أسباب نحل الشعر
(١) ليس النحل مقصورًا على العرب
يجب أن يتعود الباحث درس تاريخ الأمم القديمة التي قُدر لها أن تقوم بشيء من جلائل الأعمال، وما اعترض حياتها من الصعاب والمحن وألوان الخطوب والصروف، ليفهم تاريخ الأمة العربية على وجهه، ويرد كل شيء فيه إلى أصله. وإذا كان هناك شيء يؤخذ على الذين كتبوا تاريخ العرب وآدابهم فلم يوفقوا للحق فيه، فهو أنهم لم يلموا إلمامًا كافيًا بتاريخ هذه الأمم القديمة، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية والأمم التي خلت من قبلها؛ وإنما نظروا إلى هذه الأمة العربية كأنها أمة فذة لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحد، لم تشبه أحدًا ولم يشبهها أحد، لم تُؤثر في أحد ولم يُؤثر فيها أحد، قبل قيام الحضارة العربية وانبساط سلطانها على العالم القديم.
والحق أنهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغير رأيهم في الأمة العربية، ولتغير بذلك تاريخ العرب أنفسهم. ولست أذكر من هذه الأمم القديمة إلا أمتين اثنتين: الأمة اليونانية والأمة الرومانية؛ فقد قُدر لهاتين الأمتين في العصور القديمة مثل ما قُدر للأمة العربية في العصور الوسطى: كلتاهما تحضرت بعد بداوة، وكلتاهما خضعت في حياتها الداخلية لهذه الصروف السياسية المختلفة، وكلتاهما انتهت إلى نوع من التكوين السياسي دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص وتغير على البلاد المجاورة وتبسط سلطانها على الأرض، وكلتاهما لم تبسط سلطانها على الأرض عبثًا؛ وإنما نفعت وانتفعت وتركت للإنسانية تراثًا قيمًا لا تزال تنتفع به إلى الآن؛ ترك اليونان فلسفة وأدبًا، وترك الرومان تشريعًا ونظامًا.
وكذلك كان شأن الأمة العربية، تحضرت كما تحضر اليونان والرومان بعد بداوة، وتأثرت كما تأثر اليونان والرومان بصروف سياسية مختلفة، وانتهى بها تكوينها السياسي إلى مثل ما انتهى التكوين السياسي لليونان والرومان إليه من تجاوز الحدود الطبيعية وبسط السلطان على الأرض، وتركت كما ترك اليونان والرومان للإنسانية تراثًا قيمًا خالدًا فيه أدب وعلم ودين. وليس من العجيب في شيء أن تكون العوارض التي عرضت لحياة العرب على اختلاف فروعها مشبهة للعوارض التي عرضت لحياة اليونان والرومان من وجوه كثيرة.
وفي الحق أن التفكير الهادئ في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلى نتائج متشابهة — إن لم نقل: متحدة — ولِمَ لا! أليست هذه الإشارة التي قدمناها إلى ما بين هذه الأمم الثلاث من شبه، تكفي لتحملك على أن تفكر في أن مؤثرات واحدة أو متقاربة قد أثرت في حياة هذه الأمم فانتهت إلى نتائج واحدة أو متقاربة؟
ولسنا نريد أن نترك الموضوع الذي نحن بإزائه للبحث عما يمكن أن يكون من اتفاق أو افتراق بين العرب واليونان والرومان؛ فنحن لم نكتب لهذا. وإنما نريد أن نقول: إن هذه الظاهرة الأدبية التي نحاول أن ندرسها في هذا الكتاب والتي يجزع لها أنصار القديم جزعًا شديدًا، ليست مقصورة على الأمة العربية، وإنما تتجاوزها إلى غيرها من الأمم القديمة، ولا سيما هاتين الأمتين الخالدتين. فلن تكون الأمة العربية أول أمة نُحل فيها الشعر نحلًا وحُمل على قدمائها كذبًا وزورًا. وإنما نُحل الشعر في الأمة اليونانية والأمة الرومانية من قبل وحُمل على القدماء من شعرائهما، وانخدع به الناس وآمنوا له. ونشأت عن هذا الانخداع والإيمان سنة أدبية توارثها الناس مطمئنين إليها؛ حتى كان العصر الحديث وحتى استطاع النقاد من أصحاب التاريخ والأدب واللغة والفلسفة أن يردوا الأشياء إلى أصولها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وأنت تعلم أن حركة النقد هذه بالقياس إلى اليونان والرومان لم تنته بعدُ، وأنها لن تنتهي غدًا ولا بعد غد. وأنت تعلم أنها قد وصلت إلى نتائج غيرت تغييرًا تامًّا ما كان معروفًا متوارثًا من تاريخ هاتين الأمتين وآدابهما. وأنت إذا فكرت فستوافقني على أن منشأ هذه الحركة النقدية إنما هو في حقيقة الأمر تأثر الباحثين في الأدب والتاريخ بهذا المنهج الذي دعوت إليه في أول هذا الكتاب، وهو منهج «ديكارت» الفلسفي.
وسواء رضينا أو كرهنا فلا بد من أن نتأثر بهذا المنهج في بحثنا العلمي والأدبي كما تأثر من قبلنا به أهل الغرب. ولا بد من أن نصطنعه في نقد آدابنا وتاريخنا كما اصطنعه أهل الغرب في نقد آدابهم وتاريخهم؛ ذلك لأن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات من السنين تتغير وتصبح غربية، أو قل: أقرب إلى الغربية منها إلى الشرقية، وهي كلما مضى عليها الزمن جدت في التغير وأسرعت في الاتصال بأهل الغرب.
وإذا كان في مصر الآن قوم ينصرون القديم، وآخرون ينصرون الجديد، فليس ذلك إلا لأن في مصر قومًا قد اصطبغت عقليتهم بهذه الصبغة الغربية، وآخرين لم يظفروا منها بحظ أو لم يظفروا منها إلا بحظ قليل. وانتشار العلم الغربي في مصر وازدياد انتشاره من يوم إلى يوم، واتجاه الجهود الفردية والاجتماعية إلى نشر هذا العلم الغربي، كل ذلك سيقضي غدًا أو بعد غد بأن يصبح عقلنا غربيًّا، وبأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثرين بمنهج «ديكارت»، كما فعل أهل الغرب في درس آدابهم وآداب اليونان والرومان.
ولقد أحب أن تلم إلمامًا قليلًا بأي كتاب من هذه الكتب الكثيرة التي تنشر الآن في أوروبا في تاريخ الآداب اليونانية أو اللاتينية، وأن تسأل نفسك بعد هذا الإلمام ماذا بقي مما كان يعتقده القدماء في تاريخ الآداب عند هاتين الأمتين. أحقٌّ ما كان يعتقد القدماء في شأن الإلياذة والأوديسة؟ أحقٌّ ما كانوا يؤمنون به في شأن «هوميروس» و«هيزيودوس» وغيرهما من الشعراء القصصيين؟ أحقٌّ ما كان القدماء يتخذونه أساسًا لسياستهم وعلمهم وأدبهم وحياتهم كلها من أخبار اليونان والرومان؟ إن من اللذيذ حقًّا أن تقرأ ما كتب «هيرودوت» في تاريخ اليونان، و«تيتوس ليفوس» في تاريخ الرومان، وما يكتب المحدثون الآن في تاريخ هاتين الأمتين. ولكنك لا تكاد تجد شيئًا من الفرق بين ما كان يتحدث به ابن إسحاق ويرويه الطبري من تاريخ العرب وآدابهم، وما يكتبه المؤرخون والأدباء عن العرب في هذا العصر؛ ذلك لأن الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث، ولم تستطع بعد أن تؤمن بشخصيتها وأن تخلص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير.
وإذا كان قد قُدر لهذا الكتاب ألا يُرضي الكثرة من هؤلاء الأدباء والمؤرخين فنحن واثقون بأن ذلك لن يضيره ولن يقلل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ؛ فالمستقبل لمنهج «ديكارت» لا لمناهج القدماء.
(٢) السياسة ونحل الشعر
قلت: إن العرب قد خضعوا لمثل ما خضعت له الأمم القديمة من المؤثرات التي دعت إلى نحل الشعر والأخبار، ولعل أهم هذه المؤثرات التي طبعت الأمة العربية وحياتها بطابع لا يُمحى ولا يزول هو هذا المؤثر الذي يصعب تمييزه والفصل فيه؛ لأنه مزاج من عنصرين قويين جدًّا، هما الدين والسياسة. والحق أنه لا سبيل إلى فهم التاريخ الإسلامي مهما تختلف فروعه إلا إذا وضحت هذه المسألة — مسألة الدين والسياسة — توضيحًا كافيًا. فقد أرادت الظروف ألا يستطيع العرب منذ ظهر الإسلام أن يخلصوا من هذين المؤثرين في لحظة من لحظات حياتهم في القرنين الأول والثاني.
هم مسلمون لم يظهروا على العالم إلا بالإسلام؛ فهم محتاجون إلى أن يعتزوا بهذا الإسلام ويرضوه ويجدوا في اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذي يحرصون عليه. وهم في الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع؛ فهم مضطرون إلى أن يراعوا هذه العصبية ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم ودينهم.
وإذن فكل حركة من حركاتهم وكل مظهر من مظاهر حياتهم متأثر بالدين، متأثر بالسياسة. وإذا كانت حياتهم كما نصف تأثرًا متصلًا بالدين والسياسة، واجتهادًا متصلًا في التوفيق بينهما، أو بعبارة أصح: في الاستفادة منها جميعًا، فخليق بالمؤرخ السياسي أو الأدبي أو الاجتماعي أن يجعل مسألة الدين والسياسة عند العرب أساسًا للبحث عن الفرع الذي يريد أن يبحث عنه من فروع التاريخ، وسترى عندما نتعمق بك قليلًا في هذا الموضوع أنا لسنا غلاة ولا مخطئين.
وأول ما يحسن أن نلاحظه، هو هذا الجهاد العنيف الذي اتصل بين النبي وأصحابه من ناحية، وبين قريش وأوليائها من ناحية أخرى. أما في أول عهد الإسلام بالظهور حين كان النبي وأصحابه في مكة مستضعفين فقد كان هذا الجهاد جدليًّا خالصًا، وكان النبي يكاد يقوم به وحده بإزاء الكثرة المطلقة من قومه يجادلهم بالقرآن ويُقارعهم بهذه الآيات المحكمات، فيبلغ منهم ويفحمهم ويضطرهم إلى الإعياء. وهو كلما بلغ من ذلك حظًّا انتصر له من قومه فريق حتى تكوَّن له حزب ذو خطر. ولكنه لم يكن حزبًا سياسيًّا، ولم يكن يطمع في ملك ولا تغلب ولا قهر، أو لم يكن ذلك في دعوته. غير أن هذا الحزب كان كلما اشتدت قوته وقوي أسره اشتدت مناضلة قريش له وفتنتها إياه، حتى كان ما تعلم من الهجرة الأولى ثم من هجرة النبي إلى المدينة.
وليس هنا موضع البحث عن هذه الهجرة إلى المدينة، وعما أعد الأنصار لنصر النبي وإيوائه، وعن النتائج المختلفة التي أنتجتها الهجرة. ولكنا نستطيع أن نسجل مطمئنين أن هذه الهجرة قد وضعت مسألة الخلاف بين النبي وقريش وضعًا جديدًا؛ جعلت الخلاف سياسيًّا يعتمد في حله على القوة والسيف بعد أن كان دينيًّا يعتمد على الجدال والنضال بالحجة ليس غير.
•••
منذ هاجر النبي إلى المدينة تكوَّنت للإسلام وحدة سياسية لها قوتها المادية وبأسها الشديد، وأحست قريش أن الأمر قد تجاوز الأوثان والآراء الموروثة والسنن القديمة، إلى شيء آخر كان فيما يظهر أعظم خطرًا في نفوس قريش من الدين وما يتصل به، وهو السيادة السياسية في الحجاز، والطرق التجارية بين مكة وبين البلاد التي كانت ترحل إليها بتجارتها في الشتاء والصيف. وأنت تعلم أن محاولة الاستيلاء على العير هو أصل الوقعة الكبرى الأولى بين النبي وقريش في بدر، فليس من شك إذن في أن الجهاد بين النبي وقريش قد كان دينيًّا خالصًا ما أقام النبي في مكة، فلما انتقل إلى المدينة أصبح هذا الجهاد دينيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. وأصبح موضوع النزاع بين قريش والمسلمين ليس مقصورًا على أن الإسلام حق أو غير حق، بل هو يتناول مع ذلك الأمة العربية، أو الحجازية على أقل تقدير، لمن تذعن، والطرق التجارية لمن تخضع.
كثر الهجاء إذن واشتد بين قريش والأنصار لما كثرت الحرب واشتدت وأنت تعلم مقدار حظ العرب من العصبية وحرصهم على الثأر للدماء المسفوكة، وجدهم في الدفاع عن الأعراض المنتهكة؛ فليس غريبًا أن تبلغ الضغينة بين هذين الحيين من أهل الحجاز إلى أقصى ما كانت تستطيع أن تبلغ.
ولقد مضت قريش في جهادها بالسنان واللسان والأنفس والأموال، وأعانها من أعانها من العرب واليهود، ولكنها لم تُوفق. وأمست ذات يوم إذا خيل النبي قد أظلت مكة، فنظر زعيمها وحازمها أبو سفيان فإذا هو بين اثنتين: إما أن يمضي في المقاومة فتفنى مكة، وإما أن يُصانع ويُصالح ويدخل فيما دخل فيه الناس وينتظر لعل هذا السلطان السياسي الذي انتقل من مكة إلى المدينة ومن قريش إلى الأنصار أن يعود إلى قريش وإلى مكة مرة أخرى. أسلم أبو سفيان وأسلمت معه قريش، وتمت للنبي هذه الوحدة العربية. وأُلقي الرماد على هذه النار التي كانت متأججة بين قريش والأنصار وأصبح الناس جميعًا في ظاهر الأمر إخوانًا مؤتلفين في الدين.
ولعل النبي لو عمر بعد فتح مكة زمنًا طويلًا لاستطاع أن يمحو تلك الضغائن وأن يوجه نفوس العرب وجهة أخرى، ولكنه تُوفي بعد الفتح بقليل، ولم يضع قاعدة للخلافة، ولا دستورًا لهذه الأمة التي جمعها بعد فرقة. فأي غرابة في أن تعود هذه الضغائن إلى الظهور، وفي أن تستيقظ الفتنة بعد نومها، وفي أن يزول هذا الرماد الذي كان يخفي تلك الأحقاد!
ولما قُتل عمر وانتهت الخلافة بعد المشورة إلى عثمان، تقدمت الفكرة السياسية التي كانت تشغل أبا سفيان خطوة أخرى، فلم تصبح الخلافة في قريش فحسب، بل أصبحت في بني أمية خاصة. واشتدت عصبية قريش، واشتدت عصبية الأمويين، واشتدت العصبيات الأخرى بين العرب. وقد هدأت حركة الفتح، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض. وكان من نتائج ذلك ما تعلم من قتل عثمان وافتراق المسلمين وانتهاء الأمر كله إلى بني أمية بعد تلك الفتن والحروب.
ولعلك قرأت تلك القصة التي تخبر بأن عبد الرحمن بن حسان شبب برملة بنت معاوية نكاية في بني أمية. فأما معاوية فاصطنع الحلم كعادته، وقال لعبد الرحمن: فأين أنت من أختها هند. وأما يزيد فقد كان صورة لجده أبي سفيان؛ كان رجل عصبية وقوة وفتك وسخط على الإسلام وما سنه للناس من سنن، فأغرى كعب بن جعيل بهجاء الأنصار، فاستعفاه وقال: أتريد أن تردني كافرًا بعد إسلام؟ فأغرى الأخطل وكان نصرانيًّا فأجابه وهجا الأنصار هجاء مقذعًا مشهورًا.
قلت: إن يزيد كان صورة صادقة لجده أبي سفيان، يُؤثر العصبية على كل شيء، وأنت لا تُنكر أن يزيد هو صاحب وقعة الحرة التي انتهكت فيها حرمات الأنصار في المدينة، والتي انتقمت فيها قريش من الذين انتصروا عليها في بدر والتي لم تقم للأنصار بعدها قائمة. ولأمر ما يقول الرواة حين يقصون وقعة الحرة: إنه قد قتل فيها ثمانون من الذين شهدوا بدرًا؛ أي من الذين أذلوا قريشًا.
فانظر إلى هذين البيتين في أول المقطوعة كيف يمثلان ذكر حسان لعهد النبي وحزنه عليه وأسفه على ما فات الأنصار من موالاة النبي لهم وإنصافه إياهم. ولكن بقية هذه الأبيات تدعو إلى شيء من الاستطراد لا بأس به؛ لأنه لا يتجاوز الموضوع كثيرًا. فقد يظهر من قراءة هذه الأبيات أنه قصد بها إلى الإلحاح في مدح الزبير وإحصاء مآثره، وقد يظهر أن في آخرها ضعفًا لا يلائم قوة أولها.
وقد روى هذه القصة نفر من آل الزبير ومن حفدة عبد الله بن الزبير بالدقة، أفتستبعد أن تكون عصبية الزبيريين قد مدت هذه الأبيات وطولتها وتجاوزت بها ما كان قد أراد حسان من الاعتراف بالجميل إلى ما كانت تريد العصبية الزبيرية من تفضيل الزبير على منافسيه أو على منافسي ابنه عبد الله بنوع خاص؟
واستطراد آخر لا بأس به؛ لأنه يُثبت ما نحن فيه أيضًا، فقد ذكرت لك ما كان من هجاء الأخطل للأنصار، وهم يتحدثون — كما رأيت — أن النعمان بن بشير غضب لهذا الهجاء وأنشد بين يدي معاوية أبياتًا نرويها لك، فسترى فيها مثل ما رأيت في أبيات حسان من أثر هذه العصبية التي تضيف إلى الشعراء ما لم يقولوا. وقد كان النعمان بن بشير في الأنصار يتعصب لقريش ولبني أمية، أو قل: يمالئهم التماسًا للنفع عندهم. وقد تحدثوا أنه كان الأنصاري الوحيد الذي شهد صفين مع معاوية، كما كان الزبير من هذه القلة القرشية التي كانت تعطف على الأنصار ذكرًا لعهد النبي، أو احتفاظًا بمودة الأنصار ليوم الحاجة. قال النعمان بن بشير لمعاوية:
فظاهر جدًّا أن هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة، على أقل تقدير، قد حُملت على النعمان بن بشير حملًا، حملها عليه الشيعة. ومع أننا نعلم أن الأنصار حين أخطأهم الحكم فاضطغنوا على قريش مالوا بطبيعة موقفهم السياسي إلى تأييد الحزب المناوئ لبني أمية، فانضموا إلى علي، فلسنا نشك في أن النعمان بن بشير لم يكن هاشمي المذهب ولا علوي الرأي، إنما كان أمويًّا، أو بعبارة أصح: سفيانيًّا، فلما أحس انتقال الأمر من آل أبي سفيان إلى مروان بن الحكم تحول عن الأمويين إلى ابن الزبير وقتل في ذلك.
فأنت ترى إلى أي حد كانت العصبية قد انتهت بقريش والأنصار، وأنت ترى تأثيرها في الشعر والشعراء، وأنت ترى من هذين الاستطرادين كيف استغلت العصبية الزبيرية والهاشمية شعر حسان وشعر النعمان بن بشير لمناهضة خصومها.
والرواة يختلفون في أصل هذه المهاجاة بين هذين الشاعرين، وهم مضطرون إلى أن يختلفوا؛ فقد دخلت العصبية في الرواية أيضًا. أما الأنصار فكانوا يتحدثون أن هذين الرجلين كانا صديقين، ولكن عبد الرحمن بن حسان الأنصاري كان يحب امرأة صاحبه القرشي ويختلف إليها فبلغ ذلك صاحبه فراسل امرأة عبد الرحمن بن حسان. وأنبأت هذه زوجها، فاحتال حتى حمل امرأة صاحبه على أن تزوره في بيته؛ وأخفاها في إحدى الحجر، واحتالت امرأته حتى حملت القرشي على أن يزورها، فلما استقر به المقام عندها أقبل زوجها فأرادت أن تخفيه فأدخلته في إحدى الحجر، فإذا هو يرى امرأته، ففسد الأمر بين الصديقين. وأما قريش فكانت تروي القصة نفسها، لكنها تعكسها تظهر صاحبها مظهر الوفي لصديقه بأنه كانت تأتيه رسائل امرأة عبد الرحمن بن حسان فلا يجيبها إلى ما كانت تُريد رعاية لحرمة الصديق.
ليس من شك في أن هذه القصة خيال كانت تتفكه به الأنصار وقريش بعد أن هدأت نار الخصومة العملية بينهما، وأن ما يرويه صاحب «الأغاني» عن أصل هذه المهاجاة بعيد كل البعد عن النساء: كان الصديقان يتصيدان بأكلب لهما، فقال القرشي لصاحبه:
فرد عليه ابن حسان:
وعظم الشر بين الصديقين منذ ذلك اليوم.
ولعل عبد الرحمن بن حسان قد أحسن تصوير نفسية الأنصار حين قال:
على أن الأمر تجاوز هذين الشاعرين، فاستعان القرشي بشعراء من مضر وربيعة، ثم تجاوز الأمر الشعر والشعراء وانتهى إلى معاوية، فأرسل إلى سعيد بن العاصي، وكان واليه على المدينة، يأمره بأن يضرب كلًّا من الشاعرين مائة سوط. وكان سعيد عطوفًا على الأنصار في أيام معاوية، كما كان الزبير عطوفًا عليهم أيام عمر. وكانت بين سعيد وعبد الرحمن بن حسان مودة، فكره أن يضربه، وكره أيضًا أن يضرب القرشي، فعطَّل أمر معاوية، غير أنه لم يلبث أن ترك ولاية المدينة لمروان بن الحكم الذي أسرع فتعصب لأخيه وضرب عبد الرحمن بن حسان مائة سوط. هنا ذكر عبد الرحمن بن حسان أن للأنصار سفيرًا في الشام هو النعمان بن بشير، فكتب إليه:
وانتهى أمر معاوية إلى مروان، فضرب أخاه خمسين سوطًا، واستعفى عبد الرحمن بن حسان في الباقي فعفا. ولكنه أخذ يُذيع في المدينة أن مروان قد ضربه حد الحر مائة سوط وضرب أخاه حد العبد خمسين، فشقت هذه المقالة على عبد الرحمن بن الحكم، وأقبل على أخيه فطلب إليه أن يتم عليه المائة ففعل، واتصل الهجاء بين الرجلين.
ولقد يستطيع الكاتب في التاريخ السياسي أن يضع كتابًا خاصًّا ضخمًا في هذه العصبية بين قريش والأنصار، وما كان لها من التأثير في حياة المسلمين أيام بني أمية؛ لا نقول في المدينة ومكة وقريش، بل نقول: في مصر وإفريقية والأندلس. ويستطيع الكاتب في تاريخ الأدب أن يضع سفرًا مستقلًّا فيما كان لهذه العصبية بين قريش والأنصار من التأثير في شعر الفريقين الذي قالوه في الإسلام، وفي الشعر الذي نحله الفريقان شعراءهما في الجاهلية. هذا دون أن يتجاوز المؤرخ السياسي أو الأدبي الخصومة بين قريش والأنصار، فكيف إذا تجاوزها إلى الخصومة بين القبائل الأخرى! ذلك أن العصبية لم تكن مقصورة على أهل مكة والمدينة، ولكنها تجاوزتهم إلى العرب كافة، فتعصبت العدنانية على اليمنية؛ وتعصبت مضر على بقية عدنان، وتعصبت ربيعة على مضر، وانقسمت مضر نفسها، فكانت فيها العصبية القيسية والتميمية والقرشية، وانقسمت ربيعة فكانت فيها عصبية تغلب وعصبية بكر. وقل مثل ذلك في اليمن؛ فقد كانت للأزد عصبيتها، ولحمير عصبيتها ولقضاعة عصبيتها.
وكانت كل هذه العصبيات تتشعب وتتفرع وتمتد أطرافها وتتشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها؛ فلها شكل في الشام؛ وآخر في العراق، وثالث في خراسان، ورابع في الأندلس. وأنت تعلم حق العلم أن هذه العصبية هي التي أزالت سلطان بني أمية؛ لأنهم عدلوا عن سياسة النبي التي كانت تريد محو العصبيات، وأرادوا أن يعتزوا بفريق من العرب على فريق؛ قووا العصبية ثم عجزوا عن ضبطها، فأدالت منهم، بل أدالت من العرب للفرس.
وإذا كان هذا تأثير العصبية في الحياة السياسية قد رأيت طرفًا يسيرًا من تأثيرها في الشعر والشعراء، فأنت تستطيع أن تتصور هذه القبائل العربية في هذا الجهاد السياسي العنيف، تحرص كل واحدة منها على أن يكون قديمها في الجاهلية خير قديم، وعلى أن يكون مجدها في الجاهلية رفيعًا مؤثلًا بعيد العهد. وقد أرادت الظروف أن يضيع الشعر الجاهلي؛ لأن العرب لم تكن تكتب شعرها بعدُ، وإنما كانت ترويه حفظًا. فلما كان ما كان في الإسلام من حروب الردة ثم الفتوح ثم الفتن، قُتل من الرواة والحفاظ خلق كثير، ثم اطمأنت العرب في الأمصار أيام بني أمية، وراجعت شعرها، فإذا قد ضاع أكثره وإذا أقله قد بقي، وهي بعد في حاجة إلى الشعر تقدمه وقودًا لهذه العصبية المضطرمة؛ فاستكثرت من الشعر، وقالت منه القصائد الطوال وغير الطوال، ونحلتها شعراءها القدماء.
ولابن سلام مذهب من الاستدلال لإثبات أن أكثر الشعر قد ضاع، ولا بأس بأن نلم به إلمامة قصيرة. فهو يرى أن طرفة بن العبد وعُبيد بن الأبرص من أشهر الشعراء الجاهليين وأشدهم تقدمًا، وهو يرى أن الرواة المصححين لم يحفظوا لهذين الشاعرين غير قصائد عشر، فهو يقول: إن لم يكن هذان الشاعران قد قالا إلا ما يحفظ لهما فهما لا يستحقان هذه الشهرة وهذا التقدم؛ وإذن فقد قالا شعرًا كثيرًا ولكنه ضاع، ولم يبقَ إلا هذا القليل. وشق على الرواة أو على غير الرواة ألا يُروى لهذين الشاعرين إلا قصائد عشر، فأضافوا إليهما ما لم يقولا، وحمل عليهما — كما يقول ابن سلام — حمل كثير.
ولكن ابن سلام لا يقف عند هذا الحد، بل هو ينقد ما كان يرويه ابن إسحاق وغيره من أصحاب السيرة من الشعر يضيفونه إلى عاد وثمود وغيرهم، ويؤكد أن هذا الشعر منحول مختلق، وأي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية التي تُثبت أن الله قد أباد عادًا وثمود ولم يبقِ منهم باقية.
ومهما يكن من شيء فإن هذا الفصل الطويل ينتهي بنا إلى نتيجة نعتقد أنها لا تقبل الشك، وهي أن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على نحل الشعر للجاهليين. وقد رأيت أن القدماء قد سبقونا إلى هذه النتيجة، وأريد أن ترى أنهم قد شقوا بها شقاء كبيرًا، فابن سلام يحدثنا بأن أهل العلم قادرون على أن يميزوا الشعر الذي ينحله الرواة في سهولة، ولكنهم يجدون مشقة وعسرًا في تمييز الشعر الذي ينحله العرب أنفسهم.
ونحن لا نقف عند استخلاص هذه النتيجة وتسجيلها، وإنما نستخلص منها قاعدة علمية، وهي أن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يُسمى جاهليًّا أن يشك في صحته كلما رأى شيئًا من شأنه تقوية العصبية أو تأييد فريق من العرب على فريق. ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبية قد لعبت — كما يقولون — دورًا في الحياة السياسية للمسلمين.
(٣) الدين ونحل الشعر
ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرًا في تكلف الشعر ونحله وإضافته إلى الجاهليين، لا نقول في العصور المتأخرة وحدها، بل فيها وفي العصر الأموي أيضًا. وربما ارتقى عصر النحل المتأثر بالدين إلى أيام الخلفاء الراشدين أيضًا. ولو أن لدينا من الوقت سعة وفراغ البال ما يحتاج إليه هذا الموضوع للهونا وألهينا القارئ بنوع من البحث لا يخلو من فائدة علمية أدبية قيمة، وهو أن نضع تاريخًا لهذا النحل المتأثر بالدين.
وأعجب من هذا أن السياسة نفسها قد اتخذت الجن أداة من أدواتها وأنطقتها بالشعر في العصر الإسلامي نفسه. فقد أشرنا في الفصل السابق إلى ما كان من قتل سعد بن عباده، ذلك الأنصاري الذي أبى أن يذعن بالخلافة لقريش، وقلنا: إنهم تحدثوا أن الجن قتلته، وهم لم يكتفوا بهذا الحديث، وإنما رووا شعرًا قالته الجن تفتخر بقتل سعد بن عبادة هذا:
وكذلك قالت الجن شعرًا رثت فيه عمر بن الخطاب:
ولنعد إلى ما نحن فيه؛ فقد أظهرناك على نحو من نحل الشعر للجن والإنس باسم الدين، والغرض من هذا النحل — فيما نرجح — إنما هو إرضاء حاجات العامة الذين يريدون المعجزة في كل شيء، ولا يكرهون أن يقال لهم: إن من دلائل صدق النبي في رسالته أنه كان منتظرًا قبل أن يجيء بدهر طويل، تحدثت بهذا الانتظار شياطين الجن وكهان الإنس، وأحبار اليهود ورهبان النصارى.
وكما أن القصاص والناحلين قد اعتمدوا على الآيات التي ذُكرت فيها الجن ليخترعوا ما اخترعوا من شعر الجن وأخبارهم المتصلة بالدين، فهم قد اعتمدوا على القرآن أيضًا فيما رووا ونحلوا من الأخبار والأشعار والأحاديث التي تُضاف إلى الأحبار؛ فالقرآن يحدثنا بأن اليهود والنصارى يجدون النبي مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإذن فيجب أن تخترع القصص والأساطير وما يتصل بها من الشعر ليثبت أن المخلصين من الأحبار والرهبان كانوا يتوقعون بعثة النبي ويدعون الناس إلى الإيمان به حتى قبل أن يُظل الناس زمانه.
ونوع آخر من تأثير الدين في نحل الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبيَّ يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنوا هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها. وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة، فيضيفون إلى عبد الله وعبد المطلب وهاشم وعبد مناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويُعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة، وأنت تعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تُراد بهذا القصص.
وهنا تتظاهر العواطف الدينية والعواطف السياسية على نحل الشعر، فقد أرادت الظروف أن تكون الخلافة والملك في قريش رهط النبي، وأن يختلف حول هذا الملك، فيستقر حينًا في بني أميه وينتقل منهم إلى بني هاشم رهط النبي الأدنين، ويشتد التنافس بين أولئك وهؤلاء، ويتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي. فأما في أيام بني أمية فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لأمية من مجد في الجاهلية. وأما في العباسيين فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لبني هاشم من مجد في الجاهلية. وتشتد الخصومة بين قصاص هذين الحزبين السياسيين وتكثر الروايات والأخبار والأشعار.
ثم لا يقتصر الأمر على هذين الصنوين من بني عبد مناف؛ فالأرستقراطية القرشية كلها طموح إلى المجد، حريصة على أن يكون لها حظ منه في قديمها كما أن لها حظًّا منه في حديثها. وإذن فالبطون القرشية على اختلافها تنحل الأخبار والأشعار، وتغري القصاص وغير القصاص بنحلها. ولا أصل لهذا كله إلا أن قريشًا رهط النبي من ناحية، وأن الملك قد استقر فيها من ناحية أخرى، فانظر إلى تعاون العواطف الدينية والسياسة على نحل الشعر أيام بني أمية وأيام بني العباس.
ولست في حاجة إلى أن أضرب لك الأمثال؛ فأنت تستطيع أن تنظر في «سيرة ابن هشام» وغيرها من كتب السير والتاريخ لترى من هذا كله الشيء الكثير، وإنما أضرب لك مثلًا واحدًا يُوضح ما ذهبت إليه من أن بطون قريش كانت تحث على نحل الشعر منافسة للأسرة المالكة أموية كانت أو هاشمية. وهذه القصة التي سأرويها تمس رهط بني مخزوم من قريش، وهي تعطيك مثلًا صادقًا قويًّا لحرص قريش على نحل الشعر لا تتحرج في ذلك ولا ترعى فيه صدقًا ولا دينًا.
تحدث صاحب «الأغاني» بإسناد له عن عبد العزيز بن أبي نهشل قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وجئته أطلب منه مغرمًا: يا خال هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة، وقل: سمعت حسانًا ينشدها رسول الله ﷺ، فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول: سمعت عائشة تنشدها فعلت، فقال: لا، إلا أن تقول سمعت حسانًا ينشد رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ جالس؛ فأبى علي وأبيت عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال. فأرسل إليَّ فقال: قل أبياتًا تمدح بها هشامًا — يعني ابن المغيرة — وبني أمية، فقلت: سمهم لي! فسماهم، وقال: اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك، فقلت:
فانظر إلى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كيف أراد صاحبه على أن يكذب وينحل الشعر حسانًا، ثم لا يكفيه هذا النحل حتى يذيع صاحبه أنه سمع حسانًا ينشد هذا الشعر بين يدي النبي، كل ذلك بأربعة آلاف درهم. ولكن صاحبنا كره أن يكذب على النبي بهذا المقدار، واستباح أن يكذب على عائشة، وعبد الرحمن لا يرضيه إلا الكذب على النبي؛ فاختصما.
وكلاهما شديد الحاجة إلى صاحبه، هذا يُريد شعرًا لشاعر معروف، والآخر يُريد المال، فيتفقان آخر الأمر على أن ينحل الشعر عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش، ومثل هذا كثير.
ونحو آخر من تأثير الدين في نحل الشعر، وذلك حين ظهرت الحياة العلمية عند العرب بعد أن اتصلت الأسباب بينهم وبين الأمم المغلوبة، فأرادوا هم أو الموالى أو أولئك وهؤلاء أن يدرسوا القرآن درسًا لغويًّا ويثبتوا صحة ألفاظه ومعانيه، ولأمر ما شعروا بالحاجة إلى إثبات أن القرآن كتاب عربي مطابق في ألفاظه للغة العرب، فحرصوا على أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يُثبت أن هذه الكلمة القرآنية عربية لا سبيل إلى الشك في عربيتها. وأنت توافقني في غير مشقة على أن من العسير، كما قدمت في الكتاب الأول، أن نطمئن إلى كل هذا الشعر الذي يستشهد به الرواة والمفسرون على ألفاظ القرآن ومعانيه، وقد عرفت رأينا في ذلك وفي قصة عبد الله بن عباس ونافع بن الأزرق، فلا حاجة إلى أن نُعيد القول فيه، وإنما نُعيد شيئًا واحدًا، وهو أننا نعتقد أنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكًّا ولا ريبًا وهو لذلك أوثق مصدر للغة العربية فهو القرآن، وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي، بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن.
ولست أفهم كيف يمكن أن يتسرب الشك إلى عالم جادٍّ في عربية القرآن، واستقامة ألفاظه وأساليبه ونظمه على ما عرف العرب أيام النبي من لفظ ونظم وأسلوب. وإنما هناك مسألة أخرى، وهي أن العلماء وأصحاب التأويل من الموالي بنوع خاص لم يتفقوا في كثير من الأحيان على فهم القرآن وتأويل نصوصه، فكانت بينهم خصومات في التأويل والتفسير، وعن هذه الخصومات نشأت خصومات أخرى بين الفقهاء وأصحاب التشريع.
وهنا نوع جديد من تأثير الدين في نحل الشعر، فهذه الخصومات بين العلماء كان لها تأثير غير قليل في مكانة العالِم وشهرته ورأي الناس فيه وثقة الأمراء والخلفاء بعلمه. ومن هنا كان هؤلاء العلماء حراصًا على أن يظهروا دائمًا مظهر المنتصرين في خصوماتهم الموفقين للحق والصواب فيما يذهبون إليه من رأي. وأي شيء يتيح لهم هذا الاستشهاد بما قالته العرب قبل نزول القرآن؟ وقد كثر استغلالهم لهذا الاستشهاد، فاستشهدوا بشعر الجاهليين على كل شيء، وأصبحت قراءة الكتب الأدبية واللغوية وكتب التفسير والمقالات تترك في نفسك أثرًا قويًّا وصورة غريبة لهذا الشعر العربي الجاهلي، حتى ليُخيل إليك أن أحد هؤلاء العلماء، على اختلاف ما كان ينظر فيه من فروع العلم، لم يكن عليه إلا أن يمد يده إذا احتاج فيظفر بما شاء الله من كلام العرب قبل الإسلام؛ كأن كلام العرب قبل الإسلام قد وعى كل شيء وأحصى كل شيء. وهذا، وهم مجمعون على أن هؤلاء الجاهليين الذين قالوا في كل شيء كانوا جهلة غلاظًا فظاظًا، أفترى إلى هؤلاء الجهال الغلاظ يستشهد بجهلهم وغلظتهم على ما انتهت إليه الحضارة العباسية من علم ودقة فنية؟ فالمعتزلة يثبتون مذاهبهم بشعر العرب الجاهليين، وغير المعتزلة من أصحاب المقالات ينقضون آراء المعتزلة معتمدين على شعر الجاهليين. وما أرى إلا أنك ضاحك مثلي أمام هذا الشطر الذي رواه بعض المعتزلة ليثبت أن كرسي الله الذي وسع السموات والأرض هو علمه؛ وهذا الشطر هو قول الشاعر المجهول طبعًا:
وكذب أصحاب العلم على الجاهليين كثير لا سبيل إلى إحصائه أو استقصائه؛ فهو ليس مقصورًا على رجال الدين وأصحاب التأويل والمقالات ورجال اللغة وأهل الأدب، وإنما هو يجاوزهم إلى غيرهم من الذين قالوا في العلم مهما يكن الموضوع الذي تناولوه.
لأمر ما كان البدْع في العصر العباسي عند فريق من الناس أن يرد كل شيء إلى العرب حتى الأشياء التي استحدثت أو جاء بها المغلوبون من الفرس والروم وغيرهم. وإذا كان الأمر كذلك فليس لنحل الشعر للجاهليين حد، وأنت إذا نظرت في كتاب «الحيوان» للجاحظ رأيت من هذا النحل ما يقنعك ويرضيك.
ولكني لا أريد أن أبعد عما أنا فيه من تأثير العواطف والمنافع الدينية في نحل الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وقد رأينا إلى الآن فنونًا من هذا التأثير، ولكننا لم نصل بعدُ إلى أعظم هذه الفنون كلها خطرًا وأبعدها أثرًا وأشدها عبثًا بعقول القدماء والمحدثين، وهو هذا النوع الذي ظهر عندما استؤنف الجدال في الدين بين المسلمين وأصحاب الملل الأخرى، ولا سيما اليهود والنصارى. هذا الجدال الذي قوي بين النبي وخصومه، ثم هدأ بعد أن تم انتصار النبي على اليهود والوثنيين في بلاد العرب، وانقطع أو كاد ينقطع أيام الخلفاء الراشدين؛ لأن الكلمة في أيام هؤلاء الخلفاء لم تكن للحجة ولا للسان، وإنما كانت لهذا السيف الذي أزال سلطان الفرس واقتطع من دولة الروم الشأم وفلسطين ومصر وقسمًا من إفريقية الشمالية. فلما انتهت هذه الفتوح واستقر العرب في الأمصار واتصلت الأسباب بينهم وبين المغلوبين من النصارى وغير النصارى، استؤنف هذا الجدال وأخذ صورة أقرب إلى النضال منها إلى أي شيء آخر، وذهب المجادلون في هذا النوع من الخصومة مذاهب لا تخلو من غرابة نحب أن نشير إلى بعضها في شيء من الإيجاز.
أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل. فليس غريبًا أن نجد قبل الإسلام قومًا يدينون بالإسلام، أخذوه من هذه الكتب السماوية التي أوحيت قبل القرآن. والقرآن يحدثنا عن هذه الكتب، فهو يذكر التوراة والإنجيل ويجادل فيهما اليهود والنصارى. وهو يذكر غير التوراة والإنجيل شيئًا آخر هو صحف إبراهيم. ويذكر غير دين اليهود والنصارى دينًا آخر هو ملة إبراهيم، هو هذه الحنيفية التي لم نستطع إلى الآن أن نتبين معناها الصحيح. وإذا كان اليهود قد استأثروا بدينهم وتأويله، وكان النصارى قد استأثروا بدينهم وتأويله، وكان القرآن قد وقف من أولئك وهؤلاء موقف من ينكر عليهم صحة ما يزعمون، فطعن في صحة ما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، واتهمهم بالتحريف والتغيير، ولم يكن أحد قد احتكر ملة إبراهيم ولا زعم لنفسه الانفراد بتأويلها، فقد أخذ المسلمون يردون الإسلام في خلاصته إلى دين إبراهيم هذا الذي هو أقدم وأنقى من دين اليهود والنصارى.
وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يُجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا قد كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت عنه لما أضلها به المضلون وانصرفت إلى عبادة الأوثان. ولم يحتفظ بدين إبراهيم إلا أفراد قليلون يظهرون من حين إلى حين. وهؤلاء الأفراد يتحدثون، فنجد من أحاديثهم ما يشبه الإسلام، وتأويل ذلك يسير؛ فهم أتباع إبراهيم، ودين إبراهيم هو الإسلام. وتفسير هذا من الوجهة العلمية يسير أيضًا؛ فأحاديث هؤلاء الناس قد وُضعت لهم وحُملت عليهم حملًا بعد الإسلام، لا لشيء إلا ليثبت أن للإسلام في بلاد العرب قدمة وسابقة. وعلى هذا النحو تستطيع أن تحمل كل ما تجد من هذه الأخبار والأشعار والأحاديث التي تُضاف إلى الجاهليين، والتي يظهر بينها وبين ما في القرآن والحديث شبه قوي أو ضعيف.
- الأولى: أن هذا الشعر الذي يُنسب لأمية بن أبي الصلت صحيح؛ لأن هناك فروقًا بين ما جاء فيه وما جاء في القرآن من تفصيل بعض القصص، ولو كان منحولا لكانت المطابقة تامة بينه وبين القرآن. وإذا كان هذا الشعر صحيحًا، فيجب — في رأي الأستاذ «هوار» — أن يكون النبي قد استعان به قليلًا أو كثيرًا في نظم القرآن.
- الثانية: أن صحة هذا الشعر واستعانة النبي به في نظم القرآن قد حملتا المسلمين على محاربة شعر أمية بن أبي الصلت ومحوه ليستأثر القرآن بالجدة، وليصح أن النبي قد انفرد بتلقي الوحي من السماء. وعلى هذا النحو استطاع الأستاذ «هوار» — أو خُيل إليه أنه استطاع — أن يُثبت أن هناك شعرًا جاهليًّا صحيحًا، وأن هذا الشعر الجاهلي قد كان له أثر في القرآن. ومع أني من أشد الناس إعجابًا بالأستاذ «هوار» وبطائفة من أصحابه المستشرقين، وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان من النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث، فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذا الفصل الذي أشرت إليه آنفًا دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانًا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم. وليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون، فأنا لا أؤرخ القرآن، وأنا لا أتعرض للوحي وما يتصل به، ولا للصلة بين القرآن وما كان يتحدث به اليهود والنصارى، كل ذلك لا يعنيني الآن، وإنما الذي يعنيني هو شعر أمية بن أبي الصلت وأمثاله من الشعراء.
والغريب من أمر المستشرقين في هذا الموضوع وأمثاله أنهم يشكون في صحة السيرة نفسها. ويتجاوز بعضهم الشك إلى الجحود، فلا يرون في السيرة مصدرًا تاريخيًّا صحيحًا، وإنما هي عندهم، كما ينبغي أن تكون عند العلماء جميعًا، طائفة من الأخبار والأحاديث تحتاج إلى التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منحولها. هم يقفون هذا الموقف العلمي من السيرة، ويغلون في هذا الموقف. ولكنهم يقفون من أمية بن أبي الصلت وشعره موقف المستيقن المطمئن، مع أن أخبار أمية ليست أدنى إلى الصدق ولا أبلغ في الصحة من أخبار السيرة، فما سر هذا الاطمئنان الغريب إلى نحو من الأخبار دون النحو الآخر؟ أيمكن أن يكون المستشرقون أنفسهم لم يبرءوا من هذا التعصب الذي يرمون به الباحثين من أصحاب الديانات؟ أما أنا فلست مستشرقًا ولست رجلًا من رجال الدين، وإنما أريد أن أقف من شعر أمية بن أبي الصلت نفس الموقف العلمي الذي وقفته من شعر الجاهلين جميعًا. وحسبي أن شعر أمية بن أبي الصلت لم يصل إلينا إلا من طريق الرواية والحفظ لأشك في صحته كما شككت في شعر امرئ القيس والأعشى وزهير، وإن لم يكن لهم من النبي موقف أمية بن أبي الصلت.
ثم إن هذا الموقف نفسه يحملني على أن أرتاب الارتياب كله في شعر أمية بن أبي الصلت، فقد وقف أمية من النبي موقف الخصومة؛ هجا أصحابه وأيد مخالفيه، ورثى أهل بدر من المشركين، وكان هذا وحده يكفي لينهى عن رواية شعره، وليضيع هذا الشعر كما ضاعت الكثرة المطلقة من الشعر الوثني الذي هُجي فيه النبي وأصحابه حين كانت الخصومة شديدة بينهم وبين مخالفيهم من الوثننيين واليهود. وليس يمكن أن يكون من الحق في شيء أن النبي نهى عن رواية شعر أمية لينفرد بالعلم والوحي وأخبار الغيب، فما كان شعر أمية بن أبي الصلت إلا شعرًا كغيره من الشعر، لا يستطيع أن ينهض للقرآن كما لم يستطع غيره من الشعر أن ينهض للقرآن. وما كان علم أمية بن أبي الصلت بأمور الدين إلا كعلم أحبار اليهود ورهبان النصارى، وقد ثبت النبي لأولئك وهؤلاء واستطاع أن يغلبهم على عقول العرب بالحجة مرة وبالسيف مرة أخرى، فأمر النبي مع ابن أبي الصلت كأمره مع هؤلاء الشعراء الكثيرين الذين هجوه وناهضوه وألبوا عليه.
ومن هنا تستطيع أن تفهم ما يُروى من أن النبي أنشد شيئًا من شعر أمية فيه دين وتحنف فقال: «آمن لسانه وكفر قلبه.» آمن لسانه؛ لأنه كان يدعو إلى مثل ما كان يدعو إليه، فأمره كأمر هؤلاء اليهود الذين أيدوا النبي ووادعوه، حتى إذا خافوه على سلطانهم السياسي والاقتصادي والديني ظاهروا عليه المشركين من قريش.
ليس إذن شعر أمية بن أبي الصلت بدعًا في شعر المتحنفين من العرب أو المنتصرين والمتهودين منهم، وليس يمكن أن يكون المسلمون قد تعمدوا محوه، إلا ما كان منه هجاء للنبي وأصحابه ونعيًا على الإسلام؛ فقد سلك المسلمون فيه مسلكهم في غيره من الشعر الذي أُهمل حتى ضاع.
ولكن في شعر أمية بن أبي الصلت أخبارًا وردت في القرآن، كأخبار ثمود وصالح والناقة والصيحة، ويرى الأستاذ «هوار» أن ورود هذه الأخبار في شعر أمية مخالفًا بعض المخالفة لما جاء في القرآن دليل على صحة هذا الشعر من جهة، وعلى أن النبي قد استقى منه أخباره من جهة أخرى.
ولست أدري قيمة هذا النحو من البحث، فمن الذي زعم أن ما جاء في القرآن من الأخبار كان كله مجهولًا قبل أن يجيء به القرآن؟ ومن الذي يستطيع أن يُنكر أن كثيرًا من القصص القرآني كان معروفًا بعضه عند اليهود وبعضه عند النصارى، وبعضه عند العرب أنفسهم؟ وكان من اليسير أن يعرفه النبي، كما كان من اليسير أن يعرفه غير النبي من المتصلين بأهل الكتاب. ثم كان النبي وأمية متعاصرين، فلِمَ يكون النبي هو الذي أخذ عن أمية ولا يكون أمية هو الذي أخذ عن النبي؟ ثم من الذي يستطيع أن يقول: إن من ينحل الشعر ليحاكي القرآن ملزم أن يلائم بين شعره وبين نصوص القرآن؟ أليس المعقول أن يخالف بينهما ما استطاع ليخفي النحل ويُوهم أن شعره صحيح لا تكلف فيه ولا تعمل؟ بلى!
ونحن نعتقد أن هذا الشعر الذي يُضاف إلى أمية بن أبي الصلت وإلى غيره من المتحنفين الذين عاصروا النبي أو جاءوا قبله إنما نحل نحلًا، نحله المسلمون ليثبتوا — كما قدمنا — أن للإسلام قدمة وسابقة في البلاد العربية. ومن هنا لا نستطيع أن نقبل ما يُضاف إلى هؤلاء الشعراء والمتحنفين إلا مع شيء من الاحتياط والشك غير قليل.
هذا شأن المسلمين، فأما غير المسلمين من أصحاب الديانات الأخرى، فقد نظروا فإذا لهم في حياة الأمة العربية قبل الإسلام قديم. وفي الحق أن اليهود قد استعمروا جزءًا غير قليل من بلاد الحجاز في المدينة وحولها وعلى طريق الشام. وفي الحق أيضًا أن اليهودية قد جاوزت الحجاز إلى اليمن، ويظهر أنها استقرت حينًا عند سراة اليمن وأشرافها، وأنها أثرت بوجه ما في الخصومة التي كانت بين أهل اليمن وبين الحبشة، وهم نصارى. ثم في الحق أن اليهودية قد استتبعت حركة اضطهاد للنصارى في نجران ذكرها القرآن في «سورة البروج».
كل هذا حق لا شك فيه، وكل هذا ظاهر في أخبار العرب وأساطيرهم، وهو ظاهر في القرآن بنوع خاص، فليس قليلًا ما يمس اليهود من سور القرآن وآياته، وأنت تعلم ما كان بين النبي واليهود من خصومة انتهت بإجلاء اليهود عن بلاد العرب أيام عمر بن الخطاب. وكان اليهود قد تعربوا حقًّا، وكان كثير من العرب قد تهودوا، وليس من شك عندي في أن الاختلاط بين اليهود وبين الأوس والخزرج قد أعد هاتين القبيلتين لقبول الدين الجديد وتأييد صاحبه.
هذه حال اليهود، فأما النصارى فقد انتشرت دياناتهم انتشارًا قويًّا في بعض بلاد العرب فيما يلي الشأم حيث كان الغسانيون الخاضعون لسلطان الروم، وفيما يلي العراق حيث كان المناذرة الخاضعون لسلطان الفرس، وفي نجران من بلاد اليمن التي كانت على اتصال بالحبش وهم نصارى.
تغلغلت النصرانية إذن كما تغلغلت اليهودية في بلاد العرب، وأكبر الظن أن الإسلام لو لم يظهر لانتهى الأمر بالعرب إلى اعتناق إحدى هاتين الديانتين. ولكن الأمة العربية كان لها مزاجها الخاص الذي لم يستقم لهذين الدينين، والذي استتبع دينًا جديدًا أقل ما يُوصف به أنه ملائم ملاءمة تامة لطبيعة الأمة العربية.
مهما يكن من شيء فليس من المعقول أن ينشر هذان الدينان في البلاد العربية دون أن يكون لهما أثر ظاهر في الشعر العربي قبل الإسلام، وقد رأيت أن العصبية العربية حملت العرب على أن ينحلوا الشعر ويضيفوه إلى عشائرهم في الجاهلية بعد أن ضاع شعر هذه العشائر؛ فالأمر كذلك في اليهود والنصارى: تعصبوا لأسلافهم من الجاهليين، وأبوا إلا أن يكون لهم شعر كشعر غيرهم من الوثنيين، وأبوا إلا أن يكون لهم مجد وسؤدد كما كان لغيرهم مجد وسؤدد أيضًا، فنحلوا كما نحل غيرهم، ونظموا شعرًا أضافوه إلى السموءل بن عادياء وإلى عدي بن زيد وغيرهما من شعراء اليهود والنصارى.
والرواة القدماء أنفسهم يحسون شيئًا من هذا؛ فهم يجدون فيما نُسب إلى عدي بن زيد من الشعر سهولة ولينًا لا يلائمان العصر الجاهلي، فيحاولون تعليل ذلك بالإقليم والاتصال بالفرس، واصطناع الحياة الحضرية التي كان يصطنعها أهل الحيرة.
ونحن نجد مثل هذه السهولة في شعر اليهود، في شعر السموءل بنوع خاص، ولا نستطيع أن نُعللها بمثل ما عُللت به في شعر عدي؛ فقد كان السموءل — إن صحت الأخبار — يعيش عيشة خشنة أقرب إلى حياة السادة البادين منها إلى حياة أصحاب الحضر. ويحدثنا صاحب «الأغاني» بأن ولد السموءل نحلوا قصيدة أضافوها إلى امرئ القيس، وزعموا أنه مدح بها السموءل حين أودعه سلاحه في طريقه إلى القسطنطينية. ونرجح نحن أن ولد السموءل هم الذين نحلوا هذه القصيدة الرائية التي تُضاف للأعشى والتي يُقال: إنه مدح بها شرحبيل بن السموءل في قصته المشهورة مع الكلبي.
فأنت ترى أن للعواطف الدينية على اختلافها وتنوع أغراضها مثل ما للعواطف السياسية من التأثير في نحل الشعر وإضافته إلى الجاهليين.
وإذا كان من الحق أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء السياسية، فمن الحق أيضًا أن نحتاط في قبول الشعر الذي يظهر فيه تأثير ما للأهواء الدينية.
وأكبر الظن أن الشعر الذي يُسمى جاهليًّا مقسم بين السياسة والدين، ذهبت هذه بشطر منه، وذهب هذا بالشطر الآخر.
ولكن أسباب النحل ليست مقصورة على السياسة والدين، بل هي تتجاوزهما إلى أشياء أخرى.
(٤) القصص ونحل الشعر
من هذه الأشياء شيء ليس دينًا ولا سياسة، ولكنه يتصل بالدين وبالسياسة اتصالًا قويًّا، نريد به القصص الذي أشرنا إليه غير مرة فيما قدمنا من القول.
فالقصص في نفسه ليس من السياسة ولا من الدين، وإنما هو فن من فنون الأدب العربي، توسط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية، وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين، وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية، أزهر أيام بني أمية وصدرًا من أيام بني العباس. حتى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب واستطاع الناس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلى مجالس القصاص، ضعف أمر هذا الفن، وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية شيئًا فشيئًا، حتى ابتذل وانصرف عنه الناس.
وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه؛ وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث، وكان هذا كله أدنى إلى الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال إذا أراد، ويتقرب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومثله العليا؛ فليس غريبًا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجد من المسلمين.
كان قصاص المسلمين يتحدثون إلى الناس في مساجد الأمصار، فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتصل بالنبوات، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا. وكان الناس كلفين بهؤلاء القصاص، مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث. وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية! فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلوها استغلالًا شديدًا، وأصبح القصص أداة سياسية كالشعر.
والتعمق في درس حياة القصاص الذين كانوا يقصون في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها من الأمصار، يظهرنا من غير شك على الصلات التي كانت بين هؤلاء القصاص وبين الأحزاب السياسية.
غير أن القصص لم يتأثر بالسياسة وحدها، وإنما تأثر بالدين أيضًا، وقد رأيت في الفصل الماضي مُثلًا توضح هذا التأثر.
- الأول: مصدر عربي هو القرآن وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات، وما كانت تتحدث به العرب في الأمصار من أخبارها وأساطيرها، وما كانت تروي من شعر، وما كان يتحدث به الرواة من سيرة النبي والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم.
- الثاني: مصدر يهودي نصراني، وهو ما كان يأخذه القصاص عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك، وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا وأخذوا يضعون الأحاديث ويدسونها مخلصين أو غير مخلصين.
- الثالث: مصدر فارسي، وهو هذا الذي كان يستقيه القصاص في العراق خاصة من الفرس مما يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها.
- ثم المصدر الرابع: مصدر مختلط، هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشأم من الأنباط والسريان ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط الذين كانوا منبثين في هذه الأقطار، والذين لم تكن لهم سيادة ولا وجود سياسي ظاهر.
كل هذه المصادر كانت تمد القصاص، فكنت ترى في قصصهم ألوانًا من القول وفنونًا من الحديث، قد لا تعجب العالم المحقق لاضطرابها وظهور سلطان الخيال عليها؛ ولكن لها جمالًا أدبيًّا فنيًّا رائعًا يعجب به من يستطيع أن يقدر الْتِئَامَ هذه الأهواء المختلفة التي تتصل بشعوب مختلفة وأجيال متباينة من الناس، ويعجب به بنوع خاص الذين يحاولون أن يتبينوا فيه نفسية الشعوب والأجيال التي كانت تلهم هؤلاء القصاص.
مهما يكن من شيء، فإن هذه المصادر كلها كانت تطلق ألسنة القصاص بما كانوا يتحدثون به إلى سامعيهم في الأمصار، وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزينه الشعر من حين إلى حين. ويكفي أن تنظر في «ألف ليلة وليلة» وفي قصة عنترة وما يشبهها، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أُضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكون عمادًا له ودعامة. وإذن فقد كان القصاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حد لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه، وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون.
وما نظن أننا في حاجة إلى أن نقيم الأدلة ونبسط البراهين على أن العرب لم يكونوا كلهم شعراء، وإنما سبيلنا أن نوضح أن كثرة هذا الشعر هي التي خيلت إلى القدماء والمحدثين أن لفظ «العربي» مرادف للفظ «الشاعر». فإذا أضفت إلى ما قدمنا أنك تجد كثيرًا من الشعر يُضاف إلى قائل غير معروف بل غير مسمًى، فتراهم يقولون مرة: قال الشاعر، وأخرى: قال الأول، وثالثة: قال الآخر، ورابعة: قال رجل من بني فلان، وخامسة: قال أعرابي … وهلم جرًّا. نقول: إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء.
والحق أن العرب كانوا كغيرهم من الأمم ذات الفصاحة واللسن والأذهان القوية، يكثر فيهم الشعر دون أن يعمَّ كافتهم، وأن أكثر هذا الشعر الذي يُضاف إلى غير قائل أو إلى قائل مجهول، إنما هو شعر مصنوع موضوع نُحل نحلًا؛ بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها، ومنها القصص.
ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في نحل الشعر خُدعوا أيضًا؛ فلم يكن صناع الشعر جميعًا ضعافًا ولا محمقين، بل كان منهم ذو البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف، فكان يجيد الشعر ويحسن تكلفه ونحله، وكان فطنًا يجتهد في إخفاء صنعته ويُوفق من ذلك للشيء الكثير. وابن سلام نفسه يحدثنا بأنه إذا سهل على العلماء النقاد أن يعرفوا ما تكلفه الضعفاء من الناحلين، فمن العسير عليهم أن يميزوا ما كان يتكلفه العرب أنفسهم. وقد رأيت أن العرب أنفسهم كانوا يتكلفون ويضعون ويكذبون، فيسرفون في هذا كله.
أفتظن أن هذين البيتين اللذين قرأتهما آنفًا يمكن أن يكونا قد قيلا قبل الإسلام بألف سنة، ونحن لا نعرف اللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون أو أربعة قرون، ونحن نجد مشقة غير قليلة في فهم الشعر العربي الصحيح الذي قيل أيام النبي أو بعد النبي، ولا نجد شيئًا من العسر في فهم هذا الكلام الذي إن صح رأي ابن سلام فقد قيل قبل النبي بأكثر من عشرة قرون؟
أليس واضحًا جليًّا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا اسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أوجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد؟
وقل مثل هذا فيما يضيفه ابن سلام إلى مالك وسعد ابني زيد مناة بن تميم، فنحن لا نعرف من سعد، ومن مالك، ومن زيد مناة، ومن تميم؟ وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط، ولكن رأى الرواة والقصاص مثلًا تستعمله العرب وهو: «ما هكذا تورد يا سعد الإبل»، وهي في حاجة إلى تفسير الأمثال أيضًا، ومن هنا اخترعت هذه القصة التي نطق فيها سعد ومالك بما يضاف إليهما من الرجز.
وقل مثل هذا ما يضاف للعنبر بن تميم، وهو:
فالأمر عندنا لا يتجاوز تفسير هذا البيت الأخير الذي كان يجري مجرى المثل فيما يظهر. وقل مثل هذا في هذا الشعر الذي يُضاف إلى جذيمة الأبرش، وفي كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزباء وابن أخته عمرو بن عدي ووزيره قصير.
وتستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم والتفسير في كل هذه الحكايات والأساطير التي تتصل بالأسماء والأمثال والأمكنة وما إليها وما يُنشد فيها من الشعر.
ولكن القدماء لم يذهبوا هذا المذهب؛ وإنما قبلوا هذه الأخبار والأشعار على علاتها، ورووها على أنها صحيحة؛ لأنهم سمعوا من رواة كانوا يعتقدون أنهم ثقات مصححون. ومن هنا روى ابن سلام وغيره أبياتًا لجذيمة على أنها من أقدم الشعر العربي، وهي التي تبتدئ بهذا البيت:
ويروي لنا ابن سلام شعرًا آخر ليس أقل من هذا الشعر سخفًا ولا تكلفًا ولا نحلًا يضيفه إلى دويد بن زيد بن نهد حين حضره الموت:
فأنت ترى أن ابن سلام، على ما أظهر من الشك فيما كان يروي ابن إسحاق من شعر عاد وثمود وتبع وحمير، قد انخدع عما كان يرويه ابن إسحاق وغير ابن إسحاق من القصاص من الشعر يضيفونه إلى القدماء من حاضرة العرب وباديتهم.
والرواة أشد انخداعًا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالًا شديدًا، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها «أيام العرب» أو «أيام الناس»، فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب ثم رأوها تُقصُّ مفصلة مطولة، فقبلوا ما كان يُروى منها على أنه جد من الأمر، ورووه وفسروه وفسروا به الشعر، واستخلصوا منه تاريخ العرب؛ مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدمناه، فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصي لهذه الحياة العربية القديمة، ذكره العرب بعد أن استقروا في الأمصار فزادوا فيه ونموه وزينوه بالشعر. كما ذكر اليونان قديمهم فأنشئوا فيه «الإلياذة» و«الأودسة» وغيرها من قصائد الشعر القصصي التي لم يكن يكاد يبلغها الإحصاء. فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء، وحرب الفجار، وهذه «الأيام» الكثيرة التي وُضعت فيها الكتب ونُظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر — إن استقامت نظريتنا — إلا توسيعًا وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدثون بها بعد الإسلام.
ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن مؤرخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك — إن لم يقف موقف الإنكار الصريح — أمام هذا الشعر الذي يُضاف إلى الجاهلين، والذي هو في حقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء، أو شرح لمثل من الأمثال.
كل ما يُروى عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق موضوع لا أصل له.
وكل ما يُروى عن تبع وحمير وشعراء اليمن في العصور القديمة، وأخبار الكهان وما يتصل بسيل العرم وتفرق العرب بعده موضوع لا أصل له.
وكل ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعًا، والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك.
وكل ما يُروى من هذه الأخبار والأشعار التي تتصل بما كان بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام، كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة، خليق أن يكون موضوعًا، وكثرته المطلقة موضوعة من غير شك، ولسنا نذكر شعر آدم وما يشبهه، فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين.
(٥) الشعوبية ونحل الشعر
والشعوبية، ما رأيك فيهم وفيما يمكن أن يكون لهم من الأثر القوي في نحل الشعر والأخبار وإضافتها إلى الجاهليين؟ أما نحن فنعتقد أن هؤلاء الشعوبية قد نحلوا أخبارًا وأشعارًا كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين. ولم يقف أمرهم عند نحل الأخبار والأشعار، بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى النحل والإسراف فيه. وأنت تعلم أن أصل هذه الفرقة إنما هو هذا الحقد الذي أضمره الفرس المغلوبون للعرب الغالبين. وأنت تعلم أن هذه الخصومة قد أخذت مظاهر مختلفة منذ تم الفتح للعرب، وأحدثت آثارًا مختلفة بعيدة في حياة المسلمين الدينية والسياسية والأدبية، ولكنا لا نريد أن نتجاوز في هذا الفصل تأثير الشعوبية في الحياة الأدبية وحدها وفي نحل الشعر للجاهليين بنوع خاص.
لم يكد ينتصف القرن الأول للهجرة حتى كان فريق من سبي الفرس قد استعرب وأتقن العربية، واستوطن الأقطار العربية الخالصة، وأخذ يكوِّن له فيها نسل وذرية، وأخذ هذا الشباب الفارسي الناشئ يتكلم العربية كما يتكلمها العرب أنفسهم. وما هي إلا أن أخذ هذا الشباب يحاول نظم الشعر العربي على نحو ما كان ينظمه شعراء العرب، ثم لم يقف أمرهم عند نظم الشعر، بل تجاوزوه إلى أن شاركوا العرب في أغراضهم الشعرية السياسية، فكان من هؤلاء الموالي شعراء يتعصبون للأحزاب العربية السياسية ويناضلون عنها.
وهذا الموقف السياسي الذي وقفه الموالي من الأحزاب يسر الأمر عليهم تيسيرًا شديدًا، فقد كان أحدهم لا يكاد يُظهر تأييده لحزب من هذه الأحزاب حتى يفرح به هذا الحزب ويعطف عليه ويجزل له الصلات ويذهب في تشجيعه كل مذهب، على نحو ما تفعل الأحزاب السياسية الآن بالصحف التي تقف منها مواقف التأييد، تقبل عليها وتمنحها المعونة لا تبالي في ذلك بشيء؛ لأنها لا تريد إلا نشر الدعوة، ولأنها لا تريد إلا الفوز، ومن ابتغى الفوز وحده كان خليقًا ألا يحقق في اختيار السوائل وتدبر العواقب.
وكذلك كانت تفعل الأحزاب العربية أيام بني أمية: كان هذا المولى يعلن تأييده للأمويين في قصيدة من الشعر، فما أسرع ما يضمه الأمويون إليهم! لا يعنيهم أكان مخلصًا لهم أو مبتغيًا للحظوة والزلفى.
وكذلك كان يفعل حزب آل الزبير وحزب الهاشميين، وكذلك كانت الخصومة بين الأحزاب العربية تبيح للمغلوبين الموتورين من الموالي أن يتدخلوا في السياسة العربية، وأن يهجوا أشراف قريش وقرابة النبي.
ولم يكن هؤلاء الموالي مخلصين للعرب حقًّا، إنما كانوا يستغلون هذه الخصومة السياسية بين الأحزاب، ليعيشوا من جهة، وليخرجوا من الرق أو حياة الولاء إلى حياة تشبه حياة الأحرار والسادة من جهة أخرى، ثم ليشفوا ما في صدورهم من غلٍّ، ويُنَفِّسُوا عن أنفسهم ما كانوا يضمرون من ضغينة للعرب من جهة ثالثة.
ولكن آل مروان كانوا في حاجة إلى اصطناع هؤلاء الشعراء يذودون عنهم ويناضلون بني هاشم خاصة؛ فقد علمت منزلة بني هاشم في نفوس الموالي والفرس.
ولم تكن سيرة الهاشميين مع أنصارهم من الموالي أقل من سيرة الأمويين والزبيريين، وكانت النتيجة لهذا كله أن استباح هؤلاء الموالي لأنفسهم هجو العرب أولًا، ثم ذكر قديمهم والافتخار بالفرس ثانيًا. وقد ضاع أكثر ما قال هؤلاء الموالي في الافتخار بالفرس وهجاء العرب أيام بني أمية، ولكنك تجد من ذلك طرفًا مجزئًا مغنيًا في «الأغاني» وغيره من كتب الأدب.
أما العصر العباسي فيكفي أن تقرأ هذه القصيدة التي قالها أبو نواس يهجو فيها العرب وقريشًا، والتي يقال: إن الرشيد أطال حبسه فيها، ومطلعها:
نسوق هذا كله لنعطيك صورة من حقد الفرس على العرب وما كان له من أثر في الحياة الأدبية لهؤلاء الشعراء.
وقد وصلنا إلى ما كنا نريد من تأثير هذه الشعوبية في نحل الشعر، فيكفي أن يحاول الشاعر من الموالي الافتخار على العرب ليفكر في أن يثبت أن العرب أنفسهم كانوا قبل أن يتيح لهم الإسلام هذا التغلب يعترفون بفضل الفرس وتقدمهم، ويقولون في ذلك الشعر يتقربون به إليهم ويبتغون به المثوبة عندهم، ولا سيما إذا كانت الحوادث التاريخية والأساطير تُعين على ذلك وتدني منه.
ومن الذي يستطيع أن يُنكر أن الفرس قد سيطروا قبل الإسلام على العراق وأخضعوا لسلطانهم من كان يسكن حضره وباديته من العرب؟ ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أن الفرس قد أرسلوا جيشًا احتل اليمن وأخرج منه الحبشة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر أنه قد كانت بين الفرس والعرب وقائع، وأن ملوك الحيرة كانوا أتباعًا للفرس يوفدون إليهم من حين إلى حين أشراف البادية العربية؟ وإذا كان هذا كله حقًّا فلِمَ لا يستغله الموالي؟ ولم لا يعتزون به على العرب المتغلبين الذين يزدرونهم ويتخذونهم رقيقًا وخدمًا؟
والشعر في مدح سيف بن ذي يزن، وقد زاد ابن قتيبة في أوله هذه الأبيات وهي أبلغ في الدلالة على ما نريد أن ندل عليه، وهي:
فانظر إليه كيف قدم الفرس على الروم في أول الشعر وعلى العرب في سائره، ولو أن العرب غلبوا الروم بعد الإسلام وأزالوا سلطانهم كما أزالوا سلطان الفرس، وأخضعوهم لمثل ما أخضعوا له الفرس، لكان للروم مع العرب شأن يشبه شأن الفرس معهم. ولكن العرب لم يقوضوا سلطان الروم، وإنما اقتطعوا طائفة من أقاليمهم وظلت دولتهم قائمة.
ومن الخير أن نروي أبياتًا قالها إسماعيل بن يسار في الفخر بالفرس، فسترى بينها وبين الشعر الذي يُضاف إلى أبي الصلت ما يحمل على شيء من الشك والريبة. قال:
إلى هذا النحو من نحل الموالي للشعر والأخبار يضيفونها إلى العرب ذكرًا لمآثر الفرس وما كان لهم من سلطان ومجد في الجاهلية، فكان العرب مضطرين إلى أن يجيبوا بلون من النحل يشبه هذا اللون، فيه تغليب للعرب على الفرس وفيه إثبات؛ لأن ملك الفرس في الجاهلية وتسلطهم على العرب لم يكن من شأنه أن يذل هؤلاء أو أن يقدم عليهم أولئك.
ومن هنا مواقف هذه الوفود التي تتحدث أمام كسرى بمحامد العرب وعزتها ومنعتها وإبائهم للضيم. ومن هنا هذه المواقف التي تُضاف إلى ملوك الحيرة والتي تُظهر هؤلاء الملوك أحيانًا عصاة مناهضين للملك الأعظم، ثم من هنا هذه الأيام والوقائع التي كانت للعرب على الفرس كيوم ذي قار.
فأنت ترى أن الشعوبية في مظهرها السياسي الأول قد حملت الفرس على نحل الأشعار والأخبار، وأكرهت العرب على أن يلقوا النحل بمثله.
على أن هذه الشعوبية لم تلبث أن استحالت بعد سقوط الأمويين وقيام سلطان الفرس على يد العباسيين إلى خلاف له صورة علمية أدبية أقرب إلى البحث والجدل في أنواع العلم منها إلى ما كان معروفًا من الخصومة السياسية بين الغالب والمغلوب. وكان هذا النحو من الشعوبية أخصب من النوع السابق وأبلغ من حمل العرب والفرس على النحل والإسراف فيه.
ولعلك تلاحظ أن الكثرة المطلقة من العلماء الذين انصرفوا إلى الأدب واللغة والكلام والفلسفة كانوا من العجم الموالي، وكانوا يستظلون بسلطان الوزراء والمشيرين من الفرس أيضًا. وكانت غايتهم قد استحالت من إثبات سابقة الفرس في الملك والسلطان إلى ترويج هذا السلطان الذي كسبوه أيام بني العباس، وإقامة الأدلة الناهضة على أن الأمر قد رد إلى أهله، وعلى أن هؤلاء العرب الذين حيل بينهم وبين السيادة الفعلية ليسوا ولم يكونوا أهلًا لهذه السيادة. ومن هنا كان هؤلاء العلماء والمناظرون أصحاب ازدراء للعرب ونعي عليهم وغض من أقدارهم.
وأنت تجد في «البيان والتبيين» كلامًا كثيرًا تستبين منه إلى أي حد كان الفرس يعجبون بآثار الأمم الأعجمية ويقدمونها على آثار العرب؛ فهم يعجبون بخطب الفرس وسياساتهم، وعلم الهند وحكمتها، ومنطق اليونان وفلسفتهم. وهم ينكرون على العرب أن يكون لهم شيء يُقارب هذا، والجاحظ ينفق ما يملك من قوة ليثبت أن العرب يستطيعون أن ينهضوا لكل هذه المفاخر الأعجمية وأن يأتوا بخير منها.
ولعل أصدق مثال لهذه الخصومة العنيفة بين علماء العرب والموالي هذا الكتاب الذي كتبه الجاحظ في «البيان والتبيين» وهو «كتاب العصا»، وأصل هذا الكتاب كما تعلم أن الشعوبية كانوا ينكرون على العرب الخطابة، وينكرون على خطباء العرب ما كانوا يصطنعون أثناء خطابتهم من هيئة وشكل وما كانوا يتخذون من أداة، وكانوا يعيبون على العرب اتخاذ العصا والمخصرة وهم يخطبون، فكتب الجاحظ «كتاب العصا» ليثبت فيه أن العرب أخطب من العجم، وأن اتخاذ الخطيب العربي للعصا لا يغض من فنه الخطابي، أليست العصا محمودة في القرآن والسنة وفي التوراة وفي أحاديث القدماء؟ ومن هنا مضى الجاحظ في تعداد فضائل العصا حتى أنفق في ذلك سفرًا ضخمًا.
والذي يعنينا من هذا كله هو أن نلاحظ أن الجاحظ وأمثاله من الذين كانوا يعنون بالرد على الشعوبية، مهما يكن علمهم ومهما تكن روايتهم، لم يستطيعوا أن يعصموا أنفسهم من هذا النحل الذي كانوا يضطرون إليه اضطرارًا ليسكتوا خصومهم من الشعوبية، فليس من اليسير أن نُصدق أن كل ما يرويه الجاحظ من الأشعار والأخبار حول العصا والمخصرة ويضيفه إلى الجاهليين صحيح. ونحن نعلم حق العلم أن الخصومة حين تشتد بين الفرق والأحزاب فأيسر وسائلها الكذب. كانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم، وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم.
ونوع آخر من النحل دعت إليه الشعوبية، تجده بنوع خاص في كتاب «الحيوان» للجاحظ وما يشبهه من كتب العلم التي ينحو بها أصحابها نحو الأدب؛ ذلك أن الخصومة بين العرب والعجم دعت العرب وأنصارهم إلى أن يزعموا أن الأدب العربي القديم لا يخلو أو لا يكاد يخلو من شيء تشتمل عليه العلوم المحدثة، فإذا عرضوا لشيء مما في هذه العلوم الأجنبية فلا بد من أن يثبتوا أن العرب قد عرفوه أو ألموا به أو كادوا يعرفونه ويلمون به.
ومن هنا لا تكاد تجد شيئًا من هذه الأنواع الحيوانية التي عرض لها الجاحظ في كتاب «الحيوان» إلا وقد قالت العرب فيه شيئًا قليلًا أو كثيرًا طويلًا أو قصيرًا، واضحًا أو غامضًا. يجب أن يكون للعرب قول في كل شيء وسابقة في كل شيء، هم مضطرون إلى ذلك اضطرارًا ليثبتوا فضلهم على هذه الأمم المغلوبة، واضطرارهم يشتد ويزداد شدة بمقدار ما يفقدون من السلطان السياسي وبمقدار ما ترفع هذه الأمم المغلوبة رءوسها.
وأنا أستطيع أن أمضي في تفصيل هذه الآثار المختلفة التي تركتها الشعوبية في الأدب العربي وفي نحل الشعر بنوع خاص، ولكني لم أكتب هذا الكتاب إلا لِأُلِمَّ إلمامًا بكل هذه الأسباب التي تحمل على الشك في قيمة ما يُضاف إلى الجاهليين من الشعر، وأحسبني قد ألممت بالشعوبية وتأثيرها في ذلك إلمامًا كافيًا.
(٦) الرواة ونحل الشعر
فإذا فرغنا من هذه الأسباب العامة التي كانت تحمل على النحل والتي تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين، فلن نفرغ من كل شيء، بل نحن مضطرون إلى أن نقف وقفات قصيرة عند طائفة أخرى من الأسباب، ليست من العموم والاطراد بمنزلة الأسباب المتقدمة، ولكنها ليست أقل منها تأثيرًا في حياة الأدب العربي القديم، وحثًّا على تحميل الجاهليين ما لم يقولوا من الشعر والنثر. أريد بها هذه الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا إلينا أدب العرب ودونوه، وهؤلاء الأشخاص هم الرواة، وهم بين اثنتين: إما أن يكونوا من العرب، فهم متأثرون بما كان يتأثر به العرب، وإما أن يكونوا من الموالي، فهم متأثرون بأشياء أخرى هي التي أُريد أن أقف عندها وقفات قصيرة كما قلت.
ولعل أهم هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيما: مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث، وانصرافهم عن أصول الدين وقواعد الأخلاق إلى ما يأباه الدين وتنكره الأخلاق.
ولعلي لا أحتاج بعد الذي كتبته مفصلًا في الجزء الأول من «حديث الأربعاء» إلى أن أطيل في وصف ما كان فيه هؤلاء الناس من اللهو والمجون.
ولست أذكر هنا إلا اثنين إذا ذكرتهما فقد ذكرت الرواية كلها والرواة جميعًا، فأما أحدهما فحماد الراوية، وأما الآخر فخلف الأحمر.
كان حماد الراوية زعيم أهل الكوفة في الرواية والحفظ، وكان خلف الأحمر زعيم أهل البصرة في الرواية والحفظ أيضًا. وكان كلا الرجلين مسرفًا على نفسه، ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار. وكان كلا الرجلين سكيرًا فاسقًا مستهترًا بالخمر والفسق. وكان كلا الرجلين صاحب شك ودعابة ومجون.
فأما حماد فقد كان صديقًا لحماد عجرد وحماد الزبرقان ومطيع بن إياس، وكلهم أسرف فيما لا يليق بالرجل الكريم الوقور. وأما خلف فكان صديقًا لوالبة بن الحباب وأستاذًا لأبي نواس. وكان هؤلاء الناس جميعًا في أمصار العراق الثلاثة مظهر الدعابة والخلاعة؛ ليس منهم إلا من اتهم في دينه ورُمي بالزندقة، يتفق على ذلك الناس جميعًا، لا يصفهم أحد بخير، ولا يزعم لهم أحد صلاحًا في دين أو دنيا.
وأهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حماد؛ عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب. وأهل البصرة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية خلف؛ عنه أخذوا ما أخذوا من شعر العرب أيضًا. وأهل البصرة مجمعون على تجريح الرجلين في دينهما وخلقهما ومروءتهما، وهم مجمعون على أنهما لم يكونا يحفظان الشعر ويحسنان روايته ليس غير، وأنهما كانا كذلك شاعرين مجيدين يصلان من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يرويان وما ينحلان.
ويزعمون أنه وضع لامية العرب على الشنفرى، ولامية أخرى على تأبط شرًّا رُويت في «الحماسة».
وأكبر الظن أنه كان يؤجر نفسه للقبائل، يجمع لكل واحدة منها شعرًا يضيفه إلى شعرائها، وليس هذا غريبًا في تاريخ الأدب، كان مثله كثيرًا في تاريخ الأدب اليوناني والروماني.
وإذا فسدت مروءة الرواة كما فسدت مروءة حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني، وإذا أحاطت بهم ظروف مختلفة تحملهم على الكذب والنحل ككسب المال والتقرب إلى الأشراف والأمراء والظهور على الخصوم والمنافسين ونكاية العرب — نقول: إذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء.
والعجب أن رواة لم تُفسد مروءتهم ولم يُعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضًا ونحلوا؛ فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتًا:
ويعترف الأصمعي بشيء من ذلك.
ويقول اللاحقي إن سيبويه سأله عن إعمال العرب «فَعِلًا» فوضع له هذا البيت:
ومثل هذا كثير.
وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من شك في أنهم كانوا يتخذون النحل في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب، وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث؛ نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب. فليس من شك عند من يعرف أخلاق الأعراب في أن هؤلاء الناس حين رأوا إلحاح أهل الأمصار عليهم في طلب الشعر والغريب وعنايتهم بما كانوا يلقون إليهم منهما، قدروا بضاعتهم واستكثروا منها. ثم لم يلبثوا أن أحسوا ازدياد حرص الأمصار على هذه البضاعة، فجدوا في تجارتهم، وأبوا أن يظلوا في باديتهم ينتظرون رواة الأمصار، ولِمَ لا يتولون هم إصدار بضاعتهم بأنفسهم؟ ولما لا يهبطون الأمصار يحملون الشعر والغريب والنوادر إلى الرواة فيريحونهم من الرحلة ومشاق السفر ونفقاته؟ ويحدث التنافس بينهم، ويفيدون من ذلك ما لم يكونوا يفيدون حين لم يكن يقتحم الصحاري إليهم إلا رجل كالأصمعي أو أبي عمرو بن العلاء؟
ويحدثنا ابن سلام عن أبي عبيدة أن داود بن متمم بن نويرة ورد البصرة فيما يقدم له الأعراب، فأخذ أبو عبيدة يسأله عن شعر أبيه وكفاه حاجته.
ونظن أننا قد بلغتا ما كنا نُريد من إحصاء الأسباب المختلفة التي حملت على نحل الشعر وإضافته إلى الجاهليين، والتي تضطرنا نحن في هذا العصر إلى أن نقف موقف الشك والاحتياط أمام هذا الشعر.
كل شيء في حياة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى كان يدعو إلى نحل الشعر وتلفيقه، سواء في ذلك الحياة الصالحة حياة الأتقياء والبررة، والحياة السيئة حياة الفسق وأصحاب المجون.
فإذا كان الأمر على هذا النحو، فهل تظن أن من الحزم والفطنة أن نقبل ما يقول القدماء في غير نقد ولا تحقيق؟
وقد قدمنا أن هذا الكذب والنحل في الأدب والتاريخ لم يكونا مقصورين على العرب، وإنما هما حظ شائع في الآداب القديمة كلها، فخير لنا أن نجتهد في تعرف ما يمكن أن تصح إضافته إلى الجاهليين من الشعر، وسبيل ذلك أن ندرس الشعر نفسه في ألفاظه ومعانيه بعد أن درسنا ما يُحيط به من الظروف.