شعر مضر
(١) الشعر المضري والنحل
عرفت أنَّا نرفض شعر اليمن في الجاهلية، ونكاد نرفض شعر ربيعة أيضًا، ونفترض أن ما يُضاف إلى هذين الفريقين من العرب في الجاهلية لا يُمثل إلا الذكرى، ولا يشهد إلا بأن هؤلاء الناس كانت لهم قدمة في الحياة الراقية قبل الإسلام من الوجهة الأدبية، كما كانت لهم قدمة في هذه الحياة من الوجهة السياسية، ولكن حقيقة هذا كله ضاعت وأنسيتها العرب بعد الإسلام، فتكلفت منها ما استطاعت أن تتكلف، وتكلف لها الرواة والقصاص ما استطاعوا أن يتكلفوا. وكان أشد المؤثرات في هذا التكلف التنافس السياسي والعصبية الجنسية، وهذه الخصومات التي لا حد لها والتي شجرت بين العرب بمجرد أن استقر السلطان في مضر، والتي كانت تشتد وتحتد في بعض النواحي، وعندما كان الخلفاء والأمراء من بني أمية وعمالهم يعتزون بهذا الحي من العرب دون غيره، ثم يميلون عنه إلى حي آخر.
كل ذلك دعا كما قدمنا إلى أن تستبق الأمم العاملة في الحياة الإسلامية الأموية استباقًا قويًّا، وتجتهد في أن تُؤيد مطامعها وآمالها الحاضرة بقديمها ومجدها في العصور الماضية.
ذلك صحيح بالقياس إلى العرب، وهو صحيح بالقياس إلى الفرس، وهو صحيح بالقياس إلى غير أولئك وهؤلاء من الذين اشتركوا في الحياة السياسية الأموية عن قرب أو بعد، ولسنا نريد أن نُعيد القول في ذلك، وإنما نريد أن نقول: إن هذه العصبية السياسية التي اضطرت اليمنية والربعية والموالي إلى أن يحملوا الشعر على الجاهلية حملًا لم تعف المضريين أنفسهم من آثارها الأدبية، كما أنها لم تعفهم من آثارها السياسية والاجتماعية. فقد كان لمضر حظها من المجد في الإسلام، وكان من حقها أن تعتز بما أقر الله فيها من النبوة والخلافة، ولكن هذا نفسه كان يحملها على أن تتزيد من المجد وعلى أن تذكر قديمها، وترفع من شأنه إن كان خاملًا، وتخلقه خلقًا إن لم يكن موجودًا؛ وقد ضربنا لك الأمثال على هذا فيما تقدم من فصول هذا الكتاب، وقد عرفت كيف كانت قريش أكثر القبائل المضرية تكلفًا للشعر في الإسلام؛ تحمله على الجاهلية: تضعه إن استطاعت، وتستأجر من يضعه لها إن عجزت هي عن وضعه. وقد عرفت كيف كانت الخصومة بين قريش والأنصار سببًا في أن وضع أولئك وهؤلاء كثيرًا من الشعر حملوه على شعرائهم الذين عاصروا النبي وأيدوه أو جاهدوه، وليس في ذلك شيء من الغرابة! فالناس جميعًا يعلمون أن الشعوب الناهضة أحرص ما تكون إبان نهضتها وظفرها على أن تتكثر وتتزيد من المجد، وتُضيف إلى حديثها الباهر قديمًا يلائمه ويشد أزره. وليس أشق على الشعوب الناهضة الظافرة من أن تُعيَّر خمولها وضعة شأنها قبل النهوض والظفر. ولنا فيما تكلف اليونان والرومان إبان نهضتهم من الأخبار والشعر والأساطير ينوهون فيها بقديم لم يكن له في حقيقة الأمر كبير شأن، أصدق دليل على ما نقول.
وأنت تستطيع أن تنظر في حياة الأمم الشرقية الناهضة الآن، فسترى أنها شديدة الحرص على الرفع من أمر قديمها، لا تكره أن ينتهي بها ذلك إلى التكلف والافتنان في النحل، فالشعوب تتكلف الرفع من شأن قديمها حين تذل لتمحو عن نفسها ضيم هذا الذل، ولتتعزى عن الحاضر بالماضي، والشعوب تفعل هذا نفسه حين تعز لتلائم بين قديمها وحديثها، ولتقطع ألسنة هؤلاء الخصوم الذين يستطيعون أن يعيروها ما كانت فيه قبل الفوز من ضعة وخمول.
وإذن فقد نحلت مضر للعصبية كما نحل غيرها، ونحلت مضر لذهاب شعرها الصحيح كما نحل غيرها. وإذن فأقل ما توجبه علينا الأمانة العلمية أن نقف من الشعر المضري الجاهلي، لا نقول موقف الرفض أو الإنكار، وإنما نقول: موقف الشك والاحتياط.
نحن لا نقف من الشعر المضري الجاهلي موقف الرفض أو الإنكار؛ لأن الصعوبة اللغوية التي اضطرتنا إلى أن نرفض شعر الربعيين واليمنيين لا تعترضنا بالقياس إلى المضريين، فقد بينَّا لك غير مرة أنَّا نعتقد أن لغة القرشيين قد ظهرت في الحجاز ونجد قبيل الإسلام، وأصبحت لغة أدبية في هذا القسم الشمالي من بلاد العرب، وإذن فليس يبعد بوجه من الوجوه أن يكون الشعراء الذين نجموا في هذه الناحية قد قالوا الشعر في هذه اللغة القرشية الجديدة، بل نحن لا نشك في هذا ولا نتردد في القطع به؛ فقد نعجز عن أن نفهم لغة القرآن واستقامتها على ما استقامت عليه من لفظ ومعنى وأسلوب دون أن تكون لهذه اللغة سابقة أدبية قوية مكنتها من أن تنشأ وتنمو وتستحيل من طور إلى طور حتى يصل بها القرآن إلى هذا الطور الكامل البديع. لسنا نشك في أن قد كان لمضر شعر في الجاهلية، ولسنا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قديم العهد بعيد السابقة أقدم وأبعد مما يظن الرواة والمتقدمون من العلماء. ولكننا لا نشك أيضًا في أن هذا الشعر قد ذهب وضاعت كثرته، ولم يبقَ لنا منه إلا شيء قليل جدًّا لا يكاد يمثل شيئًا، وهذا المقدار القليل الذي بقي لنا من شعر مضر قد اضطرب وكثر فيه الخلط والتكلف والنحل، حتى أصبح من العسير جدًّا، إن لم يكن من المستحيل، تخليصه وتصفيته.
وأنت مهما تكن حريصًا على أن تقبل ما يقول القدماء من صحة الشعر المضري الجاهلي، مضطر أن تقف موقف الحيرة أمام طائفة من المسائل لم يبقَ الآن إلى حلها من سبيل: فكيف نشأ الشعر المضري مثلًا؟ وما أصل هذه الأوزان التي يعتمد عليها؟ وكيف نشأت القافية؟ أو بعبارة أدق: كيف التزمت القافية في القصيدة؟ أو بعبارة أبلغ في الدقة: كيف نشأت القصيدة؟ وهل عرف العرب الجاهليون المقطوعات القصار قبل أن يعرفوا القصائد الطوال؟ وهل عرف العرب قصائد لا يلتزم فيها قافية واحدة، وإنما تعتمد على قوافٍ مختلفة تقل وتكثر باختلاف حظ القصيدة من القصر والطول؟ وأي الأوزان العروضية كان أسبق إلى الوجود؟ وماذا كانت المقاييس التي اعتمد العرب عليها في تخيل هذه الأوزان؟
هذا كله بالقياس إلى الصناعة الشعرية المادية الصرفة، ولك أن تُلقي طائفة من المسائل الأخرى ليست أقل من هذه المسائل صعوبة، وهي متصلة بالمعاني الشعرية: فكيف تصور العرب في أول أمرهم وحدة القصيدة من الوجهة المعنوية الصرفة؟ وكيف نشأت عندهم هذه الوحدة، وكيف احتال العرب في تكوين سنتهم الشعرية من بدء القصيدة على نحو معين، والانتقال من موضوع إلى موضوع، وتحقيق الصلة بين الموضوعات المختلفة التي تشتمل عليها القصيدة؟ ثم كيف نشأت عند العرب هذه الصور الشعرية التي تعتمد حينًا على الحقيقة وحينًا على المجاز وحينًا آخر على التشبيه والكناية؟
وأنت تستطيع أن تُلقي طائفة أخرى من المسائل لا تمس وزن الشعر وقافيته ومعناه، وإنما تمس ألفاظه من الوجهة اللغوية والنحوية والصرفية: فهل كانت لغة الشعر ونحوه وصرفه كما نراها في شعر هؤلاء الجاهليين الذين وصل إلينا شعرهم؟ أم هل كانت لهذا الشعر في أول أمره لغة أخرى تخالف لغته التي نشهدها الآن قليلًا أو كثيرًا؟
كل هذه مسائل ليس إلى حلها من سبيل؛ لأنَّا نعجز عجزًا لا شك فيه عن أن نعرف أولية الشعر الجاهلي، ونعجز عجزًا لا شك فيه عن أن نلم من هذه الأولية بما يمكننا من أن نحاول حل هذه المسائل حلًّا صحيحًا أو مقاربًا. ونحن لا نستطيع أن نقبل أن الشعر العربي قد نزل من السماء، أو نشأ كاملًا كما هو عند زهير والنابغة. وإنما نشأ الشعر ضعيفًا واهنًا مضطربًا، ثم قوي ونما واتسقت أجزاؤه شيئًا فشيئًا، حتى بلغ أشده قبل العصر الذي ظهر فيه الإسلام، وذهبت عنا طفولة هذا الشعر وذهبت عنا مظاهر تطوره أيضًا.
ومن غريب الأمر أنك تستطيع أن تلتمس القديم من الشعر الجاهلي المضري فلا تظفر منه بشيء، ولعل أقدم الشعراء المضريين الذين يذكرهم الرواة عبيد بن الأبرص، وقد رأيت أن ابن سلام لا يعرف له إلا بيتًا واحدًا، وهو:
وأن الذين أتموا هذه القصيدة من الناحلين قد اجتهدوا في أن يظهروا فيها كثيرًا من الاضطراب العروضي، وذلك يدل على أن شيئًا من الذكرى كان قد بقي في نفوس العرب يمثل اضطراب الشعر في أوليته من هذه الناحية العروضية، ولكن المتكلفين لم يحسنوا تمثيل هذا الاضطراب، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه القصيدة فستحس في غير مشقة أن هذا الاضطراب متكلف مصنوع، صنعه قوم يحسنون العلم بقواعد العروض وأصوله.
ثم إن هذا الشعر المتأخر نفسه لم يسلم من الفساد والاضطراب، ومن أن يزاد فيه وينقص منه ويغير لفظه، متأثرًا في هذا كله بتلك الأسباب التي قدمتها في الكتاب الثالث. ولعل من أقوى الأدلة على هذا قصيدة أبي طالب التي يمدح بها النبي ويقول فيها:
وكيف تستطيع أن تقطع في هذا بشيء حين يقال: إن الأصمعي قال: إنه هو الذي وضع على الأعشى قوله:
وإن غير الأصمعي اعترف بأنه وضع على النابغة قوله:
ثم لا تنسَ أن للمضريين في جاهليتهم أحاديث وأساليب وقصصًا كما لليمنيين والربعيين، وأن هذه الأحاديث والأساطير والقصص قد استتبعت شعرًا أضيف إلى المضريين، كما استتبعت الأخرى شعرًا أضيف إلى الربعيين واليمنيين. فكما أن لليمنيين أحاديث الكُلاب وأخبار سيل العرم وما يشبه ذلك، وللربعيين أحاديث البسوس، فللمضريين أحاديث داحس والغبراء وأحاديث الفجار وأحاديث بعاث. وكل هذه الأحاديث لها فيما يظهر شعراء قد دونوها وقالوا فيها الشعر، ولكن موضع البحث هو أن نعرف أكان هؤلاء الشعراء جاهليين أم إسلاميين، أكان هذا الشعر صحيحًا أم منحولًا؟
والخلاصة أن قولنا بأن للمضريين شعرًا صحيحًا في الجاهلية ليس من شأنه أن يريحنا أو يحملنا على الدعة والاطمئنان، بل من شأنه أن يضاعف حظنا من المشقة والعناء! لأننا مضطرون إلى أن نبحث عن هذا الشعر الصحيح، ونحن مضطرون في هذا البحث إلى أن نلاحظ كل ما قدمناه من أسباب النحل، ونلاحظ بعد ذلك أصولًا وقواعد أخرى فنية وعلمية لم نحتج إليها في شعر اليمنيين والربعيين. وسترى عندما نعرض للشعراء المضريين أن الأمر في تحقيق هذا الشعر ليس من اليسر واللين بحيث يُخيل إليك.
على أنا نقدم منذ الآن أننا لن نعرض لهؤلاء الشعراء وشعرهم كما نحب ولا كما ينبغي أن نفعل؛ لأنا لا نقصد في هذا الكتاب إلى التحقيق العلمي التفصيلي، وإنما نقصد إلى عرض النماذج وبسط ما يمكن بسطه من مذاهب البحث ومناهج التحليل الشعري. فأما النقد التفصيلي التحليلي الذي يعرض فيه الباحث لكل بيت فيدرسه من وجوهه المختلفة لفظًا ومعنى وأسلوبًا ووزنًا وقافية واتصالًا بالعصر الذي قيل فيه، فله موضع غير هذا الموضع، وهو لا يُعرض على الكثرة من القراء، وإنما يُعرض على الذين يتخذون هذا النحو من العلم صناعة وفنًّا.
(٢) كثرة الشعراء المضريين
على أن نظرة فيما حفظت كتب الأدب والتاريخ من أسماء الشعراء المضريين في الجاهلية كفيلة بأن تقفك موقفًا لا يخلو من الحيرة، فهذه الأسماء كثيرة كثرة غريبة، وهذه الكثرة مناقضة لطبيعة الأشياء من جهة، ولما حُفظ من الشعر المضري القديم من جهة أخرى. فأما طبيعة الأشياء فتأبى فيما يظهر أن يكون الشعراء المضريون من الكثرة بحيث لا تخلو منهم قبيلة ولا فصيلة ولا مدينة، وقد يكون من الغريب ألا يجتمع فريق من العرب في مكان أو تحت اسم من الأسماء دون أن يكون لهم شاعر أو شعراء. وقد يقال: إن الشعر كان في ذلك العصر حاجة اجتماعية لازمة قاسية لا تستطيع أن تستغني عنها القبيلة، ولا أن يستغني عنها الحي من أحياء العرب صغر أو كبر، قل أو كثر، فوجود الشاعر في القبائل كلها والأحياء كلها والفصائل كلها ملائم كل الملائمة لطبيعة الحياة البدوية التي لم تكن تخلو من خصومة متصلة وحرب تشب وصلح يُعقد. وكما أن كل حي أو قبيلة أو جماعة في حاجة إلى من يهيئ لها مرافقها المادية، فهي كذلك في حاجة إلى من يهيئ لها مرافقها المعنوية أدبية كانت هذه المرافق أو سياسية أو دينية. ولكنا نلاحظ أن هذه الحاجات المادية نفسها على لزومها وقسوتها لم تضطر ولا يمكن أن تضطر القبائل البدوية إلى الاستكثار من الذين يهيئون لهم هذه المرافق التي تمس إليها الحاجة، كما استكثرت من الشعراء الذين كانوا يهيئون لها مرافقها الأدبية والسياسية. والمعروف أن الحاجة تشتد وتقوى كلما عظمت الحضارة واشتد سلطانها على الناس. والمعروف أيضًا أن قانون توزيع العمل الاجتماعي يسير ببطء في الحياة البدوية، وأنه إنما يصعب ويتعقد مع نمو الحضارة وقوتها، فحاجة القبيلة البدوية مادية كانت أو معنوية أبسط من حاجة الأمة المتحضرة، ومن ثم كان العمال الذين تدعو إليهم هذه الحاجة أقل في القبيلة البدوية منهم في الأمة المتحضرة، هم أقل عددًا وأقل تنوعًا أيضًا. وما تزال القبائل البدوية تضطرب في بلاد العرب وغير بلاد العرب، وما تزال حاجاتها كما كانت في العصر الجاهلي، ولعلها زادت وتعقدت بعض الشيء، وما نرى مع ذلك أن حظها من الشعر والشعراء الآن كحظها من الشعر والشعراء في العصر الجاهلي، أو كالحظ الذي يضيفه لها الرواة من الشعر والشعراء في ذلك العصر. ولا تقل: انحطت الأمة العربية البدوية بعد رقي، وجهلت بعد علم، وقست بعد لين؛ فما نظن أن أهل البادية في البلاد العربية قبل الإسلام كانوا خيرًا من أهل البادية في البلاد العربية الآن، أو كانوا أصفى منهم طبعًا، وأشد منهم نفاذ بصيرة وتوقد قريحة وتهيؤًا للشعر.
فكل هذا يدل على أن الفكرة التي كانت شائعة في القرن الثالث بين علماء الأمصار كانت تمثل العرب كأنهم أعظم الأمم حظًّا من الشعر، أو قل: كانت تمثل العرب على أنهم جميعًا شعراء، وظاهر أن هذا لا يمكن أن يكون من الحق في شيء.
على أن العصر العباسي لم يخل من علماء محققين كان لهم من الذوق والفطنة والاقتصاد ما يعصمهم من التورط في مثل هذا اللغو الفاحش، وربما كان ابن سلام أحسن مثل لهؤلاء العلماء المحققين الذين لم يتورطوا في كذب ولم يتعمدوا إسرافًا ولم يقصدوا إلى تضليل، وإنما احتاطوا ما استطاعوا الاحتياط؛ فإن وقعوا بعد ذلك في الخطأ فذلك حكم العصر والبيئة وحظ ما كان لهم من رقي في ملكة النقد.
هذا؛ ولم نذكر شعراء الجن، ولا هذه الهواتف التي كانت تهتف بالناس شعرًا مرة ونثرًا مرة أخرى، كما أننا لم نذكر هؤلاء الشعراء الذين ذهبت أسماؤهم وبقيت أشعارهم، ورُويت منها في كتب الأدب والنحو والتاريخ القصائد الطوال والمقطوعات القصار والأبيات المفردة.
فأنت ترى في هذا كله أن القدماء أنفسهم لم يكونوا متفقين في الرأي بإزاء هؤلاء الشعراء وما يُضاف إليهم من الشعر، فبينما كان المحققون من أهل البصرة يحتاطون ويتشددون في الاحتياط كان أهل الكوفة يقبلون ما يُروى لهم في شيء من اللين والمرونة، ويضيفون إليه في كثير من الأحيان. وكان أهل بغداد كأهل الكوفة استعدادًا لقبول ما يُروى وتزيدًا في الرواية، على أن أهل البصرة أنفسهم لم يبرءوا من النحل! فقد كان منهم خلف كما كان من أهل الكوفة حماد وأبو عمرو الشيباني. ومهما يكن في تشدد البصريين واحتياط ابن سلام ومن إليه فنحن نقف منهم أيضًا موقف التردد، ونستكثر ما اطمأنوا إليه، ونرى أن المنصفين الصادقين منهم قد خدعوا وقبلوا ما لم يكن ينبغي أن يقبلوا، وكان أمرهم في ذلك كأمر المحققين من أصحاب الحديث، عنوا بنقد السند وتصحيحه، وانصرفوا إلى هذه العناية ولم يكادوا يعنون بنقد ما كان يُحمل إليهم من الأخبار والأشعار إذا ثبت لهم أن السند صحيح أو قريب من الصحيح. ومع ذلك فتصحيح السند وحده لا يكفي، فقد يكون الراوي صادقًا مأمونًا محتاطًا، ولكنه يخدع مع ذلك عن نفسه وعما يروى له، وقد يكون الراوي من المهارة والدقة والفطنة بحيث يستطيع أن يخفي أمره على الناس ويظهر لهم مظهر الصادق التقي الورع الأمين. وهم يحدثوننا أن أبا عمرو الشيباني كان يجمع شعر القبائل في الكوفة، فإذا جمع شعر قبيلة انصرف إلى المصحف فكتبه بخطه، وهم يحدثوننا بعد هذا أنه كان شديد الكلف بشرب الخمر، ثم هم يحدثوننا أنه كان كثير الوضع للشعر.
(٢-١) النقد الداخلي
فنحن معرضون لأن نخدع عن أنفسنا في أمر الرواة؛ إما لأنهم أنفسهم مخدوعون، وإما لأنهم خادعون. وإذن فالعناية بالسند لا تكفي لتصحيح ما يصل إلينا من طريقه، ولا بد لنا من أن نتجاوز هذا النقد الخارجي إلى نقد داخلي، إن صح هذا التعبير، إلى نقد يتناول النص الشعري نفسه في لفظه ومعناه ونحوه وعروضه وقافيته. هذا النقد لازم؛ لأنه وحده يستطيع أن يظهرنا على قيمة ما يُروى لنا من الشعر أصحيح هو أم غير صحيح؟ ولكنه مع الأسف الشديد ليس يسيرًا ولا منتجًا الآن بالقياس إلى الشعر الجاهلي، فنحن لا نستطيع أن نقول في يقين أو ترجيح علمي إن هذا النص ملائم من الوجهة اللغوية للعصر الجاهلي أو غير ملائم؛ لأن لغة هذا العصر الجاهلي لم تُضبط ضبطًا تاريخيًّا ولا علميًّا صحيحًا، وكل ما صح لدينا منها صحة قاطعة ولكنها في حاجة إلى التدوين إنما هي لغة القرآن. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن القرآن قد استعمل كل الألفاظ التي كانت شائعة مألوفة بين المضريين لأيام النبي؟ ومن ناحية أخرى من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن هذه اللغة التي نجدها في شعر الأمويين والعباسيين وفي معاجم اللغة كانت كلها شائعة مألوفة عند المضريين إبان ظهور الإسلام، ونحن نعلم علمًا لا يقبل الشك أن العرب قد خلطوا خلطًا بعد الإسلام وأن لغة مضر قد امتصت لغات قبائل غير مضرية أيام بني أمية، كما استمدت ألفاظًا أعجمية بعد الفتح وبعد الاختلاط بالفرس وغير الفرس؟ وما دمنا لم نصل إلى تدوين اللغة المضرية الجاهلية تدوينًا تاريخيًّا صحيحًا فنحن عاجزون عن أن نتخذ هذه اللغة مقياسًا علميًّا لتصحيح ما يضاف إلى المضريين قبل الإسلام أو رفضه.
وأنت تستطيع أن تقول مثل هذا بالقياس إلى النحو والصرف والعروض، فمن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن النحو العربي والصرف كما هما في كتاب سيبويه مثلًا يمثلان ما كان معروفًا من نحو وصرف عند المضرية قبل الإسلام؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن الجاهليين من المضريين قد اصطنعوا هذه الأوزان العروضية كلها على نحو ما دونها الخليل؟ بل من ذا الذي يستطيع أن يعين لنا الأوزان التي استُعملت قبل الإسلام والتي استُحدثت بعد الإسلام؟
وإذن فهذا النحو من المقاييس العلمية مع أنه النحو الوحيد الذي يستطيع أن ينتهي بنا إلى يقين أو شيء يشبه اليقين مغلق أمامنا، لا يستطيع أن ينتهي بنا إلى الحق في أمر هذا الشعر المضري الجاهلي. ونحن مع ذلك مطمئنون إلى هذا، ومطمئنون إلى أن هذا الشعر الذي صح قد اختلط بما حمل على المضريين بعد الإسلام، فكيف السبيل إلى تمييز الصحيح من غيره؟
(٢-٢) غرابة اللفظ
هنالك مذهب خداع يذهبه القدماء والمحدثون في تحقيق الشعر الجاهلي، وخلاصته النظر إلى الألفاظ التي يأتلف منها الشعر؛ فإن كانت متينة رصينة كثيرة الغريب قيل: إن الشعر جاهلي. وإن كانت سهلة لينة مألوفة قيل: إن الشعر مصنوع. وهذا المذهب يقوم بالطبع على أن الشعراء الجاهليين كانوا أهل بادية يعيشون في صحراء ليس بينها وبين الحضارة اتصال، فظلت لغتهم بدوية متأثرة بإقليم الصحراء محتفظة بشيء من الغربة والحوشية يميزها من لغة الحضر التي تأثرت بالترف ولين العيش وقبلت تأثير اللغات الأجنبية والأجناس الأجنبية أيضًا. فإذا عرض لأصحاب هذا المذهب شعر يُضاف إلى الجاهليين وفيه سهولة وإسفاف ولين التمسوا لذلك العلل، كما يصنعون في شعر عدي بن زيد؛ فكثير من هذا الشعر سهل لين مسف، وهو مع ذلك يُضاف إلى هذا الشاعر الجاهلي المضري، يُضيفه إليه علماء رواة ثقات معروفون بالصدق والأمانة. وإذن فلا بد من تعليل هذا اللين والإسفاف. وليس في هذا التعليل شيء من المشقة ولا العسر؛ فقد كان عدي من أهل الحيرة؛ أي كان متصلًا بحضارة الفرس، وكان ينفق في هذه البلاد الخصبة حياة راضية، لا تخلو من نعومة ولين، فلا جرم رق شعره ولان، وخالف في هذه الرقة واللين ما هو مألوف في شعر الجاهليين عامة والمضريين خاصة.
ولكن هنالك شعراء آخرين عاشوا في الحيرة، وعاشوا عند الغسانيين في أطراف الشام، وقضوا في هذين الإقليمين حياة ناعمة هنية، وظل شعرهم في ذلك شديد الأسر قوي المتن رصينًا متينًا، حظ الشدة فيه أكثر من حظ اللين، ولنضرب لذلك مثلًا النابغة الذبياني؛ فقد اتصل بالنعمان — فيما يقول الرواة — اتصالًا شديدًا، وتحضر واتخذ آنية الذهب والفضة، وظفر من عطاء الغسانيين بشيء كثير، وهو مع ذلك قوي الشعر عظيم الحظ من الشدة والصلابة. فإن قلت فقد نبغ النابغة بعد أن تقدمت به السن، ولم يتصل بملوك الحيرة والشام إلا بعد أن تم تكوينه، فلم يكن اليسير أن تتغير لغته أو لهجته على حين نشأ عَدِيُّ بن زيد نشأة حضرية، فقد وُلد في الحيرة، وتأثر في تربيته ونشأته كلها بحياة الفرس، قلت: هناك شاعر آخر يُذكر اسمه مع النابغة لأنه نادم النعمان ويقال: إنه وشى بالنابغة إلى النعمان، ويقال أيضًا: إنه هوى المتجردة امرأة النعمان وشبب بها، وهذا الشاعر هو المنخَّل اليشكري، وهو بدوي النشأة لم يتصل بالنعمان إلا بعد أن تقدمت به السن، والرواة يروون له قصيدة ما نظن أن شعراء بغداد في العصر العباسي قد استطاعوا أن يقولوا شعرًا أقرب منها إلى السهولة واللين، وهي القصيدة التي مطلعها:
والتي يقول فيها:
فكيف رق شعر المنخل ولان إلى هذا الحد وهو كالنابغة بدوي النشأة حديث عهد بالحضارة؟
وهناك شاعر آخر لم يعرف الحضارة إلا لمامًا، وهو الأعشى الذي كان يعيش داخل البلاد العربية، ويختلف — فيما يقول الرواة — إلى أصحاب الحيرة والشام وأقيال اليمن، وأنت تجد في شعر الأعشى من السهولة واللين ما تُنكر، وقد قدمنا لك أن شعر ربيعة كله سهل لين مسف إلا النزر اليسير، وأكثر الشعراء الربعيين كانوا يعيشون في البادية بادية العراق، فما بال شعرهم قد رق ولان دون شعر مضر؟ وما بال شعر فريق من المضريين لم يخل من رقة ولين؟ بل ما بال شعر الشاعر المضري الواحد يصلب ويلين في القصيدة الواحدة؟ وانظر إلى هذه القصيدة التي تُضاف إلى علقمة بن عبدة كيف ابتدئت بهذا البيت الذي يرق حتى لكأنه بغدادي:
ثم يشتد الشاعر حتى يصل إلى الإلغاز في وصف الفرس.
والرواة مع ذلك يصححون هذا الشعر لعلقمة كما يصححون للنابغة شعرًا كثيرًا في صدره صلابة وشدة، وفي آخره سهولة ولين.
أفترى أننا نقبل من هذا الشعر ما صلب واشتد فنصححه، ونرفض منه ما سهل ولان؟
وقد يمكن أن يُقبل هذا لولا أن في الأمر نظرًا يدعو إلى الوقوف والتردد والاحتياط؛ فلا ينبغي أن يؤخذ الغريب الصعب على أنه صحيح لغرابته وصعوبته، ولا أن يؤخذ اللين السهل على أنه منحول لسهولته ولينه؛ ذلك لأن الغرابة قد تكون متكلفة، وقد يتكلفها الراوي أو العالم ويتخذها وسيلة إلى خداع العلماء والمتأدبين، والقدماء أنفسهم يرون أن اللامية التي تنسب إلى الشنفرى منحولة، وهم يزعمون أن خلفًا هو الذي نحلها، ومع ذلك ففيها هذا البيت:
فماذا ترى في صلابة هذا البيت وشدة ألفاظه وغرابتها؟
ولخلف قصيدة رواها صاحب «الأغاني» في أخباره، تستطيع أن تقرأها دون أن تفهم منها شيئًا، فإذا استعنت بما قال حولها أبو الفرج ورجعت إلى المعاجم في تفسيرها عرفت أنها من أفحش الشعر وأقبحه، ومع ذلك فالقصيدة لخلف، وأنت تستطيع أن تضيفها إلى أشد الأعراب حظًّا من العنجهية وإغراقًا في الغريب. ومع ذلك فقد كان شعراء العراق في عصر خلف وقبل عصر خلف يصطنعون أيسر اللفظ وأدناه إلى الفهم حين يريدون الهجاء والإقذاع فيه.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فأنت تستطيع أن تقرأ رجز رؤبة والعجاج وذي الرمة، وأن تقرأ الأرجوزة تأتلف من المائة وتزيد عليها دون أن تفهم منها إلا قليلًا حتى تضطر إلى الاستعانة بالمعاجم. ومع ذلك فقد كان رؤبة والعجاج وذو الرمة يعيشون في العصر الأموي، وتأخر بهم هذا العصر حتى أدرك بعضهم أيام بني العباس، وكان يونس بن حبيب يأخذ الرجز واللغة والغريب عن رؤبة، ولن تجد في الشعر الجاهلي قصيدة تقرب في الشدة والصلابة من رجز هؤلاء الرجاز، وليس من شك عندي في أن هؤلاء الرجاز كانوا يتكلفون الغريب تكلفًا، ويخترعون الألفاظ اختراعًا لأسباب كثيرة قد نعرض لها في غير هذا الكتاب. أفترى أن رجز رؤبة وأبيه وذي الرمة يجب أن يكون جاهليًّا لا لشيء إلا أنه غريب اللفظ، مسرف في شدة المتن وقوة الأسر؟
وما لنا نعرض لرؤبة والعجاج وخلف والقرآن نفسه بين أيدينا نستطيع أن نقرأه وننظر فيه؛ فسترى أنه على شدة متنه وقوة أسره يسير سهل قليل الغريب بالقياس إلى الشعر الجاهلي، ونحن نستطيع أن نقرأ السورة الطويلة من سوره فنفهمها من الوجهة اللغوية دون أن نحتاج احتياجًا شديدًا إلى المعاجم، أفترى أن سهولة القرآن ويسر ألفاظه وقربه من الأفهام تترك مجالًا للشك في صحة نسبته إلى العصر الذي تُلي فيه؟
وحديث النبي الذي صح عنه، تستطيع أن تقرأ أكثره فتفهمه من الوجهة اللغوية من غير مشقة ولا عنف.
وإذن فلا ينبغي أن تُتخذ غرابة اللفظ دليلًا على الصحة والقدم، ولا ينبغي أن تُتخذ سهولة اللفظ دليلًا على النحل والجدة، وإذن فليس غريبًا أن تقرأ الشعر يُضاف إلى الجاهليين فنفهمه دون مشقة ونرجح مع ذلك صحته، وأن نقرأ الشعر يُضاف إلى الجاهليين فلا نفهم منه شيئًا، ونرفض مع ذلك أن يكون صحيحًا.
وإذا لم يكن بد من وضع قاعدة أو شبه قاعدة في هذا الموضوع فنحن ميالون إلى أن نقف موقف الشك من الشعر الذي يسرف صاحبه في الغريب، كما أننا ميالون إلى أن نقف موقف الشك أيضًا من الشعر الذي يسرف صاحبه في السهولة واللين، وإنما الشعر الذي نستعد للنظر في صحته هو هذا الذي يناسب لغة القرآن وما صح من الحديث متانة لفظ ورصانة أسلوب في غير تكلف للغريب ولا إسراف في الحوشية، ويناسب القرآن وما صح من الحديث سهولة مأخذ وقربًا من الفهم في غير إسفاف ولا دنو من السخف. على أننا لا نقول: إننا حين نجد هذا الشعر المتين السهل نقطع بصحته، وإنما قلنا: نستعد للنظر في صحته، فمن الذي يقطع لنا بأن هذا الشعر الذي سهل لفظه ومعناه في رصانة ومتانة لم ينحله شاعر عربي إسلامي أو راوية ماهر في النحل؟
(٢-٣) بداوة المعنى
وقد يذهب قوم إلى التماس أسباب الصحة والنحل في المعنى دون اللفظ، يعتمدون في ذلك على ما يعتمد عليه أصحاب الغريب من أن الشعراء الجاهليين عامة والمضريين خاصة كانوا أهل بادية يعيشون في الصحراء عيشة فيها شظف كثير وخشونة ظاهرة، وإذا كان الشعر في لفظه ومعناه مرآة لحياة الشاعر خاصة، ولحياة البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الشاعر بوجه عام، فيجب أن تكون المعاني التي يقصد إليها شعراء الجاهليين ملائمة لحياة البادية في صورها وأغراضها وموضوعاتها، فإذا وُجد في شعر بعض هؤلاء الشعراء ما يُخالف هذا القانون فيجب أن نلتمس العلة لتفسيره؛ فإن وُجد في حياته ما يفسر هذه المخالفة فذاك، وإلا فالشعر منحول. مثال ذلك: أنك قد لا تجد شيئًا من الغرابة إن رأيت في شعر امرئ القيس ما يدل على ترف وحضارة ما؛ فقد كان امرؤ القيس ملكًا وابن ملك، فمن المعقول أن يكون تصوره وخياله ملائمين لحياة الملوك، ومثال ذلك أيضًا ما قدمنا من شعر المنخل، ومن شعر عدي بن زيد، ففي شعر هذين الشاعرين معانٍ حضرية، ولكنها تُقبل؛ لأنهما اتصلا بالحضارة في العراق عن قريب أو بعيد.
ولكن هذا المذهب ليس أقرب إلى الحق من المذهب الذي سبقه؛ ذلك لأنَّا نُنكر قبل كل شيء أن يكون العرب كلهم أهل بادية، ونحن نعلم أن أهل اليمن كانوا أصحاب حضارة، ونحن نعلم أن كان للمضريين مدن لم تخلُ من حضارة ولم يخلُ أهلها من عيش رقيق في مكة والمدينة والطائف، وإذن فيجب أن يكون الفرق ظاهرًا بين ألفاظ الشعراء الذين نشئوا وعاشوا في المدن ومعانيهم، وألفاظ الشعراء الذين عاشوا في البادية ومعانيهم. ولكنا لا نكاد نجد هذا الفرق؛ فشعر المكيين والمدنيين موافق كل الموافقة لشعر البدويين من أهل الحجاز ونجد في الخيال والتصور والأغراض والمعاني بوجه عام، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نعتمد على هذا المذهب؛ لأن العرب لم يتحضروا كلهم بعد الإسلام، وإنما ظلت كثرتهم بادية في الحجاز ونجد وغير الحجاز ونجد، وظلت تقول الشعر كما كانت تقوله في الجاهلية، ونحلت الشعر. فكيف تستطيع أن تقطع بأن التصور البدوي والخيال البدوي والمعنى البدوي تكفي ليكون الشعر جاهليًّا؟ ولِمَ لا يكون هذا الشعر إسلاميًّا بدويًّا إذا لم تعتمد في تحقيق ذلك إلا على ملاءمة معانيه وصوره لحياة البادية؟
ونحن نستطيع أن نقول في هذا أيضًا مثل ما قلنا في اللفظ، فما الذي يمنع مهرة الرواة والشعراء المتحضرين أن يتقنوا الحياة البدوية إتقانًا تامًّا، ويحسنوا تقليد شعراء البادية في ألفاظهم ومعانيهم وما يقصدون إليه من الأغراض؟ وهذا هو الذي كان بالفعل أيام بني العباس؛ فقد كان خلف وحماد أعلم بلغة البادية وأغراضها ومعانيها وخيالاتها من أهل البادية أنفسهم، وكان الرواة من أمثالهما لا يترددون في تخطئة الأعراب كما كانوا يقلدونهم فيخدعونهم عن أنفسهم.
وليس عندنا من شك في أن هذا الغزل العذب الذي يُضاف إلى الأعراب قد نحل أكثره في الكوفة والبصرة وبغداد.
وإذن فتزييف المعنى ليس أشد عسرًا من تزييف اللفظ، وليس من الفطنة أن نتخذ بدوية المعنى مقياسًا لصحة الشعر الجاهلي، كما أنه ليس من الفطنة أن نتخذ غرابة اللفظ مقياسًا لصحة هذا الشعر أيضًا.
ومع ذلك فلا بد لنا من مقياس، وليكن هذا المقياس صحيحًا من كل وجه، أو صحيحًا من بعض الوجوه دون بعضها الآخر، فنحن محتاجون إليه على كل حال؛ لأننا لا نستطيع أن نرفض كل ما يُضاف إلى المضريين في الجاهلية بحجة أننا لا نستطيع أن نعتمد على اللفظ لإمكان تقليده، ولا على المعنى لإمكان تقليده أيضًا، فما عسى أن يكون هذا المقياس؟
(٢-٤) مقياس مركب
يجب أن ننبه من الآن إلى أننا لم نُوفق بعدُ لمقياس علمي نستطيع أن نطمئن إليه حقًّا، ولكننا مع ذلك لم نيأس من الوصول إلى مقياس أو مقاييس إلا تفد اليقين فقد تفيد الظن، وقد تنتهي أحيانًا إلى الترجيح الذي يقرب إلى اليقين.
نحن لا نعتمد على اللفظ وحده، ولا نعتمد على المعنى وحده، ولا نعتمد على اللفظ والمعنى ليس غير، وإنما نعتمد على اللفظ والمعنى وعلى أشياء أخرى فنية وتاريخية، ومن مجموع هذه الأشياء كلها نستخلص لأنفسنا مقياسًا يقرب إلينا صواب الرأي في هذا الشعر الجاهلي المضري، أو بعبارة أصح في طائفة من هذا الشعر المضري الجاهلي. وقد يكون من العسير أن يفهم هذا دون شيء من التفصيل وضرب المثل.
فلنتخذ شعر زهير موضوعًا للبحث، ولنلتمس طريقًا إلى تحقيق هذا الشعر الحديث أصحيح هو أم غير صحيح؟
فنحن نشترط أن يكون لفظ زهير ومعناه ملائمين ملاءمة ظاهرة للحياة البدوية آخر العصر الجاهلي، ولا ينبغي أن يعترض بما قدمنا من أنا ننكر أن تكون اللغة الجاهلية المضرية قد دونت تدوينًا علميًّا صحيحًا؛ فنحن لا نغير رأينا في هذا، ولكننا مع ذلك نعرف هذه اللغة بوجه ما، بفضل القرآن والحديث؛ فنستطيع إذن أن نتصورها تصورًا ما، ونستطيع إذن أن نقول: إن هذه الألفاظ ملائمة أو غير ملائمة للغة الجاهليين أيام النبي، وكذلك الأمر في المعنى وما يتألف منه من الصور والخيالات وما يرمي إليه من الأغراض.
فإذا تحققنا ملاءمة اللفظ والمعنى للعصر الذي قيل الشعر فيه بقيت أمامنا مشكلة عسيرة جدًّا، وهي مشكلة إمكان التقليد والتزييف، وهنا نلجأ إلى شيء آخر غير اللفظ والمعنى وملاءمتهما للعصر الذي قيل فيه الشعر، وهو الخصائص الفنية، وهذه الخصائص الفنية يمكن أن تُلتمس عند شاعر واحد، عند زهير مثلًا، ويمكن أن تُلتمس عند طائفة من الشعراء. ولكننا نريد أن نبالغ في الاحتياط فلا نكتفي بالخصائص الفنية التي نظفر بها عند شاعر واحد؛ لأننا لا نأمن أن تكون هذه الخصائص ليست حظ الشاعر نفسه، وإنما هي حظ الراوية الذي نحل الشعر وأضافه إلى الشاعر، ولنضرب لذلك مثلًا يوضحه؛ فالرواة يقولون: إن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، فمن ذا الذي يضمن لي أن امرأ القيس أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان؟ ولِمَ لا يكون الراوية الذي تكلف شعر امرئ القيس هو الذي قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، وأضاف ذلك إلى امرئ القيس فيما أضاف؟
أنا إذن لا أكتفي بهذه الخصائص الفنية التي تُوجد عند الشاعر وحده دون غيره لأقطع بصحة شعره أو أرجحها، وإنما ألتمس خصائص أخرى يشترك فيها هذا الشاعر وشعراء آخرون بينه وبينهم صلة ما.
فإذا ظفرت بهذه الخصائص الفنية ورأيتها مشتركة بين طائفة ما من الشعراء رجحت أن لشعر هذه الطائفة نصيبًا من الصحة، إلا أن يقوم الدليل على أن شعر هذه الطائفة كله قد نحله راوٍ بعينه أو رواه راوٍ بعينه، وفي هذه الحال أعود إلى الشك؛ لأني لا آمن أن تكون هذه الخصائص المشتركة خصائص الراوي الذي تكلف ونحل.
فإذا صح لي أن هذه الخصائص إنما هي خصائص شعراء لا خصائص الراوي، ورجحت على ذلك صحة ما يُضاف إلى هؤلاء الشعراء من البيت، التمست خصائصهم الفنية التي انفرد بها كل واحد منهم والتي أبيت منذ حين أن أعتمد عليها في تصحيح الشعر أو رفضه، ولأوضح هذا كله بمثل يزيل كل لبس أو غموض، أريد كما قدمت أن أبحث عن شعر زهير، فأرى أن الرواة يحدثوننا بأن زهيرًا كان راوية أوس بن حجر، وأن الحطيئة كان راوية زهير، وأن كعب بن زهير كان شاعرًا تعلم الشعر عن أبيه، وإذن فبين يدي شعراء أربعة: أوس وزهير وكعب والحطيئة. وقد رأيت الرواة يحدثوننا بأن زهيرًا كان يصنع شعره ويتكلفه وينفق الحول أحيانًا قبل أن يُظهر القصيدة من شعره، وأن الحطيئة كان عبدًا من عبيد الشعر يتكلفه ويشقى في صنعته، وأن كعبًا والحطيئة كليهما قد ذكر صناعة الشعر وتثقيفه والعناء فيه. وإذن؛ فإذا كان هذا كله حقًّا فإنَّا بإزاء مدرسة شعرية معينة أستاذها الأول أوس بن حجر، وأستاذها الثاني زهير، وأستاذها الثالث الحطيئة الذي أخذ عنه في الإسلام جميل، وعن جميل أخذ كُثَيِّر. فلأعرض قبل كل شيء عن الخصائص التي تكوِّن شخصية هؤلاء الشعراء ولألتمس ما يمكن أن يكون بينهم جميعًا من التشابه، فإذا ظفرت بطائفة من الوجوه الفنية يشتركون فيها جميعًا على اختلاف شخصياتهم كان من المرجح أني قد ظفرت بمدرسة من مدارس الشعر الجاهلي، وبالقواعد الفنية التي كانت تقوم عليها هذه المدرسة. وإذا لم يثبت لي أن راوية واحدًا قد نحل أو روى شعر هؤلاء الأربعة كان المرجح أن شعرهم صحيح. وليس معنى هذا أني بعد هذا التحقيق والتدقيق أستريح إلى صحة هذا الشعر في غير بحث ولا شك، بل معناه أني أفترض صحته وأرجحها، ثم ألتمس بعد ذلك نحله وتحليله واستخلاص صحيحه مما أضاف إليه الرواة وغير الرواة للأسباب التي قدمتها في الكتاب الثالث.
فأنت ترى أني بهذا المقياس الذي أؤلفه من اللفظ والمعنى والخصائص الفنية المشتركة قد أستطيع أن أصل إلى شيء من الحق والصواب في أمر هذا الشعر الجاهلي.
والنتيجة لهذا هي أنه لا ينبغي أن نبحث عن الشعر الجاهلي الآن من حيث شخصية الشعراء الذين يُضاف إليهم، بل من حيث المدارس التي أنشأت هؤلاء الشعراء، وستضحك من هذا اللفظ، ولكني أؤكد لك أنه لا يُضحك؛ فقد كانت للشعر الجاهلي في مضر مدارس. فأما أنا فقد ظفرت بواحدة منها، واستطعت فيما يظهر أن أستكشف بعض خصائصها الفنية، وهي هذه المدرسة التي ذكرتها آنفًا. وأما أنت فعليك أن تمضي في هذا البحث على هذا الأسلوب فتلتمس المدرسة الشعرية في المدينة، هذه التي كانت تتألف من قيس بن الأسلت وقيس بن الحطيم وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وعبد الرحمن بن حسان وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان وشعراء الأنصار في المدينة بعد الإسلام. وتلتمس المدرسة الشعرية في مكة، هذه المدرسة التي كانت تتألف من شعراء لم يكن لهم شأن في الجاهلية، ولكنهم ظهروا عندما اشتد جهاد قريش للنبي، وقويت شخصيتهم حتى كونوا في مكة سنَّة شعرية قرشية خاصة مثلها بعد الإسلام شعراء كعمر بن أبي ربيعة والعرجي. وتستطيع أن تلتمس مدارس أخرى في البادية، كمدارس الشماخ بن ضرار التي كانت — فيما يظهر — تُنافس مدرسة زهير. وامض على هذا النحو، خذ الشعراء الجاهليين المضريين جماعات ولا تأخذهم أفرادًا، حتى إذا استطعت أن تحقق لكل جماعة خصائصها فالتمس خصائص الأفراد ومميزاتهم.
ومهما يكن من شيء فأنا مطمئن إلى أن هذا المقياس الذي ألفته تأليفًا من أشياء بعيدة الاتصال فيما بينها قد يؤدي إلى نتائج لا بأس بها، ولأبدأ فأعرض عليك هذه المدرسة التي ظفرت بخصائصها تاركًا لك ولغيرك من الباحثين إتمام هذا النحو من الاستقصاء.
(٣) أوس بن حجر – زهير – الحطيئة – كعب بن زهير – النابغة
(٣-١) أوس بن حجر
وقد يكون من الغريب أن نجمع هؤلاء الشعراء في فصل واحد، وأن نبتدئهم بأوس، ولكنك قد عرفت آنفًا أنا نرى أنهم ينتهون جميعًا إلى أصل واحد، وأن أوس هو أستاذهم. ونحن لم نستنبط هذا من عند أنفسنا، وإنما يحدثنا ببعضه القدماء نصًّا ويلمحون إلى بعضه الآخر تلميحًا، فهم متفقون على أن أوسًا قد كان أستاذ زهير، أو بعبارة أدق على أن زهيرًا كان راوية أوس. وهم قد لا يكتفون بهذه الصلة الفنية بين الشاعرين فيزعمون أن زهيرًا كان ربيبًا لأوس. وعلماء البصرة والكوفة وبغداد يروون عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: إن أوسًا كان شاعر مضر، حتى ظهر النابغة وزهير فأخملاه، وظل بعد ذلك شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع. وكأن هذه السنة قد ظلت في بني تميم؛ فقد روى بعض علماء البصرة أنه شهد أشياخًا من تميم لا يعدلون بأوس أحدًا، وتحدث الأصمعي بأن أوسًا كان شاعر مضر ولكن النابغة طأطأ منه فظل شاعر تميم. وكان أبو عبيدة يعد أوسًا في الطبقة الثالثة، والظاهر أن ابن سلام يعده في الطبقة الثانية مع كعب والحطيئة، ولكنه سقط مما في أيدينا من كتاب ابن سلام وسقط معه الشاعر الرابع لهذه الطبقة الثانية.
وكل هذه الأحاديث والأخبار تدل على أن القدماء من علماء البصرة والكوفة وبغداد كانوا يعرفون لأوس قدره وتفوقه، ولا يقدمون عليه من مضر إلا تلميذيه النابغة وزهير؛ لأن أمر هذين التلميذين قد عظم واشتهر حتى عُرفا أكثر من أستاذهما. ولكن الرواة لا يعرفون بعد هذا من أمر أوس شيئًا، فهم يختلفون في نسبه، لا يتفقون إلا على أنه مضري تميمي، وهم متفقون على أنه مدح رجلًا من بني أسد يقال له: فضالة، واتصل به ورثاه بعد موته بغير قصيدة. وهم يزعمون أن أصل اتصاله بفضالة هذا أنه سقط عن ناقته في بعض أسفاره وكان في بلاد بني أسد فانكسرت ساقه فبات مكانه، فلما كان الصبح أقبل بنات الحي يجنين الكمأة، فلما رأينه فزعن، فدعا صغراهن وسألها عن اسمها، قالت: حليمة بنت فضالة، فأعطاها حجرًا وقال اذهبي إلى أبيك فقولي له: ابن هذا يقرأ عليك السلام، فلما أدت الفتاة رسالتها قال أبوها: يا بنية، لقد جئتني بمدح الدهر أو ذم الدهر. ثم انتقل بأهله حتى ضرب بيته على أوس ولم يفارقه حتى استقل. وظاهر ما في هذه القصة من التكلف ومحاولة الإغراب، ولكنها مع هذا كل ما يروي أبو الفرج من أخبار أوس.
فلنطمئن إذن إلى أن حياة أوس مجهولة، ولنطمئن إلى اليأس من أن نعرف من أمره شيئًا غير هذا، على أن قراءة ديوانه القصير قد لا تخلو من بعض الفائدة من هذه الناحية؛ فقد نجد في شعره أسماء قوم مدحهم وآخرين هجاهم؛ وقد نستطيع أن نتبين بعض حياته من هذا المدح والهجاء ومن الفخر بنفسه وقومه، ولكننا أحوج إلى السرعة من أن نقف عند هذا التفصيل.
فلندع حياة أوس الآن ولنعرض شعره، ونحن مضطرون إلى أن نعرض لهذا الشعر في إيجاز شديد؛ فمثل هذا الكتاب لا يتسع لدرس ديوان أوس درسًا مفصلًا، ونخشى إن عرضنا لهذا الدرس أن نثقل ونمل؛ ذلك لأن شعر أوس من الوجهة اللفظية والمعنوية يمثل حياة البادية تمثيلًا قويًّا صادقًا، فمعانيه كلها بدوية وألفاظه متينة رصينة، وربما كثر فيها الغريب أحيانًا. وأنت تستطيع أن تقرأ القصيدة من قصائده فلا تحس معانيها إلا من وراء ستار؛ إما لغرابة اللفظ وصعوبته، وإما لبعد هذه المعاني عما ألفت من ألوان الخيال وضروب التصور. وليس من شك في أن ما يُضاف إلى النابغة وزهير من الشعر في جملته أيسر لفظًا وأدنى مأخذًا وأقرب إلى الفهم مما بقي من شعر أوس في جملته أيضًا. وسنعرض عليك نماذج تُثبت هذا، وأكبر الظن أن مصدر هذا الفرق بين الأستاذ وتلميذيه إنما هو تأخر النابغة وزهير عن أوس بعض الشيء، فالظاهر أن لغة الشعر المضري كانت في النصف الثاني من القرن السادس للمسيح تتطور تطورًا سريعًا وتتحضر بعض التحضر، وتتحلل من الغريب والقيود البدوية إلى حد ما. والظاهر أيضًا أن النابغة وزهيرًا كانا من الذين أعانوا هذا التطور وأسرعوا به إلى غايته حتى جاء القرآن فطبع هذه اللغة الأدبية بطابعه الخالد. ثم إن هناك مصدرًا آخر لهذا الفرق بين شعر التلميذين وشعر أستاذهما؛ وهو أن النحل كثر في شعر النابغة وزهير كثرة لا تُشبه النحل في شعر أوس نفسه الذي لم يخل من النحل والتكلف، كما سترى. والذي يعنينا أن نقف عنده من شعر أوس — لأنه الخاصة المشتركة بينه وبين تلاميذه — إنما هو قبل كل شيء مذهبه الشعري في الوصف، فإن تشخيص هذا المذهب سيعيننا على أن نفهم شعر زهير وتلاميذه من ناحية، وعلى أن نلاحظ تطور هذا المذهب نفسه ورقيه في عصر قصير من ناحية أخرى، وعلى أن نغير رأينا في بعض المذاهب الشعرية أيام بني العباس من ناحية ثالثة. ذلك أن أوسًا شاعر حسي مادي، إن صح هذا التعبير، كأنه يشعر بحسه، كأنه يشعر بعينيه وأذنيه ويديه، أو قل: كأن ملكة الخيال لم تودع منه حيث أودعت من الآخرين من وراء الحواس، وإنما أودعت الحواس نفسها. أو قل — إن لم يكن بد من التدقيق العلمي: إن ملكة الخيال عند أوس كانت شديدة الاتصال بحسه المادي قليلة الاستقلال عن هذا الحس، حتى كأنها لم تكن تعمل شيئًا وحدها؛ لم تكن تُخضع الصور التي ينقلها الحس إليها إلى شيء من التجويد والتصفية والتنقيح ثم التأليف، إنما كانت تتخذ الحواس نفسها وسيلة إلى هذا التأليف، ومن هذا كان الوصف في شعر أوس كما قدمنا حسيًّا ماديًّا، وكان أشبه بالتصوير منه بأي شيء آخر، كان حكاية صادقة أو كالصادقة لمظاهر الطبيعة.
ولا ينبغي أن يخدعك هذا كله، فتظن أن حواس صاحبنا كانت أدوات حاكية تحس الطبيعة فتنقلها وتصورها كما هو شأن أداة التصوير الشمسي أو شأن «الفنوغراف»، وإنما كان أوس قوي الحس شديد اتصال الخيال بالحواس، شديد الاعتماد على حواسه فيما يؤلف من الصور الشعرية، ولكنه — وهنا ميزة أخرى له ولتلاميذه — كان يؤلف هذه الصور تأليفًا، ويعمل في هذا التأليف ويجد مشقة وعناء. فهو إذن يمتاز بميزتين: إحداهما أن خياله كان ماديًّا شديد التأثر بالحس، والثانية أنه كان فنانًا يتخذ الشعر حرفة وصناعة وفنًّا يدرس ويتعلم، وينشئه صاحبه إنشاء ويفكر فيه تفكيرًا، ويقضي في إنشائه والتفكير فيه الوقت غير القصير.
لم يكن الشعر إذن يفيض من أوس كما يفيض الماء من الينبوع الغزير، وكما تعودنا أن نقدر صدور الشعر من أهل البادية، وإنما كان أوس يعمل شعره عملًا وينشئه إنشاء.
فأنت ترى أن هاتين الميزتين اللتين يمتاز بهما شاعرنا مختلفتان فيما بينهما اختلافًا ظاهرًا: إحداهما فطرية يردها الشاعر ولم يتكلفها أول الأمر، وإنما جبل عليها ونشأت معه، وهي هذا الاتصال الشديد بين خياله وحسه، هذا الاتصال الذي حمله على أن يستوحي الجمال الفني من المظاهر الطبيعية المحسوسة دون أن يرجع في ذلك إلى أعماق نفسه ودخيلته الخاصة. هذه الميزة فطرية لم ينشئها أوس، ولكنه نماها وتعهدها وأكثر الاعتماد عليها، وسترى نتيجة ذلك عندما تلاحظ الفرق بينه وبين تلميذه زهير.
وأما الميزة الأخرى فإرادية تعمدها الشاعر وقصد إليها واتخذها قاعدة أساسية لفنه الشعري، وهي مقاومة الطبع وعدم الاندفاع في قوله الشعر مع السجية التي ترسل إرسالًا فتفيض بالشعر كما يفيض الينبوع بالماء. هذه المقاومة التي حملت شاعرنا على أن يعمل شعره ويتكلفه هي التي ستجدها ظاهرة عند زهير وكعب والحطيئة. وهي التي سترى أن الرواة أحسوها عند هؤلاء الشعراء فوصفوهم بما وصفوهم به من الأناة والروية في قول الشعر.
ومن هاتين الخصلتين اللتين رأيناهما عند أوس استفاد الفن البياني الخالص عند هؤلاء الشعراء جميعًا؛ فكثر عندهم التشبيه والمجاز والاستعارة والافتنان فيها. وإذا صح لنا هذا كله وعرفنا حقًّا أن الذين بدءوا فاعتمدوا على التشبيه والاستعارة والمجاز في شعرهم وأكثروا منها وافتنوا في التصرف فيها، إنما هم هؤلاء الشعراء الجاهليون، وبخاصة أوسٌ وزهيرٌ، عرفنا أن صناعة الفن البياني الخالص وتعمده والإلحاح فيه ليست كما كنا نظن مظهرًا من مظاهر الحياة الأدبية الجديدة أيام بني العباس، وليس مسلم بن الوليد هو مبتكرها أو منميها، كما كنا نظن، وليست هذه المدرسة البيانية في الشعر؛ هذه المدرسة التي تُعنَى بالفن للفن، عباسية النشأة أو عباسية النمو والنهضة، وإنما هي أقدم من ذلك وأبعد في تاريخ الشعر العربي أثرًا، نشأت في العصر الجاهلي، وأنشأها أوس ونماها زهير والحطيئة، وكان لهم ممثلون في العصر الأموي منهم جميل وكثير، واتصلت سننها إلى أيام بني العباس، فتناولها مسلم ثم أبو تمام وابن المعتز ثم المتنبي.
من هنا ترى مقدار ما سيكون لدرس هذه المدرسة الشعرية الجاهلية من تأثير، لا في إثبات أن شعر هؤلاء صحيح كله أو بعضه فحسب، بل في إثبات شيء آخر أبعد منه أثرًا في تاريخ الآداب؛ وهو نشأة هذه المدرسة البيانية التي اتخذت الشعر فنًّا، وعنيت فيه بجمال الصورة والشكل عناية لا تقل عن عنايتها بجمال الموضوع والمعنى.
ولكنا إلى الآن لم نزد على أن بسطنا دعوى لم نُقم عليها دليلًا، ونحسب أن قد آن الوقت لنثبت هذه الدعوى بالمُثل الواضحة من شعر أوس، حتى إذا فرغنا من ذلك التمسنا هاتين الميزتين عند تلاميذه.
ولعل أول قصيدة نعرض لها من شعر أوس لإثبات هاتين الميزتين هي هذه القصيدة الحائية التي كان القدماء يعجبون بها إعجابًا شديدًا، ويرون أنها أجود ما قيل في وصف المطر أثناء العصر الجاهلي.
وقد كان القدماء يختلفون في قائل هذه القصيدة: فأما أهل الكوفة فكانوا يروونها لعبيد بن الأبرص، وأنت تراها في «مختارات ابن الشجري» مضافة إلى عبيد. وكان البصريون والبغداديون يضيفونها إلى أوس، تعرف ذلك في كتاب «الكامل» للمبرد، وفي كتاب «الأغاني»، وفي كتاب «طبقات الشعراء» لابن قتيبة، والظاهر أن هذه القصيدة تأتلف من قصيدتين إحداهما لأوس — من غير شك — لأن التشابه شديد جدًّا بينها وبين قصائد أخرى يتفق الكوفيون والبصريون على أنها من شعر أوس، والأخرى لشاعر آخر كان الكوفيون يظنون أنه عبيد، فاختلط الأمر عليهم وجمعوا قصيدة أوس وشيئًا من هذه القصيدة الثانية.
والواقع أنا نرى القصيدة في ديوان أوس قد صرع الشاعر فيها ثلاث مرات: صرع في المطلع فقال:
وصرع بعد ذلك بقليل فقال:
ثم صرع بعد هذا بقليل فقال:
والظاهر أن البصريين كانوا يروون القسم الأول من هذه القصيدة لأوس، ويضيفونه إلى القسم الثالث، وآية ذلك استشهاد المبرد بقوله:
على تفسير «العروب»، وأضاف البيت لأوس.
فأما الكوفيون فكأنهم كانوا يجهلون هذا القسم الأول من القصيدة، ويبدءونها بالقسم الثاني، وهو:
وكذلك ترى القصيدة مبدوءة في «مختارات ابن الشجري»، وأكبر ظننا أن هذا القسم الثاني نفسه ليس من شعر أوس؛ ففيه شيء من التفكير والحزن لا نعرفه عند أوس، وانظر هذه الأبيات:
ومهما يكن من شيء فالقسم الثالث من القصيدة هو الذي يعنينا، وهو الذي نعرضه عليك وندعوك إلى أن تقرأه في تأمل وإنعام نظر، فسترى — قبل كل شيء — في هذا القسم هذه المادية التي ذكرناها لك، وسترى كثرة التشبيه، وكثرة التشبيه بأشياء مادية كلها تُحس بالسمع أو بالبصر، وكلها بدوية. قال أوس:
فانظر إلى هذا التشبيه الأول، تشبيه البرق بالصبح المضيء، وإلى استعمال لفظ لماح الذي يمثل خطف البرق تمثيلًا حسنًا، كأنه استعمل هذا اللفظ ليصلح من هذا التشبيه، وليحتاط فيه بعض الاحتياط، فليس ضوء الصبح لمحًا، وليس ضوء البرق مستمرًا؛ إنما يريد أوس أن يصور لك قوة ضوء البرق حين يومض حتى لكأنه الصبح، ولكنه يريد في الوقت نفسه أن يقول: إن هذا الضوء لماح لا يقيم، ثم يقول أوس:
فانظر إلى هذا الهيدب الذي أضافه إلى السحاب، وقارب بينه وبين الأرض، ثم انظر إلى قوله: «يكاد يدفعه من قام بالراح»، فسترى قوة حظ الشاعر من المادية التي تمثل السحاب قريبًا من الأرض، حتى لتستطيع أن تمسه بيديك وتدفعه إذا قمت. ثم يقول أوس:
وهما تشبيهان ماديان محسوسان بالبصر أيضًا، ثم يقول:
وفي الشطر الأول مادية ملموسة، وفي الشطر الثاني تشبيهان ماديان مبصران أيضًا، ثم يقول:
فانظر إلى هذه الأبيات كلها، وما فيها من تشبيه بالخيل مرة وبالإبل مرة أخرى، وإلى هذه الصور الشعرية التي تُحس حينًا بالبصر وحينًا بالسمع، والتي قد أتقنها الشاعر وحققها تحقيقًا؛ يظهر أنه فتن أهل البادية فكانوا يتمثلون به في تصوير السحاب ووصف العارض على ما تجده في «الأغاني» وغيره من كتب الأدب.
وانظر بعد هذا إلى شاعرين آخرين من غير هذه المدرسة، يُضاف إليهما وصف للمطر والسحاب: أحدهما امرؤ القيس في معلقته المشهورة، والثاني الأعشى في لاميته التي مطلعها:
فأما امرؤ القيس فقال:
وأظنك لا تتردد في أن ترى معي أن الفرق عظيم بين هذا الشعر الذي يخلو من التشبيه الرائع أو الصورة الدقيقة وشعر أوس الذي قدمناه لك.
وأما الأعشى فيقول:
وهذا الشعر دون ما روينا من شعر امرئ القيس جودة وروعة، وأقل منه حظًّا من التشبيه، بل هو يكاد يخلو من التشبيه خلوًّا تامًّا لولا هذا البيت:
ومهما يكن من شيء فنحن بعيدون كل البعد عن هذا المذهب الشعري، الذي يعتمد على الحس المادي والتصوير الدقيق الذي رأيناه في حائية أوس. ونحن نستطيع أن ندع هذه القصيدة من شعر أوس، وننتقل إلى قصيدة أخرى لامية مشهورة، وصف فيها أوس سلاحه فأجاد، وسلك في وصف السلاح الطريق نفسها التي سلكها في وصف السحاب والمطر والسيل، وهي طريق التشبيه والتصوير المادي الدقيق:
فانظر إليه كيف عمد إلى هذه الألوان من التشبيه المادي حين أراد أن يصف سيفه ورمحه ودرعه، وحين أراد أن يصف القوس والعود الذي اتخذت منه ووترها، والصوت الذي ينبعث عن القوس حين ينزع عنها وحركة السهم، ثم نضال هذه السهام وريشها، سلك في هذا كله ما ترى من طرق التشبيه المادي الذي لا يخلو لفظه من صعوبة ومشقة ما، ولكنه من الجمال الفني بحيث يستحق أن يتكلف الإنسان هذه المشقة ليفهمه ويتذوقه.
وأنت تجد هذا التشبيه وهذا النوع من الوصف الذي يعتمد عليه وعلى فنون البيان المختلفة في شعر أوس كله إلا أن يكون منحولًا أو مضافًا إليه، كهذه الأبيات التي سنعرضها عليك — بعد حين — نموذجًا لما أُدخل على أوس من الشعر الذي لم يقله. ولكني لا أريد أن أدع شعر أوس دون أن أقف معك وقفة قصيرة جدًّا عند هذه القصيدة الأخرى، التي حُفظت لأوس، والتي كان القدماء يعجبون بها إعجابًا شديدًا، ليس أقل من إعجابهم بالحائية التي مر ذكرها آنفًا، وهذه القصيدة هي المرثية التي رثى بها صاحبه فضالة والتي مطلعها:
كان القدماء يعجبون بهذا المطلع، وكان ابن قتيبة يقول: إن أحدًا لم يبتدئ رثاء بمثل هذا البيت. والواقع أن البيت جميل حسن الموقع من النفس شديد التأثير فيها، ولا سيما هذا النحو من الإذعان للقضاء، هذا الإذعان الذي يدعوك إلى أن تقبل الشيء كما هو ما دام قد وقع فلا تستطيع له مردًّا. وإنما الذي يعنينا من هذه القصيدة هو الذي عنانا فيما سبق من شعر أوس، وهو هذه الطريقة المادية في التعبير حتى في الموضوعات التي يعرض فيها الشاعر عادة عن الأشياء الخارجية ويرجع إلى أعماق نفسه يستثير عواطفها وما فيها من حزن كمين، وقد رجع أوس إلى نفسه في هذا المطلع الذي رويناه؛ ولكنه لم يلبث أن انصرف إلى صاحبه، فعدد ما كان له من خلال، ثم أخذ يرثيه بأشياء كلها خارجية، ويتخذ هذا الرثاء وسيلة إلى طائفة من التشبيهات والتعبيرات المادية، لا تخلو من جمال وروعة. قال:
فانظر كيف اعتمد على طائفة من الصور الخارجية المادية في تمثيل الجدب والقحط والبرد وآثارها في القبيلة، فهو يعرض علينا مرة رجلًا شديد الإشفاق من البرد، حتى إنه ليؤثر نفسه بردائه يلتفع به وحده دون امرأته. ويعرض علينا مرة أخرى فتاة ناشئة من شأنها أن تكون قليلة الميل إلى الطعام، ولكن القحط والجدب قد أرهقاها حتى أسرفت في زاد أهلها فكأنها السبع لا يكفيه من هذا الزاد الشيء القليل. ومرة ثالثة امرأة فقيرة معوزة قد اتخذت ثوبًا باليًا لا يستطيع أن يستر جسمها كله، فأطرافها بادية ونواشرها عارية وطفلها الصغير بين يديها يصيح ويتضور وهي تُصمته وتلهيه بالماء.
وعلى هذا النحو شعر أوس كله، ولولا أني أريد أن أجتنب الإطالة والإملال لضربت لك أمثالًا أخرى ليست أقل من هذه الأمثال قوة في إثبات ما أريد.
وسترى عندما نعرض لزهير وتلاميذه والنابغة أيضًا أنهم جميعًا قد ذهبوا مذهب أستاذهم في الاعتماد على هذا النحو من التشبيه والتصوير المادي الدقيق، على أنهم لم يكتفوا بتقليده واقتفاء أثره، بل استعاروا منه طائفة من المعاني والألفاظ استعارة ظاهرة لا تحتمل شكًّا، حتى لكأن هذه المعاني والألفاظ كانت قد أصبحت حظًّا شائعًا للمدرسة كلها.
ولست أريد أن أطيل في ضرب الأمثال لهذا، ولكني أحيلك على القصيدة الميمية التي قالها أوس والتي مطلعها:
فسنرى زهيرًا قد استغلها في ميميته المعروفة بالمعلقة.
وكل ما في زهير والنابغة من وصف الصيد معتمد فيه على شعر أوس في وصف الصيد أيضًا، وهذا التشبيه الذي قصد إليه النابغة في داليته حين ذكر ناقته فزعم أنها كالثور الوحشي، ثم أخذ يقص علينا قصص هذا الثور حين أحس الصائد وكلابه ففر، ثم عطف فصارع الكلاب حتى صرعها — نقول هذا التشبيه الذي نجده عند النابغة — وتجد شيئًا قريبًا منه عند زهير؛ إنما اعتمد فيه الشاعران على شعر أوس، واستعاروا في كثير من الأحيان ألفاظ أوس وصوره أيضًا.
وقد فطن القدماء لشيء من هذا، فكانوا يقولون: إن زهيرًا كان يتوكأ في شعره على شعر أوس، وذكر ابن قتيبة أبياتًا لأوس استغلها زهير والنابغة؛ استغلا لفظها ومعناها أحيانًا، واستغلا معناها دون لفظها أحيانًا أخرى، منها هذا البيت:
أخذه زهير فقال:
وأخذه النابغة فقال:
ومثل هذا في شعر زهير والنابغة وكعب كثير. فلندع أوسًا الآن ولننتقل إلى زهير، ولكن بعد أن ننقل لك هذه الأبيات على أنها نموذج للمنحول الذي أضيف إلى أوس:
وما أرى أنك في حاجة إلى أن ننبهك إلى الفرق بين هذا الشعر الضعيف المهلهل وما قدمنا لك روايته من شعر أوس، ذلك إلى أنك لا تجد في هذه الأبيات هذا المذهب الشعري الذي يعتمد على الصور المادية كما رأيت.
(٣-٢) زهير
ولا يكاد الرواة يعرفون من أمر زهير أكثر مما يعرفون من أمر أوس، وإنما هي أخبار وأحاديث كثرتها أقرب إلى الأساطير منها إلى حقائق التاريخ، ولعلنا نلم بخلاصة ما يقول الرواة عن زهير حين نقول: إنه كان يقيم في غطفان وينسبه بعضهم إلى مزينة، ويأبى المحققون إلا أن يكون غطفانيًّا قيسيًّا، وكان أبوه فيما يقولون شاعرًا، وكان خاله بشامة بن الغدير الغطفاني شاعرًا أيضًا، وله أخت شاعرة، وكان ابناه كعب وبجير شاعرين، وكان حفيده عقبة بن كعب شاعرًا، وكان لعقبة هذا ابن يقال له العوام وكان شاعرًا، وقد قدمنا أن زهيرًا كان راوية أوس، وأن الحطيئة أخذ عن زهير، وأن جميلًا أخذ عن الحطيئة، وأن كُثيرًا أخذ عن جميل، فسلسلة الشعر متصلة بزهير من قبل النسب كما هي متصلة به من قبل التعليم والرواية. وكان زهير والنابغة — كما قدمنا — أثيرين عند أهل البادية والحجاز، كأنهما كانا يمثلان شعر البادية وذوقها، وإذا نظرت في هذه السلسلة التي تتصل بزهير من قبل التعليم عرفت أنها تتألف من شعراء كانوا جميعًا مقدمين عند أهل الحجاز: كان الحطيئة فحلًا في آخر العصر الجاهلي وأول الإسلام، وكان جميل وكُثَيِّرٌ يمثلان أصدق تمثيل ذوق البادية في الغزل خاصة.
والرواة يتحدثون عن زهير بعد هذا بطائفة من الأحاديث، لا شك في أنها منحولة متكلفة، فهم يزعمون أنه تنبأ بظهور الإسلام قبل بعثة النبي، وأوصى ابنيه كعبًا وبجيرًا أن يسلما. وهم يضيفون له شعرًا فيه ذكر لأصول دينية إسلامية، وليس من شك في تكلف هذا الشعر وأمثاله سواء منه ما أضيف إلى زهير أم غير زهير. وهم يزعمون أيضًا أن النبي رآه فاستعاذ بالله من شيطانه، فانقطع زهير عن الشعر حتى مات.
هذه خلاصة ما يُقال عن زهير في حياته العامة والخاصة، وقد كدت أنسى ما يُروى عن انقطاعه لهرم بن سنان وإكثاره من مدحه، وما كان من حلف هرم ألا يمدحه زهير ولا يحييه إلا وصله، وما كان من استحياء زهير ومن استثنائه هرمًا حين كان يلقاه في ملأ فيحييهم، وقد مدح زهير مع هرم الحارث بن عوف؛ لأنهما احتملا الديات، وأصلحا بين عبس وذبيان في حرب كانت بينهما. فأما رأي الرواة في زهير فمختلف مضطرب، كرأيهم في هؤلاء الشعراء المقدمين، ولعل من الإطالة أن نعرض لذلك بعد أن أشرنا إليه غير مرة. وقد زعموا أن عمر بن الخطاب كان يُقدم زهيرًا، ولكنهم زعموا أنه كان يُقدم النابغة أيضًا. وهو حين كان يُقدم زهيرًا إنما كان يستند إلى علل فنية، فكان يقول: إن زهيرًا لا يعاظل بين الكلام ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه. وهو حين قدم النابغة ذكر شعرًا فيه روح ديني ما، وقد يكون عمر قدم الرجلين جميعًا في وقتين مختلفين؛ وليس في ذلك شيء من الغرابة، فقد كان هذان الرجلان يمثلان كما قلنا ذوق البادية والحجاز.
ولعل أظهر ما يتصف به زهير عند الرواة أنه كان بطيئًا في قول الشعر، يفكر ويروِّي وينقح قبل أن يُظهر قصيدته للناس؛ ولذلك أضيفت إليه قصة الحوليات، وسترى أن الحطيئة وكعبًا كانا يذهبان مذهبه، وسترى أيضًا في غير هذا الموضع أن شاعرًا أمويًّا عباسيًّا هو مروان بن أبي حفصة كان يذهب هذا المذهب أيضًا. وهذه الخصلة التي يذكرها الرواة لزهير وتلاميذه تؤيد ما قلناه من أن أصحاب هذه المدرسة الشعرية كانوا أصحاب فن وأناة في هذا الفن.
وقد كنت أحب — لولا خشية الإطالة — أن أدرس زهيرًا درسًا مفصلًا، لأعرض عليك خصاله المشتركة، وخصائصه المقصورة عليه، ولكني أكتفي من هذا كله بضرب المثل وإثبات الصلة الفنية بينه وبين أستاذه، ولن تجد في هذا شيئًا من المشقة قليلًا ولا كثيرًا. فأنت حين تقرأ شعر زهير مضطر إلى أن تُلاحظ أنه كأستاذه شديد اتصال الخيال بالحس، شديد الاعتماد على الحواس في إخراج صوره الشعرية، وهو أحرص من أستاذه على هذا؛ لأنه يتخذ هذا الأسلوب الشعري طريقًا إلى وصف المعاني وعرضها عليك. وهو كأستاذه متأنٍّ حريص على الأناة، يتخذ الشعر فنًّا وصناعة، ولا يندفع فيه مع سجيته. وأثر زهير في هذا النحو الفني أظهر من أثر أوس؛ لأن لغته أيسر من لغة أوس، ولأن شهرته أبعد من شهرة أوس، ومن هنا كثر الاستشهاد بشعر زهير في البيان، فاستشهدوا بقوله:
واستشهدوا بقوله:
وذكر ابن قتيبة له بيتا اشتمل على تشبيهات ثلاثة، أجملت ثم فصلت بعد ذلك، وهو قوله:
أجمل التشبيه في هذا البيت، ثم فصله في قوله:
ولست أقطع بصحة هذا الشعر، فقد يخيل إليَّ أن هذه القصيدة أو كثرتها منحولة، لضعف يظهر فيها، ولاصطلاحات فقهية أحسها القدماء أنفسهم فقاربوا بين هذه القصيدة وبين رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء.
ولكن هذه الأبيات الثلاثة يظهر فيها تقليد زهير في التشبيه، وأنت حين تنظر في المطولة المشهورة التي مطلعها:
تقتنع بصحة رأينا في زهير؛ فهو الشاعر المصور بأصح معاني الكلمة وأدقها، وأمعن معي في هذه القصيدة بيتًا بيتًا؛ فهو يقول في البيت الثاني:
هو التشبيه الذي تجده فيما يُضاف إلى طرفة:
ثم انظر إلى قول زهير:
وهي صورة بديعة ستراها في شعر النابغة، وتستطيع أن تجد أصلها عند أوس، ثم يقول:
وسترى هذا الأسلوب نفسه عند النابغة، وهو التصوير المادي أيضًا. ثم انظر إليه بعد أن حيا الدار كيف أراد أن يذكر سفر النساء اللائي كن فيها والطريق التي سلكنها والماء الذي انتهين إليه، فلم يستطع أن يعرض هذا الموضوع إلا في طائفة من الصور المادية تتفاوت في الحسن ولكن لها جميعًا منه حظًّا؛ فقال:
فهي كلها صور حسان مادية، علا بعضها بعضًا، تمر بك في أناه وهدوء فتملأ منها عينيك، وتفهم ما أراد الشاعر من عرضها عليك، بل تحس ما أراد الشاعر أن يثير في نفسك بهذا العرض، وهو هذا الألم الذي تجده عندما يرتحل عنك من تحب، والذي يشتد في نفسك ويسيطر عليها حتى تتبع المرتحل في سفره، وفي المنازل المختلفة التي ينزل فيها تتبعه نفسك وأنت مقيم.
وينتقل زهير من هذا الوصف إلى مدح صاحبيه المريين، فإذا هو في المدح كما كان في الوصف مؤثر التصوير المادي على غيره من أساليب الكلام، فانظر إلى قوله:
وامضِ في قراءة القصيدة، فلن يكاد بيت من أبياتها يخلو من صورة مادية ما، حتى تصل إلى هذه الأبيات التي ازدحمت فيها الصور والتشبيهات ازدحامًا، حتى كاد يركب بعضها بعضًا ويخفي بعضها جمال بعض، وهي قوله:
فانظر إليه كيف ازدحمت عليه الصور، فإذا هو يشبه الحرب مرة بالحديث الذي يثار، وأخرى بالنار التي لا تكاد تشب حتى تضطرم، ثم بالناقة التي تلقح كشافًا ثم تحمل فتتئم، ثم تلد أولاد شؤم، ثم ترضع ثم تفطم، ثم يعدل عن هذا التشبيه فيشبه الحرب بالقرى العراقية التي تغل لأهلها الحب والدرهم، وانظر بعد ذلك إلى قوله:
فهي كتلك صور مادية حسان يقفو بعضها إثر بعض، وتمثل أبدع تمثيل ما يتردد في نفس الرجل وقد ألمت به النازلة فجزع لها، ثم ثابت إليه نفسه، فهو يفكر في الثأر مترددًا ثم عازمًا ثم مخفيًا عزمه ثم مشجعًا نفسه بأن قومه سينصرونه ولكن بعد أن يحرجهم، ثم ماضيًا في عزمه حتى يبلغ منه ما يُريد، وانظر بعد ذلك إلى هذين البيتين؛ فلست أعرف أبلغ منهما، ولا أصدق لفظًا، ولا أقرب إلى السذاجة البدوية في غير خشونة ولا جفوة:
ثم امضِ في القصيدة حتى تصل إلى هذا الجزء الأخير من أجزائها، وهو الذي قصد الشاعر فيه إلى الحكمة وضرب المثل، وكثير من أبيات هذا الجزء منحول، ولكنك تجد فيه أبياتًا عليها طابع زهير، كقوله:
ولعلك لاحظت وأنت تقرأ هذا الشعر أن من العبث أن تقيم الدليل على أن شاعرنا فنان يصنع الشعر ولا يندفع فيه، يتخير معناه ويلائم بين أجزائه ثم يتخير له ألفاظه. ولعلك لاحظت أيضًا أنه على شدة الشبه بينه وبين أوس فهو أدخل منه في الفن، وأكثر منه حرصًا على الإجادة المقصودة، وأكثر منه حرصًا أيضًا على أن تتنوع الصور ويلي بعضها بعضًا، في هدوء حين يدعو الأمر إلى الهدوء، وفي حركة وعنف حين يدعو الأمر إلى الحركة والعنف. فانظر إلى الهدوء حين يذكر لك شعرًا في تلك النساء، انظر إلى هذه الصور يتبع بعضها بعضًا في دعة تلائم هذا الألم الذي يحدث في نفسك وأنت ساكن تتبع أحبتك المرتحلين، ثم انظر إلى هذه الحركة العنيفة السريعة حين أراد أن يصف الحرب وما تنال الناس به من ضر، وما تصيبهم به من شؤم. ولعلك لاحظت أيضًا أن هذه اللغة الأدبية الفنية قد تطورت تطورًا ما في شعر زهير، فبعد ما بينها وبين لغة أوس، وقرب ما بينها وبين لغة القرآن؛ قل فيها الغريب ودنت إلى الأفهام دنوًّا ظاهرًا، وقلت حاجتك وأنت تقرؤها إلى استشارة المعاجم والشراح، وأنت واجد هذا كله حين تقرأ شعر زهير الذي صح له، حين تقرأ لاميته التي يقول فيها:
والتي تجد فيها هذه الصورة البديعة في المدح:
وفي هذه القصيدة وصف للصيد من خير ما رُوي للجاهليين، وهو على نحو ما قدمت لك من طريقة زهير: قصص يعتمد على الصور التي يلي بعضها بعضًا.
وأنت واجد هذه الخصائص نفسها حين تقرأ لامية أخرى لزهير أولها:
وقافيَّة مطلعها:
وغير هذه القصائد التي لا نستطيع أن نعرض لها الآن كراهة أن نُطيل، فلندع زهيرًا ولنقف وقفة قصيرة عند ابنه كعب.
(٣-٣) كعب بن زهير
ولا بد من أن نعيد في أمر كعب ما قلناه في زهير من أن الرواة يجهلون حياته جهلًا تامًّا، لا يكادون يعرفون منها إلا أنه كان حريصًا على قول الشعر، وكان أبوه يزجره عن ذلك ويضربه فلا يزيده الزجر والضرب إلا كلفًا بقول الشعر، حتى ضاق به أبوه فأردفه على ناقته وانطلق به إلى الصحراء، وأخذ يقول البيت ويستجيز ابنه فيجيز، حتى استوثق أبوه من أنه يستطيع أن يكون شاعرًا، فأذن له في قول الشعر.
والرواة يذكرون لكعب والحطيئة قصة ننقلها عن ابن سلام، وقد رواها غيره، وننقلها كما هي وإن كانت لا تخلو من الفحش؛ لأنها تمثل لنا هذه المدرسة الأوسية، وشيئًا من أصولها ومن منافسة مدرسة أخرى لها. قال ابن سلام: وقال (الحطيئة) لكعب بن زهير: قد علمت روايتي شعر أهل البيت وانقطاعي، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرًا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعًا؛ فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع، فقال كعب:
واعترضه مزرد أخو الشماخ وكان عريضًا فقال:
والذي يعنينا من هذه القصيدة عناية كعب والحطيئة بتثقيف القوافي حتى تستقيم متونها، ونهوض مزرد لهما، وتفضيله عليهما أخاه الشماخ وحسان بن ثابت والمنخل، فكل هذا — فيما نظن — يشير إلى أن التنافس لم يكن بين أفراد الشعراء، وإنما كان بين طوائف منهم.
فأنت ترى هذه الصورة المادية المتصلة التي رأيت أشباهها عند زهير وعند أوس، وأمر الوصف في هذه القصيدة كأمر الغزل لولا أن الغريب فيه كثير كما قدمنا، وتقليد أوس فيه ظاهر. وقد استطاع بعض طلاب الجامعة أن يعرض لهذه القصيدة فيرد أكثرها إلى الأصول التي احتذيت فيها من شعر زهير وشعر أوس. فأما المدح ففيه هذه الصور المادية أيضًا ولكن النحل فيه كثير، وفيه ما يذكر بمدح النابغة للنعمان بن المنذر واعتذاره إليه. ولو قد حفظ من شعر كعب شيء لكان الدليل على تأثره بأبيه وبأوس أظهر وأنصع، ولكنه على كل حال واضح إن نظرت في القصيدة نظرة تفكير ولو قصيرة.
ولسنا نذكر بجيرًا فلم يبقَ من شعره شيء إلا أبيات، يقال: إنه رد بها على أخيه كعب حين لامه على إسلامه، ولكننا نرجح أن تكون هذه الأبيات منحولة، بل ربما كانت الأبيات التي تُضاف إلى كعب نفسه وفيها تعريض بالنبي منحولة أيضًا. وأكبر الظن أن كعبًا كان من أولئك الشعراء الذين جاهدوا النبي مع شعراء قريش والطائف فضاع هجاؤهم للنبي والمسلمين ولم يبقَ منه شيء.
ولسنا نذكر أيضًا عقبة بن كعب الذي يُعرف بالمضرب، والذي لم يبقَ له إلا بيتان أو ثلاثة تدل على أنه كان ذا يد في الجهاد الحزبي السياسي بين المسلمين، وكأنه كان زبيري الهوى.
فأما العوام بن عقبة فلم نظفر من شعره بشيء.
فإذا كانت السلسلة الشعرية التي تتصل بزهير من قبل النسب مقطوعة أو كالمقطوعة، فالسلسلة الأخرى التي تتصل به من قبل التعليم والرواية موصولة بالحطيئة وجميل وكُثَيِّر. والظاهر أنها عبرت العصر الأموي كله واتصلت بالشعراء العباسيين في تطور واستحالة، ولكنا نقف هذه السلسلة عند شاعر واحد يعنينا في هذا الكتاب لأنه جاهلي، أدرك الإسلام وعمر فيه دهرًا، وهو الحطيئة.
(٣-٤) الحطيئة
والرواة يعلمون من أمر الحطيئة أكثر مما يعلمون من أمر أوس وزهير وكعب؛ ذلك لأن الحطيئة أدرك الإسلام، وعمَّر فيه، واتصل بأشراف المسلمين، وكان له شأن ظاهر في البيئات العربية المختلفة إلى أيام معاوية، فعرف الناس عنه الشيء الكثير وتناقلوه. ومع أن هذه الأخبار في نفسها قليلة مضطربة لا تخلو من النحل والتكلف، فقد مكنت القدماء من أن يتصوروا نفسية الحطيئة وشخصيته تصورًا إن لم يكن صحيحًا من كل وجه فهو مقارب لا يخلو من الحق.
ولعل أظهر خصلة من خصال الحطيئة — واسمه جرول بن أوس — أنه كان يمثل الجاهلية إبان الإسلام أصدق تمثيل؛ كان يمثل الجاهلية في حريته وإباحته وانصرافه عن الدين إذا خلا إلى نفسه، وتكلفه هذا الدين اتقاء للسلطان ليس غير. الرواة مختلفون في أنه أسلم أيام النبي أو بعد وفاته، ولكنهم متفقون على أنه كان رقيق الإسلام، ضعيف الإيمان، قليل الحظ من الدين، وقد أيد المرتدين في أيام أبي بكر في هذا الشعر الذي يضاف إليه:
وهم يقولون أيضًا: إنه رثى للوليد بن عقبة بن أبي معيط حين شهد أهل الكوفة عليه عند عثمان بالسكر أثناء الصلاة، ويضيفون إليه في ذلك شعرًا عبث به الرواة وظرفاء الشيعة؛ فحولوه عن وجهه. وهم بعد هذا كله متفقون على أن سيرته لم تكن سيرة مسلم مخلص في دينه متأثر بحلاوة هذا الدين، إنما كانت سيرة الأعرابي الذي احتفظ بحياة البادية، وما فيها من غلظة في الطبع وجفوة في الخُلق وخشونة في العيش. وكان الحطيئة لهذا كله غريب الأطوار، يراه الناس فيضحكون منه في شيء من الخوف والذعر غير قليل؛ ذلك أنه كان يمثل هذا العنصر الذي سخط على الجديد، ولم يجرؤ على إظهار سخطه فنافق. ولكنه لم يخفِ بغضه لهذا الدين الجديد والذين ناصروه، وسلك بهذا السخط مسلكًا غير طريق الدين، فنال الناس في أعراضهم وأموالهم ومكاناتهم الاجتماعية، واتخذ من هذا كله تجارة ربحت وأفادت له مالًا كثيرًا، وآية ذلك أنك لا تظفر بشيء في حياته قبل الإسلام. على أن سيرته كانت في الجاهلية مضطربة فاسدة غريبة الأطوار، إنما كان كغيره من الشعراء، اتصل بعلقمة بن علاثة وفضله على عامر بن الطفيل، كما اتصل لبيد بعامر وفضله على علقمة في حياة جاهلية بدوية مألوفة. ولكن لبيدًا أخلص فخلص إسلامه، فاستقامت له سيرة صالحة راضية، وأسلم الحطيئة رغبة أو رهبة، فلم تطب نفسه بالإسلام، فاضطربت سيرته وذهب مذهبه هذا الغريب.
ولكثرة هجائه الناس وكثرة إطلاقه لسانه فيهم بالسوء كرهه قوم وأحبه آخرون، أو قل: تحاماه الناس من جهة وازدحموا عليه من جهة أخرى؛ تحاموه إشفاقًا من لسانه، وازدحموا عليه يستعينون به على خصومهم ومنافسيهم. وهذا يفسر قصته مع الزبرقان بن بدر الذي أراد أن يختص بالحطيئة فأجاره ليستعين به على بني عمه آل شماس، فما زال هؤلاء به حتى حولوه إليهم في قصة طويلة لا تخلو من التكلف والنحل، فتحول وأخذ في هجاء الزبرقان ورهطه حتى رُفع أمره إلى السلطان، فحبسه عمر ثم عفا عنه، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم.
ومثل هذا ما يقال عن وصية الحطيئة حين حضره الموت، فأوصى الفقراء بالمسألة والإلحاح فيها، وأبى أن يعتق عبده يسارًا، وأوصى بأن تؤكل أموال اليتامى، إلى غير ذلك مما يقال ولا يخلو من فحش. ولا شك في أن الرواة قد زادوا فيه وعبثوا به، وهو إن لم يمثل شخصية الحطيئة في نفسها فلا شك في أنه يُمثل رأي الذين عاصروه وجاءوا بعده بقليل في هذه الشخصية.
ومن غريب الأمر أنك لا تجد لهذه الشخصية المنكرة في شعر الحطيئة أثرًا منكرًا مثلها، فهم يقولون: إنه كان مسرفًا في الهجاء، حتى إنه هجا نفسه وهجا أمه وأباه؛ ولكن هذا فيما نظن من غلو الرواة. وقد كان الحطيئة هجاء، ولكن هجاءه أقل فحشًا من هجاء أستاذيه أوس وزهير؛ فلهذين الشاعرين من الهجاء ما نستحي أن نورده في هذا الكتاب. فأما هجاء الحطيئة فهو على شدته ولذعه قليل الحظ من الفحش، وربما غلبت فيه العفة، وهو حين يقصد إلى الهجاء إنما ينال الناس من قبل منزلتهم الاجتماعية، وما كان العرب يحمدونه أو يكرهونه من الأخلاق والخصال.
وهو في غير الهجاء من الفنون الشعرية التي عرض لها سمح رائع اللفظ في صفاء ومتانة وسهولة. وليس من شك في أن الحطيئة كان ذا شخصيتين متناقضتين أشد التناقض: إحداهما شخصيته العملية التي استعصت على الإسلام واحتفظت بجاهليتها كاملة، والأخرى شخصيته الفنية التي احتفظت من جاهليتها بهاتين الخصلتين اللتين أشرنا إليهما عند زهير وأوس وكعب، ولكنها لم تستطيع أن تقاوم القرآن، فتأثرت به في اللفظ وتأثرت به في المعنى، تلمس ذلك لمسًا حين تقرأ ما صح من شعر الحطيئة.
وما نظن أن شاعرًا من شعراء هذه المدرسة قد كثر النحل له كما كثر للحطيئة، فهناك قصائد نُحلت كلها نحلًا، كتلك التي يقال: إن الحطيئة مدح بها أبا موسى الأشعري، وقد عرف الرواة أنفسهم أن حمادًا هو الذي وضعها. وهناك قصائد أخرى خدع القدماء عن بعضها وعرفوا عبث حماد ببعضها الآخر، ونقطع نحن بأنها موضوعة كلها. وأنت تجد نماذج هذه القصائد فيما روى ابن الشجري للحطيئة في مختاراته. والنحل للحطيئة معقول؛ فقد أكثر الحطيئة من المدح والهجاء، وتدخل فيما كان بين القبائل من الخصومة والتنافس؛ فليس عجيبًا أن تستغل القبائل بعده كثرة مدحه وهجائه كما استغلت مدح الأعشى. ومن هنا نرجح أن كثرة ما يُضاف إلى الحطيئة من الشعر في مدح بني قريع وذم الزبرقان بن بدر ورهطه منحولة، ولا نكاد نصحح من هذا الشعر كله إلا قصيدتين اثنتين: إحداهما السينية التي حبسه فيها عمر، والأخرى الدالية التي سنعرض بعضها عليك. وقل مثل هذا فيما يضاف إلى الحطيئة في مدح علقمة بن علاثة، وفي مدح أشراف قريش، وفي مدح بعض العبسيين وذم بعضهم الآخر، وفي مدح بعض الربعيين من بني حنيفة وغير بني حنيفة، كل هذا الشعر متأثر بالعصبية كما تأثر بها شعر الأعشى.
وأنت واجد في شعر الحطيئة طابع هذه المدرسة الأوسية الزهيرية قويًّا ظاهرًا، ولكنك قد تصادف شيئًا كثيرًا من الشعر يخلو أو يكاد يخلو من هذا الطابع، وذلك يسير؛ فهذا الشعر هو المنحول الذي ذكرناه آنفًا.
ولنعرض عليك سينية الحطيئة هذه التي حُبس فيها، فسترى طابع المدرسة في كل بيت من أبياتها:
فانظر إلى هذه الصور المادية تجدها على نحو ما وجدتها عند زهير وعند أوس وعند كعب، ألا ترى إلى الحطيئة كيف أراد أن يصف أهل الزبرقان بالبخل والاستعصاء على السائلين، فشبههم بالناقة تمرى وتمسح ويتلطف في مريها ومسحها فلا تجود من اللبن بقليل ولا كثير؟ ثم ألا ترى إليه كيف أراد أن يذكر رسوخ ما لآل شماس من المجد الذي لا ينال منه الهجاء ولا الذم، فشبهه بالصخرة الراسية تعمل فيها المعاول فتفل دون أن تنال منها شيئًا؟ ثم ألا ترى إليه كيف أراد أن يذكر أن آل الزبرقان لم يفرجوا كربته فقال: إنهم لم يأسوا جراحه؟ وكيف أراد أن يذكر أنهم نالوه بالشر فقال: إنهم جرحوه بأنياب وأضراس؟ وعلى هذا النحو في القصيدة كلها، وما نظنك في حاجة أن ننبهك إلى أن تأثير القرآن في هذه القصيدة ظاهر، ولا سيما في قوله:
وانظر إلى الأبيات التي قالها حين حبسه عمر، وإلى أول هذه الأبيات بنوع خاص، فسترى فيها أيضًا طابع هذه المدرسة:
أراد أن يقول: ماذا تقول لأطفال صغار، فذكر أفراخًا زغب الحواصل.
وللحطيئة قصيدة أخرى دالية في مدح آل شماس هؤلاء، وهي من خير ما قال الجاهليون في المدح، وهي على ذلك شديدة التأثر بمدح زهير وأسلوبه الشعري. قال الحطيئة:
ولعلك لا تحتاج إلى أن ندلك على ما في هذه القصيدة من تأثير المدرسة؛ فأنت تكاد تجد في كل بيت هذه الصورة المادية قد سلك إليها طريق التشبيه مرة، وطريق الكناية مرة، وطريق التحقيق مرة أخرى، وأنت تجد في هذه القصيدة على متانة لفظها سهولة وقرب مأخذ يدلان دلالة واضحة على أن لغة الشعر في ذلك الوقت في تطور قوي سريع.
(٣-٥) النابغة
ونعود مع النابغة إلى سلسلة الشعراء الجاهليين الذين عمي أمرهم على الرواة فلم يعرفوا من حياتهم شيئًا، أو لم يكادوا يعرفون منها شيئًا. والواقع أن الرواة يعرفون اسم النابغة واسم أبيه، فهو زياد بن معاوية، وهو من ذبيان ثم غطفان ثم من قيس عيلان. والرواة يعرفون أيضًا أنه عاش في آخر العصر الجاهلي، وكاد يدرك الإسلام، وأدرك على كل حال طائفة من الذين أسلموا، أدرك حسان بن ثابت مثلًا.
والرواة يعرفون أن النابغة كان عظيم المكانة في عصره من الوجهة الشعرية الخالصة. وهم يزعمون أن الشعراء احتكموا إليه في عكاظ، ففضل الأعشى وأثنى على الخنساء، وأغضب حسان بن ثابت في قصة طويلة لا شك في أنها متكلفة كلها أو أكثرها، يدل على ذلك هذا النقد المفصل الذي يُضاف إلى الخنساء في بيت حسان:
وهو نقد أليق ﺑ «المثل السائر» وصاحبه منه بشاعرة بدوية جاهلية كالخنساء.
والرواة يعرفون أن النابغة كان متصلًا بالنعمان بن المنذر ويصفيه خالص مدحه. ثم غضب عليه النعمان فاتصل بالغسانيين ومدحهم، ولكن نفسه كانت تنازعه إلى النعمان، فما زال يحتال ويتخذ الوسائل حتى عاد إليه وظفر منه بالعفو والتوبة. ولكن الرواة لا يتفقون، بل قل: لا يوافقون حين يريدون أن يتبينوا مصدر هذا السخط الذي سخطه النعمان بن المنذر على شاعره؛ فبعضهم يزعم أن الأصل في هذا السخط سيف كان عند النابغة أحب النعمان أن يأخذه فتعلل النابغة، ووشى به قوم فغضب النعمان. وبعضهم يزعم أن الأصل في هذا السخط امرأة هي المتجردة زوج النعمان، كان يهواها المنخَّل اليشكري صاحب النابغة الذي مر ذكره، وطلب النعمان إلى النابغة أن يصفها فوصفها وأسرف في الوصف، فغار المنخَّل ووشى بالنابغة فغضب النعمان.
ومن غريب الأمر أنَّا نقرأ شعر النابغة الذي قاله معتذرًا فيه إلى النعمان مستعطفًا له، فلا نرى فيه شيئًا، أو لا نكاد نرى فيه شيئًا يبين أصل هذا السخط. وظاهر أننا لا نقف عند قصة السيف وقفة الجادين، ولا ننظر إلى قصة المتجردة إلا باسمين، وأن من الحق أن نلتمس أصل هذا السخط في غير هاتين القصتين؛ وربما كان شعر النابغة نفسه على غموضه وكثرة النحل فيه هو الذي يستطيع أن يدلنا دلالة قوية أو ضعيفة على أصل هذه القصة. والظاهر أن أصل هذه القصة سياسي؛ فالتنافس بين الفرس والروم في آخر العصر الجاهلي معروف، ومعروف أيضًا أنه استتبع تنافسًا بين ملوك الحيرة وملوك الشام، وأن الأمر لم يقف عند التنافس، بل تجاوزه إلى حروب دموية عنيفة. والظاهر أن ملوك الحيرة وملوك الشام كانوا يبذلون جهودًا عنيفة في نشر الدعوة لأنفسهم وساداتهم من الفرس والروم داخل البلاد العربية. والظاهر أن الغسانيين قد استطاعوا في وقت من الأوقات أن يستهووا النابغة، فسعى إليهم ومدحهم رغم انقطاعه إلى النعمان، فغضب النعمان لذلك وأوعد النابغة، وهذا هو الذي نجده في قصيدة النابغة المشهورة التي أولها:
فظاهر من هذا الشعر أن ذنب النابغة إلى النعمان إنما هو مدحه ملوكًا غير النعمان، وهو يعتذر عن هذا المدح بأن هؤلاء الملوك قد أحسنوا إليه وحكموه في أموالهم فشكر لهم صنعهم، وهو يرى أن هذا الشكر لا يصلح أن يكون ذنبًا، ويقيم الحجة على النعمان بأنه يصطفي قومًا ويحسن إليهم فيشكرون له ذلك، فلا يرى هذا الشكر ذنبًا. وظاهر أن النابغة إنما يعرض هنا بصنيع النعمان في تخذيل الناس عن الغسانيين واجتذاب أنصارهم إليه؛ فنحن بعيدون أشد البعد عن قصة المتجردة وعن قصة السيف.
فإذا عرفت هذا الذي قدمناه فقد عرفت أكثر ما كان الرواة يعرفون من حياة النابغة، وأنت ترى أنه ليس شيئًا. فنحن إذن مضطرون إلى أن نجهل حياة النابغة كما جهلنا حياة أوس وحياة زهير، ولكننا نقول: إن هذا الجهل مؤقت في كثير منه؛ فقد نظن أن الدرس المفصل لديوان النابغة يستطيع أن يظهرنا على طائفة من الحوادث الدقيقة التي تبين لنا بعض الشيء حياة النابغة ومكانته الاجتماعية في عشيرته، وليس من شك في أن هذه المكانة قد كانت عظيمة بعيدة الأثر، فشعر النابغة ينقسم بطبيعته ثلاثة أقسام: الأول شعر قاله في ملوك الحيرة مادحًا ومعتذرًا، وفي الثاني شعر قاله في ملوك غسان مادحًا ومستعطفًا أيضًا، والثالث شعر قاله في شئون بدوية جاهلية تمس قبائل نجد وما كان بينها من صلات الحرب والسلم. وأنت حين تقرأ هذه الأقسام الثلاثة تشعر شعورًا قويًّا بأن مكانة النابغة كانت عظيمة عند ملوك غسان وعند قومه من أهل البادية. ولعل عظم مكانته في البادية هو الذي رغب فيه ملوك الحيرة وغسان وأغراهم باصطناعه وتملقه واتخاذه موضوعًا للنزاع بينهم.
ونحن نرى في شعر النابغة أنه كان وسيلة قومه: يشفع لهم عند أولئك وهؤلاء، وأنه كان يقوم من هذه القبائل البدوية النجدية لا مقام السفير الشفيع ليس غير؛ بل مقام الزعيم المرشد، فتراه ينهاهم مرة عند الحرب ويأمرهم بها مرة أخرى، ويحثهم على الاحتفاظ بمحالفتهم وعهودهم، ويخوفهم بطش الغسانيين. ونرى أن قد كان له من زعماء هذه القبائل معارضون ينكرون سياسته، فهو يرد عليهم ويناضل عن سياسته لينًا حينًا، وعنيفًا حينًا آخر؛ ذلك إلى تفصيلات دقيقة تجدها هنا وهناك؛ وتستطيع من غير شك حين تستخلصها وتقرن بعضها إلى بعض أن توضح ناحية، لا نقول من حياة النابغة وحده، بل نقول: من الحياة السياسية الداخلية والخارجية لعرب نجد آخر العصر الجاهلي. ولكننا لم نضع هذا الكتاب لمثل هذا البحث.
فلندع هذا كله، ولنقف وقفة عند شعر النابغة، ولن تكون هذه الوقفة طويلة؛ فشعر النابغة كشعر زهير وشعر أوس وكشعر الحطيئة وكعب، قد طبع ما صح منه بهذا الطابع الفني الذي بيناه، وكثر فيه إلى جانب ذلك النحل كثرة فاحشة، وأنت تستطيع أن تميز هذا الشعر المنحول في غير مشقة ولا جهد. ولكن النحل في شعر النابغة متغلغل أكثر مما تغلغل في شعر أصحابه، فالرواة لا يكتفون بأن يضعوا عليه القصيدة أو المقطوعة أو البيت، ولكنهم أحيانًا قد يضعون عليه الشطر، وقد يضعون عليه الجزء من أجزاء القصيدة. وكأن شعر النابغة قد وصل إلى الرواة فاسدًا مضطربًا ناقصًا فأصلحوه وأكملوه وأضافوا إليه ما يصلحه ويكمله. ولأضرب لك مثلًا بقصيدته الدالية التي مطلعها:
فأول هذه القصيدة مطبوع بطابع المدرسة، تجد فيه وصف الدار وما بقي من آثار على نحو ما تجده عند زهير وأوس والحطيئة، وربما شاركهم في اللفظ، كقوله:
فهو يُذكر بقول زهير:
وربما استطعت أن تفسر شعر النابغة بشعر الحطيئة، كقوله:
يفسره قول الحطيئة:
فإذا فرغ النابغة من الدار وآثارها، عمد إلى ناقته فوصفها معتمدًا في هذا الوصف على مذهب أصحابه من عرض الصور المادية في شيء من القصص، وربما لم يتجاوز ما قال أوس كما قدمنا، وذلك قوله:
فهو بعينه القصص الذي تراه عند أوس وزهير معتمدًا على الصور المادية حتى ينتهي من وصف الناقة إلى ما يريد الشاعر. ولكن النحل يبدأ من هذا الموضع؛ فقد وصل النابغة إلى النعمان، وكان المعقول أن يمضي في مدحه على نحو ما يمضي أصحابه، ولكنه يستطرد إلى ذكر سليمان بن داود وبناء الجن تدمر له، في كلام ضعيف اللفظ سخيف المعنى لا صلة بينه وبين شعر النابغة:
والظاهر أن هذه الأبيات قد أدخلت على القصيدة إدخالًا، وأن الأبيات التي تأتي مكانها إنما هي قوله:
ثم تأتي بعد هذه الأبيات قصة زرقاء اليمامة وحمامها أو مطارها، ولا شك في أن هذه القصة منحولة في القصيدة، إلا أن يكون النابغة قد أشار إليها إشارة في قوله:
فأما قوله بعد ذلك:
فمن تكلف الرواة لتفسير ذلك البيت. وأكبر الظن أن ذلك البيت نفسه ليس في موضعه من القصيدة، وإنما هو يأتي أثناء الاعتذار حين يطلب النابغة إلى النعمان ألا يقبل فيه قول الوشاة دون روية أو فراسة.
ومثل هذا يجب أن يقال في غير هذه القصيدة من شعر النابغة الذي اعتذر فيه إلى النعمان أو مدح فيه ملوك غسان، فلم يصح لنا مثلًا من قصيدته التي مطلعها:
إلا أبيات متفرقة جاء بعضها في أول القصيدة في وصف الدار وآثارها، وجاء بعضها في وسط القصيدة ولكنه مضطرب، وهو قوله:
وعندنا أن هذا الشطر الأخير قد أُدخل لتكميل البيت بعد أن ضاع الشطر الثاني منه، ثم صح لنا من هذه القصيدة قول النابغة:
فأما ما عدا هذه الأبيات من القصيدة فمنه المنحول كله، ومنه ما نُحل جزء دون الجزء الآخر.
وقصيدة النابغة التي مطلعها:
لا يصح منها عندنا إلا قسمها الأول إلى قوله:
وقل مثل هذا في شعر النابغة الذي مدح به الغسانيين؛ فقد كثر فيه النحل، ومنه ما اخترع كله بعد الإسلام، كهذه الأبيات التي فضل الشعبي بها النابغة على الأخطل:
فهي أبيات قد نظم فيها الملوك من بني غسان نظمًا.
وبائية النابغة التي مطلعها:
صحيحة في جملتها، ولكن عبث الرواية فيها كثير، وظاهر أنا نرفض قصيدة المتجردة كلها، ولا نقبل منها إلا أولها:
ونحن نرى أن إصلاح الإقواء في هذه الأبيات متأخر.
فأما شعر النابغة الذي يمس الحياة البدوية الخالصة فالنحل فيه قليل أو هو أقل من النحل في هذا المدح والاعتذار، تعرف ذلك حين تقرأ هذا الشعر فترى فيه طابع المدرسة، وترى فيه متانة ورصانة مطردين وإسفافًا قليلًا.
ولعلك بعد أن قرأت ما عرضنا عليك من شعر النابغة الذي صح لنا لا تشك في اتصاله بهذه المدرسة الأوسية الزهيرية؛ فقد رأيت صوره المادية في داليته ورأيتها في العينية أيضًا، والناس يقدمون النابغة بقوله:
وأي شيء في هذا البيت غير هذا التشبيه البديع؛ وإنما جاء جمال هذا التشبيه من أنه مادي في جوهره معنوي في غايته.
والناس يحمدون للنابغة قوله:
وأي شيء في هذين البيتين إلا هذا التشبيه المادي في جوهره المعنوي في غايته، وللنابغة في شعره صور جياد حسان لا أستطيع أن أهمل منها هذه الصورة البديعة في قوله:
ومهما يكن من شيء فاتصال النابغة بأصحابه لا شك فيه من الوجهتين الفنيتين اللتين أشرنا إليهما، وليس من شك في أن تلاميذ هذه المدرسة أكثر ممن ذكرنا، فهناك شعراء آخرون منهم التميمي والقيسي قد أخذوا عن أوس وأصحابه وساروا سيرتهم، ولكنا نكتفي بمن ذكرنا؛ فهم الزعماء، وهم ليسوا زعماء هذه المدرسة وحدها بل هم فيما يظهر زعماء الشعر المضري الجاهلي كله.
ونحن نعلم أنا بعيدون أشد البعد من أن نكون قد وفيناهم حقهم من البحث والتحليل، بل نحن لم نأخذ من ذلك إلا بحظ ضئيل جدًّا، ولكنا مع ذلك مكتفون بهذا المقدار؛ لأنَّا لم نرد في حقيقة الأمر إلا عرض المنهاج وامتحانه. وقد يخيل إلينا أن هذا المنهاج صحيح منتج، وأن سلوكه في درس هؤلاء الشعراء أنفسهم وفي درس المدارس الأخرى التي أشرنا إليها آنفًا قد ينتهي إلى إظهار طائفة من الشعر الجاهلي هي إلى الصحة أقرب منها إلى الفساد والنحل.
فأنت ترى بعد هذا كله أنَّا في هذا الكتاب لم نكن هدامين ليس غير، وإنما هدمنا لنبني، ونحن نحاول أن يكون بناؤنا متين الأساس قوي الدعائم، ونحن نعتقد أنا قد نوفق من ذلك لكثير؛ ولكنا في حاجة إلى الوقت من ناحية، وإلى معونة الصادقين المخلصين من ناحية أخرى. وأكبر الظن أنَّا لن نفقد ما نحتاج إليه من هؤلاء المخلصين الصادقين حين نستأنف هذا البحث عن الشعر الجاهلي المضري في تفصيل ودقة منذ السنة المقبلة إن شاء الله.