النثر الجاهلي
(١) ظهور النثر
وهنا أيضًا لا نرى بدًّا من تغيير نظرية القدماء وأنصار القديم، فأولئك وهؤلاء متفقون على أنه قد كان للعرب في جاهليتهم نثر، وعلى أن النثر قد وُجد قبل الشعر، وكان أكثر منه وأغزر مادة. ولكن الرواة لم يحفظوا من النثر شيئًا يُذكر بالقياس إلى ما حفظوا من الشعر؛ لأن الوزن والقافية أعانا على حفظ الشعر وروايته، وخلا منها النثر فلم يُحفظ منه إلا النزر اليسير. وعلى هذا النحو أخذ القدماء يفاضلون بين الشعر والنثر. ومضى ابن رشيق وأمثاله في هذا اللون من المفاضلة، فقدم الشعر؛ لأن الوزن والقافية يجعلانه أشبه بالدر الذي ينتظمه العقد، على حين يشبه النثر بالدر الذي لا نظام له، وقدم الشعر؛ لأن صاحبه ينشده قائمًا على حين لا يقوم صاحب النثر إلا في الخطابة، وهلم جرَّا …
ولكن هذه النظرية في نفسها غير صحيحة، ولا بد من أن يتفق قبل كل شيء على ما يفهم من لفظ «النثر» عند مؤرخي الآداب، كما اتفق على ما يفهم عندهم من لفظ «الشعر». فأما إن فهم من النثر كل كلام لا ينظمه وزن ولا قافية، فليس من شك في أن قد كان للعرب الجاهليين نثر منذ عصور قديمة جدًّا. وليس من شك في أنهم تخاطبوا بالإشارات والكلمات والجمل المقتضبة قبل أن يظهر فيهم الشعور الفني الذي يحملهم على أن يتغنوا ويقرضوا الشعر. ولكن هذا النوع من النثر إن أهم أصحاب اللغة وعلم النفس فهو لا يَعني مؤرخ الآداب في قليل ولا كثير. وما رأيك في مؤرخ الآداب الذي يُعنَى بأحاديث الناس في حياتهم اليومية وحاجاتهم العادية المبتذلة؟! إنما النثر الذي يُعنَى به مؤرخ الآداب هو النثر الذي يمكن أن يعد أدبًا، والذي يمكن أن يقال: إنه فن، فيه مظهر من مظاهر الجمال، وفيه قصد إلى التأثير في النفس من أي ناحية من أنحائها، هو هذا الكلام الذي يُعنَى به صاحبه عناية خاصة ويتكلفه تكلفًا خاصًّا، ويريد أن يأخذك بالنظر فيه والتعويل عليه، كما يُعنَى الشاعر بشعره، ويحاول أن يؤثر به في نفسك. فإذا فُهم «النثر» على هذا النحو — ولا ينبغي أن يُفهم في تاريخ الآداب إلا على هذا النحو — فليس من شك في أنه قد كان عند العرب أحدث عهدًا من الشعر؛ ذلك لأن العرب ليست أمة ممتازة من بقية الأمم التي خلقها الله، نشأت ومعها شعرها ونثرها وعلمها وأدبها. وإنما هي كغيرها من الأمم نشأت ونمت وتطورت حسب النظام الاجتماعي الطبيعي الذي سيطر وما يزال يسيطر على حياة الشعوب جميعًا.
ونحن نعرف أن الشعر أقدم عهدًا من النثر، وأنه أول مظاهر الفن في الكلام؛ لأنه متصل بالحس والشعور والخيال وهذه الملكات التي تكاد تنشأ مع الفرد والجماعة. فهو ينبعث إذن عن الحياة الإنسانية انبعاثًا يوشك أن يشبه انبعاث الضوء عن الشمس والعطر عن الزهرة. فأما النثر فهو لغة العقل ومظهر من مظاهر التفكير، تأثير الإرادة فيه أعظم من تأثيرها في الشعر أيضًا؛ فليس غريبًا أن يتأخر ظهوره، وأن يقترن بظواهر أخرى طبيعية واجتماعية لا يحتاج إليها الشعر. ولسنا نعرف أمة قديمة أو حديثة ظهر فيها النثر قبل أن يظهر الشعر، أو ظهر فيها النثر مع ظهور الشعر. وإنما الذي نعرفه في تاريخ الآداب عامة أن الأمم تأخذ بحظها من الشعر قبل كل شيء، وتنفق من حياتها عصورًا طوالًا يتطور فيها الشعر ويستحيل وهي تجهل النثر جهلًا تامًّا. وأنت تستطيع أن تلتمس الأمر عند اليونان والرومان والأمم الغربية فسترى أن هذه الأمم كلها تغنت ونظمت الشعر قبل أن تعرف النثر بأزمان طوال. وأنت تستطيع أن تلتمس ذلك في الأمم والبيئات غير الراقية المعاصرة لنا، فسترى أممًا وحشية أو بدوية تتغنى وتنظم الشعر وليس لها من النثر حظ. وأنت تستطيع أن تلتمس ذلك في أقاليمنا المصرية نفسها، فسترى البيئات المصرية الجاهلة تنظم الشعر في لغتها العامية، ولكنها لا تعرف النثر في هذه اللغة إلا حين تأخذ بحظ من التعليم يختلف قلة وكثرة.
فالنثر إذن متأخر حديث العهد بالقياس إلى الشعر، وهو لا يظهر ولا يقوى عادة إلا حين تظهر في الجماعة وتقوى هذه الملكة المفكرة التي نسميها العقل، وحين تظهر وتشيع هذه الظاهرة الاجتماعية التي نسميها الكتابة؛ فالعقل يفكر ويروِّي ويحتاج إلى أن يعلن تفكيره وترويته، والكتابة تمكنه من أن يقيد تفكيره وترويته ويعلنهما إلى الناس. ولا بد من أن تظهر آثار هذه القوة المفكرة التي نسميها العقل في الشعر قبل ظهورها في النثر؛ حتى إذا ضاق الشعر بوزنه وقافيته عن تفكير العقل احتاج العقل إلى أن يتحلل في التعبير عن أغراضه من هذه القيود الشعرية من وزن وقافية ولغة خاصة واعتماد على الخيال. ومن هذه الحاجة التي يشعر بها العقل حين يضيق به الشعر يظهر النثر؛ فيعتمد العقل على لغة التخاطب وأساليبه ليتحدث إلى الناس. ثم ما يزال بهذه اللغة والأساليب يصلحها ويهذبها حتى ينشأ له فن جديد ليس شعرًا وليس لغة تخاطب، وإنما هو شيء وسط بينهما. ويقوى هذا الفن شيئًا فشيئًا بمقدار ما يقوى العقل ويرقى حتى يتم تكوينه، فإذا هو لغة التاريخ والفلسفة والدين، وإذا هو مظهر من المظاهر الأدبية الخالصة.
(٢) موقفنا من النثر الجاهلي
فإذا نحن التمسنا تاريخ النثر عند العرب الجاهليين على ضوء هذه النظرية، فقد يكون من العسير جدًّا — إن لم يكن من المستحيل — أن نهتدي الآن إلى شيء قيم؛ ذلك لأننا مضطرون إلى أن نقف من النثر الجاهلي نفس الموقف الذي وقفناه من الشعر الجاهلي، فنقسم العرب إلى قسمين: عرب الشمال وعرب الجنوب، ونرفض من غير تردد كل ما يُضاف إلى عرب الجنوب من نثر قبل الإسلام؛ ذلك لأن النثر الذي يُضاف إليهم كالشعر قد رُوي بلغة قريش التي لم يكن لهم بها علم، فيجب ألا يكون صحيحًا، ولأمر في النثر أظهر منه في الشعر؛ فإن لهؤلاء الناس لغة معروفة كتبوها وتركوا فيها نصوصًا منثورة نستطيع أن نقرأها وندرسها ونستخلص منها بعض القواعد الفنية للنثر. فمن العجيب أن يكون لهم نثران: أحدهما في لغتهم الطبيعية، والثاني في لغة لم يكن لهم بها عهد. ومن الغريب ألا يتركوا لنا أثرًا واحدًا مكتوبًا فيه نثر قد كتب بلغة قريش. وإذن فكل ما يضاف إلى اليمنيين من نثر مرسل أو مسجوع أو خطابة في الجاهلية مرفوض لا قيمة له ولا حظ له من الصحة نحل بعد الإسلام نحلًا للأسباب التي قدمنا في الكتاب الثالث.
أما عرب الشمال فلا بد من أن نقف من نثرهم موقفنا من شعرهم، ولعلك تذكر أنَّا نرفض أكثر الشعر الذي أُضيف إلى ربيعة، ونحتاط أشد الاحتياط في سائره الذي نشأ في عصر متأخر جدًّا كشعر الأعشى. فنحن نقف هذا الموقف نفسه مما يُضاف إلى ربيعة وغيرها من عرب العراق والبحرين والجزيرة، نرفضه ولا نكاد نقبل منه شيئًا. فلم يبقَ إلا المضريون، وقد عرفت أنَّا نلتمس المقاييس التي نتبين بها صحة الشعر المضري في الجاهلية أو بطلانه، وإنه يخيل إلينا أن قد وفقنا من هذه المقاييس لشيء. ولكن الأمر في نثر مضر أصعب من الأمر في شعرها، فليست الأمم في حاجة إلى أن تكون عظيمة الحظ من الحضارة لتقول الشعر، وليست هي في حاجة إلى الكتابة لتقول الشعر أيضًا. فإذا صح أن نسلم بأن المضريين قد قالوا الشعر على بداوتهم وضعف حظهم من الحضارة حين تحضروا قبل الإسلام، فقد يكون من الحق أن نتردد فيما يضاف إليهم من النثر؛ لأنَّا في حاجة إلى أن نعرف تاريخ حضارتهم الجاهلية وتاريخ رقيهم العقلي. وظاهر أن الشعر الذي يُضاف إليهم لا يكاد يمثل لنا من هذا شيئًا، ونحن نجهل أو نكاد نجهل تاريخ انتشار الكتابة عندهم، وليس لدينا أثر واحد مكتوب فيه نص عربي مضري كُتب قبل الإسلام. وإذا صح الاعتماد على الرواية بعض الشيء في الشعر، فليس من البحث العلمي في شيء أن نعتمد على الرواية وحدها في النثر. فنحن إذن مضطرون إلى أن نرفض هذا النثر الكثير الذي يُضاف إلى المضريين قبل الإسلام، مع أننا نقبل بعض ما يُضاف إليهم من الشعر.
(٣) صور النثر الجاهلي
ومع ذلك فكل شيء في تاريخ الأدب العربي يدل على أن قد كان للمضريين نثر ما، بل يدل على أن قد كان لهم قبل الإسلام نثر وصل إلى حد من الرقي لا بأس به، فما يصح لنا من الشعر الجاهلي كامل الخلق متقن البناء فيه أثر التفكير والروية. وحسبك أن تنظر في شعر زهير والنابغة والحطيئة لتقتنع بذلك، وقد كان لهم حظ لا بأس به من الحضارة في مكة والطائف والمدينة. وكانوا يتخذون الكتابة في أغراضهم التجارية والاقتصادية، وكانوا على حظ غير قليل من الاتصال باليهود والنصارى ومجوس الفرس، فكان من المعقول أن يدعوهم هذا كله إلى التفكير والروية، ثم إلى الكتابة واستحداث النثر، وكانوا على حظ من العلم والمعرفة بأخبار الأولين وأحوال الأمم الأخرى، وكان لهم ألوان أخرى من الفنون كالنجوم والطب وما إلى ذلك؛ وكل هذا يكفي ليكون لهم نثر ما. فنحن حين نرفض ما يُضاف إليهم من النثر لا نزعم أنهم قد جهلوا النثر جهلًا تامًّا ولم يعرفوه إلا بعد الإسلام، وإنما نزعم أن قد كان لهم نثر لم يصل إلينا منه شيء بطريقة علمية قاطعة أو مرجحة.
ستقول: وهذه الخطب التي تُضاف إلى وفود العرب عند كسرى، وهذا السجع الذي يُضاف إلى الكهان، وهذا الكلام الذي يُضاف إلى قس بن ساعدة، وهذه الحكم والوصايا التي تُضاف إلى حكمائهم وعظمائهم ماذا نصنع بها؟ فنجيب: نرفضها من غير تردد؛ لأنك تستطيع أن تقرأها وتنظر فيها لتردها كلها إلى العصور الإسلامية التي نُحلت فيها. وأكثرها إنما نُحل في أول القرن الثاني وفي القرن الثالث للهجرة لنفس الأسباب التي حملت على نحل الشعر من سياسة ودين وقصص وشعوبية وتكثُّر في الرواية وما إلى ذلك.
وكل ما يمكننا أن نستخلصه من هذا النثر الذي يُضاف إلى الجاهليين إنما هو شيء واحد، وهو أن من الممكن أن يكون هذا النثر قد حاول قليلًا أو كثيرًا تقليد ما كان للعرب في جاهليتهم من نثر، فحفظ لنا صورة ما من هذا النثر الجاهلي، دون أن يحفظ لنا نصًّا من نصوصه. وأكبر الظن أن القرن السادس للمسيح قد شهد اتصال المضرية بالأمم الأجنبية، وأخذها بشيء من أسباب الحضارة، واستعارتها الكتابة من أهل اليمن أو من النبط السريان — على اختلاف العلماء في ذلك — وتأثرها بالحياة الحضرية العامة؛ فنشأ فيها نوع من النثر لم يتحلل من قيود الشعر كلها وإنما تحلل منها بعض الشيء، لم يلتزم فيه الوزن، وإنما التزمت فيه القافية التزامًا ما؛ فنشأ السجع الذي كان يُلتزم في بعض الخطابات الفنية وفي بعض الرسائل الفنية أيضًا. وما نظن إلا أنهم حين استعملوا الكتابة في حاجاتهم اليومية العادية لم يتقيدوا تقييدًا ما، فكان لهم نوعان من النثر إذن: أحدهما فني لم يتحلل من قيود الشعر التحلل المطلق، والآخر عادي اعتمد على لغة التخاطب أكثر من اعتماده على أي شيء آخر. ولو قد وصلت إلينا طائفة مكتوبة من هذا النثر لاستطعنا أن نُقيم تاريخ النثر العربي على أساس متين، وأن نعرف كيف استطاع العرب أن يتحللوا من قيود الشعر، وإلى أي حد وصلوا من هذا التحلل، وكيف تطور نثرهم حتى انتهى إلى حيث نراه أيام بني أمية وبني العباس. ولكن شيئًا من هذه النصوص لم يصل إلينا، والذين يريدون أن يدرسوا تاريخ النثر العربي الصحيح مضطرون إلى أن يردوه لا إلى نثر جاهلي بل إلى القرآن وحده. فنحن نعلم إلى أي حد بعد التأثير الأدبي للقرآن في نفوس العرب حتى أصبح المثل الأعلى الذي يحتذيه الكاتب والمحاور والخطيب والشاعر أيضًا. غير أن الشعراء كانوا يحتفظون، كما رأيت، بسنن شعرية موروثة. وكان لديهم فيما يظهر نماذج شعرية جاهلية تأثروها وقاسوا عليها. وظاهر أن قد كانت للخطباء سنن خطابية وللمحاورين سنن في الحوار؛ فإن سلسلة الحياة لم تنقطع بين الجاهلية والإسلام. وظاهر أيضًا أن قد كانت لهم سنن في النثر أيضًا نلمحها في القرآن ونلمحها في أحاديث النبي وفي أحاديث الخلفاء وخطبهم. ولكن أمر النثر كما رأيت ليس كأمر الشعر؛ فلدينا نماذج شعرية للعصر الجاهلي وليس لدينا نموذج نثري واحد لهذا العصر.
ستقول: والأمثال؟ وأنا أرى معك أن طائفة غير قليلة من الأمثال يجب أن تكون جاهلية. ولكن تحقيق هذه الأمثال الجاهلية التي لم تُستحدث في الإسلام ليس بالشيء اليسير. والأمثال بطبيعتها أدب شعبي مضطرب متطور، يصح أن يؤخذ مقياسًا لدرس اللغة، ومقياسًا لدرس الجملة القصيرة كيف تتكون، ومقياسًا بنوع خاص لعبث الشعوب بالألفاظ والمعاني. ولكن هذا كله شيء، والنثر الفني شيء آخر.
ومن غريب الأمر أن حظ النثر الذي يضاف إلى الجاهليين من مظاهر الفساد والنحل كحظ الشعر الذي يُضاف إليهم؛ فهناك نثر تعرف فيه السهولة واللين، كهذا الذي يُضاف إلى قس بن ساعدة. وهناك نثر تعرف فيه الشدة والرصانة، كهذا الذي يُضاف إلى أكثم بن صيفي. وحياة الناثرين من الجاهليين مضطربة كحياة الشعراء؛ فقس بن ساعدة قد عمر سبعة قرون أو ثلاثة قرون، أو قرنين ونصف قرن، وهي فيما يظهر أقل سن يتفق عليها المعتدلون. وكان أكثم بن صيفي من المعمرين. وحياة ذي الأصبع العدواني لا تخلو من الأعاجيب. فإذا قارنت فساد هذا النثر واضطرابه بفساد حياة الناثرين واضطرابها لم تتردد في أن تقف من هذا النثر موقفنا.
ستقول: والخطابة ماذا تصنع بها؟ ترى أن العرب لم يكونوا خطباء قبل الإسلام، والإجماع على أن قد كان فيهم الخطباء المفوهون؟ أما أنا فلا أنكر أن قد كان العرب قبل الإسلام خطباء، ولكني لا أتردد في أن خطابتهم لم تكن شيئًا ذا غناء. وإنما الخطابة العربية فن إسلامي خالص؛ ذلك أن الخطابة ليست من هذه الفنون الطبيعية التي تصدر عن الشعوب عفوًا ويُعنَى بها الأفراد لنفسها، وإنما هي ظاهرة اجتماعية ملائمة لنوع خاص من الحياة. وكل الحياة الاجتماعية للعرب قبل الإسلام لم تكن — وإن غضب أنصار القديم — تدعو إلى خطابة قوية ممتازة، فالحواضر كانت حواضر تجارة ومال واقتصاد، ولم يكن للحياة السياسية فيها خطر يُذكر، ولم تكن لهم حياة دينية علمية قوية تحتاج إلى إلقاء الخطب كما تعود النصارى والمسلمون. وأهل البادية كانوا في حرب وغزو وخصومات؛ وهذا يدعو إلى الحوار والجدل، ولكنه لا يدعو إلى الخطابة، فالخطابة تحتاج إلى الاستقرار والثبات والاطمئنان إلى الحياة المدنية المعقدة. وأنت لا ترى عند اليونان خطابة أيام الملوك، ولا أيام البداوة، ولا أيام الطغيان. وإنما الخطابة اليونانية ظاهرة ملازمة للحياة السياسية العامة ديمقراطية كانت أو أرستقراطية. ولم يعرف الرومان الخطابة أيام البداوة ولا أيام الملوك ولا أيام الجمهورية الأرستقراطية، وإنما عرفوها حين تعقدت حياتهم السياسية وظهرت فيهم الخصومات الحزبية. ولم تظهر الخطابة في أوروبا المسيحية — إذا استثنينا خطب الكنائس — إلا في العصر الديمقراطي حين تعقدت الحياة السياسية واشتركت فيها الشعوب. فلا تُصدق إذن أن قد كانت للعرب في الجاهلية خطابة ممتازة. إنما استحدثت الخطابة في الإسلام، استحدثها النبي والخلفاء، وقويت حين نجمت الخصومة السياسية الحزبية بين المسلمين.
•••
فأنت ترى في هذا الكتاب كله أن الأمر في الأدب الجاهلي مخالف كل المخالفة لما اتفق عليه الأساتذة والمعلمون، فكثرة الشعر الجاهلي بين مرفوض ومشكوك فيه، وقلته في حاجة إلى الدرس، وما يُضاف إلى الجاهليين من نثر لا قيمة له ولا غناء فيه.
وإذن فهل ضاع العصر الجاهلي حقًّا؟
أما نحن فقد بينا رأينا في ذلك حين قلنا: إن الحياة الجاهلية يجب أن تُلتمس في القرآن لا في الأدب الجاهلي.
وإذا لم يكن بد من أن نختم هذا السِّفْرَ بجملة تُلخص رأينا، فنحن ننظر إلى الأدب الجاهلي كما ينظر المؤرخ إلى ما قبل التاريخ، ويتخذ لدرسه الوسائل التي تُتخذ لدرس ما قبل التاريخ. فأما تاريخ الأدب حقًّا، التاريخ الذي يمكن أن يُدرس في ثقة واطمئنان، وعلى أرض ثابتة لا تضطرب ولا تزول، فإنما يبتدئ بالقرآن.