول الناس منذ حين مسألة القديم والجديد، واشتد فيها اللجاج بينهم، وخيل إلى بعضهم أنه يستطيع أن يقضي فيها بين المختصمين. ولكني أعتقد أن المختصمين أنفسهم لم يتناولوا المسألة من جميع أطرافها، فهم لم يكادوا يتجاوزون فنون الأدب التي يتعاطاها الناس من نثر وشعر، والأساليب التي تصطنع في هذه الفنون والمعاني، والألفاظ التي يعمد إليها الكاتب أو الشاعر حين يريد أن يتحدث إلى الناس بعواطف نفسه أو نتائج عقله. ولكن للمسألة وجهًا آخر لا يتناول الفن الكتابي أو الشعري، وإنما يتناول البحث العلمي عن الأدب وتاريخ فنونه.
نحن بين اثنتين: إما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلا بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث، والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب، ووفق أبو عبيدة أو لم يُوفق، واهتدى الكسائي أو ضل الطريق. وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث. لقد أنسيت؛ فلست أريد أن أقول: البحث، وإنما أريد أن أقول: الشك. أريد ألا نقبل شيئًا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبيت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان.
والفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم؛ فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث على الاطمئنان والرضا، والشك الذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود. المذهب الأول يدع كل شيء حيث تركه القدماء لا يناله بتغيير ولا تبديل، ولا يمسه في جملته وتفصيله إلا مسًّا رفيقًا، وأما المذهب الثاني فيقلب العلم القديم رأسًا على عقب وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئًا كثيرًا.
ولندع هذا النحو من الكلام العام، ولنوضح ما نريد أن نقوله بشيء من الأمثلة: بين يدينا مسألة الشعر الجاهلي نريد أن ندرسها وننتهي فيها إلى الحق. فأما أنصار القديم فالطريق أمامهم واضحة معبدة، والأمر عليهم سهل يسير، أليس قد أجمع القدماء من علماء الأمصار في العراق والشام وفارس ومصر والأندلس على أن طائفة كثيرة من الشعراء قد عاشت قبل الإسلام وقالت كثيرًا من الشعر؟ أليس قد أجمع هؤلاء العلماء أنفسهم على أن لهؤلاء الشعراء أسماء معروفة محفوظة مضبوطة يتناقلها الناس ولا يكادون يختلفون فيها؟ أليس قد أجمع هؤلاء العلماء على أن لهؤلاء الشعراء مقدارًا من القصائد والمقطوعات حفظه عنهم رواتهم وتناقله عنهم الناس، حتى جاء عصر التدوين فدُون في الكتب وبقي منه ما شاء الله أن يبقى إلى أيامنا؟ وإذا كان العلماء قد أجمعوا على هذا كله، فرووا لنا أسماء الشعراء وضبطوها، ونقلوا إلينا آثار الشعراء وفسروها، فلم يبقَ إلا أن نأخذ عنهم ما قالوا راضين به مطمئنين إليه. فإذا لم يكن لأحدنا بد من أن يبحث وينقد ويحقق فهو يستطيع هذا دون أن يجاوز مذاهب أنصار القديم. فالعلماء قد اختلفوا في الرواية بعض الاختلاف، وتفاوتوا في الضبط بعض التفاوت، فلنوازن بينهم ولنرجح رواية على رواية، ولنؤثر ضبطًا على ضبط، ولنقل: أصاب البصريون وأخطأ الكوفيون، أو وُفق المبرد ولم يُوفق ثعلب. لنذهب في الأدب وفنونه مذهب الفقهاء في الفقه بعد أن أُغلق باب الاجتهاد، هذا مذهب أنصار القديم، وهو المذهب الذائع في مصر، وهو المذهب الرسمي أيضًا، مضت عليه مدارس الحكومة وكتبها ومناهجها على ما بينها من تفاوت واختلاف.
ولا ينبغي أن تخدعك هذه الألفاظ المستحدثة في الأدب، ولا هذا النحو من التأليف الذي يقسم التاريخ الأدبي إلى عصور، ويحاول أن يدخل فيه شيئًا من الترتيب والتنظيم؛ فذلك كله عناية بالقشور والأشكال لا يمس اللباب ولا الموضوع. فما زال العرب ينقسمون إلى بائدة وباقية، وإلى عاربة ومستعربة، وما زال أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل، وما زال امرؤ القيس صاحب «قفا نبك …» وطرفة صاحب «لخولة أطلال …» وعمرو بن كلثوم صاحب «ألا هبي …» وما زال كلام العرب في جاهليتها وإسلامها ينقسم إلى شعر ونثر، والنثر ينقسم إلى مرسل ومسجوع، إلى آخر هذا الكلام الكثير الذي يفرغه أنصار القديم فيما يضعون من كتب وما يلقون على التلاميذ والطلاب من دروس.
هم لم يغيروا في الأدب شيئًا، وما كان لهم أن يغيروا فيه شيئًا وقد أخذوا أنفسهم بالاطمئنان إلى ما قال القدماء، وأغلقوا على أنفسهم في الأدب باب الاجتهاد كما أغلقه الفقهاء في الفقه والمتكلمون في الكلام.
وأما أنصار الجديد، فالطريق أمامهم معوجة ملتوية، تقوم فيها عقاب لا تكاد تُحصى، وهم لا يكادون يمضون إلا في أناة وريث هما إلى البطء أقرب منهما إلى السرعة؛ ذلك أنهم لا يأخذون أنفسهم بإيمان ولا اطمئنان، أو هم لم يُرزقوا هذا الإيمان والاطمئنان. وقد خلق الله لهم عقولًا تجد في الشك لذة وفي القلق والاضطراب رضًا، وهم لا يريدون أن يخطوا في تاريخ الأدب خطوة حتى يتبينوا موضعها، وسواء عليهم وافقوا القدماء وأنصار القديم أم كان بينهم وبينهم أشد الخلاف.
هم لا يطمئنون إلى ما قال القدماء، وإنما يلقونه بالتحفظ والشك. ولعل أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانًا. هم يريدون أن يدرسوا مسألة الشعر الجاهلي، فيتجاهلون إجماع القدماء على ما أجمعوا عليه، ويتساءلون: أهناك شعر جاهلي؟ فإن كان هناك شعر جاهلي فما السبيل إلى معرفته؟ وما هو؟ وما مقداره؟ وبم يمتاز من غيره؟ ويمضون في طائفة من الأسئلة يحتاج حلها إلى رَوِيَّة وأناة وإلى جهود الجماعات العلمية لا إلى جهود الأفراد. هم لا يعرفون أن العرب ينقسمون إلى باقية وبائدة، وعاربة ومستعربة ولا أن أولئك من جرهم، وهؤلاء من ولد إسماعيل، ولا أن امرأ القيس وطرفة وابن كلثوم قالوا هذه المطولات؛ ولكنهم يعرفون أن القدماء كانوا يرون ذلك، ويريدون أن يتبينوا أكان القدماء مصيبين أم مخطئين؟
والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر؛ فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى كل شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينًا، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه.
وليس حظ هذا المذهب منتهيًا عند هذا الحد، بل هو يجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدًى وأعظم أثرًا؛ فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ، وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يُباح الشك فيها. وهم بين اثنتين: إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيريحوا ويستريحوا، وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقها ويؤدوا للعلم واجبه، فيتعرضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى، ويحتملوا ما ينبغي أن يحتمله العلماء من سخط الساخطين.
ولست أزعم أني من العلماء، ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض للأذى، وربما كان من الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة، وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا، ولكني مع ذلك أحب أن أفكر، وأحب أن أبحث، وأحب أن أعلن إلى الناس ما أنتهي إليه بعد البحث والتفكير؛ ولا أكره أن آخذ نصيبي من رضا الناس عني أو سخطهم عليَّ حين أعلن إليهم ما يحبون أو ما يكرهون. وإذن فلأعتمد على الله، ولأحدثك به في صراحة وأمانة وصدق، ولأتجنب في هذا الحديث هذه الطرق التي يسلكها المهرة من الكُتاب ليُدخلوا على الناس ما لم يألفوا في رفق وأناة وشيء من الاحتياط كثير.
فأول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أنني شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل: ألح عليَّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينًا فهو قريب من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تُمثل حياة الجاهليين، ولا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًّا لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطيرة لهذه النظرية، ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو نحل الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين.
وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنَّا نستطيع أن نتصوره تصورًا واضحًا قويًّا صحيحًا، ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى.
وستسألني: كيف انتهى بي البحث إلى هذه النظرية الخطيرة؟ ولست أكره أن أجيبك على هذا السؤال، بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك عنه، ولأجل أن أجيبك عليه إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل، وسترى أن هذه الطائفة المختلفة من المسائل تنتهي كلها إلى نتيجة واحدة هي هذه النظرية التي ذكرتها منذ حين، يجب أن أحدثك عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية بعد ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح، وما بين هذه الحياة وبين الأدب من صلة. ويجب أن أحدثك عن حال أولئك الناس الذين غلبوا على أمرهم بعد الفتح في بلاد الفرس وفي الشام والجزيرة والعراق ومصر، وما بين هذه الحال وبين لغة العرب وآدابهم من صلة. ويجب أن أحدثك عن نشأة العلوم الدينية واللغوية وما بينها وبين اللغة والأدب من صلة. ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده، وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة. ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة. ثم يجب أن أحدثك عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام وكان لها أثر قوي جدًّا في الأدب العربي الجاهلي وفي الأدب العربي الذي نُحل وأُضيف إلى الجاهليين. وهذه المباحث التي أشرت إليها ستنتهي كلها إلى تلك النظرية التي قدمتها، وهي أن الكثرة المطلقة مما نسميه الأدب الجاهلي ليست من الجاهلية في شيء.
ولكني مع ذلك لم أقف عند هذه المباحث؛ لأني لم أقف عندها فيما بيني وبين نفسي بل جاوزتها، وأريد أن أجاوزها معك إلى نحو آخر من البحث أظنه أقوى دلالة وأنهض حجة من المباحث الماضية كلها؛ ذلك هو البحث الفني واللغوي، فسينتهي بنا هذا البحث إلى أن هذا الشعر الذي يُنسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. نعم! وسينتهي بنا هذا البحث إلى نتيجة غريبة، وهي أنه لا ينبغي أن يُستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث، وإنما ينبغي أن يُستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله، أريد أن أقول: إن هذه الأشعار لا تثبت شيئًا ولا تدل على شيء، ولا ينبغي أن تُتخذ وسيلة إلى ما اتخذت إليه من علم القرآن والحديث، فهي إنما تُكلفت واختُرعت اختراعًا ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه.
فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلى غاية واحدة، هي هذه النظرية التي قدمتها، فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون أدبًا جاهليًّا حقًّا، وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسر كل العسر، وبأني أشك شكًّا شديدًا في أنه قد ينتهي بنا إلى نتيجة مرضية، ومع ذلك فسنحاوله.
(٢) منهج البحث
أحب أن أكون واضحًا جليًّا، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن أضطرهم إلى أن يتأولوا ويتحملوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي أرمي إليها، أريد أن أُريح الناس من هذا اللون من ألوان التعب، وأن أريح نفسي من الرد والدفع والمناقشة فيما لا يحتاج إلى مناقشة. أريد أن أقول: إني سأسلك في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة، أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه «ديكارت» للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعًا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوًّا تامًّا، والناس جميعًا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرًا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدًا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر الحديث.
فلنصطنع هذا المنهج حين نريد أن نتناول أدبنا العربي القديم وتاريخه بالبحث والاستقصاء، ولنستقبل هذا الأدب وتاريخه وقد برأنا أنفسنا من كل ما قيل فيهما من قبل، وخلصنا من كل هذه الأغلال الكثيرة الثقيلة التي تأخذ أيدينا وأرجلنا ورءوسنا فتحول بيننا وبين الحركة الجسمية الحرة، وتحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة أيضًا.
نعم! يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى عواطفنا القومية وكل مشخصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها، وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية؛ يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح، ذلك أنا إذا لم ننسَ هذه العواطف وما يتصل بها فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغل عقولنا بما يلائمها، وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟ كان القدماء عربًا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجمًا يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد؛ لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم؛ ولأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضًا.
كان القدماء مسلمين مخلصين في حب الإسلام، فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام وحبهم إياه، ولم يعرضوا لمبحث علمي ولا لفصل من فصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث إنه يؤيد الإسلام ويُعزه ويُعلي كلمته، فما لاءم مذهبهم هذا أخذوه، وما نافره انصرفوا عنه انصرافًا. أو كان القدماء غير المسلمين: يهودًا أو نصارى أو مجوسًا أو ملحدين أو مسلمين في قلوبهم مرض وفي نفوسهم زيغ، فتأثروا في حياتهم بمثل ما تأثر به المسلمون الصادقون: تعصبوا على الإسلام ونحوا في بحثهم نحو الغض منه والتصغير من شأنه، فظلموا أنفسهم وظلموا الإسلام وأفسدوا العلم وجنوا على الأجيال المقبلة، ولو أن القدماء استطاعوا أن يفرقوا بين عقولهم وقلوبهم، وأن يتناولوا العلم على نحو ما تناوله المحدثون لا يتأثرون في ذلك بقومية ولا عصبية ولا ما يتصل بهذا كله من الأهواء، لتركوا لنا أدبًا غير الأدب الذي نجده بين أيدينا، ولأراحونا من هذا العناء الذي نتكلفه الآن. ولكن هذه طبيعة الإنسان لا سبيل إلى التخلص منها. وأنت تستطيع أن تقول هذا الذي نقوله في كل شيء، فلو أن الفلاسفة ذهبوا في الفلسفة مذهب «ديكارت» منذ العصور الأولى، لما احتاج «ديكارت» إلى أن يستحدث منهجه الجديد، ولو أن المؤرخين ذهبوا في كتابة التاريخ منذ العصور الأولى مذهب «سينيوبوس» لما احتاج «سينيوبوس» إلى أن يستحدث منهجه في التاريخ، وبعبارة أدنى إلى الإيجاز: لو أن الإنسان خُلق كاملًا لما احتاج إلى أن يطمع في الكمال.
فلندع لوم القدماء على ما تأثروا به في حياتهم العلمية مما أفسد عليهم العلم، ولنجتهد في ألا نتأثر كما تأثروا، وفي ألا نفسد العلم كما أفسدوه، ولنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم، ولا معنيين بالملائمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي، ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية، فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء، وليس من شك في أننا سنلتقي أصدقاء سواء اتفقنا في الرأي أو اختلفنا فيه؛ فما كان اختلاف الرأي في العلم سببًا من أسباب البغض؛ إنما الأهواء والعواطف هي التي تنتهي بالناس إلى ما يُفسد عليهم الحياة من البغض والعداء.
فأنت ترى أن منهج «ديكارت» هذا ليس خصبًا في العلم والفلسفة والأدب فحسب، وإنما هو خصب في الأخلاق والحياة الاجتماعية أيضًا، وأنت ترى أن الأخذ بهذا المنهج ليس حتمًا على الذين يدرسون العلم ويكتبون فيه وحدهم، بل هو حتم على الذين يقرءون أيضًا، وأنت ترى أني غير مسرف حين أطلب منذ الآن إلى الذين لا يستطيعون أن يبرءوا من القديم ويخلصوا من أغلال العواطف والأهواء حين يقرءون العلم أو يكتبون فيه ألا يقرءوا هذه الفصول؛ فلن تفيدهم قراءتها إلا أن يكونوا أحرارًا حقًّا.
(٣) مرآة الحياة الجاهلية
على أني أحب أن يطمئن الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويشفقون عليه ويجدون شيئًا من اللذة في أن يعتقدوا أن هناك أدبًا جاهليًّا يُمثل حياة جاهلية انقضى عصرها بظهور الإسلام، فلن يمحو هذا الكتاب ما يعتقدون، ولن يقطع السبيل بينهم وبين هذه الحياة الجاهلية يدرسونها ويجدون في درسها ما يبتغون من لذة علمية وفنية. بل أنا أذهب إلى أبعد من هذا فأزعم أني سأستكشف لهم طريقًا جديدة واضحة قصيرة سهلة يصلون منها إلى هذه الحياة الجاهلية، أو بعبارة أصح: يصلون منها إلى حياة جاهلية لم يعرفوها، إلى حياة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما يُنسب إلى الشعراء الجاهليين؛ ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية، وإنما أنكر أن يمثلها هذا الأدب الذي يُسمونه الأدب الجاهلي. فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير وقس بن ساعدة وأكثم بن صيفي؛ لأني لا أثق بما يُنسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقًا أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن، فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي، ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه، أدرسها في القرآن، وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه، وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل ظهور الإسلام، بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه؛ فلست أعرف أمة من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية، فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي يُنسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبي خازم.
قلت: إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية، وهذه القضية غريبة حين تسمعها، ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلًا؛ فليس من اليسير أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تُليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة، هي هذه الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه. وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاوموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا على أسراره ودقائقه. وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نُصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب؛ فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر. إنما كان القرآن جديدًا في أسلوبه، جديدًا فيما يدعو إليه، جديدًا فيما شرع للناس من دين وقانون ولكنه كان كتابًا عربيًّا؛ لغته هي اللغة الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره؛ أي في العصر الجاهلي، وفي القرآن رد على الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية، وفيه رد على اليهود، وفيه رد على النصارى، وفيه رد على الصابئة والمجوس. وهو لا يرد على يهود فلسطين، ولا على نصارى الروم، ومجوس الفرس، وصابئة الجزيرة وحدهم، وإنما يرد على فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد العربية نفسها، ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر، ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه، وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة …
أفترى أحدًا يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر؟! ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية، وأهيج اليهود حين أهاجم اليهود، وأُحْفِظُ المسلمين حين أهاجم الإسلام، وأنا لا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات، ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء؛ ذلك لأني أهاجم ديانات ممثلة في مصر يؤمن بها المصريون وتحميها الدولة المصرية. وكذلك كانت الحال حين ظهر الإسلام: هاجم الوثنية فعارضه الوثنيون، وهاجم اليهودية فعارضه اليهود، وهاجم النصرانية فعارضه النصارى. ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة، وإنما كانت تُقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية، أما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلى الهجرة، وأما يهودية اليهود فقد ألبت عليه وجاهدته جهادًا عقليًّا وجدليًّا، ثم انتهت إلى الحرب والقتال، وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية. لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية؛ إنما كانت وثنية في مكة ويهودية في المدينة، ولو ظهر النبي في الحيرة أو في نجران للقي من نصارى هاتين المدينتين مثل ما لقي من مشركي مكة ويهود المدينة.
وفي الحق أن الإسلام لم يكد يظهر على مشركي الحجاز ويهوده حتى استحال الجهاد بينه وبين النصارى من جدال ونضال بالحجة إلى اصطدام مسلح، أدرك النبي أوله وانتهى به الخلفاء إلى أقصى حدوده.
فأنت ترى أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات، إنما يتحدث عن العرب وعن نحل وديانات ألفها العرب؛ فهو يبطل منها ما يبطل، ويؤيد منها ما يؤيد، وهو يلقى في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان على نفوس الناس، وإذن فما أبعد الفرق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الأدب الذي يُضاف إلى الجاهليين، ونتيجة البحث عنها في القرآن.
فأما هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهليين فيُظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العلمية، وإلا فأين تجد شيئًا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة؟! أوليس عجيبًا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين؟!
وأما القرآن فيُمثل شيئًا آخر، يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال، فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغناء لجئوا إلى الكيد، ثم إلى الاضطهاد، ثم إلى إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر.
أفتظن أن قريشًا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يُمثله هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهليين؟ كلا! كانت قريش متدينة قوية الإيمان بدينها، ولهذا الدين وللإيمان بهذا الدين جاهدت ما جاهدت وضحت بما ضحت، وقل مثل ذلك في اليهود؛ وقل مثله في غير أولئك وهؤلاء من العرب الذين جاهدوا النبي عن دينهم.
فالقرآن إذن أصدق تمثيلًا للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يُسمونه الجاهلي، ولكن القرآن لا يُمثل الحياة الدينية وحدها، وإنما يُمثل شيئًا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي: يمثل حياة عقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظًّا عظيمًا. أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال ويخاصمون ويحاورون؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يُوفقوا لحلها: في البعث، في الخلق، في إمكان الاتصال بين الله والناس، في المعجزة وما إلى ذلك.
أفتظن قومًا يجادلون في هذه الأشياء جدالًا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهليين؟! كلا! لم يكونوا جهالًا ولا أغبياء، ولا غلاظًا ولا أصحاب حياة خشنة جافية؛ وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء، وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة.
وهنا يجب أن نحتاط؛ فلم يكن العرب كلهم كذلك، ولا يُمثلهم القرآن كلهم كذلك؛ وإنما كانوا كغيرهم من الأمم القديمة وككثير من الأمم الحديثة منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم، وطبقة العامة الذين لا يكادون يكون لهم من هذا كله حظ.
القرآن شاهد بهذا، أليس يحدثنا عن أولئك المستضعفين الذين كفروا طاعة لسادتهم وزعمائهم لا جهادًا في الرأي ولا اقتناعًا بالحق، والذين سيقولون يوم يُسألون: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا؟ بلى! والقرآن يحدثنا عن جفوة الأعراب وغلظتهم وإمعانهم في الكفر والنفاق وقلة حظهم من العاطفة الرقيقة التي تحمل على الإيمان والتدين، أليس هو الذي يقول: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ؟ أليس قد شرع للنبي أن يتألف قلوب الأعراب بالمال؟ بلى! فالقرآن إذن يمثل الأمة العربية على أنها كانت كغيرها من الأمم القديمة، فيها الممتازون المستنيرون الذين كان النبي يجادلهم، وفيها العامة الذين لم يكن لهم حظ في استنارة وامتياز، والذين كانوا موضوع النزاع بين النبي وخصومه، والذين كان يتألفهم النبي بالمال أحيانًا.
والقرآن لا يمثل الأمة العربية متدينة مستنيرة فحسب، بل هو يعطينا منها صورة أخرى يدهش لها الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام. فهم يعتقدون أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة معتزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي، وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات؛ فهم يقولون: إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بهذه المؤثرات الخارجية التي أثرت في الشعر الإسلامي: لم يتأثر بحضارة الفرس والروم، وأنى له ذلك! لقد كان يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة. كلا! القرآن يُحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يُحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم، بل كانوا على اتصال قوي قسمهم أحزابًا وفرقهم شيعًا، أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفين: حزب يُشايع أولئك، وحزب يُناصر هؤلاء؟ أليس في القرآن سورة تُسمى «سورة الروم» تبتدئ بهذه الآيات: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ؟
لم يكن العرب إذن كما يظن أصحاب هذا الشعر الجاهلي معتزلين، فأنت ترى أن القرآن يصف عنايتهم بسياسة الفرس والروم، وهو يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس.
وسيرة النبي تُحدثنا أن العرب تجاوزوا بوغاز باب المندب إلى بلاد الحبشة، ألم يهاجر المهاجرون الأولون إلى هذه البلاد؟ وهذه السيرة نفسها تحدثنا بأنهم تجاوزوا إلى بلاد الفرس، وبأنهم تجاوزوا الشام وفلسطين إلى مصر، فلم يكونوا إذن معتزلين، ولم يكونوا إذن بنجوة من تأثير الفرس والروم والحبش والهند وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالًا ولا غلاظًا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى، كذلك يمثلهم القرآن، بل هو يمثل من حياتهم وجهًا آخر ليس أقل خطرًا من هذه الأوجه التي أشرنا إليها آنفًا، وقد تعود الباحثون عن حياة الأمم القديمة والحديثة أن يختصوه بحظ عظيم من العناية؛ لأنهم يرون فيه قوام الحياة الاجتماعية كلها، ذلك هو هذا الوجه الذي يمس حياة العرب الاقتصادية الداخلية، والذي يظهر لنا هذه الصلة بين طبقاتهم وطوائفهم. فأنت تستطيع أن تقرأ امرئ القيس، وأنت تستطيع أن تقرأ هذا الأدب الجاهلي كله دون أن تظفر بشيء ذي غناء يمثل لك حياة العرب الاقتصادية فيما بينهم وبين أنفسهم. فكما أنك عرفت من القرآن وحده أن قد كانت للعرب حياة تجارية خارجية وصلت بينهم وبين الأمم الأجنبية، فستعرف من القرآن، ومن القرآن وحده، أن قد كانت للعرب فيما بينهم وبين أنفسهم حياة اقتصادية سيئة وقت ظهور النبي، لعل سوءها كان من الأشياء التي حبب الإسلام إلى قلوب ناس كثيرين منهم. فقد رأيت منذ حين أن القرآن يقسم العرب إلى مستنيرين ممتازين من ناحية، وإلى جهال مستضعفين من ناحية أخرى، وقد رأيت أن هؤلاء الجهال المستضعفين كانوا موضوع الخصومة والنزاع بين النبي وأعدائه. وأنت إذا قرأت القرآن رأيت أنه يقسم العرب إلى فريقين آخرين: فريق الأغنياء المستأثرين بالثروة المسرفين في الربا، وفريق الفقراء المعدمين أو الذين ليس لهم من الثروة ما يمكنهم من أن يقاوموا هؤلاء المرابين أو يستغنوا عنهم. وقد وقف الإسلام في صراحة وحزم وقوة إلى جانب هؤلاء الفقراء المستضعفين، وناضل عنهم وذاد خصومهم والمسرفين في ظلمهم. وسلك في هذا النضال والذياد مسالك مختلفة: سلك فيهما مسلك القوة والعنف حين حرم الربا وألح في تحريمه، ومثل الذين يأكلون الربا بالذين يتخبطهم الشيطان من المس، وأمر الذين آمنوا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا، وآذنهم بحرب من الله ورسوله إن لم يفعلوا. وسلك فيهما مسلك اللين والرفق حين أمر بالصدق وأوصى الأغنياء بالفقراء، وضرب هذه الأمثال البينات يرغب بها أصحاب الأموال في البر بالفقراء والعطف عليهم، وجعل الصدقة قرضًا يقدمه صاحبها إلى الله على أن يرد إليه مضاعفًا يوم القيامة. وسلك فيهما بين بين، فيه حزم وشدة وفيه لين ورفق حين شرع الزكاة على أنها تطهير للأغنياء وسد لحاجة الفقراء.
أفتظن أن القرآن كان يُعنَى هذه العناية كلها بتحريم الربا والحث على الصدقة وفرض الزكاة لو لم تكن حياة العرب الاقتصادية الداخلية من الفساد والاضطراب بحيث تدعو إلى ذلك؟ فالتمسْ لي هذا أو شيئًا كهذا في الأدب الجاهلي، وحدثني أين تجد في هذا الأدب شعره ونثره ما يصور لك نضالًا ما بين الأغنياء والفقراء. ومع ذلك، فما هذا الأدب الذي لا يمثل فقر الفقير وما يحمل صاحبه من ضر وما يعرضه له من أذى، والذي لا يمثل طغيان الغني وإسرافه في الظلم والبطش وامتصاص دماء المعدمين؟ ألم يكن بين هؤلاء العرب البائسين من انطلق لسانه مرة بالشكوى من هذه الحياة السيئة المنكرة؟ ألم يكن من هؤلاء العرب المسرفين في الظلم من انطلق لسانه مرة بما يمثل كبرياءه وتسلطه على هؤلاء البائسين؟ ثم لا يمثل القرآن هذه الناحية وحدها من الحياة الاقتصادية الداخلية، وإنما يمثل ناحية أخرى أقوم وأعظم خطرًا منها: يمثل هذه الناحية التي كنا ننتظر أن يمثلها الشعر؛ لأنها خليقة به وتكاد تكون موقوفة عليه، نريد هذه الناحية النفسية الخالصة، هذه الناحية التي تُظهر لنا الصلة بين العربي والمال، هذه الناحية التي إن فكرنا فيها قليلًا لم نلبث أن نتساءل عن هذا الشعر الجاهلي أصادق هو أم كاذب؟ فالشعر الجاهلي يُمثل لنا العرب أجوادًا كرامًا مهينين للأموال مسرفين في ازدرائها؛ ولكن في القرآن إلحاحًا في ذم البخل وإلحاحًا في ذم الطمع؛ فقد كان البخل والطمع إذن من آفات الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الجاهلية، ويكفي أن تقرأ هذه الآيات التي يأمر فيها القرآن برعاية اليتيم وينهى عن الإسراف في ماله وعن ظلمه والبغي عليه، ويكفي أن نقرأ هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا؛ لتشعر شعورًا قويًّا بأن العرب في الجاهلية لم يكونوا كما يمثلهم هذا الشعر أجوادًا متلفين للمال مهينين لكرامته، وإنما كان منهم الجواد والبخيل، وكان منهم المتلاف والحريص، وكان منهم من يزدري المال ومنهم من يزدري الفضيلة والعاطفة في سبيل جمعه وتحصيله. وفي الحق أن العرب كانوا كذلك، وفي الحق أن هذا ملائم كل الملائمة لما يمثله القرآن من حياة العرب المتحضرين في مكة والمدينة؛ فقد كانت التجارة قوام الحياة في هاتين الحاضرتين. ومن ذكر التجارة في الأمم القديمة فهو مضطر إلى أن يذكر معها الربا والبخل والطمع والظلم وهذه النقائص الفردية والاجتماعية التي تتصل بحب المال وجمعه، والتي لا يُظهر الأدب الجاهلي منها شيئًا، يدل القرآن دلالة لا تقبل الشك على أنها كانت ممثلة في مكة والمدينة والطائف، كما كانت ممثلة قبل ذلك في أثينا وروما وقرطاجنة. بل يدل القرآن على أكثر من هذا، يدل على أن الثورة التي جاء بها الإسلام لم تكن ثورة دين ليس غير، وإنما كانت ثورة دين وسياسة واقتصاد.
والقرآن يمضي في تمثيل هذه الناحية النفسية من تاريخ العرب إلى أبعد مدى، فانظر إليه كيف يدقق في تنظيم الصلة بين الدائن والمدين، فيأمر باللين وانتظار المعسر حتى يوسر. حتى إذا فرغ من هذا الأمر بالمعروف والحث على الرفق أخذ ينظم أمر المتقارضين في دقة وحزم وعدل وحرص تنظيمًا لا أعرف أبلغ منه في تمثيل الصلة النفسية بين العرب والأموال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ ۗ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ۗ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. سيقولون نظام جديد يشرعه الله الناس رفقًا بهم ورعاية لمصالحهم، لسنا ننكر ذلك ولا نرتاب فيه، ولكن تحريم الربا كان نظامًا جديدًا شرعه الله للناس رفقًا بهم ورعاية لمصالحهم، وهو مع ذلك — أو قل: وهو لذلك — كان ملائمًا لحياتهم الاقتصادية، محققًا لآمال كثير منهم، رافعًا لكثير من الظلم. ولمَ يشرع الله هذه النظم إذا لم يكن يريد أن يزيل فسادًا ويقر إصلاحًا، وينظم الصلات بين الناس على أحسن وجه ممكن وأكمله؟
ثم يتجاوز القرآن هذا كله من حياة العرب الاقتصادية إلى أشياء كنا ننتظر أن نراها في الشعر الجاهلي أو نرى الإشارة إليها فيه لو أن له نصيبًا من صحة وصدق، فهذا الشعر لا يُعنَى إلا بحياة الصحراء والبادية، وهو لا يُعنَى بها إلا من نواحٍ لا تمثلها تمثيلًا تامًّا، فإذا عرض لحياة المدر فهو يمسها مسًّا رفيقًا ولا يتغلغل في أعماقها، وما هكذا نعرف شعر الإسلام. ومن عجيب الأمر أنا لا نكاد نجد في الشعر الجاهلي ذكر البحر أو الإشارة إليه، فإذا ذُكر فذكر يدل على الجهل لا أكثر ولا أقل. فهل كان العرب في الجاهلية يجهلون البحر حقًّا ولا يصطنعونه في مرافقهم؟ أما القرآن فيمنُّ على العرب بأن الله قد سخر لهم البحر، وبأن لهم في هذا البحر منافع كثيرة مختلفة أذكر منها الملاحة؛ فالقرآن يذكر الجواري المنشآت في البحر كالأعلام. وأذكر منها الصيد، ففي القرآن مَنٌّ على العرب بأنهم كانوا يستخرجون من البحر لحمًا طريًّا. وأذكر منها استخراج اللؤلؤ والمرجان، ففي القرآن ذكر صريح لهذا. ولست أذهب في الغلو إلى أن أزعم أنهم كانوا يتخذون من الصيد واستخراج اللؤلؤ والمرجان مصدرًا من مصادر الثروة الضخمة، ولكني ألاحظ أن ذكر القرآن لهذا كله وامتنانه على العرب بهذا كله دليل قاطع على أن العرب لم يكونوا يجهلون هذا كله، بل كانوا يعرفونه حق المعرفة وكانت حياتهم تتأثر به تأثرًا قويًّا، وإلا فما عرض القرآن له وما أقام الحجة به عليهم، فأين تجد هذا أو شيئًا من هذا في الشعر الجاهلي؟
وأنا أستطيع أن أدع الحياة الاقتصادية وأعرض لغيرها من أنواع الحياة العربية في الوبر والمدر، فأبين لك أن القرآن يُحدثنا من أمر هذه الحياة بما لا يُحدثنا به هذا الأدب الجاهلي، ويصور لنا من دقائقها ما لا يصور لنا هذا الأدب الجاهلي.
وإذا كان العرب أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة، متأثرة بها مؤثرة فيها، وأصحاب اقتصاد داخلي وخارجي معقد، فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية، وكيف يستطيع رجل عاقل أن يُصدق أن القرآن قد ظهر في أمة جاهلية همجية!
أرأيت أن التماس الحياة العربية الجاهلية في القرآن أنفع وأجدى من التماسها في هذا الأدب العقيم الذي يُسمونه الأدب الجاهلي! أرأيت أن هذا النحو من البحث يغير كل التغيير ما تعودنا أن نعرف من أمر الجاهليين!
(٤) الأدب الجاهلي واللغة
على أن هناك شيئًا آخر يحظر علينا التسليم بصحة الكثرة المطلقة من هذا الأدب الجاهلي، ولعله أبلغ في إثبات ما نذهب إليه، فهذا الأدب الذي رأينا أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه. والأمر هنا يحتاج إلى شيء من الرويَّة والأناة، فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه. نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها، تُستعمل حقيقة مرة ومجازًا أخرى، وتتطور تطورًا ملائمًا لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة.
نقول: إن هذا الأدب الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية، ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن أدبهم الجاهلي هذا قد ظهر فيه؟ أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز.
وليس يعنيني أن أعرض لهذا الاختلاف والاضطراب وما ينتج عنهما في التاريخ العربي وفي تاريخ الأمم السامية الأخرى التي يضيفها القدماء والمحدثون إلى العرب مرة ويفصلونها عنهم مرة أخرى، وإنما يعنيني أن أوضح النتائج الخطيرة التي ينتجها هذا الخلط والاضطراب في تاريخ اللغة العربية وآدابها. فالواقع أننا لا نكاد نعرف صلة متينة بين اللغة العربية التي نفهمها الآن من هذا اللفظ والتي نريد أن نؤرخها ونؤرخ آدابها، ولغات هذه الأمم التي يعدها بعض القدماء والمحدثين عربية حينًا وغير عربية حينًا آخر. نعم! كل هذه اللغات سامية؛ وهي من هذه الناحية تتشابه في كثير من الأصول تشابهًا يقوى مرة ويضعف أخرى، ولكن اللغة العبرانية سامية، واللغة الفينيقية سامية، ولغة الكلدانيين سامية، واللهجات الآرامية كلها سامية، وبينها وبين اللغة العربية من التشابه القوي حينًا والضعيف حينًا آخر مثل ما بين اللغة العربية ولغة البابليين في عصر حمورابي ولغة الحميريين والسبئيين والحبش والأنباط. وإذن فلم تكون العبرانية والسريانية الكلدانية ولهجات الآراميين كلها عربية كما كانت اللغات واللهجات الأخرى؟
وإذا كانت اللغات السامية كلها عربية فقد يكون من اليسير أن نتفق وأن نفهم من أصحاب هذا الرأي ما يريدون؛ فهم يضعون لفظ «العربي» موضع لفظ «السامي»، وهو اصطلاح نستطيع أن نقره لأصحابه إن أرادوا، دون أن يمنعنا ذلك من أن نعود فنقرر أن هذه اللغات العربية مختلفة متباينة فيما بينها، وأن لكل منها خصائصها ومميزاتها، وأن واحدة منها بعينها هي التي تعنينا، وهي هذه اللغة الفصحى التي نجدها في القرآن وفيما اتفقنا على أن نسميه أدبًا عربيًّا. ومن الإسراف وازدراء العقل والعلم أن نطمئن — في غير تحفظ ولا احتياط — لما كان القدماء قد اتفقوا عليه من أن العرب منقسمون إلى بائدة وباقية، فالبائدة عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق ومن إليهم؛ والباقية تنقسم إلى عاربة ومستعربة. فالعاربة قحطان والمستعربة عدنان. نقول: من الإسراف أن نقبل هذا كله من غير نقد ولا احتياط؛ فنحن لا نعرف من عاد وثمود إلا ما أخبرنا به القرآن، ونحن نجهل لغتهم جهلًا تامًّا، ولا نستطيع بوجه من الوجوه أن نقرر في أمرهم شيئًا، ونحن لا نعرف طسمًا ولا جديسًا ولا العماليق ولا نعرف من لغاتهم قليلًا ولا كثيرًا، وقد سبقنا القدماء من علماء المسلمين إلى رفض ما رُوي لعاد وثمود وطسم وجديس والعماليق من شعر ونثرر وخبر، حاشى هذه الأخبار التي ألم بها القرآن إلمامًا للعظة والعبرة.
وإذن فكل هذه الأمم والقبائل ولغاتها لا تصلح موضوعًا للعلم ولا للبحث؛ لأننا نجهلها الجهل كله ولا نعرف منها إلا أسماءها، بل نحن لا نعرف علام تدل هذه الأسماء دلالة دقيقة محققة. ولكن الأمر ليس كذلك في قحطان وفي عدنان؛ فهما شعبان عرفهما التاريخ ووصلت إلينا عنهما نصوص لا تقبل شكًّا ولا جدالًا، ونحن نستطيع أن ندرس هذه النصوص درسًا علميًّا، ونستخلص من هذا الدرس النتائج المختلفة في اللغة والأدب والتاريخ. وإذن فموقفنا بإزاء هذين الشعبين مخالف كل المخالفة لموقفنا بإزاء عاد وثمود وطسم وجديس. وقد رأيت أن القدماء من المسلمين كانوا يقفون من هذين الشعبين موقفين متناقضين، فكانوا يرون من ناحية أن شعب قحطان هو الشعب العربي حقًّا، وأن شعب عدنان قد تعلم منه العربية واكتسبها اكتسابًا. وكانوا يرون من ناحية أخرى أن لغة قحطان ليست هي لغة عدنان، وأن لسان قحطان ليس هو لسان عدنان، ولم يحاول القدماء أن يعرفوا هذا التناقض ولا أن يزيلوا هذا اللبس، وإنما مضوا على ما كانوا عليه من أن العدنانية أخذت عربيتها عن القحطانية، ومن أن للعدنانية شعراء وخطباء وللقحطانية كذلك شعراء وخطباء، ومن أن لغة أولئك وهؤلاء واحدة هي لغة القرآن وإن كانت لغة قحطان ليست لغة عدنان وإن كان لسان قحطان ليس لسان عدنان. وقد أراد الله فوفق العلماء المحدثون لاستكشاف اللغة القحطانية، أو قل: لاستكشاف اللغات القحطانية من حميرية وسبئية ومعينية، وأراد الله أن يُوفق هؤلاء العلماء لقراءة هذه اللغات كما قرءوا اللغة المصرية القديمة وكما قرءوا لغة البابليين والأشوريين، وكما قرءوا طائفة أخرى من اللغات السامية. وأراد الله أن يُعنَى هؤلاء العلماء المحدثون بهذه اللغة الحميرية عناية لم تُقدر لعلماء المسلمين في القرن الأول والثاني للهجرة، فيستنبطوا نحوها وصرفها، ويقارنوا بينها وبين غيرها من اللغات السامية القريبة منها والبعيدة عنها. وكانت نتيجة هذا البحث الطويل والجد المتصل أن اللغة الحميرية شيء واللغة العربية الفصحى شيء آخر، وأن هذه اللغة الحميرية أقرب إلى اللغة الحبشية القديمة منها إلى اللغة العربية، متأثرة بنحو هذه اللغة الحبشية وصرفها أكثر من تأثرها بنحو عربيتنا الفصحى وصرفها. وليس هنا موضع القول المفصل في هذا كله؛ فإن للغة الحميرية علمها المستقل الذي ينبغي أن يرجع إليه من شاء التحقيق في كتب المستشرقين الذين درسوا هذا الموضوع وأتقنوه.
ولكن قومًا يأبون إلا أن تُقام لهم الحجة، ويعرض عليهم تفصيل الدليل، وهم يغلون في ذلك ويلجون ويرون أن من التقصير أو العبث بالعقول أن يدعي مدعٍ أن اللغتين مفترقتان دون أن يدل على مواضع الفرق، كأن من الحق علينا حين نُعلن أن العربية شيء والعبرانية شيء آخر وأن نُقيم الدليل على هذا. وكأن من المحرم على صاحب التاريخ الطبيعي مثلًا أن يعتز بنتائج البحث الطبيعي والكيميائي دون أن يدخل في تفصيل الأدلة الطبيعية والكيميائية، كأنه لا يصح لعالم أن يعتمد على نتائج البحث التي انتهى إليها الإخصائيون في العلوم الأخرى.
وهبم وأخهو بنو كلبت هقنيو إل مقه ذهرن ذن مزندن حجن وقههمو بمسألهو لوفيهمو وسعدهمو نعمتم.
- وهبم: أي وهاب اسم رجل، والألف كثيرًا ما تُحذف من وسط الكلمة وآخرها في الكتابة الحميرية وكذلك الواو والياء، أما الميم الأخيرة فهي بدل التنوين في العربية.
- وأخهو: أي وأخوه، ففيه واو حُذفت قبل الهاء، أما «هو» في آخرها فهي بدل ضمير الغائب وهو «ھ» في العربية.
- بنو: كُتب بالواو لأنه للقبيلة.
- كلبت: أي كلبة بالتاء المربوطة وليس في الكتابة الحميرية تاء مربوطة وكلبة اسم قبيلة.
- هقنيو: أي أقنوا ومعناه أعطوا، والفعل الذي على وزن أفعل في اللغة الحميرية تبدل همزته هاء، والمعتل لا يُحذف حرف العلة منه مع اتصاله بواو الجماعة.
- إل مقه: اسم إله من آلهتهم كان يُعبد في هران وفي أوام.
- ذهرن: أي ذو هران، الواو حُذفت من ذو، والألف من هران، وذو بمعنى صاحب، وهران موضع قال ياقوت: إنه حصن ذمار باليمن.
- ذن: أي ذان وهو اسم إشارة زيدت النون في آخره لتأكيد الإشارة وحُذفت منه الألف كالعادة.
- مزندن: أي لوح وهو لفظ حميري.
- حجن: معناه لأن أو بسبب.
- وقههمو: أي أجابهم، «وهمو» هو ضمير المفعول في الجمع.
- بمسألهو: أي عن سؤاله.
- لوفيهمو: هو فعل لم يحذف منه حرف العلة كما في هقنيو، ومعنى لوفيهمو أي سلمهم.
- وسعدهم: أي وساعدهم.
- نعمتم: أي نعمة والميم بدل التنوين.
أخت أمهو وشفنرم بعلتي خمتن بخلف هجرن مريب شمتي وثنن لإل مقه بعل أوم حجن وقههمو بمسألهو لوفيهمو.
- أخت أمهو: أي أخت أمه، وهذا اسمها، و«هو» في أمهو بدل الهاء في العربية.
- وشفنرم: عَلَم وهو يقرب من الشنفرى.
- بعلتي: أي صاحبتي.
- خمتن: أي الخيمة، فالياء محذوفة في وسط الكلمة كما تقدم، والنون الأخيرة بدل أل أداة التعريف.
- بخلف: أي وراء.
- هجرن: أي مدينة، ولذلك قيل لقاعدة البحرين هجر، والنون فيها للإشارة.
- مريب: هي مدينة مأرب المعروفة في اليمن، وكان اسمها عند القدماء من اللاتين مريب وهو يطابق الاسم الحميري.
- شمتي: أي وضعتا.
- وثنن: أي صنمًا، والنون فيه للإشارة.
- لإل مقه: أي الإله الذي تقدم ذكره.
- بعل: أي صاحب.
- أوم: أي أوام، وحذفت منه الألف كما تقدم، وأوام بلد.
- حجن: أي لأن أو بسبب.
- وقههمو: أي أجابهم.
- بمسألهو: أي عن سؤاله.
- لوفيهمو: سلمهم.
ونظن أن هؤلاء لا يطلبون إلينا أن نتعمق في تفسير هذين النصين وأشباههما واستخراج ما يمكن أن يستخرج منهما من الخلاف الجوهري بين اللغتين العربية والحميرية في مادة اللفظ وأصول النحو والصرف واتصال الجمل بعضها ببعض وما إلى ذلك مما يقارب أو يباعد بين اللغات، ونظنهم يرون معنا أننا بإزاء لغتين مختلفتين لا لغة واحدة، ونظنهم يشعرون بأن تقارب بعض الألفاظ وتشابه بعض القواعد ليس إلا كتقارب الألفاظ وتشابه القواعد بين عربيتنا الفصحى من ناحية والسريانية والعبرانية من ناحية أخرى.
ونحب بعد هذا أن يقرءوا ويفهموا ويفسروا هذا النص الذي نثبته لهم دون أن نفسره، فإن كانوا لا يزالون يرون أن الحميرية والعربية لغة واحدة فهم خليقون أن يفهموا هذا النص ويفسروه؛ كما يفهمون ويفسرون شعر الجاهليين والإسلاميين من العرب، وإلا فحجتنا ظاهرة ومذهبنا مستقيم:
انتهى.
الأمر إذن أوضح وأبين من أن نبين القول في تفصيله، فالقحطانية شيء والعدنانية شيء آخر، والحميرية شيء والعربية شيء آخر. والذين يريدون تأريخ الآداب العربية لا يؤرخون الآداب الحميرية، كما أنهم لا يؤرخون الآداب العبرانية أو السريانية.
وإذن فما خطب هؤلاء الشعراء الجاهليين الذين ينسبون إلى قحطان والذين كانت كثرتهم تنزل اليمن وكانت قلتهم من قبائل يقال: إنها قحطانية قد هاجرت إلى الشمال؟ ما خطب هؤلاء الشعراء وما خطب فريق من الكهان والخطباء يُضاف إليهم نثر وسجع، وكلهم يتخذ لشعره ونثره اللغة العربية الفصحى كما نراها في القرآن؟
أما أن هؤلاء الناس كانوا يتكلمون لغتنا العربية الفصحى ففرض لا سبيل إلى الوقوف عنده فيما يتصل بالعصر الجاهلي؛ فقد ظهر أنهم كانوا يتكلمون لغة أخرى، أو قل: لغات أخرى، فما يضاف إليهم من الشعر والنثر في لغتنا الفصحى، كما يضاف إلى عاد وثمود وطسم وجديس ومن إليهم من الشعر والنثر، منحول متكلف لا سبيل إلى قبوله أو الاطمئنان إليه.
سيقولون: فلنسلم أن قد كانت للحميريين لغة أو لغات، فما الذي يمنع أن يكونوا قد اتخذوا لغة العدنانية لغة أدبية لهم ينشئون فيها شعرهم ونثرهم الفنيين؟ ونحن نقبل هذا الفرض على أنه حق لا يحتمل شكًّا ولا جدالًا بعد ظهور الإسلام؛ فقد كانت اللغة العربية الفصحى لغة هذا الدين الجديد ولغة كتابه المقدس ولغة حكومته الناشئة القوية، فأصبحت لغة رسمية للعرب ثم أصبحت لغة أدبية لهم، كما أصبحت بعد الفتح لغة رسمية ثم لغة أدبية للدول الإسلامية كلها، وفيها من نعرف من الشعوب المختلفة والأجيال المتباينة، وفيها من سبق العرب إلى حضارة باهرة وسلطان عظيم.
كانت اللغة العربية الفصحى إذن لغة أدبية للعرب وغير العرب بعد ظهور الإسلام، فأما قبل ظهور الإسلام فقد نحب أن نتبين كيف استطاعت لغة العدنانية أن تكون لغة أدبية للقحطانية، ونحن نعلم أن السيادة السياسية والاقتصادية — التي من شأنها أن تفرض اللغة على الشعوب — قد كانت للقحطانيين دون العدنانيين، ونحن نعلم أن الحضارة التي من شأنها أن ترفع أمر اللغة وتفرضها على الشعوب كانت للقحطانية دون العدنانية، فما العلة إذن في أن تفرض لغة قوم لا حظ لهم من سيادة ولا ثروة ولا حضارة على قوم هم السادة وهم الساسة وهم المترفون وهم المتحضرون؟ وكيف لم تفرض القحطانية لغتها على العدنانية، والقحطانية — فيما يقول الرواة والمؤرخون — قد أذلت العدنانية وأخضعتهم لسلطانها: أخضعتهم لسلطانها المباشر في اليمن كما أخضعتهم لسلطانها حين تسلط فريق منهم على أطراف العراق والشام، تحت حماية الفرس والروم فيما يقول الرواة والمؤرخون؟
أيريد أنصار القديم أن نفهم أن الله قد خص اللغة العربية الفصحى بكرامة لم يخص بها لغة أخرى، وجعل تفوقها على لغة السادة الساسة المترفين من قحطان، وهي لغة قوم دونهم في السيادة، نوعًا من المعجزة قدمها بين يدي الإسلام؟ فإن أرادوا هذا فنحن مستعدون أن نقبله منهم ونقره لهم، ولكن على أنه فن من فنون الدعوة الدينية، لا على أنه حقيقة من حقائق العلم.
ليس هناك سبيل إذن إلى أن نفهم أن القحطانية قد اتخذت لغة عدنان أداة لإظهار آثارها الأدبية: فكيف شعر شعراء قحطان وسجع كهانها وتكلم خطباؤها بلغة القرآن؟ إنما فعلوا ذلك لأن ما يُضاف إليهم من الشعر والسجع والنثر قد حمل عليهم بعد الإسلام حملًا.
سيقولون: ولكنك تنسى أن فريقًا من هذه القحطانية قد هاجر إلى شمال البلاد العربية واستقر فيه وبعد عهده بموطنه القديم، فما الذي يمنع أن يكون هذا الفريق قد نسي لغته الأولى، وتعلم لغة أهل الشمال، واتخذها أداة للتخاطب وأداة لإظهار آثاره الأدبية؟ ونحن نعلم أن الأزد قد استقرت في مواطن مختلفة من شمال البلاد العربية؛ وكان الأوس والخزرج في المدينة، وكانوا يتكلمون لغة العدنانية ولهم شعر صحيح قيل أيام النبي بلغة عدنان؛ وقد كانت خزاعة قحطانية وكانت في الحجاز وكانت تصطنع لغة عدنان. وكذلك كانت قضاعة، وأكثر الشعراء القحطانيين الذين يُروى لهم شعر جاهلي إنما كانوا من هذه القبائل، وأكبر هؤلاء الشعراء هو امرؤ القيس الكندي، وقد هاجرت قبيلته إلى نجد وتسلطت فيها، وملك أبوه على بني أسد وتزوج من تغلب، فنشأ امرؤ القيس في حجور العدنانية.
كل هذا يمكن أن يقال، نستغفر الله! بل كل هذ قد قيل بالفعل، ولكنه يقوم على أساسين مختلفين لا نستطيع نحن ولا يستطيع عالم يقدر العلم حقه أن يقبلهما حتى يقوم عليهما الدليل العلمي البين: أحدهما النسب؛ فكل ما نعرفه هو أن هذه القبائل كانت تُسمى قحطانية وتنسب نفسها إلى قحطان، على أنها كانت تتردد في ذلك أحيانًا فتنتسب إلى عدنان، ولكن من الذي يستطيع أن يؤكد لنا أن هذه القبائل كانت قحطانية حقًّا أو عدنانية حقًّا دون أن يأتي بالبرهان على صدق هذه الدعوى؟! أَوَنستطيع أن نصدق الرومان فيما كانوا يزعمون من أنهم أبناء الطرواديين هاجروا من طروادة إلى إيطاليا بعد أن انتصر اليونان على بريام؟ أَوَنستطيع أن نصدق زاعمًا يزعم لنا الآن مثلًا أن الشعب البريطاني إنما هو شعب إسرائيلي هاجر إلى البلاد البريطانية؟ وما قيمة هذه الأحاديث التي يتكلفها القصاص وأصحاب الأغراض والأهواء للذة والمنفعة؟!
الثاني: هذه الهجرة التي يقولون: إن فريقًا من عرب اليمن قد اضطر إليها اضطرارًا بعد حادثة سيل العرم، ولكن من الذي يستطيع أن يثبت لنا الآن أن هذه الهجرة حق لا شك فيه؛ فهي من أحاديث القصاص إلى أن تقوم عليها الأدلة العلمية. نعم! ذكر القرآن سيل العرم، وأثبت البحث الحديث أن قد كان سيل العرم، وذكر القرآن أن هذا السيل قد تمزقت له سبأ كل ممزق، ولم يزد القرآن على هذا، فلم يحدد تاريخ سيل العرم، ولم يقل كيف مزقت سبأ كل ممزق، ولم يسم لنا القبائل السبئية التي مُزقت، ولم يبين لنا المواطن التي هاجرت إليها، ولم تستكشف بعد نصوص تسمي هذه القبائل أو تدل على هذه المواطن. وإذن فنحن لا نسرف ولا نغلو ولا نتجاوز العلم ولا القرآن حين نعلن في صراحة وقوة أن هجرة هذه القبائل بعينها إلى هذه المواطن بعينها تكلف كان بعد الإسلام، واستغل فيه القصاص هذه النصوص القرآنية استغلالًا لأسباب سياسية يعرفها أقل الناس إلمامًا بالصلة بين القحطانية والمضرية بعد ظهور الإسلام.
نحن إذن لا نقبل هذا الفرض؛ لأننا لا نقبل صحة النسب، ولا نطمئن إلى هذه الهجرة. مع ملاحظة أن هذا كله لو سلمناه لانتهى إلى نظرية غريبة تعكس نظرية القدماء عكسًا تامًّا، وهي أن العرب العاربة هم عدنان، وأن العرب المستعربة هم قحطان، وأن القحطانية تعلمت العربية من أبناء إسماعيل بعد أن كانت الإسماعيلية قد تعلمت العربية من أبناء قحطان، وأن أول من تعلم العربية ونسي لغة أبيه امرؤ القيس بن حجر لا إسماعيل بن إبراهيم. ونحن لا نشك في أن العرب العاربة إنما هم العدنانيون، وفي أن العرب المستعربة إنما هم القحطانيون، ولكنهم استعربوا بعد الإسلام لا قبله.
وإذن فمن الحق على الذين يريدون أن يحددوا المعنى الذي يدل عليه لفظ «اللغة العربية الفصحى» أن يعتمدوا في هذا التحديد على الموطن الجغرافي لا على الأنساب والأساطير. والموطن الجغرافي للعدنانيين هو شمال البلاد العربية والحجاز ونجد منه خاصة، فنحن إذا ذكرنا العدنانية فإنما نريد سكان هذا الإقليم من بلاد العرب، دون أن يكون هذا تسليمًا منا بصحة هذه الأنساب التي تنتهي إلى عدنان. ونحن إذا ذكرنا القحطانية فإنما نريد سكان هذه الأقاليم من جنوب البلاد العربية، دون أن يكون هذا قبولًا منا لهذه الأنساب التي تنتهي إلى قحطان.
ونحن إذن بإزاء لغتين: إحداهما كانت قائمة في الشمال؛ وهي التي نريد أن نؤرخ آدابها، والأخرى كانت قائمة في الجنوب؛ وهي التي تمثلها النصوص الحميرية والسبئية والمعينية، ونحن لا نسرف ولا نشتط حين ننكر ما يضاف إلى أهل الجنوب من شعر وسجع ونثر قيل بلغة أهل الشمال قبل الإسلام.
(٥) الشعر الجاهلي واللهجات
فإذا صح هذا كله كان من المعقول جدًّا أن تكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي قيل قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة، ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم، وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة.
تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة أو تباعدًا في اللغة أو تباينًا في مذهب الكلام: البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما تجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو.
كل شيء في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما، فنحن بين اثنتين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان لا في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي، وإما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حُمل عليها بعد الإسلام حملًا. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى؛ فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث.
وهنا وقفة لا بد منها، ذلك أن قومًا من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي نزل بها جبريل على قلبه، فمنكرها كافر في غير شك ولا ريبة، ولم يوفقوا لدليل يستدلون به على ما يقولون سوى ما رُوي في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: «أُنزل القرآن على سبعة أحرف.»
الأحرف إذن اللغات التي تختلف فيما بينها لفظًا ومادة، فأما هذه القراءات التي تختلف في القصر والمد وفي الحركة والسكون وفي النقل والإثبات وفي حركات الإعراب، فليست من الأحرف في شيء؛ لأنها اختلاف في الصورة والشكل لا في المادة واللفظ، وقد اتفق المسلمون على أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف؛ أي على سبع لغات مختلفة في ألفاظها ومادتها، واتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف والنبي بين أظهرهم، فنهاهم عن ذلك وألح في نهيهم، فلما تُوفي النبي استمر أصحابه يقرءون القرآن على هذه الأحرف السبعة، كلٌّ يقرئ على الحرف الذي سمعه من النبي؛ فاشتد الخلاف والمراء في ذلك حتى كادت الفتنة تقع بين الناس ولا سيما في جيوش المسلمين التي كانت تغزو وترابط في الثغور بعيدة عن مهبط الوحي ومستقر الخلافة، فرُفع الأمر إلى عثمان، فجزع له وأشفق أن يقع بين المسلمين من الاختلاف في نص القرآن مثل ما وقع بين النصارى من الاختلاف في نص الإنجيل؛ فجمع لهم المصحف الإمام وأذاعه في الأمصار، وأمر بما عداه من المصاحف فمُحي محوًا.
وعلى هذا محيت من الأحرف السبعة ستة أحرف، ولم يبقَ إلا حرف واحد هو هذا الذي نقرؤه في مصحف عثمان، وهو حرف قريش، وهو الحرف الذي اختلفت لهجات القراء فيه: فمد بعضهم وقصر بعضهم؛ وفخم فريق ورقق فريق، ونقلت طائفة وأثبتت طائفة.
فأنت ترى أن هذه القراءات التي عرضنا لها إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات، وأن تلك القراءات التي أُنزل عليها القرآن إنما هي لغات مُحي منها ست وبقيت منها واحدة.
ولعل خير ما نستطيع أن نثبت من النصوص في هذا الموضوع ما قاله ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره المعروف؛ قال: «قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فإذا كان تأويل قول النبي ﷺ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» عندك ما وصفت بما عليه استشهدت، فأوجدنا حرفًا في كتاب الله مقروءًا بسبع لغات فتحقق بذلك قولك، وإلا فإن لم تجد ذلك كذلك كان معلومًا بِعَدَمِكَهُ صحة قول من زعم أن تأويل ذلك أنه نزل بسبعة معان وهو الأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والجدل، والقصص، والمثل، وفساد قولك؛ أو تقول في ذلك إن الأحرف السبعة لغات في القرآن سبعة متفرقة في جميعه من لغات أحياء من قبائل العرب مختلفة الألسن، كما كان يقول بعض من لم يُمعن النظر في ذلك، فتصير بذلك إلى القول بما لا يجهل فساده ذو عقل ولا يلتبس خطؤه على ذي لب، وذلك أن الأخبار التي بها احتججت لتصحيح مقالتك في تأويل قول النبي ﷺ: «نزل القرآن على سبعة أحرف» هي الأخبار التي رويتها عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رحمة الله عليهم، وعمن رويت ذلك عنه من أصحاب رسول الله ﷺ بأنهم تماروا في تلاوة بعض القرآن فاختلفوا في قراءته دون تأويله وأنكر بعض قراءة بعض مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها أن رسول الله ﷺ أقرأه ما قرأ بالصفة التي قرأ، ثم احتكموا إلى رسول الله ﷺ، فكان من حكم رسول الله ﷺ بينهم أن صوَّب قراءة كل قارئ منهم على خلافها قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها، وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم، حتى خالط قلب بعضهم الشك في الإسلام لما رأى من تصويب رسول الله ﷺ قراءة كل قارئ منهم على اختلافها، ثم جلاه الله عنه ببيان رسول الله ﷺ له أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
فإن كانت الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن عندك كما قال هذا القائل متفرقة في القرآن مثبتة اليوم في مصاحف أهل الإسلام، فقد بطلت معاني الأخبار التي رويتها عمن رويتها عنه من أصحاب رسول الله ﷺ أنهم اختلفوا في قراءة سورة من القرآن فاختصموا إلى رسول الله ﷺ، فأمر كلًّا أن يقرأ كما علم؛ لأن الأحرف السبعة إذا كانت لغات متفرقة في جميع القرآن فغير موجب حرف من ذلك اختلافًا بين تاليه؛ لأن كل تال فإنما يتلو ذلك الحرف تلاوة واحدة على ما هو به في المصحف وما أنزل، وإذا كان ذلك بطل وجه اختلاف الذين رُوي عنهم أنهم اختلفوا في قراءة سورة، وفسد معنى أمر النبي ﷺ كل قارئ منهم أن يقرأه على ما علم؛ إذ كان لا معنى هنالك يوجب اختلافًا في لفظ ولا افتراقًا في معنى.
وكيف يجوز أن يكون هنالك اختلاف بين القوم والمعلم واحد والعلم واحد غير ذي أوجه؟! وفي صحة الخبر عن الذين رُوي عنهم الاختلاف في حروف القرآن على عهد رسول الله ﷺ فإنهم اختلفوا وتحاكموا إلى رسول الله ﷺ في ذلك على ما قد تقدم وصفناه أبين الدلالة على فساد القول بأن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني. مع أن المتدبر إذا تدبر قول هذا القائل في تأويله قول النبي ﷺ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وادعائه أن معنى ذلك أنها منبع لغات متفرقة في جميع القرآن ثم جمع بين قيله ذلك واعتلاله لقيله ذلك بالأخبار التي رويت عمن رُوي ذلك عنه من الصحابة والتابعين أنه قال هو بمنزلة قولك: تعال وهلم وأقبل، وأن بعضهم قال: هو بمنزلة قراءة عبد الله «إلا زقية» هي في قراءتنا إِلَّا صَيْحَةً وما أشبه ذلك من حججه، علم أن حججه مفسدة في ذلك مقالته، وأن مقالته فيه مضادة حججه؛ لأن الذي نزل به القرآن عنده إحدى القراءتين: إما صيحة وإما زقية، وإما تعال أو أقبل أو هلم، لا جميع ذلك؛ لأن كل لغة من اللغات السبع عنده، في كلمة أو حرف من القرآن غير الكلمة أو الحرف الذي فيه اللغة الأخرى، وإذا كان ذلك كذلك بطل اعتلاله لقوله بقول من قال: ذلك بمنزلة هلم وتعال وأقبل؛ لأن هذه الكلمات هي ألفاظ مختلفة يجمعها في التأويل معنى واحد؛ وقد أبطل قائل هذا القول الذي حكينا قوله اجتماع اللغات السبع في حرف واحد من القرآن؛ فقد تبين بذلك إفساد حجته لقوله بقوله، وإفساد قوله بحجته، فقيل له: ليس القول في ذلك بواحد من الوجهين اللذين وصفت، بل الأحرف السبعة التي أنزل الله بها القرآن هن لغات سبع في حرف واحد وكلمة واحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني كقول القائل: هلم وأقبل وتعال وإليَّ وقصدي ونحوي وقربي ونحو ذلك مما تختلف فيه الألفاظ بضروب من المنطق وتتفق فيه المعاني وإن اختلفت بالبيان به الألسن، كالذي روينا آنفًا عن رسول الله ﷺ وعمن روينا عنه من الصحابة أن ذلك بمنزلة قولك: هلم وتعال وأقبل وقوله: «ما ينظرون إلا زقية» وإِلَّا صَيْحَةً، فإن قال: ففي أي كتاب الله نجد حرفًا واحدًا مقروءًا بلغات سبع مختلفات الألفاظ متفقات المعنى فنسلم لك صحة ما ادعيت من التأويل في ذلك؟ قيل: إنا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما أخبرنا أن معنى قول النبي ﷺ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» على نحو ما جاءت به الأخبار التي تقدم ذكرها وهو ما وصفنا دون ما ادعاه مخالفونا في ذلك للعلل التي قد بينا، فإن قال: فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة إن كان الأمر في ذلك على ما وصفت وقد أقرأهن رسول الله ﷺ أصحابه وأمر بالقراءة بهن، وأنزلهن الله من عنده على نبيه ﷺ أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة؟ فذلك تضييع ما قد أُمروا بحفظه، أم ما القصة في ذلك؟ قيل له: لم تُنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة وهي مأمورة بحفظها، ولكن الأمة أُمرت بحفظ القرآن وخُيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت؛ كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة، أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق أو إطعام أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون حظرها التكفيرَ بأي الثلاث شاء المكفر كانت مصيبةً حكمَ اللهِ مؤديةً في ذلك الواجبً عليها من حق الله.
فكذلك الأمة أُمرت بحفظ القرآن وقراءته وخُيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت، لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءته بحرف واحد ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته. فإن قال: وما العلة التي أوجبت عليها الثبات على حرف واحد دون سائر الأحرف الستة الباقية؟ قيل: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمارة بن غزية عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد قال: لما قُتل أصحاب رسول الله ﷺ باليمامة دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر رحمه الله فقال: إن أصحاب رسول الله ﷺ باليمامة تهافتوا تهافت الفراش في النار، وإني أخشى ألا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا وهم حملة القرآن فيضيع القرآن ويُنسى، فلو جمعته وكتبته، فنفر منها أبو بكر وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله ﷺ، فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر إلى زيد بن ثابت، قال زيد: فدخلت عليه وعمر مُحْزَئِلٌ، فقال لي أبو بكر: إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل، قال: فاقتص أبو بكر قول عمر وعمر ساكت، فنفرت من ذلك وقلت: نفعل ما لم يفعل رسول الله ﷺ، إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لو فعلتما ذلك؟ قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء والله، ما علينا في ذلك شيء. قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأدم وكسر الأكتاف والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة زوج النبي ﷺ، ثم إن حذيفة بن اليمان قدم من غزوة كان غزاها في فرج أَرْمِينِيَةَ، فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين، أدركِ الناس، فقال عثمان: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أَرْمِينِيَةَ، فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق فتكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فتكفرهم أهل الشام؛ قال زيد: فأمرني عثمان بن عفان أن أكتب له مصحفًا، وقال: إني مدخل معك لبيبًا فصيحًا، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليَّ، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص.
فلندع هذا الاستطراد، ولنمض فيما كنا فيه نقول: إن هذا النوع من اختلاف اللهجات له أثره الطبيعي اللازم في الشعر: في أوزانه وتقاطيعه وبحوره وقوافيه بوجه عام.
ولسنا نستطيع أن نفهم كيف استقامت أوزان الشعر وبحوره وقوافيه كما دونها الخليل لقبائل العرب كلها على ما كان بينها من تباين اللغات واختلاف اللهجات، وإذا لم يكن نظم القرآن، وهو ليس شعرًا ولا مقيدًا بما يتقيد به الشعر، قد استطاع أن يستقيم في الأداء لهذه القبائل، فكيف استطاع الشعر، وهو مقيد بما تعلم من القيود، أن يستقيم لها؟ وكيف لم تحدث هذه اللهجات المتباينة آثارها في وزن الشعر وتقطيعه الموسيقى؛ أي كيف لم توجد صلة واضحة بين هذا الاختلاف في اللهجة، وبين الأوزان الشعرية التي كانت تصطنعها القبائل؟
ستقول: ولكن اختلاف اللهجات كان قائمًا بعد القرآن، وليس من شك في أن قبائل العرب على اختلافها قد تعاطت الشعر بعد الإسلام ولم يظهر فيه اختلاف اللهجات، فكما استقامت بحوره وأوزانه على هذا الاختلاف بعد الإسلام، فليس ما يمنع أن تكون قد استقامت عليه في العصر الجاهلي.
وأنا أشعر بالحاجة إلى أن أضرب مثلًا آخر قد يدهش له الذين يدرسون الأدب العربي؛ لأنهم لم يتعودوا مثله من الباحثين عن تاريخ الأدب، ذلك أن في لغتنا المصرية لهجات مختلفة وأنحاء متباينة من أنحاء القول، فلأهل مصر العليا لهجاتهم، ولأهل مصر الوسطى لهجاتهم، ولأهل القاهرة لهجتهم، ولأهل مصر السفلي لهجاتهم، وهناك اتفاق مطرد بين هذه اللهجات وبين ما للمصريين من شعر في لغتهم العامية، فأهل مصر العليا يصطنعون أوزانًا لا يصطنعها أهل القاهرة ولا أهل الدلتا، وهؤلاء يصطنعون أوزانًا لا يصطنعها أهل مصر العليا، وهذا ملائم لطبيعة الأشياء، فما كان للشعر أن يخرج عما ألف أصحابه من لغة ولهجة في الكلام، ومع هذا كله فنحن حين ننظم الشعر الأدبي أو نكتب النثر الأدبي والعلمي نعدل عن لغتنا ولهجتنا الإقليمية إلى هذه اللغة واللهجة التي عدل إليها العرب بعد الإسلام، وهي لغة قريش ولهجة قريش؛ أي لغة القرآن ولهجته.
•••
فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن فنتوسط ونقول: إنها سادت قبيل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسية الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية، ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يُذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز، فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا لجنب.
وإذن فنحن إذا استطعنا أن نفسر اتفاق اللغة واللهجة في شعر أولئك الذين عاصروا النبي من أهل الحجاز، فلن نستطيع أن نفسره في شعر الذين لم يعاصروه أو لم يجاوروه.
والواقع أن لدينا نصوصًا صحيحة تمثل لغتين مختلفتين كانتا شائعتين في بلاد العرب: إحداهما لغة الجنوب التي أشرنا إليها وأثبتنا بعض نصوصها، والثانية لغة الشمال. وأقدم النصوص الصحيحة التي عندنا من هذه اللغة والتي لا تقبل صحتها شكًّا ولا ريبة إنما هو القرآن، فنحن مضطرون أمام هذا الإجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة أخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة، وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وأمام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن أصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن إنما هي لغة قريش.
ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضرى كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس والخزرج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز. ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر، ومع هذا فقد قلنا: إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام، ونحن إن فكرنا عرفنا أن سيادة اللغات إنما تتصل عادة بالسيادة السياسية والاقتصادية، فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام.
الحق أننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السيادة الرومية في أطراف الشام؛ فقد كانت هناك أسر عربية تُمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان. ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، إنما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الأعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبقَ إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد؛ ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون، وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها. وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم؛ فقد كان مقدار عظيم جدًّا من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها أهل الحجاز وغير أهل الحجاز من عرب الشمال. فقد اجتمع لقريش إذن سلطان سياسي واقتصادي وديني، وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله من أهل البادية. وبيئة ثالثة هي بيئة الطائف، كان لها شيء من السلطان الاقتصادي ولكنها لم تكن تداني البيئة المكية. وبيئة رابعة في شمال الحجاز، هي هذه البيئة العربية اليهودية في يثرب وما حولها، ولكنا نظن أن أحدًا لا يفكر في أن يقول: إن هذه اللغة العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج فضلًا عن أن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن تداني قريشًا فيما كان لها من سلطان.
لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضًا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يُشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش.
ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها ومادتها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟ كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن، فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا، ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام، وكيف والقرآن أقدم نص صحيح وصل إلينا في هذه اللغة، ونحن نرى اللغة فيه كاملة متقنة تامة التكوين قد تجاوزت الوجود الطبيعي إلى هذا الوجود الفني الراقي الذي يظهر في الآداب!
ونظن أنَّا في غير حاجة إلى أن نقف عند هذا الاعتراض السخيف الذي لج فيه بعض أنصار القديم، فأخذ يسألنا: كيف فرض الإسلام لغة قريش على العرب ومتى صدر «المرسوم» بفرض هذه اللغة؟ فإيراد هذا الاعتراض في نفسه أوضح دليل على أن صاحبه أبعد الناس من الفقه بطبائع الأشياء، فقد فرض الإسلام لغة قريش على أمم لم تكن من قريش في شيء، فأخلق به أن يفرضها على قبائل كانت تتصل بقريش اتصالًا قويًّا. وقبل أن يفرض الإسلام لغة قريش على المسلمين فرضت روما لغتها على ما حولها من الأرض، ثم على إيطاليا، ثم على الإمبراطورية الرومانية الغربية كلها، ومن قبل ذلك فرض اليونان لغتهم على الشرق كله، ومن بعد ذلك فرضت الأمم الحديثة وما زالت تفرض لغاتها على أقطار من الأرض.
وهنا نمس أمرًا من هذه الأمور التي سيغضب لها أنصار الأدب القديم، ولكننا سنمضي في طريقنا كما بدأنا لا مواربين ولا مخادعين: أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع بن الأزرق قد وُضعت في تكلف وتصنع لغرض من هذه الأغراض المختلفة التي كانت تدعو إلى وضع الكلام ونحله؛ لإثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، أو لإثبات أن عبد الله بن عباس كان من أقدر الناس على تأويل القرآن وتفسيره ومن أحفظهم لكلام العرب الجاهليين؟ وأنت تعلم أن ذاكرة ابن عباس كانت مضرب المثل في القرن الثاني والثالث للهجرة، وأنت تذكر قصته مع نافع بن الأزرق هذا، وعمر بن أبي ربيعة حين أنشده:
بل أليس يمكن أن تكون قصة ابن عباس هذه وقد وُضعت في سذاجة وسهولة ويسر لا لشيء إلا لهذا الغرض التعليمي اليسير، وهو أن يسمع الطالب لفظًا من ألفاظ القرآن ويجد الشاهد عليه من غير مشقة ولا عناء؟ أراد أحد العلماء أن يُفسر طائفة من ألفاظ القرآن، فوضع هذه القصة واتخذها سبيلًا إلى ما أراد. ولعل لهذه القصة أصلًا يسيرًا جدًّا، لعل نافعًا سأل ابن عباس عن مسائل قليلة، فزاد فيها هذا العالم ومدها حتى أصبحت رسالة مستقلة يتداولها الناس.
ومثل هذا كثير شعرًا ونثرًا وسجعًا، نجده في «الأمالي» و«العقد الفريد» و«ديوان المعاني» لأبي هلال وغيرها من الكتب. وأكاد أعتقد أن هذا النحو من النحل هو أصل المقامات وما يشبهها من هذا النوع من أنواع الإنشاء.
ولكني بعدت عن الموضوع فيما يظهر، فلأعد إليه لأقول ما كنت أقول منذ حين، وهو أن من الحق علينا لأنفسنا وللعلم أن نسأل: أليس هذا الشعر الجاهلي الذي ثبت أنه لا يمثل حياة العرب الجاهليين ولا عقليتهم ولا دياناتهم ولا حضاراتهم، بل لا يمثل لغتهم؛ أليس هذا الشعر قد وُضع وضعًا وحُمل على أصحابه حملًا بعد الإسلام؟ أما أنا فلا أكاد أشك الآن في هذا. ولكننا محتاجون بعد أن ثبتت لنا هذه النظرية أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر والنثر ونحلهما بعد الإسلام.