لحظة مينسكي
ما إن ضَرَبَتْنا هذه الأزمةُ الائتمانية الطاحنة، حتى وصلْنا إلى حالة ركود. وعمَّقَ هذا الركود بدوره من أزمة الائتمان؛ حيث تراجعَتْ معدلات الطلب والتوظيف، وارتفعَتْ خسائرُ الائتمان في المؤسَّسات المالية. الحقيقة أننا وقعنا في تلك الحلقة من التأثيرات الضارة المتتابعة منذ أكثر من عامٍ، وطالَتْ عمليةُ تقليصِ مديونيةِ الميزانية العمومية كلَّ ركنٍ من أركان الاقتصاد تقريبًا، وبدأ المستهلكون يقلِّصون مشترياتهم — خاصةً من السلع المعمرة — لزيادة حجم مدَّخَراتهم، فيما اتَّجهَتِ الشركاتُ لإلغاء الاستثمارات المخطَّط لها وتسريحِ العمال للحفاظ على السيولة النقدية، وقلَّصَتِ المؤسساتُ المالية أصولَها لتعزيز رأس المال وتحسين فُرَصِها في النجاة من العاصفة الحالية. مرةً أخرى فهم مينسكي هذه القوةَ المحرِّكة؛ فتحدَّثَ عن مفارَقةِ تقليص المديونية، التي قد تكون الاحتياطاتُ المتَّخَذةُ بموجبها حصيفةً بالنسبة إلى الأفراد والشركات — وضرورية في الواقع للعودة بالاقتصاد إلى حالته الطبيعية — إلا أنها تضاعِفُ مِحنةَ الاقتصاد ككلٍّ.
في أبريل ٢٠١١، عقد معهدُ الفِكْر الاقتصادي الجديد — الذي أُسِّسَ في أعقاب الأزمة المالية لعام ٢٠٠٨ بهدف تعزيز الفكر الاقتصادي الجديد، كما يبدو من اسمه — مؤتمرًا في بريتون وودز بولاية نيو هامبشير، التي عُقِد فيها اجتماعٌ شهيرٌ عام ١٩٤٤ وضَعَ أُسَسَ النظام النقدي العالمي في مرحلةِ ما بعد الحرب؛ وقد علَّق أحد المشاركين — مارك توما من جامعة أوريجون، صاحب المدونة القوية التأثير «إيكونوميستس فيو» — ساخِرًا بعد الاستماع لبعض لجان المؤتمر: «الفكر الاقتصادي الجديد يعني قراءةَ الكتب القديمة.»
كان محِقًّا — وهو ما سارَعَ آخرون بتأكيده — ولكن ثمة سبب وجيه وراء رَوَاج الكتب القديمة مجدَّدًا. صحيح أن خبراء الاقتصاد توصَّلوا إلى بعض الأفكار الجديدة في أعقاب الأزمة المالية، ولكن يمكن القول بأن أهم التغيُّرات الفكرية — على الأقل فيما بين مجموعة الاقتصاديين الذين أبدَوا استعدادًا لمراجعة آرائهم في ضوء الكارثة المستمرة، وهي مجموعة أصغر مما كنَّا نأمل — كان هو العودة إلى تقدير أفكار الاقتصاديين السابقين. طبعًا أحدُ هؤلاء الاقتصاديين السابقين هو جون مينارد كينز؛ فمن الواضح أننا نحيا الآن في عالَمٍ مِن النوع الذي وصَفَه كينز. ولكن كانت ثمة عودة قوية ومبرَّرة لاقتصاديين راحلين آخَرين؛ أحدهما الاقتصادي الأمريكي إرفينج فيشر الذي عاصَرَ كينز، والآخَر دخَلَ الساحةَ الاقتصادية في وقت لاحق، وهو الراحل هايمان مينسكي. والمثير للاهتمام بالنسبة إلى بزوغ نجم مينسكي من جديدٍ، هو أنه كان بعيدًا تمامًا عن التيار الاقتصادي السائد في حياته؛ فلِمَ يلجأ الكثيرُ من الاقتصاديين — بمَا فيهم كبار مسئولي بنك الاحتياطي الفيدرالي، كما رأينا في بداية هذا الفصل — لاستحضارِ اسمه الآن؟
إعادة النظر في تحذيرات مينسكي
قبل أزمة ٢٠٠٨ بفترة طويلة، لم يحذِّر هايمان مينسكي الاقتصاديين — الذين لم يُلْقِ معظمهم بالًا لتحذيراته — من احتمال وقوع أزمةٍ من هذا القبيل، وإنما من وجوب وقوعها.
قليلون هم مَن أنصتوا إليه في ذلك الوقت؛ فقد كان مينسكي — الذي عمل بالتدريس في جامعة واشنطن بسانت لويس — شخصيةً مهمَّشةً طوال حياته المهنية، وتوفي عام ١٩٩٦ وهو لا يزال مهمَّشًا. ولكي نكون صادقين، لم يكن خروجُ مينسكي عن التيار السائد هو السببَ الوحيد لتجاهُل ذلك التيار له؛ فأقلُّ ما يمكن أن يقال عن كُتبه هو أنها ليسَتْ سهلةَ الاستيعاب؛ ففيها تتناثَرُ لمحاتٌ مستبصرة نابغة وسط مساحات شاسعة من اللغو المنمَّق والجبر المطوَّل. بالإضافة إلى ذلك، فقَدْ أطلَقَ العديدَ من الإنذارات الكاذبة؛ حيث تنبَّأَ مينسكي بنحو تسعِ أزمات على شاكلة الأزمات المالية الثلاث الكبرى التي وقعَتْ مؤخرًا.
إلا أنه في هذه الأيام، أدرَكَ العديدُ من الاقتصاديين — منهم مؤلِّف هذا الكتاب — أهميةَ «فرضية عدم الاستقرار المالي» التي طرحها مينسكي، وإن المستجدِّين بيننا نسبيًّا في تناوُل أعمال مينسكي — مرةً أخرى منهم مؤلِّف هذا الكتاب — يتمنَّون لو كانوا قرءوا أعماله منذ زمن.
كانت فكرة مينسكي المبتكرة هي التركيز على نسبة المديونية، أو تراكم الديون نسبةً إلى الأصول أو الدخل. وقال إن فترات الاستقرار الاقتصادي تولِّد زيادةً في نسبة المديونية؛ حيث لا يعبأ أحدٌ بخطر عجز المقترضين عن السداد، غير أن هذه الزيادة في نسبة المديونية تؤدِّي في نهاية المطاف إلى عدم الاستقرار الاقتصادي، بل إنها تمهِّد الطريق لحدوث أزمة مالية واقتصادية.
دعونا نتناول المسألة تدريجيًّا.
بادئ ذي بدء، الديون مفيدة جدًّا؛ فقد كنَّا سنصبح مجتمعًا أكثر فقرًا إذا ما اضطر كلُّ مَن يرغب في شراء منزل إلى الدفع نقدًا، ولجأ كلُّ صاحبِ مشروعٍ صغيرٍ يسعى إلى التوسُّع إما للدفع من ماله الخاص لتحقيق هذا التوسع، وإما إلى تحمُّل شركاء غير مرغوب فيهم. والدَّين وسيلة لتشغيل نقود أولئك الذين لا يجدون استخداماتٍ جيدةً لها في الوقت الراهن، في خدمة مَن يمتلكون استخداماتٍ جيدةً لها.
بالإضافة إلى ذلك — وعلى عكس ما قد تظنون — لا يتسبَّب الدَّيْن في إفقار المجتمع ككلٍّ؛ فَدَينُ شخصٍ ما هو أحد أصول شخص آخَر؛ لذلك فإجمالي الثروة لا يتأثَّر بكمية الديون المتداولة. على وجه الدقة، لا ينطبق ذلك إلا على الاقتصاد العالمي ككلٍّ، لا على بلدٍ واحدٍ بمفرده، وثمة بلدان تزيد ديونها الخارجية كثيرًا عن أصولها في الخارج. ولكنْ على الرغم من كلِّ ما قد تكون قد سمعْتَه عن الاقتراض من الصين وما إلى ذلك، فإنَّ هذا ليس صحيحًا فيما يتعلَّق بالولايات المتحدة؛ فالعجز في «صافي وضع الاستثمار الدولي» للولايات المتحدة — أو الفارِق بين أصولها وديونها في الخارج — قيمته ٢٫٥ تريليون دولار «فقط». قد يبدو هذا كثيرًا، ولكنه في الواقع ليس كذلك في إطار اقتصادٍ يُنتج ما قيمته ١٥ تريليون دولار من السلع والخدمات سنويًّا. وقد تزايدَتْ ديون الولايات المتحدة سريعًا منذ عام ١٩٨٠، غير أن هذه الزيادة السريعة في الدَّيْن لم تجعلنا غارقين في الدَّيْن لسائر دول العالم.
ومع ذلك، فقد جعلَنا الدَّيْنُ عرضةً لمثل هذا النوع من الأزمات التي ضربَتِ البلادَ عام ٢٠٠٨.
من البديهي أن زيادة نسبة المديونية — أيْ زيادة حجم الدَّيْن نسبةً إلى الدخل أو الأصول — تجعلك أكثر عرضةً للخطر عندما تسوء الأمور؛ فالعائلة التي اشترَتْ منزلها دون أيِّ مقدم باستخدام الرهن العقاري القائم على الفائدة فقط، ستجد أن القيمة السوقية للمنزل أقلُّ من قيمته الدفترية؛ ومن ثَمَّ ستجد نفسها في ورطةٍ إذا ما حدَثَ هبوطٌ في سوق العقارات، حتى إن كان ضئيلًا؛ أما الأسرة التي دفعَتْ مقدمًا قدره ٢٠ بالمائة، وتعمل على سدادِ أصلِ القرض منذ ذلك الوقت، فمن المرجح أن تجتاز المحنة. وكذلك، فإن الشركات الملزمة بتكريس معظم التدفُّقات النقدية لسداد الديون التي تراكَمَتْ إثرَ شراء الحصص بنقود القروض قد تنهار سريعًا في حال تعثُّر مبيعاتها، في حين أن الشركات غير المثقلة بالديون قد تكون قادرةً على الصمود أمام العاصفة.
أما ما قد يكون أقلَّ بديهيةً، فهو أنه عندما تتزايد نسبةُ الديون لدى الكثير من الأفراد والشركات، يصبح الاقتصاد بأَسْره أكثرَ عرضةً للمخاطر إذا ما ساءَتِ الأمورُ؛ فمستويات الدَّيْن المرتفعة تجعل الاقتصادَ عرضةً لنوع من دوامةِ الموت، فيها تُفضي جهودُ «خفض التمويل بالديون» التي يبذلها المدينون في حدِّ ذاتها إلى خلق بيئةٍ تُفاقِم مشكلات الديون.
وقد وضَّحَ الخبير الاقتصادي الأمريكي العظيم إرفينج فيشر هذه القصةَ في مقال كلاسيكي عام ١٩٣٣ بعنوان «نظرية تقليص الدَّيْن في الكساد الكبير»، الذي يبدو — مَثله في ذلك مَثل مقال كينز الذي افتَتَحتُ به الفصل الثاني — كما لو كان قد كُتِب منذ بضعة أيام، إذا نحَّينا جانبًا الأساليبَ المهجورة في الكتابة. يقول فيشر: تخيَّلْ أن يخلق هبوطٌ اقتصاديٌّ وضعًا يصبح فيه المدينون مُجبَرين على اتخاذِ تدابير سريعة لخفض ديونهم؛ قد يَلجئون إلى «التصفية» — أيْ محاولة بيع أي أصول يمتلكونها — أو إلى خفض إنفاقهم واستخدام الدخل لسداد ديونهم، أو كلا الخيارين معًا. يمكن لهذه التدابير أن تنجح إذا لم يكن عددٌ كبيرٌ جدًّا من الأفراد والشركات يسعَون لسداد ديونهم في آنٍ واحدٍ.
ولكن إذا وجَدَ العديدُ من الأطراف في الاقتصاد أنفسَهم مُثقَلين بالديون في الوقت نفسه، فإن جهودهم الجماعية الرامية للخروج من المأزق تهزم نفسَها بنفسها. فإذا حاوَلَ الملايينُ من أصحاب المنازل المتعثرين بيْعَ منازلهم لسداد قرض الرهن العقاري — أو إذا حجَزَ الدائنون على منازلهم، ثم حاولوا بيع العقارات المرهونة — تصبح النتيجةُ هي انخفاضَ أسعار المنازل؛ ما يقلِّل القيمةَ السوقية للمزيد من المنازل، ويؤدِّي إلى زيادة البيع القسري. وإذا شعرَتِ البنوكُ بالقلق إزاء حجم الديون الإسبانية والإيطالية في دفاترها، وقرَّرَتْ أن تتَّجِهَ للحدِّ من مخاطرها ببيع بعضِ تلك الديون، فإن أسعار السندات الإسبانية والإيطالية ستهبط؛ الأمر الذي يهدِّد استقرارَ البنوك، ويُجبِرها على بيع المزيدِ من الأصول. وإذا خفَّض المستهلكون إنفاقَهم في محاولةٍ لسداد ديون بطاقات الائتمان، ينهار الاقتصادُ وتختفي الوظائفُ، ويتزايد عبءُ الديون على المستهلكين؛ وإذا تدهوَرَ الوضعُ أكثرَ، فيمكن للاقتصاد كله أن يعاني انكماشًا — أيْ هبوطَ الأسعار في جميع القطاعات — ما يعني أن القوة الشرائية للدولار سترتفع؛ ومن ثم فإن العبء «الحقيقي» للدَّيْن سيتزايد، حتى إذا اتَّجَهَتِ القيمةُ الدولارية للديون إلى الانخفاض.
لخَّصَ إرفينج فيشر كلَّ ذلك في شعارٍ بليغٍ تنقصه الدقةُ إلى حدٍّ ما، ولكنه يمسُّ الحقيقةَ الجوهرية: «كلما سدَّد المدينون أكثر، زاد دَيْنهم.» وفيشر يرى أن هذه هي القصة الحقيقية وراء الكساد الكبير؛ أن الاقتصاد الأمريكي وصَلَ إلى حالةٍ من الركود مع مستوًى غير مسبوقٍ من المديونية، جعله عرضةً لدوامةٍ من الكساد ذاتيةِ الدفع. يكاد يكون من المؤكَّد أنه كان على حقٍّ. وكما ذكرتُ آنفًا، فإن مقالته تبدو كما لو كانَتْ قد كُتِبت بالأمس؛ أي إن قصةً مماثلةً لما ذُكِر — وإنْ كانت أقلَّ تطرُّفًا — هي التفسير الأساسي للكساد الذي نتعرَّض له في الوقت الراهن.
لحظة مينسكي
اسمحوا لي أن أحاول صياغة شعارٍ حول الوضع الراهن للاقتصاد العالمي يُشبِه شعارَ فيشر البليغ عن تقليص الدَّيْن من حيث افتقاره إلى الدقة، وإنْ كنتُ آملُ أن يكون مثيرًا للذكريات: في الوقت الراهن، «المدينون عاجزون عن الإنفاق، والدائنون مُحجِمون عنه.»
ويمكن رؤية هذه الديناميكية واضحةً عند إلقاء نظرة على الحكومات الأوروبية؛ فالدول الأوروبية المدينة — مثل اليونان وإسبانيا اللتين اقترضَتَا الكثيرَ من النقود خلال سنوات الرخاء قبل الأزمة (معظمها لتمويل الإنفاق الخاص لا الإنفاق الحكومي، ولكن لنطرح ذلك جانبًا في الوقت الحالي) — تواجِه جميعًا أزماتٍ ماليةً؛ فإما أنها لا تستطيع أن تقترض أيَّ نقودٍ على الإطلاق، وإما أنه لا يمكنها الاقتراضُ إلا بأسعارِ فائدةٍ عالية جدًّا. لقد استطاعَتْ هذه الدول حتى الآن أن تتجنَّبَ نفادَ السيولة النقدية حرفيًّا؛ وذلك لأن الأنظمةَ الاقتصادية الأوروبية الأقوى — مثل ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي — ما انفكَّتْ تضخُّ القروضَ في اقتصادها، إلا أن هذه المساعدات جاءَتْ مصحوبةً ببعض القيود؛ فقد اضطرَّتْ حكوماتُ الدول المدينة إلى فرْضِ برامج تقشُّفٍ ضارية، وخفْضِ إنفاقها حتى على البنود الأساسية مثل الرعاية الصحية.
غير أن الدول الدائنة لا تعمد إلى أي زيادة تعويضية في الإنفاق؛ فهي في الواقع تشعر بالقلق أيضًا إزاء مخاطِر الديون، وتشارِك في برامج التقشُّف، وإنْ كانت برامجَ أكثرَ اعتدالًا من تلك التي تلجأ إليها الدول المدينة.
هذه قصة الحكومات الأوروبية، ولكن ثمة ديناميكية مماثِلة تجري في القطاع الخاص، في أوروبا والولايات المتحدة على حدٍّ سواء؛ فَلْننظرْ — على سبيل المثال — إلى إنفاق الأُسَر في الولايات المتحدة، لا يمكننا أن نتتبع مباشَرةً كيفيةَ تغيُّرِ معدلات الإنفاق في الأُسَر التي تتحمَّل مستوياتٍ مختلفةً من الدَّيْن، ولكننا نملك — كما أوضَحَ الاقتصاديَّان عاطف ميان وأمير صوفي — بياناتٍ على المستوى الوطني عن معدلات الدَّيْن والإنفاق على سلع مثل المنازل والسيارات، وتتباين مستوياتُ الدَّيْن تبايُنًا كبيرًا فيما بين مقاطعات الولايات المتحدة. وكما هو متوقَّع، وجَدَ ميان وصوفي أن المقاطعات التي ترتفع فيها معدلات الدَّيْن قَلَّتْ فيها مستويات شراء السيارات وبناء المنازل بصورة كبيرة، على عكس المقاطعات التي تنخفض فيها معدلاتُ الدَّيْن، إلا أن الأخيرة حافظَتْ على معدلات الشراء قبل الأزمة؛ ولذلك أصبَحَ ثمة انخفاضٌ كبيرٌ في إجمالي الطلب.
وكانت نتيجة هذا الانخفاض في إجمالي الطلب — كما رأينا في الفصل الثاني — هي وقوع الاقتصاد في حالةٍ من الكساد ومعدلات البطالة المرتفعة.
ولكن لماذا يحدث هذا الآن، ولم يحدث منذ خمس أو ست سنوات؟ وكيف غرق المدينون في الدَّيْن إلى هذا الحدِّ من الأساس؟ هنا يأتي دور هايمان مينسكي.
كما أشارَ مينسكي، تبدو نسبةُ المديونية — أيِ ارتفاع الدَّيْن مقارَنةً بالدخل أو الأصول — أمرًا مستحبًّا حتى تتحوَّلَ إلى وضعٍ مريعٍ؛ ففي ظلِّ اقتصادٍ متوسِّعٍ، الأسعارُ فيه آخِذةٌ في الارتفاع — خاصةً أسعار الأصول مثل المنازل — عادةً ما يكون المقترضون هم الفائزين؛ فمشتري المنزل لا يدفع مقدَّمًا يُذكَر، وبعد سنوات قليلة تصبح لديه حصة قيِّمة من الأسهم؛ وذلك ببساطة لأن أسعارَ المساكن تكون قد ارتفعَتْ؛ فالمُضارِب في البورصة يشتري الأسهمَ بالهامش، ثم ترتفع أسعارُ الأسهم، فيزداد ربحُه كلما اقترَضَ أكثر.
ولكن لماذا يكون المقرِضون مستعدِّين للسماح بهذا الاقتراض؟ لأنه ما دام أداءُ الاقتصاد ككلٍّ جيدًا، فلا يبدو الدَّيْن مخاطَرةً كبيرةً. فَلْنأخذ حالةَ القروض العقارية مثلًا؛ فقبْلَ بضعِ سنوات نظَرَ باحثو بنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن إلى محدِّدات حالات العجز عن سداد قروض الرهن العقاري، حين يمتنع المقترضون عن الدفع أو يعجزون عنه، ووجد الباحثون أنه ما دامَتْ أسعارُ المساكن أخذَتْ في الارتفاع، فنادرًا ما يتخلَّفُ المقترِضون عن الدفع، حتى مَن فقدوا وظائفَهم؛ فهم يَلجئون إلى بيع منازلهم وتسديد ديونهم. وتنطبق قصصٌ مشابِهةٌ على أنواعٍ كثيرةٍ من المقترضين؛ فما دام الاقتصادُ لم تحلَّ به كارثةٌ، فلا يبدو الإقراضُ محفوفًا بالمخاطر.
وهنا نرى لبَّ القضية: ما دامَتْ مستوياتُ الدَّيْن منخفضةً إلى حدٍّ ما، فمِن المرجَّح أن تكون الأحداث الاقتصادية المؤسِفة قليلةً ومتباعِدةً. إذَنْ، فالدَّيْن يبدو آمِنًا في الاقتصاد المنخفِض الدَّيْن، وهو الاقتصاد الذي تخبو فيه ذكرى التبعات السيئة المحتملة للدَّيْن، وتختفي في غَياهب النسيان. ومع مرور الوقت، يفضي الاعتقادُ بأن الدَّيْن آمِن إلى إرخاءِ معايير الإقراض؛ وتكتسِب الشركات والعائلات — على حدٍّ سواء — عادةَ الاقتراض، وترتفع نسبةُ المديونية الإجمالية في الاقتصاد.
بالطبع، يمهِّد هذا كلُّه الطريقَ لكارثةٍ مستقبليةٍ؛ ففي مرحلةٍ ما سَتَحِين «لحظةُ مينسكي»، وهو التعبير الذي صاغه بول مكولي، الخبير الاقتصادي بصندوق سندات بيمكو؛ كذلك تُعرَف هذه اللحظة أحيانًا باسم «لحظة وايل إي كويوتي»، وهو اسم شخصية الذئب الكارتونية المعروفة بأنها تظلُّ تجري حتى تتجاوَزَ حدودَ الجرف، ثم تبقى معلَّقة في الهواء حتى تنظر إلى الأسفل؛ وعندئذٍ فقط — وفقًا لقوانين فيزياء عالَم الرسوم المتحركة — تسقط.
حالما تصل مستويات الديون إلى ارتفاعٍ كافٍ، يمكن لأي شيء أن يؤدِّي إلى لحظةِ مينسكي؛ كالركود المعتاد، وانفجار فقاعة الإسكان، وما إلى ذلك. لا يهم السبب المباشِر، فالمهم هو أن المقرضين يكتشفون من جديدٍ مخاطِرَ الدَّيْن، ويُضطرُّ المدينون إلى البدء في تقليص مديونياتهم، وتبدأ دوامةُ تقليصِ الدَّيْن التي تحدَّثَ عنها فيشر.
والآن، دعونا نُلقِ نظرةً على بعض الأرقام؛ يوضِّحُ الشكلُ السابق ديونَ الأُسَر كنسبةٍ مئويةٍ من الناتج المحلي الإجمالي، وقد لجأت إلى القسمة على الناتج المحلي الإجمالي — وهو إجمالي الدخل الذي يحقِّقُه الاقتصاد — لأن ذلك من شأنه أن يُدرِجَ في الحساب تأثيرَ كلٍّ من التضخُّم والنموِّ الاقتصادي؛ لقد كانت القيمة الدولارية لديون الأُسَر في ١٩٥٥ حوالي أربعة أمثال قيمتها في عام ١٩٢٩، ولكن بفضل التضخُّم والنموِّ كانت قيمتها أقلَّ كثيرًا من الناحية الاقتصادية.
كذلك يمكن ملاحظةُ عدمِ توافُقِ البيانات تمامًا في مختلف الفترات الزمنية؛ فتتناوَلُ إحدى مجموعات البياناتِ الفترةَ من ١٩١٦ إلى ١٩٧٦؛ بينما تمتدُّ مجموعةٌ أخرى — تقدِّمُ عددًا أقلَّ من البيانات لأسبابٍ فنيةٍ — من عام ١٩٥٠ حتى وقتنا هذا. ولقد قمتُ بعرضِ السلسلتين الزمنيتين — مضمِّنًا فترةَ التداخُل بينهما — وهو ما أظنُّه كافيًا لِنَقْل صورةٍ كليةٍ عن القصة على المدى الطويل.
ويا لها من قصة! هذا الارتفاع الهائل المفاجِئ في نسبةِ الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي بين عامَيْ ١٩٢٩ و١٩٣٣، هو مثالٌ عمليٌّ على نظرية تقليص الدَّيْن لفيشر؛ فلم يكن الدَّيْنُ في ارتفاعٍ، وإنما كان الناتجُ المحلي الإجمالي في هبوط؛ حيث تسبَّبَتْ جهودُ المدينين الساعية لخفْضِ ديونهم في حدوثِ مزيجٍ من الكساد والانكماش؛ مما فاقَمَ مشكلاتِ الديون؛ وقد ساعَدَ التعافي الذي صاحَبَ الصفقةَ الجديدة — بالرغم من قصوره — على رجوعِ نسبةِ الدَّيْن إلى ما يقرب من مستواها في البداية.
ثم جاءت الحربُ العالمية الثانية، وخلال الحرب رُفِضَ منْحُ القطاع الخاص أيَّ قروضٍ جديدة تقريبًا، حتى عند ارتفاع الأسعار ومعدلات الدخل. ومع نهاية الحرب، كانَتْ نسبةُ ديون القطاع الخاص قد انخفضَتْ كثيرًا نسبةً إلى الدخل؛ الأمر الذي جعَلَ ارتفاعَ الطلب في القطاع الخاص ممكِنًا بعد انتهاء العمل بنظام الحصص والضوابط التي فرضَتْها الحرب. وتوقَّعَ العديدُ من الاقتصاديين (وعددٌ غيرُ قليلٍ من رجال الأعمال) عودةَ الولايات المتحدة إلى الكساد بمجرد أن تنتهي الحرب، ولكن عوضًا عن ذلك، حدثَتْ طفرة كبيرة في الإنفاق الخاص — وخاصةً في شراء المنازل — أبقَتْ الاقتصادَ نَشِطًا حتى أصبح الكسادُ الكبير ذكرى بعيدةً.
وكان تلاشِي ذكرى الكساد هو ما مهَّدَ الطريقَ لزيادةٍ غير عادية في معدلات الدَّيْن، بدأَتْ تقريبًا عام ١٩٨٠، وقد تزامَنَ ذلك مع انتخابِ رونالد ريجان؛ لأن السياسة جزءٌ من القصة. يُعزَى بدءُ صعود الديون في جزءٍ منه إلى أن المقرضين والمقترضين نَسُوا أن وقوع الحوادث السيئة أمرٌ وارِدُ الحدوث، ولكنه يُعزَى كذلك إلى أن الساسة والخبراء — على حدٍّ سواء — نَسُوا ذلك أيضًا، وبدءوا في إلغاء الضوابط التي أُدخِلتْ في ثلاثينيات القرن العشرين لمنْعِ وقوع الحوادث السيئة مجدَّدًا.
وبالطبع، تكرَّرَ وقوعُ الحوادث السيئة، ولم تكن النتيجةُ خلق أزمة اقتصادية فقط، وإنما كذلك أزمةٌ اقتصادية فريدة من نوعها، تبدو فيها الاستجاباتُ السياسية الحكيمة تصرُّفًا خاطئًا تمامًا.
اقتصاديات المرآة
إذا كنتَ تقضي قَدْرًا لا بأسَ به من الوقت في الاستماع إلى ما يقوله الأشخاصُ الذين يبدون مهمين عن الوضع الحالي للاقتصاد — وهذا ما تستلزمه وظيفتِي كخبير اقتصادي — فإنك ستتعرف تدريجيًّا على إحدى أكبر مشكلاتهم؛ وهي أنهم يستخدمون الاستعاراتِ المجازيةَ الخاطئة؛ فهم يرون الاقتصادَ الأمريكي على أنه أُسْرة تمرُّ بأوقات صعبة، وقد انخفَضَ دخلها بسبب قوًى خارجةٍ عن إرادتها، وأصبحَتْ مُثقَلة بديون تزيد كثيرًا عن دخلها. ولتصحيح هذا الوضع، يصفون لهذه الأسرةِ نظامًا قائمًا على الفضيلة والحكمة، ملخصُه الآتي: علينا أن نشدَّ الأحزمةَ، ونحدَّ من إنفاقنا، ونسدِّدَ ديوننا، ونخفضَ التكاليف.
ولكننا لا نواجِهُ هذا النوعَ من الأزمات؛ فقد انخفَضَ دخْلُنا بسبب قلة إنفاقنا تحديدًا، والمزيد من خفض الإنفاق سيتبعه المزيدُ من انخفاض الدخل. صحيح أننا نعانِي استفحالَ الديون، ولكنها ليسَتْ نقودًا مستحَقَّةً لشخصٍ أو جهةٍ خارجيةٍ، وإنما يَدِين بهذه النقود بعضنا لبعض، وهذا يصنع فارقًا كبيرًا. أما عن خفض التكاليف، فمقارَنةً بمَن يكون خفْضُها؟ إذا حاوَلَ الجميع خفْضَ التكاليف، فلن يؤدِّي ذلك إلا إلى زيادة الوضع سوءًا.
باختصارٍ، نحن نعيش مؤقتًا على الجانب الآخَر من المرآة؛ فمزيج من فخِّ السيولة — حيث لا يكون خفْضُ الفوائد إلى الصفر كافيًا لاستعادة حالة التوظيف الكامل — وتراكُمِ الديون المفرطة أَوْرَثَنا عالَمًا مليئًا بالمفارقات؛ عالمًا تتحوَّل فيه الفضيلةُ إلى رذيلةٍ، والحكمةُ إلى حماقة، ومعظم الأشياء التي يطالبنا بها الأشخاصُ المهِمُّون تزيد وضْعَنا سوءًا في الواقع.
ما هي المفارقات التي أتحدَّث عنها؟ إحدى هذه المفارقات هي «مفارقة التوفير»، التي كانَتْ تُدرَّس على نطاقٍ واسِعٍ في مقرَّراتِ الاقتصاد التمهيدي، وإنْ كانَتْ شعبيتُها تضاءَلَتْ مع تلاشي ذكرى الكساد الكبير، ومفادها كالآتي: بفرض أن الجميع حاولوا زيادةَ مدخراتهم في آنٍ واحد، قد تظنُّ أنَّ زيادةَ الرغبة في الادِّخار سوف تُترجَم في صورةِ زيادةٍ في الاستثمارات — فيُنفَق المزيدُ على إنشاء المصانع الجديدة والمباني الإدارية ومراكز التسوُّق وما إلى ذلك — ما من شأنه أن يعزِّزَ ثروتنا المستقبلية؛ ولكنْ في اقتصاد الكساد، كلُّ ما يحدث عندما يحاول الجميعُ زيادةَ مدَّخراتهم (ومن ثم تقليل إنفاقهم) هو انخفاض الدخل وانكماش الاقتصاد. وإذ يزداد كسادُ الاقتصاد، تتَّجِه الشركاتُ إلى تقليلِ استثماراتها، لا إلى زيادتها؛ فبمحاولاتنا الفردية لزيادة الادِّخار، يجِدُ المستهلكون أن إجمالي مدَّخراتهم قد انخفَضَ في نهاية المطاف.
لا تعتمد مفارقةُ التوفير — كما يُذكَر عنها عادةً — بالضرورة على ميراثٍ مِن الاقتراض المفرط في الماضي، على الرغم من أن الواقع يشير إلى أن هذا يؤدِّي بنا إلى كسادٍ اقتصاديٍّ مستمِرٍّ في نهاية المطاف، غير أن الديون المفرطة تسبِّب مفارقتين إضافيتين.
المفارقة الأولى هي «مفارقة تقليص المديونية»، التي رأينا ملخصها سابقًا في شعارِ فيشر البليغ الذي مفاده أنه كلما سدَّدَ المدينون أكثر، زاد دَينهم؛ فالعالَم الذي تحاوِلُ نسبةٌ كبيرةٌ من أفراده أو شركاته أو كلَيْهما أن تسدِّد ديونها في وقتٍ واحدٍ، هو عالَمٌ ينهار فيه الدخْلُ وقيمةُ الأصول، وتزداد مشكلاتُ الدَّيْن فيه سوءًا عوضًا عن أن تتحسَّن.
أما المفارقة الثانية فهي «مفارقة المرونة»؛ إلى حدٍّ كبير، ينطوي مقالُ فيشر القديم ضمنيًّا على هذه المفارقة، ولكنَّ تجسيدها الحديث قدَّمَه — على حدِّ علمي — جاوتي إجرتسون، الخبير الاقتصادي ببنك الاحتياطي الفيدرالي لنيويورك، ومفاده هو: عادةً، عندما تواجِه مشكلةً في بيع شيءٍ ما، يكون الحلُّ الأمثلُ هو خفض سعره؛ لذا يبدو من الطبيعي أن نفترض أن حلَّ مشكلةِ البطالة الجماعية هو خفض الأجور. في الواقع، يرى الاقتصاديون المحافظون أن فرانكلين روزفلت ساهَمَ في تأخُّرِ التعافي في ثلاثينيات القرن العشرين؛ لأن سياسات الصفقة الجديدة الموالية للعمَّال رفعَتِ الأجورَ في وقتٍ كان من المحتم فيه أن تُخفَّض. وفي الوقت الراهن، كثيرًا ما يقال إن زيادة «المرونة» في سوق العمل — وهو تعبير ملطَّف لتخفيض الأجور — هي ما نحتاجه حقًّا.
وعلى الرغم من أن العامِل الواحد يمكن أن يحسِّنَ فُرَصَه في الحصول على وظيفةٍ عن طريق قبول أجرٍ أقل — لأنه بذلك يصبح أكثر جاذبيةً مقارَنةً بغيره من العمال — فإنَّ الخفضَ الشامل للأجور لا يُحدِث فرقًا في وضْعِ أحدٍ، باستثناء أمرٍ واحدٍ؛ فهو يقلِّلُ من دخْلِ الجميع، ولكن مستويات الدَّيْن تظلُّ كما هي؛ إذَنْ زيادة المرونة في الأجور (والأسعار) لن تحقِّقَ شيئًا سوى زيادة الأوضاع سوءًا.
ربما يكون بعضُ القرَّاء قد خطرَتْ لهم بالفعل فكرةٌ؛ وهي أنه إذا كنتُ قد أوضحتُ للتوِّ أن فعْلَ ما كنَّا نعدُّه عادةً تصرفاتٍ فاضلةً وحكيمةً يجعلنا أسوأ حالًا في ظلِّ الوضع الراهن، أَلَا يعني ذلك أنه ينبغي لنا أن نفعل عكسها؟ والإجابة في الأساس هي: بلى؛ ففي الوقت الذي يحاوِلُ فيه العديدُ من المدينين ادِّخارَ المزيد من المال وسداد ديونهم، مِن المهم أن يفعل «شخصٌ ما» عكسَ ذلك، فينفق المزيدَ ويقترض المزيدَ، والبديهي أن يكون هذا الشخص هو الحكومة. وبهذا وصلْنا — من طريقٍ آخَر — لدعوة كينز ذاتها إلى زيادة الإنفاق الحكومي، باعتبارها الاستجابةَ الضروريةَ لهذا النوع من الكساد الذي وجدْنا أنفسنا في مواجهته.
ماذا عن الحجة القائلة بأن انخفاض الأجور والأسعار سيزيد الوضع سوءًا؟ هل يعني ذلك أن رفع الأجور والأسعار من شأنه أن يجعل الأمورَ أفضل، وأن التضخُّمَ قد يكون في الواقع مفيدًا؟ بالفعل هذا صحيح؛ لأن التضخُّمَ من شأنه أن يخفِّفَ عبءَ الديون (فضلًا عن بعض الآثار المفيدة الأخرى، والتي سنتحدَّث عنها لاحقًا). وعلى نطاقٍ أوسعَ، يمكن — بل ينبغي — للسياسات التي تستهدف تخفيفَ عبء الديون بطريقةٍ أو أخرى، مثل تخفيف عبء قروض الرهن العقاري، أن تمثِّلَ جزءًا من إيجادِ مَخرجٍ دائمٍ من مأزق الكساد.
ولكننا نستبِقُ الأحداث؛ فقبل أن نحدِّدَ الخطوطَ العريضة الكاملة لاستراتيجية التعافي، أودُّ أن أُفرِدَ الفصولَ القليلة القادمة للخوض أكثرَ في كيفيةِ وصولنا إلى هذا الكساد في المقام الأول.