جموح المصرفيين
شجَّعَتِ الإصلاحاتُ التنظيمية الأخيرة — مصحوبةً بالتكنولوجيا المبتكرة — ظهورَ بعض المنتجات المالية، مثل الأوراق المالية المضمونة بالأصول والتزامات القروض المضمونة ومبادلة مخاطر الائتمان، التي تيسِّر تشتيتَ المخاطر …
وقد ساهمَتْ هذه الأدواتُ المالية المعقَّدة في تطويرِ نظامٍ ماليٍّ أكثر مرونةً وكفاءةً — ومن ثم أكثر صمودًا — من النظام المستخدَم منذ ربع قرن فحسب.
في عام ٢٠٠٥، كان ألان جرينسبان لا يزال يُعتبَر أستاذَ مجاله، ومنبع الحكمة الاقتصادية المستبصرة، وقد اعتُبِرت تعليقاتُه حول عجائب النظام المالي الحديث التي استهلَّتْ عصرًا جديدًا من الاستقرار، مثالًا على هذه الحكمة المستبصِرة. وقال جرينسبان إن سَحَرة وول ستريت قد تأكَّدوا من عدم حدوث شيء مثل الاضطرابات المالية الكبرى التي وقعَتْ في الماضي مجدَّدًا.
عندما نقرأ هذه الكلمات الآن، نشعر بالذهول إزاء نجاح جرينسبان المبهِر في الوصول لهذا الفهم الخاطئ تمامًا. كانت الابتكارات المالية التي أشارَ إليها بوصفها مصادرَ تحسينِ الاستقرار المالي هي تحديدًا — «تحديدًا» — ما دفَعَ بالنظام المالي إلى شفا الهاوية بعد أقل من ثلاث سنوات. نحن نعرف الآن أن بيع «الأوراق المالية المضمونة بأصول» — ويشير هذا في الأساس إلى قدرة البنوك على بيع حُزَمٍ من الرهون العقارية والقروض الأخرى للمستثمرين غير المطَّلعين على بواطن الأمور، عوضًا عن إبقائها في دفاترها الخاصة — قد شجَّعَ الإقراضَ المتهور. وقد حصلَتِ التزاماتُ القروض المضمونة — التي تأتي من خلال تفتيت الديون المعدومة — على أعلى تصنيف في البداية؛ ومن ثَمَّ استدرجَتْ هي الأخرى المستثمرين السُّذَّج، ولكن ما إنْ ساءَتِ الأمورُ، صارَتْ هذه الأصول تُعرَف باسم «النفايات السامة». وقد ساعدَتْ مبادلةُ مخاطِر الائتمان البنوكَ على التظاهُر بأن استثماراتها آمِنةٌ؛ لأن ثمة مَن قامَ بتأمينها ضد الخسائر؛ وعندما ساءَتِ الأمور، أصبَحَ من الواضح أن الجهات التأمينية — وخاصةً المجموعة الأمريكية الدولية للتأمين — لم يكن لديها ما يكفي من المال للوفاء بوعودها.
إلا أن جرينسبان لم يكن وحده في أوهامه؛ فقُبيل الأزمة المالية، اتسمَتْ مناقشات النظام المالي — في الولايات المتحدة وأوروبا على حدٍّ سواء — بتراخٍ مذهِلٍ، وحتى القلةُ القليلةُ من الاقتصاديين الذين ساوَرَهم القلقُ إزاءَ ارتفاع مستويات الدَّيْن والاستخفاف المتزايد بالمخاطر، قُوبِلوا بالتهميش، بل بالاستهزاء في بعض الأحيان أيضًا.
وقد انعكَسَ هذا التهميشُ على سلوك القطاع الخاص والسياسة العامة على حدٍّ سواء؛ وشيئًا فشيئًا فُكِّكَتِ القواعدُ والضوابطُ التي وُضِعَت في ثلاثينيات القرن العشرين للوقاية من الأزمات المصرفية.
إفلات زمام المصرفيين
لا أدري إلامَ ستصل الحكومة؛ فبدلًا من حماية رجال الأعمال، تدسُّ الحكومة أنفَها في أعمالهم! لقد وصَلَ بهم الأمر الآن إلى حدِّ الحديث عن تعيين مفتِّشين على «البنوك»، وكأننا — نحن المصرفيين — لا نعرف كيف نُدِير مصارفنا! لديَّ رسالة في المنزل من مسئول متبختر يخبرني فيها بأنهم سوف يتفقَّدون دفاتري. ثمة شعار ينبغي أن يزيِّن كلَّ صحيفة في هذا البلد: أمريكا للأمريكيين! لا لِتدخُّلِ الحكومة في شئون الشركات! خفِّضوا الضرائب! الدَّيْن الوطني بلغ حدًّا مروعًا؛ أكثر من مليار دولار سنويًّا! ما يحتاجه هذا البلد هو رئيس من رجال الأعمال!
مِثْل السطور الأخرى التي اقتبسْتُها من ثلاثينيات القرن العشرين، يبدو حديثُ المصرفي الصاخب من فيلم جون فورد الكلاسيكي «عربة الجياد» — بغضِّ النظر عن استخدامه ألفاظًا مثل «متبختر» — كما لو كان قيل أمس. ما تحتاج إلى معرفته — إنْ لم تكن قد شاهدتَ الفيلم (الذي ينبغي أن تشاهِدَه) — هو أن جايتوود كان في واقع الأمر محتالًا، وأن سبب وجودِه على هذه العربة هو أنه اختلَسَ النقودَ المودعة في بنكه كلها، وكان في سبيله إلى الهروب من المدينة.
من الواضح أن جون فورد لم يكن مُعجَبًا بالمصرفيين، إلا أنه في عام ١٩٣٩ كان الجميع يشاركونه ذلك الرأي؛ فقد خلَّفتْ تجاربُ العقد السابق — وخاصةً موجة إفلاس البنوك التي اجتاحَتِ الولايات المتحدة في ١٩٣٠-١٩٣١ — مُناخًا من عدم الثقة واسعَ النطاق، وأسفرَتْ عن مطالبات بوضْعِ ضوابط أكثر صرامةً. بعض الضوابط التي وُضِعت في ثلاثينيات القرن العشرين لا يزال ساريًا حتى يومنا هذا؛ ولهذا السبب لم يقع الكثير من نوبات الذعر المصرفي المعتادة في هذه الأزمة، إلا أن بعض الضوابط أُلغِيت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. وعلى نفس القدر من الأهمية، نرى أن تلك الضوابط لم تُحدَّث للتكيُّف مع النظام المالي المتغيِّر، وقد كان هذا المزيج من إلغاء الضوابط والإحجام عن تحديثها عاملًا رئيسيًّا في زيادة الديون والأزمة التي أعقبتها.
دعونا نبدأ بالحديث عمَّا تفعله البنوك، وسبب الاحتياج إلى وضع ضوابط لعملها.
في الحقيقة، بدأَتِ الأعمالُ المصرفية، كما نعرفها، عن طريق الصدفة تقريبًا؛ حيث جاءَتْ على هامشِ مجال أعمالٍ مختلفٍ تمامًا؛ وهو صياغة الذهب. كان الصاغة — بحكم ارتفاع قيمة المادة الخام التي يستخدمونها — يمتلكون دائمًا خزائنَ شديدةَ الصلابة، مقاوِمةً للسرقة، ثم بدأ بعضهم في تأجير هذه الخزائن؛ فصار بإمكان الأفراد الذين يمتلكون ذهبًا ولا يجدون مكانًا آمِنًا لحفظه أن يعهدوا به إلى الصائغ، ويحتفظون بتذكرةٍ تسمح لهم باستعادة ذهبهم متى شاءوا.
وهنا بدأ شيئان مثيران للاهتمام في الحدوث؛ أولًا: اكتشَفَ الصاغة أنهم ليسوا مضطرين للاحتفاظ بكلِّ ما في خزائنهم من ذهب؛ فنظرًا لأنه من غير المرجح أن يطالِبَ جميعُ المودعين بذهبهم في آنٍ واحدٍ، كان من المأمون (عادةً) أن يقرضوا جزءًا كبيرًا من الذهب، مع الاحتفاظ بجزءٍ منه فقط في خزائنهم. وثانيًا: بدَأَ تداوُلُ تذاكِرِ الذهب المخزَّن باعتبارها نوعًا من العملة؛ فبدلًا من أن يدفع الشخصُ باستخدام العملات الذهبية الحقيقية، أصبح بإمكانه أن ينقل ملكيةَ بعض القطع النقدية التي يخزِّنها عند الصائغ؛ ومن ثَمَّ أصبحَتْ قصاصةُ الورق المقابِلة لتلك القِطَع النقدية معادِلةً للذهب بصورةٍ أو بأخرى.
وفي هذا تتلخَّص الخدمات المصرفية؛ فغالبًا ما يواجِه المستثمرون مشكلةَ المفاضَلةِ بين «السيولة»، وهي القدرة على الحصول على النقود سريعًا؛ و«العائدات»، وهي توظيف المال وجَنْي المزيد منه؛ فالنقود في جيبك توفِّر سيولةً تامةً، ولكنها لا تأتي بأي عائد، أما الاستثمار في مشروع جديد واعد — على سبيل المثال — فقد يؤتي ثمارًا رائعة إذا سارَ كلُّ شيء على ما يرام، ولكن لا يمكن تحويلُه إلى نقد بسهولة إذا ما واجهْتَ أيَّ مشكلة مالية طارئة. ما تفعله البنوك هو القضاء جزئيًّا على الحاجة إلى إجراءِ هذه المفاضلة؛ فالبنك يوفِّر لمودعيه السيولةَ؛ حيث يمكنهم الحصول على نقودهم وقتما يشاءون، إلا أنه يوظِّف معظمَ تلك النقود في أعمال تُدرُّ عائدًا من استثمارات طويلة المدى، مثل القروض التجارية أو قروض الرهن العقاري.
حتى الآن، كلُّ شيء على ما يرام؛ ونرى أن البنوك نشاطٌ اقتصادي مفيد جدًّا — ليس للمصرفيين فحسب، وإنما للاقتصاد بأسره — في أغلب الأحيان. إلا أنه في بعض الأحيان، يمكن للأعمال المصرفية أن تسير على غير ما يرام؛ فهيكلها قائِمٌ بالكامل على عدم مطالَبةِ المودعين جميعًا بنقودهم في آنٍ واحدٍ. أما إذا ما قرَّرَ جميع المودعين — أو كثيرٌ منهم — أن يسحبوا نقودَهم من أحد البنوك في آنٍ واحدٍ لسبب أو آخَر، فسيقع البنك في ورطةٍ كبيرةٍ؛ فهو لا يمتلك السيولةَ النقدية اللازمة، وإذا حاوَلَ جمْعَ المال بسرعةٍ من خلال بيْعِ قروضٍ وأصولٍ أخرى، فسوف يضطرُّ إلى بيعها بأسعارٍ زهيدةٍ، وربما يُفلِس تمامًا في خضم هذه العملية.
ما الذي يمكن أن يدفع العديدَ من المودعين لمحاولةِ سحْبِ نقودهم في آنٍ واحدٍ؟ بالطبع هو خوفهم من أن يكون البنكُ على مشارف الإفلاس، ربما بسبب محاولة الكثيرِ من المودعين سحبَ نقودهم منه.
إذَنْ فالأعمال المصرفية تحمل في طيَّاتها سمةً لا مفرَّ منها، هي احتمالُ حدوث نوبات الذعر المصرفي، وهي حالات من فقدان الثقة المفاجئ الذي يتسبَّب في حالةٍ من الذعر، تتحوَّل في نهاية المطاف إلى نبوءات تتحقَّق ذاتيًّا. علاوةً على ذلك، يمكن أن تصبح هذه الحالةُ مُعديةً، سواء أكان هذا بسبب الذعر الذي قد ينتشر ليطول بنوكًا أخرى، أم لأن بيع أصول بنك واحد بأسعار زهيدة يمكن أن يوقع البنوكَ الأخرى في ضائقةٍ مالية مشابهة، إثر خفض قيمة أصولها هي الأخرى.
وكما قد يكون بعضُ القرَّاء قد لاحظوا بالفعل، ثمة تشابُهٌ واضح، بين منطقِ الذُّعْر المصرفي — وخاصة الذعر المصرفي الشديد العدوى — ومنطقِ لحظةِ مينسكي، حين يحاول الجميعُ سدادَ ديونهم في آنٍ واحدٍ؛ الفارق الرئيسي هو أن ارتفاعَ مستويات الدَّيْن ونسبة المديونية في الاقتصاد بأسره — الذي يجعل وقوعَ لحظة مينسكي مُمكِنًا — لا يَحدث إلا مِن حينٍ لآخَر، في حين أن البنوك «عادةً» ما تكون نسبةُ المديونية لديها مرتفعةً بما يكفي لجعْلِ أيِّ خسارةٍ مفاجِئةٍ في الثقة نبوءةً تتحقَّق ذاتيًّا؛ فإمكانية وقوع نوبات الذعر المصرفي هي صفة متأصِّلة — إلى حدٍّ كبيرٍ — في طبيعة العمل المصرفي.
قبل ثلاثينيات القرن العشرين، كان ثمَّةَ حلَّان رئيسيان لمشكلة الذعر المصرفي؛ أولًا: حاولَتِ البنوك أن تبدو صلبةً قدرَ الإمكان، سواء أكان هذا من الناحية المظهرية — ولهذا كانت البنوك عادةً ما تُشيَّد من هياكل رخامية ضخمة — أم كان بتوخِّيها أقصى درجات الحذر من الناحية الفعلية. في القرن التاسع عشر، كانَتْ «نسبةُ رأس المال» لدى البنوك تبلغ ٢٠ أو ٢٥ في المائة عادةً؛ أيْ إن قيمة ودائعها بلغَتْ ٧٥ أو ٨٠ في المائة فقط من قيمة أصولها، ويعني هذا أن البنوكَ في القرن التاسع عشر كان من الممكن أن تفقد ما يصل إلى ٢٠ أو ٢٥ في المائة من النقود التي أقرضَتْها، وتظلُّ قادرةً على سدادِ نقود المودعين بالكامل. وعلى النقيض من ذلك، قُبَيْل أزمةِ عام ٢٠٠٨، كان رأسُ المال الداعم في العديد من المؤسسات المالية يمثِّل نسبةً ضئيلةً من أصولها، بحيث أصبح من الممكن أن تتسبَّب أيُّ خسائر طفيفة في «انهيار البنك».
ثانيًا: بُذِلَت جهود لإنشاء «ملاذ أخِير للإقراض»؛ وهي مؤسَّسات يمكن أن تموِّل البنوكَ في حالة الذعر؛ ومن ثم تضمن سدادَ نقودِ المودعين وتهدئة حالة الذعر. في بريطانيا، بدأ بنكُ إنجلترا يضطلع بهذا الدور في أوائل القرن التاسع عشر، وفي الولايات المتحدة، استجاب بنك جي بي مورجان بشكل عفوي لنوبة الذعر المصرفي عام ١٩٠٧، وقد أدَّى إدراكُ عدمِ إمكانية الاعتماد على وجود جيه بي مورجان دائمًا، إلى إنشاء بنك الاحتياطي الفيدرالي.
غير أن هذه الاستجابات التقليدية أثبتَتْ أنها غير كافية على الإطلاق في ثلاثينيات القرن العشرين؛ ولذلك تدخَّلَ الكونجرس، وأنشأ قانونُ جلاس-ستيجال لعام ١٩٣٣ (وبعض التشريعات المماثلة في بلدان أخرى) ما يشبه منظومةً من السدود لحماية الاقتصاد من الفيضانات المالية، وعلى مدارِ ما يصل إلى نصف قرن، نجحَتْ هذه المنظومةُ في مهمتها إلى حدٍّ كبيرٍ.
من ناحيةٍ، أنشأ قانون جلاس-ستيجال شركةَ تأمينِ الودائع الفيدرالية، التي كانت (ولا تزال) تضمن للمودعين عدمَ خسارة نقودهم إذا ما أفلَسَتِ البنوكُ التي يتعاملون معها. إذا كنتَ قد شاهدْتَ فيلمَ «إنها حياة رائعة»، الذي يتضمَّنَ مشهدًا لنوبةِ ذُعْرٍ مصرفي أصابَتْ بنك جيمي ستيوارت، فقدْ يهمُّكَ أن تعرف أن المشهد ينطوي على مفارَقةٍ تاريخية صارخة؛ ففي الوقت الذي ضربَتْ فيه نوبةُ الذعرِ المصرفي المفتَرَضةُ البنكَ — في أعقاب الحرب العالمية الثانية — كانَتِ الودائعُ مؤمَّنةً بالفعل، وكانت نوباتُ الذعر المصرفي القديمة قد ولَّتْ إلى غير رجعة.
ومن ناحية أخرى، استطاع قانون جلاس-ستيجال أن يحدَّ من مقدار المخاطر التي قد تتعرَّض إليها البنوك، وكانت لهذه الخطوة أهميةٌ خاصة في ضوء إنشاء التأمين على الودائع، الذي كان من الممكن أن يُفضِي إلى «مخاطر أخلاقية» هائلة؛ أيْ إنه كان من الممكن أن يهيِّئ ظروفًا تسمح للمصرفيين بأن يجمعوا الكثيرَ من النقود، دون مساءلةٍ — حيث إن كلَّ شيء مؤمَّن عليه من الحكومة — ثم يضخُّون هذه النقودَ في استثماراتٍ عاليةِ المخاطر، علمًا بأنهم الرابحون إذا ما سارَتِ الأمور على ما يرام، أما إذا ساءَتْ فدافِعو الضرائب هم الخاسرون. وجاءَتْ أولى الكوارث العديدة التي أدَّتْ إلى إلغاء تلك الضوابط في ثمانينيات القرن العشرين؛ عندما برهنَتْ مؤسساتُ التوفير والإقراض — بما لا يَدَعُ مجالًا للشك — على أن هذا النوع من المقامرات المدعومة بنقودِ دافعي الضرائب كانت أكثرَ مِن مجرد احتمال نظري.
حينئذٍ فُرِضَت على البنوك مجموعةٌ من القواعد التي تهدف إلى منعها من المقامرة بنقود المودعين، من أبرزها أنَّ أيَّ بنك يقبل الودائعَ تُقيَّد أنشطته في مجال تقديم القروض؛ بحيث لا يمكنه أن يستخدِمَ نقودَ المودعين للمضارَبةِ في أسواق الأسهم أو في السلع. وفي واقع الأمر، لا يمكن أن تُمارَس كلُّ أنشطةِ المضاربة تلك تحتَ سقفِ مؤسَّسةٍ واحدة؛ ومن ثم فقد أحدَثَ القانونُ فصلًا واضحًا بين النشاط المصرفي العادي، كالأنشطة التي تمارسها المؤسسات من أمثال تشيس مانهاتن؛ و«النشاط المصرفي الاستثماري»، كالأنشطة التي تمارسها المؤسسات من أمثال جولدمان ساكس.
وكما قلتُ آنِفًا، أصبَحَ الذُّعْر المصرفي القديم شيئًا من الماضي بفضل التأمين على الودائع؛ وبفضل الضوابط الموضوعة أصبحَتِ البنوكُ أكثرَ حذرًا فيما يتعلَّق بالإقراضِ ممَّا كانت عليه قبل الكساد الكبير؛ ونتيجةً لذلك، استقرَّتِ الأمورُ فيما يُطلِق عليه جاري جورتون من جامعة يال «فترةَ الهدوء»، وهي حقبة طويلة من الاستقرار النسبي وغياب الأزمات المالية.
إلا أن هذا كله بدأ يتغيَّر في عام ١٩٨٠.
طبعًا كان ذلك العام، الذي انتُخِب فيه رونالد ريجان رئيسًا، يمثِّل تحوُّلًا يمينيًّا حادًّا في السياسة الأمريكية، إلا أن أثَرَ انتخابِ ريجان اقتصَرَ، إلى حدٍّ ما، على إضفاءِ الصبغة الرسمية على تحوُّلٍ جذريٍّ في الموقف إزاء التدخُّلِ الحكومي، كان قد بدأ منذ فترةِ حُكْمِ كارتر؛ فقد أدارَ كارتر عملياتِ تحريرِ الخطوط الجوية — الذي غيَّرَ نهْجَ سفر الأمريكيين — وتحريرِ النقل بالشاحنات — الذي غيَّرَ مسارَ عمليةِ توزيع السلع — وتحريرِ النفط والغاز الطبيعي من الضوابط الحكومية. وللعلم فقد قُوبِلت هذه التدابيرُ بموافَقةٍ شبه كاملةٍ من جانب الاقتصاديين، آنذاك وكذلك في الوقت الراهن؛ ففي الواقع، لم يكن ثمة سببٌ وجيه لتحديد الحكومةِ أسعارَ تذاكر الطيران أو النقل بالشاحنات — سواء أكان في الماضي أم الحاضر — وأدَّتْ زيادةُ المنافسة في هذه الصناعات إلى تحقيقِ مكاسب واسعة في الكفاءة.
ونظرًا للروح السائدة في ذلك العصر، فربما لا ينبغي أن يدهشنا تحريرُ الشئون المالية من الضوابط الحكومية أيضًا؛ ففي ظلِّ حُكْمِ كارتر، اتُّخِذَت خطوةٌ مهمة في هذا الاتجاه أيضًا؛ حيث مرَّرَ كارتر قانونَ مراقبةِ النقد لعام ١٩٨٠، الذي أوقَفَ العملَ بالضوابط التي كانَتْ تمنع البنوكَ من دفْعِ فوائد على أنواعٍ متعدِّدةٍ من الودائع، وسار ريجان على خُطاه بإصدار قانون جارن-سان جيرمان لعام ١٩٨٢، الذي خفَّفَ القيودَ المفروضة على أنواعِ القروض التي يمكِن للبنوك أن تقدِّمَها.
وللأسف، لم تكن الأعمالُ المصرفية مثلَ النقل بالشاحنات، ولم يؤدِّ تحريرُها إلى تشجيعِ الكفاءة، وإنما أدَّى إلى تشجيع المخاطرة. بَدَا السماحُ للبنوك بالمنافسة من خلال تقديم فائدةٍ على الودائع صفقةً جيدةً بالنسبة إلى المستهلكين، ولكنه حوَّلَ الأعمالَ المصرفية إلى وضْعٍ أصبَحَ البقاءُ فيه للأكثر تهوُّرًا؛ حيث أصبحَتِ البنوكُ المستعِدَّة لتقديم قروضٍ مشكوكٍ فيها هي وحدَها التي تستطيع تحمُّلَ تقديمِ سعرِ فائدةٍ تنافُسيٍّ للمودعين، وتسبَّبَتْ إزالةُ القيودِ المفروضة على أسعار الفائدة التي يمكن أن تحصِّلها البنوك، في جعل تقديمِ القروض المتهورة أكثرَ جاذبيةً؛ حيث صار بإمكان المصرفيين إقراضُ العملاء الذين يَعِدُون بدفع الكثير، ولكنهم قد لا يَفُون بوعودهم. وزاد نطاق المقامرة أكثرَ عندما أُرخِيَتِ القواعد التي كانت تحدُّ من التطرُّق لمجالات معينة من الأعمال، أو للمقترضين من الأفراد.
وقد أدَّتْ هذه التغيُّرات إلى ارتفاعٍ حادٍّ في معدلات الإقراض ومخاطره، كما أدَّتْ في السنوات القليلة التالية إلى بعض المشكلات المصرفية الكبرى، التي تفاقمَتْ بسبب اتجاهِ بعض البنوك لتمويل القروض التي تقدِّمها عن طريق الاقتراض من بنوك أخرى.
ولم ينتهِ اتجاهُ التحريرِ المالي برحيلِ ريجان؛ فقد اتُّخِذَت واحدةٌ من أكبر خطوات التحرير المالي في عهد الرئيس الديمقراطي التالي؛ حيث وجَّهَ بيل كلينتون الضربةَ القاضية لضوابط حقبة الكساد من خلال إلغاء قانون جلاس-ستيجال الذي كان يفصل بين الأنشطة المصرفية التجارية والأنشطة المصرفية الاستثمارية.
ومع ذلك، يمكن القول بأن هذه التغييرات في الضوابط كانَتْ أقلَّ أهميةً من الضوابط التي «لم» تتغيَّر؛ فلم يتمَّ تحديثُ الضوابط التنظيمية لتعكس الطبيعةَ المتغيِّرة للنظام المصرفي.
ما هو البنك في الأساس؟ المعنى التقليدي للبنك هو أنه مؤسسة للإيداع، إنه المكان الذي تُودَع فيه النقودُ عبر نافذةٍ، وتستطيع سحْبَها متى تريد من النافذة نفسها. أما فيما يتعلَّق بالاقتصاد، فالبنك هو أيُّ مؤسسةٍ تقترض لفترةٍ قصيرةٍ وتُقرِض لفتراتٍ طويلة، وتَعِدُ الناس بسهولةِ الوصول إلى نقودهم، بينما تستخدم معظمَ هذه النقود في استثماراتٍ لا يمكن تحويلها إلى نقودٍ سائلةٍ خلال فترة قصيرة. مؤسسات الإيداع — تلك المباني الرخامية الكبيرة التي تحتوي على صفوفٍ من الصرافين — هي الطريقة التقليدية لأداء تلك المهمة، ولكنَّ ثمة طرقًا أخرى.
أحد الأمثلة الواضحة على ذلك هو صناديق أسواق المال، التي ليس لها وجودٌ ماديٌّ مثل البنوك، ولا تقدِّم أوراقًا نقدية (الورق الأخضر الذي يحمل صورَ الرؤساء الراحلين)، ولكنَّ عملَها فيما عدا ذلك يُشبِه كثيرًا الحساباتِ الجاريةَ. تلجأ الشركاتُ التي تبحث عن مكانٍ تضع فيه نقودَها السائلةَ في كثيرٍ من الأحيان إلى «عمليات إعادة الشراء»، التي يقترض بموجبها المقترضون — من أمثال بنك ليمان براذرز — النقودَ لفتراتٍ قصيرة جدًّا — ربما ليلة واحدة فحسب — مستخدمين أصولًا مثل الأوراق المالية المضمونة برهْنٍ عقاريٍّ على سبيل الضمان، ويستخدمون النقودَ التي يجمعونها بهذه الطريقة لشراء المزيد من هذه الأصول. وثمة ترتيبات أخرى، مثل «الأوراق المالية بسعر المزاد» (لا داعيَ للخوض فيها)، التي تخدم تقريبًا نفسَ الأغراض التي تخدمها البنوكُ العادية، دون أن تخضع للقواعد التي تحكم الأعمالَ المصرفية المعتادة.
وقد اصطُلِح على تسمية هذه المجموعة من الطرق البديلة لممارسة نفس أعمال البنوك باسم «بنوك الظلِّ». قبل ثلاثين عامًا، كانَتْ بنوك الظلِّ جزءًا صغيرًا من النظام المالي، فقد كانت المصارف الحقيقية تعني المباني الرخامية الضخمة التي تحتوي على صفوفٍ من الصرافين، إلا أنه بحلول عام ٢٠٠٧ أصبحت بنوك الظلِّ أكثر انتشارًا من البنوك القديمة الطراز.
أما ما باتَ واضحًا في عام ٢٠٠٨ — وكان ينبغي أن نُدرِكَه قبل ذلك بكثير — هو أن بنوكَ الظلِّ تشكِّل نفسَ مخاطر المصارف التقليدية؛ فمثل مؤسسات الإيداع، تبقى نسبةُ المديونية بها مرتفعةً، ومثل البنوك التقليدية يمكنها أن تنهارَ بسبب موجاتِ الذُّعْرِ التي تمثِّل نبوءاتٍ تتحقَّقُ ذاتيًّا. إذَنْ، فمع تزايُدِ أهمية بنوك الظلِّ، كان ينبغي إخضاعُها لضوابط تنظيمية مماثِلة لتلك التي تغطِّي عملَ البنوك التقليدية.
ولكن، نظرًا للمزاج السياسي السائد في تلك المرحلة، لم يكن هذا سيحدث؛ فقد سُمِح لبنوك الظلِّ أن تنمو دون رقابةٍ، وقد نمَتْ أسرع، تحديدًا بسبب السماح لها بالمخاطَرةِ بدرجةٍ أكبر مما تفعل البنوك التقليدية.
لم يكن من المستغرب أن ترغب البنوك التقليدية في الحصول على مثل هذه المميزات، وفي إطار نظام سياسي يهيمن عليه المال على نحوٍ متزايدٍ، نالَتْ تلك البنوكُ مرادَها؛ ففي عام ١٩٩٩، أُلغِي قانونُ جلاس-ستيجال الذي فرض فصلًا بين البنوك التجارية والاستثمارية، وذلك بدفع من مؤسسة سيتي كورب تحديدًا — الشركة القابضة لمصرف سيتي بنك — التي أرادَتْ أن تندمج مع مجموعة ترافلرز — وهي مؤسسة كانت تعمل في مجال الخدمات المصرفية الاستثمارية — لتصيرَا مجموعةَ سيتي جروب.
وكانت النتيجة نظامًا متزايدَ الفوضوية، صارَتْ فيه البنوكُ حرةً للوقوع تمامًا تحت طائل الثقة المفرطة التي أسفرَتْ عنها فترةُ الهدوء؛ فارتفعَتِ الديون، وتضاعفَتِ المخاطر، وتأسَّسَتْ دعائمُ الأزمة.
الكذبة الكبرى
أَسمعُ شكاواك، وبعضُها لا أساسَ له من الصحة. لم تكن البنوكُ هي التي خلقَتْ أزمةَ الرهن العقاري، بل إن السبب — بكلِّ وضوح وبساطة — هو الكونجرس الذي أجبَرَ الجميعَ على تقديمِ القروض العقارية لأشخاصٍ على حافة الهاوية. لا أقول إنني متأكِّدٌ من أن هذه السياسة كانَتْ سيئةً جدًّا؛ لأن الكثيرَ من الناس الذين حصلوا على تلك المنازل لا يزالون محتفظين بها، ولم يكونوا ليحصلوا عليها لولا تلك القروض.
ولكنهم هم مَن دفعوا فاني وفريدي لتقديم مجموعةٍ من القروض المتهوِّرة — إذا صحَّ التعبير — ودفعوا البنوكَ لتقديم قروضِها للجميع. والآن نريد أن نشهِّر بالبنوك لأنها هدف واحد واضح، ومن السهل إلقاء اللوم عليها بينما لن يلومَ الكونجرس نفسَه بالتأكيد. وفي الوقت نفسه، يحاوِل الكونجرس أن يضغط على البنوك لتخفيف معايير الإقراض وإعطاء المزيدِ من القروض، وهي اللهجة التي انتقدوها بسببها.
هذه القصة التي قصصتُها عليكم عن التراخِي والتحرُّر من القيود هي في الواقع ما حدث في الفترة التي سبقت الأزمة. ربما سمعْتُم قصةً مختلفةً، مثل تلك التي رواها مايكل بلومبرج في الحديث المقتَبَس أعلاه؛ فوفقًا لهذه القصة، كان تزايُدُ الديون صنيعةَ المصلحين الليبراليين السُّذَّج والوكالات الحكومية، التي أجبرَتِ البنوكَ على إقراض الأقليات من مشتري المنازل ودعمَتْ رهونًا عقارية مريبة؛ هذه القصة البديلة، التي تقول بأن كلَّ ما حدث خطأُ الحكومة، هي تعبير عن العقيدة اليمينية؛ ومن وجهة نظر معظم الجمهوريين — بل جميعهم تقريبًا — فإن هذه حقيقة لا جدالَ فيها.
طبعًا هذا ليس صحيحًا؛ فباري ريتهولتز — مدوِّن ومدير صندوقٍ لا يمتلك ميولًا سياسيةً واضحةً، ولكنه يملك عينًا خبيرةً في تصيُّد الأكاذيب — يُطلِق على هذه القصة اسمَ الكذبة الكبرى فيما يتعلَّق بالأزمة المالية.
كيف لنا أن نعرف أن هذه الكذبة الكبرى ليسَتْ صحيحةً في واقع الأمر؟ ثمة نوعان أساسيان من الأدلة في هذا الصدد.
الدليل الأول هو أن أيَّ تفسير يلوم الكونجرس الأمريكي على الانفجار الائتماني — نظرًا لرغبته المفتَرَضة في رؤية الأُسَر المنخفضة الدخل تمتلك منازلها الخاصة — يجب أن يواجِهَ حقيقةً مربِكةً مفادُها أن طفرةَ الائتمان وفقاعةَ الإسكان كانَتَا منتشرتَين على نطاقٍ واسِعٍ جدًّا، وشَمِلَتَا العديدَ من الأسواق والأصول التي لا تمتُّ للمقترضين ذوي الدخل المنخفض بِصِلةٍ؛ فقد كانت ثمة فقاعاتُ إسكانٍ وطفراتٌ ائتمانيةٌ في أوروبا، وكانت ثمة زيادةٌ في الأسعار في سوق العقارات التجارية، تلَتْها خسائرُ وحالات تخلُّف عن سداد القروض بعد أن انفجرَتِ الفقاعة؛ ففي داخل الولايات المتحدة لم تضرب دوراتُ الانتعاش والكسادِ الكبرى الأحياءَ الفقيرة من المدن، وإنما ظهرَتْ في الضواحي والمناطق المترَفة خارجَ حدود المدن.
أما الدليل الثاني فيشير إلى أن الجزء الأكبر من الإقراض المحفوف بالمخاطر قام به مقرِضون من القطاع الخاص، ممَّنْ لا تحكمهم ضوابطُ صارمة. وتحديدًا، كانت القروضُ العقارية منخفضةَ الجودة — وهي القروض العقارية الموجَّهة للمقترضين غير المستوفين للشروط وفقًا للمعايير الاحترازية العادية — تمنحها شركاتٌ خاصة بالأساس، وتلك لم تكن مشمولةً بقانون إعادة الاستثمار المجتمعي، الذي كان من المفترض أن يشجِّعَ تقديم القروض للأفراد المنتمين إلى جماعات الأقليات، ولا خاضعةً لإشراف مؤسستَيْ فاني ماي وفريدي ماك، وهما مؤسستان تحت رعاية الحكومة متعهدتان بتشجيع الإقراض العقاري. والواقع أنه، في معظم فترة فقاعة الإسكان، أخذتْ حصة فاني وفريدي السوقية تتناقص بسرعة؛ لأن المقرضين من القطاع الخاص كانوا يجتذبون المقترضين الذين لا تقبل بهما الوكالتان التابعتان للحكومة. بدأَتْ مؤسسة فريدي ماك في شراء الرهون العقارية المنخفضة الجودة من مُنشئي القروض في مرحلة متأخرة، ولكن من الواضح أنها كانَتْ في ذلك تابعةً وليست قائدةً.
وفي محاولةٍ لدحْضِ هذه النقطة الأخيرة، أبرَزَ المحلِّلون في المراكز البحثية اليمينية — لا سيما إدوارد بينتو من معهد أمريكان إنتربرايز — بياناتٍ تُظهِر ضمانَ فاني وفريدي اكتتابَ كثيرٍ من «الرهون العقارية المنخفضة الجودة وغيرها من الرهون العالية المخاطر»، وخلطوا في ذلك بين القروض المقدَّمة لمقترضين لا يمتلكون درجاتٍ ائتمانيةً ممتازةً والقروض المقدَّمة لمقترضين غير مستوفين لمعايير الإقراض الصارمة من نواحٍ أخرى. قد يدفع ذلك القراءَ غير العالِمين بمجريات الأمور إلى الظن بأن فاني وفريدي كانتا متورطتين بالفعل في تعزيز قروض الرهون العقارية المنخفضة الجودة، ولكن هذا غير صحيح، واتضَحَ — بالبحث المدقِّق — أن الرهون «الأخرى العالية المخاطر» لم تكن عاليةَ المخاطر بشكلٍ واضِحٍ؛ حيث إن معدلات العجز عن السداد بها كانت أقلَّ بكثيرٍ من تلك المرتبطة بقروض الرهن العقاري العالية المخاطر.
بإمكاني أن أسهب في هذا الحديث أكثرَ، ولكنكم الآن فهمتم مقصدي؛ فمحاولة إلقاء اللوم على الحكومة بسبب الأزمة المالية تنهار في مواجهة أي نظرة عارضة على الحقائق، ومحاولاتُ الالتفاف حول تلك الحقائق تفوح منها رائحةُ خداعٍ متعمَّد تُزْكم الأنوف. ويثير هذا تساؤلًا: ما السبب وراء رغبة المحافظين العارمة في تصديق أن الحكومة هي السبب، بل يريدون أيضًا إقناعَ الآخرين بذلك؟
الإجابة الفورية واضحة؛ وهي أن تصديق أي شيء آخَر سيكون بمنزلة اعتراف بأن اتجاهاتك السياسية ضلَّتِ الطريقَ لعقود. وإنَّ اتجاهَ المحافظين الجدد راسِخُ الإيمان بفرضية أن تحريرَ الأسواق والسعيَ وراء الربح والمكاسب الشخصية هما مفتاح تحقيق الازدهار، كما يرون أن الدور الموسَّع للحكومة الذي انبثق عن الكساد الكبير لم يأتِ بشيء سوى الضرر، إلا أن ما نراه في الواقع هو قصةُ ازديادِ نفوذ المحافظين، وبدؤُهم في إلغاء العديد من الإجراءات الحمائية لحقبة الكساد، ثم سقوطُ الاقتصاد في كسادٍ اقتصاديٍّ ثانٍ؛ ليس بقدر سوء الكساد الأول، ولكنه سيئ بما فيه الكفاية؛ فيَشعر المحافظون بحاجةٍ قويةٍ لتقديمِ تبرير يخلِّصهم من هذا التاريخ المشين، ونشْرِ قصة تجعل الحكومة — وليس تضاؤل دورها — هي الجاني.
غير أن هذا — بطريقة ما — يعود بالمسألة خطوةً إلى الخلف؛ كيف سيطرَتْ أيديولوجية المحافظين — المتمثِّلة في اعتقادِ أن الحكومة هي دائمًا المشكلة وليس الحل — على خطابنا السياسي إلى هذه الدرجة؟ إن إجابة هذا السؤال أصعبُ قليلًا ممَّا قد تظنُّ.
سنوات الرخاء المزعوم
قد يظنُّ القارئ ممَّا سردْتُه حتى الآن أن قصة الاقتصاد الأمريكي منذ عام ١٩٨٠ كانت قصةَ ازدهارٍ وهميٍّ؛ قصةَ ما يبدو وكأنه سنوات من الرخاء، حتى انفجرَتْ فقاعةُ الديون عام ٢٠٠٨. وثمة شيء من الحقيقة في ذلك، إلا أنها قصة ينقصها بعض التنقيح؛ لأن الحقيقة هي أنه حتى أوقات الرخاء لم تكن على هذا القدر من الرخاء، من نواحٍ عدة.
أولًا: على الرغم من أن الولايات المتحدة استطاعَتْ أن تتجنَّبَ الوقوعَ في أزمةٍ ماليةٍ مضنية حتى عام ٢٠٠٨، فإن مخاطِرَ تحرير النظام المصرفي كانَتْ قد اتَّضَحَتْ قبل ذلك بكثيرٍ لكلِّ مَن يرغب في رؤيتها.
في الواقع، تسبَّبَ إلغاءُ الضوابط في وقوعِ كارثةٍ خطيرة بصفة شبه فورية؛ ففي ١٩٨٢ — كما ذكرتُ آنفًا — أقرَّ الكونجرس قانونَ جارن-سانت جيرمان، ووقَّعَ عليه رونالد ريجان، واصِفًا إيَّاه خلال حفل التوقيع بأنه «الخطوة الأولى في برنامج حكومتنا الشامل لتحرير النظام المالي»؛ وكان الغرض الأساسي منه هو المساعدة في حلِّ مشكلاتِ صناعة التوفير (المدخرات والقروض)، التي وقعَتْ في المتاعب بعد ارتفاعِ نسبةِ التضخُّم في سبعينيات القرن العشرين. وقد أسفَرَ ارتفاعُ معدلات التضخُّم عن ارتفاعِ أسعار الفائدة، وأوقَعَ مؤسساتِ التوفير — التي قدَّمَتِ الكثيرَ من القروض الطويلة الأجل مقابِلَ أسعارِ فائدةٍ منخفضةٍ — في ورطةٍ. أصبح عددٌ من مؤسسات التوفير مهدَّدًا بالإفلاس، وحيث إن بعض ودائعها مؤمَّن عليه من الدولة، فكثير من خسائرها كانت ستقع في نهاية المطاف على عاتق دافعي الضرائب.
يهدف هذا التشريع إلى توسيعِ صلاحيات مؤسسات التوفير عن طريق السماح لهذا القطاع بتقديم قروض تجارية وزيادة القروض الاستهلاكية، ما يقلِّل من تعرُّضها لتغيُّرات سوق العقارات ومستويات أسعار الفائدة، وهذا بدوره سيجعل مؤسساتِ التوفير أكثرَ قوةً وفعاليةً في تمويل المساكن لملايين الأمريكيين في السنوات القادمة.
كما خلَّفَ التنظيم المتراخي بيئةً مواتيةً للسرقة الصريحة؛ حيث تُقدَّم القروض للأصدقاء والأقارب ثم يهربون بالنقود. هل تذكرون جايتوود، المصرفي من فيلم «عربة الجياد»؟ كان ثمة الكثير من أمثاله في أوساط مؤسسات التوفير في ثمانينيات القرن العشرين.
بحلول عام ١٩٨٩، أضحى واضحًا أن مؤسسات التوفير قد خرجَتْ عن السيطرة، وأغلقَتِ السلطاتُ الفيدرالية هذا النشاطَ في نهاية المطاف. إلا أنه بحلول ذلك الوقت، كانَتْ خسائرُ هذا القطاع قد تضخَّمَتْ بالفعل. وفي النهاية، وجَدَ دافعو الضرائب أن عليهم تحمُّلَ خسائر بلغَتْ نحو ١٣٠ مليار دولار. في ذلك الوقت، كان هذا مبلغًا باهظًا من المال؛ فنسبةً إلى حجم الاقتصاد، كان ذلك يعادِل أكثر من ٣٠٠ مليار دولار في وقتنا هذا.
كما لم تكن فوضى المدخرات والقروض هي الدلالة الوحيدة على أن التحرير المالي كان أكثر خطورةً ممَّا يُظهِر مناصروه؛ ففي مستهلِّ تسعينيات القرن العشرين، وقعَتْ بنوكٌ تجاريةٌ كبرى — مجموعة سيتي جروب تحديدًا — في متاعب جَمَّة؛ لأنها أفرطَتْ في إقراض شركات تطوير العقارات التجارية. وفي عام ١٩٩٨، مع سقوط العديد من دول العالم في فخِّ الأزمة المالية، أدَّى إفلاسُ صندوق التحوُّط الوحيد — لونج تيرم كابيتال مانيجمنت — إلى تجميدِ الأسواق المالية، مثلما أفضى إفلاسُ بنك ليمان براذرز إلى تجميد الأسواق بعد مرور عقد من الزمان. استطاعَتْ جهودُ الإنقاذ الخاصة التي حشَدَها مسئولو بنك الاحتياطي الفيدرالي تجنُّبَ الكارثة في عام ١٩٩٨، ولكن كان ينبغي أن يكون هذا الحدثُ بمنزلة تحذيرٍ ودرْسٍ عملي عن مخاطر التمويل غير المقيَّد (ذكرتُ بعضَ هذه الأفكار في النسخة الأصلية من كتاب «عودة اقتصاديات الكساد» عام ١٩٩٩؛ حيث عُقِدت مقارناتٌ بين أزمة صندوق لونج تيرم كابيتال مانيجمنت، والأزمات المالية التي كانَتْ تجتاح آسيا آنذاك، إلا أنني عندما نظرت للأمر بأثر رجعي، وجدتُ أنني لم أستوعِبْ حجمَ المشكلة آنذاك).
منذ أوائل ثمانينيات القرن العشرين، شهد العالَمُ المتقدم وبعض الأطراف الكبرى في العالم النامي فترةً من النمو الاستثنائي؛ فمِن المنطقي أن نقول إن الأسواق والمؤسسات المالية اضطلعَتْ بدورٍ كبيرٍ في تحقيقِ هذا النمو، من خلال تيسير ضخِّ المدخرات العالمية في أغراضٍ منتِجة في جميع أنحاء العالم.
إلا أنه بالنسبة إلى أقليةٍ محدودةِ الحجم، وإن كانت واسعةَ التأثير، كان عصرُ التحرُّر المالي وتزايُد الديون وقتَ نموٍّ غيرِ عاديٍّ في الدخل فعلًا؛ وهذا بالتأكيد أحدُ الأسباب المهمة في استعدادِ عددٍ قليل جدًّا من الناس للاستماع إلى التحذيرات المتعلِّقة بالمسار الذي كان الاقتصادُ في سبيله لأنْ يسلكه.
ومن أجل فهم الأسباب الأعمق وراء أزمتنا الحالية — باختصارٍ — علينا أن نتحدَّثَ عن التفاوُتِ في الدخْلِ وحلول «عصر ذهبيٍّ» ثانٍ.