اقتصاديات عصور الظلام
وُلِد الاقتصادُ الكلي حقلًا قائمًا بذاته في أربعينيات القرن العشرين، كجزءٍ من الاستجابة الفكرية للكساد الكبير. كان ذاك المصطلح يشير آنذاك إلى مجموعةِ المعارف والخبراتِ التي كنَّا نأمل أن تمنع تكرُّرَ تلك الكارثة الاقتصادية. وتشير أطروحتي في هذه المحاضرة إلى أن الاقتصاد الكلي بمعناه الأصلي هذا قد نجح؛ فقد حُلَّتْ — عمليًّا — مشكلةُ منْعِ الكساد التي يقوم عليها بالأساس، والواقع أنها حُلَّتْ منذ عقود عديدة.
بالنظر إلى ما نعرفه الآن، فإن تأكيدَ روبرت لوكاس الواثق على أن الكساد أصبَحَ شيئًا من الماضي يُشبِه كثيرًا الشعارات الرنانة الجوفاء. في الواقع، هذا ما بَدَا لبعضنا حتى وقتِ قولها؛ فالأزمة المالية الآسيوية في ١٩٩٧-١٩٩٨ والمتاعِبُ المستمرة في اليابان كانَتَا تحملان شبهًا واضحًا مع أحداث ثلاثينيات القرن العشرين؛ ما أثارَ تساؤلاتٍ حقيقيةً حول ما إذا كانَتِ الأمورُ أصبحَتْ تقريبًا تحت السيطرة حقًّا. وقد ألَّفْتُ كتابًا عن تلك الشكوك بعنوان «عودة اقتصاديات الكساد»، نُشِر لأول مرة عام ١٩٩٩، ثم أصدرْتُ طبعةً منقحةً منه عام ٢٠٠٨، عندما تحقَّقَتْ كوابيسي كلها.
إلا أن لوكاس — الحائز على جائزة نوبل وأحد أعمدة الاقتصاد الكلي، وتقريبًا أبرزهم على الإطلاق في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته — لم يخطِئْ إذ قال إن الاقتصاديين تعلَّموا الكثيرَ منذ ثلاثينيات هذا القرن. فبحلول عام ١٩٧٠ مثلًا، كان ممتهنُو الاقتصاد يعرفون ما يكفي لمنْعِ تكرار أيِّ شيءٍ من قبيل الكساد الكبير.
ثم بدأ معظمُ العاملين في هذه المهنة ينسون ما تعلَّموه.
وفيما نحاول أن نتكيَّفَ مع الكساد الذي ضربَنا، كان من المحزِن أن نرى إلى أيِّ مدًى كان الاقتصاديون جزءًا من المشكلة بدلًا من أن يكونوا جزءًا من الحلِّ؛ فكثير من الاقتصاديين — وليس جميعهم — أيَّدوا رفْعَ الضوابط المالية التنظيمية، مع أنها جعلَتْ الاقتصادَ عُرضةً للأزمات أكثرَ من أيِّ وقت مضى. ثم عندما ضربَتْنا الأزمةُ، عارَضَ كثيرون جدًّا من الاقتصاديين الأكثر شهرةً بشراسةٍ وجهلٍ أيَّ نوعٍ من الاستجابة الفعَّالة. ومن المحزن أن أقول إن أحد أصحابِ هذا الرأي الجاهل والمدمِّر على حدٍّ سواء كان روبرت لوكاس دونَ سواه.
قبل نحو ثلاث سنوات — عندما أدركْتُ مدى فشلِ الاقتصاديين في تلك اللحظة الفاصلة — صغتُ عبارةً تصِفُ المشهدَ أمامي آنذاك، هي: «عصر ظلام الاقتصاد الكلي.» كنتُ أقصد أنَّ ما حدث يختلف عن أحداث الثلاثينيات، حين لم يكن ثمة مَن يعرف كيفيةَ معالجة الكساد، وكان عليهم استغلالُ جميع مصادر التفكير الاقتصادي المبدِع للوصول إلى وسيلة للمضيِّ قدمًا؛ كان ذلك العصر — إنْ جازَ التعبير — هو العصرَ الحجري للاقتصاد، حينما لم تكن فنونُ الحضارة قد اكتُشِفَتْ بعدُ. ولكن بحلول عام ٢٠٠٩ كانَتْ فنونُ الحضارة قد اكتُشِفَتْ؛ ثم ضاعَتْ؛ فقد حلَّتْ علينا الهمجيةُ من جديد.
كيف أمكن لهذا أن يحدث؟ أظنُّ أن ذلك تضمَّنَ مزيجًا من السياسة وعِلم الاجتماع الأكاديمي الجامح.
رهاب كينز
عام ٢٠٠٨، وجدْنا أنفسنا فجأةً نحيا في عالمٍ كينزيٍّ؛ أي عالمٍ شديدِ الشبه بالملامح التي ركَّزَ عليها جون مينارد كينز في أعظم ما أبدَعَ عام ١٩٣٦، كتاب «النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال». أعني بذلك أننا وجدنا أنفسنا في عالَمٍ مثَّلَ فيه عدمُ كفاية الطلب المشكلةَ الاقتصادية الرئيسية، عالمٍ لا تصلح فيه الحلولُ التكنوقراطية الضيِّقة — مثل تخفيض سعر الفائدة المستهدف لبنك الاحتياطي الفيدرالي — لحل الموقف. فلِلتَّعامُل مع الأزمة بفعالية، كنَّا بحاجةٍ لسياسات حكومية أنشط، في صورةِ إنفاقٍ مؤقَّتٍ لدعم توفير فُرَص العمل، وكذلك بذْل الجهود لتخفيف عبء الديون العقارية.
قد يتصوَّر البعض أن هذه الحلول لا يزال من الممكن اعتبارها حلولًا تكنوقراطية، ومنفصِلة عن القضية الأوسع المتعلِّقة بتوزيع الدخل. وصَف كينز نفسُه نظريتَه بأنها «محافِظة باعتدالٍ في تبعاتها» بما يتماشَى مع اقتصادٍ يعمل وفقَ مبادئ المؤسسات الخاصة؛ ومع ذلك فقد عارَضَ الساسةُ المحافظون الأفكارَ الكينزية بشراسةٍ منذ البداية، خصوصًا الساسةَ المعنيِّين بالدفاع عن وضع الأثرياء.
وعندما أقول بشراسةٍ، فأنا أعني ذلك حقًّا. يرجع الفضلُ في تعريف الكليات الأمريكية بالاقتصاد الكينزي لكتاب بول صمويلسون «الاقتصاد»، الذي صدرَتِ الطبعةُ الأولى منه عام ١٩٤٨. ولكن في الواقع، كان ذلك التعريف الثاني؛ فقد كان ثمة كتابٌ قَبْلَه — للاقتصادي الكندي لوري تارشيس — نجحَتْ جهودُ المعارضة اليمينية في استبعاده، وقد شملَتْ هذه الجهود شنَّ حملةٍ منظَّمةٍ نجحَتْ في دفع العديد من الجامعات لإسقاط هذا الكتاب. وفي وقتٍ لاحِقٍ، صَبَّ ويليام باكلي جامَّ غضبِه في كتابه «الله والإنسان في ييل» على جامعة ييل لسماحها بتدريس الاقتصاد الكينزي.
واستمَرَّ هذا التقليد لأعوام؛ ففي عام ٢٠٠٥، أدرجَتْ مجلةُ هيومان إيفِنتس اليمينيةُ كتابَ كينز «النظرية العامة» ضمنَ الكتب العشرة الأكثر ضررًا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، مجاوِرًا لكتاب «كفاحي» لهتلر، وكتاب «رأس المال» لكارل ماركس.
لِمَ كلُّ هذه النقمة على كتابٍ يحمل رسالة «محافظة باعتدال»؟ يتمثَّلُ جزءٌ من الإجابة على ما يبدو في أنه على الرغم من أن التدخُّلَ الحكومي الذي دَعَا إليه الاقتصادُ الكينزي متواضِعٌ وموجَّهٌ، فطالما اعتبَرَه المحافظون مجرد بدايةٍ؛ فإذا اعترَفْنا بإمكان اضطلاع الحكومةِ بدورٍ مفيدٍ في محارَبةِ الركود، فسنجد نفسنا فجأةً نعيش في ظلِّ نظامٍ اشتراكيٍّ. وثمة شبه إجماعٍ بين اليمينيين على الدَّمْجِ في خطابهم بين الكينزية من ناحيةٍ، والتخطيط المركزي وإعادة التوزيع الجذرية من ناحيةٍ أخرى — حتى بين الاقتصاديين، الذين ينبغي أن يكونوا أكثرَ حكمةً من ذلك — وذلك على الرغم من نفْي كينز نفسِه لذلك صراحةً؛ حيث أعلَنَ أنه «ثمة أنشطةٌ بشريةٌ قيِّمةٌ تتطلَّب دافِعَ الربح المالي وبيئة تتوافر فيها الملكية الخاصة للثروة حتى تؤتي ثمارها كاملة.»
سوف نتناول أولًا إحجامَ «أقطاب الصناعة» عن قبولِ تدخُّلِ الحكومة في قضية التوظيف؛ فأصحاب الأعمال يقابِلون كلَّ اتساعٍ في نشاطِ الدولة بالشكِّ، ولكنَّ خلْقَ الإنفاقِ الحكومي لفُرَص العمل يتميَّز بسمةٍ خاصةٍ تجعل معارضته أشدَّ من المعتاد. ففي ظلِّ نظامِ «دَعْه يعمل دَعْه يمُرُّ» يعتمد مستوى العمالة إلى حدٍّ كبيرٍ على ما يُطلَق عليه حالةُ الثقة؛ وإذا ما تدهوَرَتْ هذه الثقة، فستنخفض الاستثمارات الخاصة؛ ما يؤدِّي إلى انخفاض الناتج والوظائف المتاحة (سواء أكان بصورةٍ مباشرة أم من خلال التأثيرِ الثانوي لانخفاض الدخول على الاستهلاك والاستثمار)؛ ويتيح ذلك للرأسماليين سيطرةً غيرَ مباشِرةٍ قوية على سياسات الحكومة؛ فيجب الحرصُ على تجنُّبِ كلِّ ما يمكن أن يهزَّ حالةَ الثقة؛ لأنه قد يتسبَّبُ في حدوثِ أزمةٍ اقتصاديةٍ. ولكن بكجرد أنْ تتعلَّم الحكومةُ زيادةَ فُرَصِ العمل من خلال مشترياتها، تفقد أداةُ السيطرة القوية تلك فعاليَّتَها؛ ومن ثَمَّ، فلا بد من اعتبار عجْزِ الميزانية اللازم لتدخُّلِ الحكومة أمرًا محفوفًا بالمخاطر. إذَنْ، فالوظيفة الاجتماعية لمذهب «المالية السليمة» هي إبقاء مستوى التوظيف معتمِدًا على حالة الثقة.
إن التوتُّرَ المتزايد بين إدارة أوباما وقطاع الأعمال لَيثيرُ القلقَ على الصعيد الوطني؛ لقد فقَدَ الرئيسُ ثقةَ أصحاب الأعمال، الذين أدَّتْ مخاوِفُهم حيالَ الضرائب والتكاليف المتزايدة للضوابط الجديدة إلى تحجيم الاستثمار والنمو؛ وعلى الحكومة أن تقدِّرَ أنَّ الثقةَ أمرٌ حتميٌّ إذا كان للشركات أن تستثمِرَ وتتحمَّلَ المخاطرَ وتعيدَ الملايين من العاطلين إلى العمل المنتِج.
إذا وُضِعت هذه الدوافع معًا، فستعرف سبب العداء الدائم الذي يُبدِيه الكُتَّاب والمؤسسات الوثيقو الصلة بالطبقات العليا في توزيع الدخل إزاء الأفكار الكينزية. ولم تتغير مشاعرُ العداء تلك على مدى خمسة وسبعين عامًا مضَتْ منذ تأليفِ كينز كتابه «النظرية العامة»، أما ما تغيَّرَ حقًّا فهو ثراء تلك الطبقات العليا والنفوذ المترتِّب على ثرائها؛ فقد تحوَّل المحافظون في وقتنا هذا نحوَ أقصى اليمين، متجاوِزين ميلتون فريدمان نفسه، الذي أقرَّ على الأقل بأن السياسة النقدية يمكن أن تكون أداةً فعَّالةً لتحقيق استقرار الاقتصاد. أما الآراء التي كانت على الهامش السياسي منذ أربعين عامًا، فقد أصبحَتِ الآنَ جزءًا من العقيدة المسلَّمِ بها لدى أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين لدَيْنا.
وثمة موضوع آخَر أكثرُ حساسيةً، هو مدى تأثير المصالح الشخصية لفئة أعلى ١ في المائة — أو بدرجة أكبر فئة أعلى ٠٫١ في المائة — على النقاشات الدائرة بين خبراء الاقتصاد الأكاديميين. ممَّا لا شكَّ فيه أنه كان ثمة تأثير؛ ويكفي أن تفضيلات الجهات المتبرِّعة للجامعات، ومدى توافر الزمالات وعقود الاستشارات المربحة وما إلى ذلك، لا بد أنها شجعت أربابَ هذه المهنة ليس فقط على نبذ الأفكار الكينزية، بل نسيان الكثير أيضًا ممَّا تعلَّمناه في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته.
ولكن تأثير الثروة لم يكن ليصل إلى هذا الحدِّ لو لم يعضِّدْه نوعٌ من علم الاجتماع الأكاديمي الجامح، الذي باتَتْ من خلاله بعضُ المفاهيم السخيفة في الأصل مبادِئَ راسخةً للتحليل في مجالَيِ المالية والاقتصاد الكلي على حدٍّ سواء.
استثناءات نادرة جدًّا
تلك المسابقات التي تُقام في الصحف وتطلب من المتنافِسين انتقاءَ أجمل ستة وجوه من بين مائة صورة، وتَمنح الجائزةَ للمتسابق الذي يتوافَق اختيارُه مع متوسط تفضيلات المتسابقين جميعًا؛ بحيث يكون على كلِّ متسابِقٍ أن يختار الوجوهَ التي من المرجَّح أن تستهوي الآخَرين، عوضًا عن اختيار الوجوه التي يراها هو نفسه الأجمل.
وعلى الرغم من ذلك، فبحلول عام ١٩٧٠ تقريبًا بَدَا أن دراسة الأسواق المالية قد تسلَّمَتْ مقاليدها شخصيةُ دكتور بانجلوس التي نسجها فولتير، والتي تصر على أننا نعيش في أفضل عالم ممكن. فقد اختفَتْ تقريبًا جميعُ النقاشات المتعلِّقة بعدم عقلانية المستثمرين والفقاعات والمضاربات المدمِّرة من الخطاب الأكاديمي، وسيطرَتْ على الساحة «فرضيةُ كفاءة الأسواق»، التي روَّجَ لها يوجين فاما من جامعة شيكاجو، والتي تزعم أن الأسواقَ المالية تقوم بتسعير الأصول وفق قيمتها الحقيقية بالضبط، في ضوءِ كلِّ المعلومات المتاحة للجمهور. (أي إن سعرَ أسهم الشركة — على سبيل المثال — دائمًا ما يعكس بدقةٍ قيمةَ الشركة، في ضوء المعلومات المتاحة المتعلِّقة بأرباحها وآفاق نشاطها وما إلى ذلك.) وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، بدأ خبراءُ الاقتصاد المالي — وخاصةً مايكل جِنسن من كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفرد — يذهبون إلى أنه نظرًا لأن الأسواق المالية دائمًا ما تحدِّد الأسعارَ الحقيقية، فإن أفضلَ ما يمكن لرؤساء الشركات أن يفعلوه — ليس لأنفسهم فحسب ولكن لصالح الاقتصاد بأسره — هو تعظيمُ قيمةِ أسهم شركاتهم؛ أي إنِّ خبراء الاقتصاد المالي يعتقدون أنه «ينبغي» علينا أن نضع تنميةَ رأس مال الدولة في أيدي ما أطلَقَ عليه كينز اسم «نادي القمار».
من الصعب القول بأن هذا التحوُّلَ في مسار هذه المهنة كان مدفوعًا بالأحداث. صحيح أن ذكرى عام ١٩٢٩ كانت آخِذةً في الانحسار تدريجيًّا، ولكنَّ الأسواقَ الصاعدة استمرَّتْ — تصحبها رواياتٌ منتشرةٌ عن المضارَبةِ الزائدة — وتلَتْها الأسواقُ الهابطة. على سبيل المثال: في ١٩٧٣-١٩٧٤، فقدَتِ الأسهمُ ٤٨ بالمائة من قيمتها، وكان يجب أن يتسبَّبَ انهيارُ الأسواق المالية عام ١٩٨٧ — حين انخفَضَ مؤشِّرُ داو جونز بما يقارب ٢٣ في المائة في يوم واحد دون سبب واضح — في إثارة الشكوك حول مدى عقلانية السوق.
إلا أن هذه الأحداث — التي كان كينز سيعتبرها دليلًا على عدم موثوقية الأسواق — لم تزحزح الفكرة المستَحبَّة آنذاك قيدَ أنملة. كان النموذج النظري الذي وضَعَه الاقتصاديون الماليون استنادًا إلى فرضية أن كلَّ مستثمِرٍ يوازِن بعقلانيةٍ ما بين المخاطر والعوائد — أو ما يُسمَّى نموذج تسعير الأصول الرأسمالية — مُبهِرًا في بساطته، وإذا تقبَّلْتَ افتراضاتِه الأساسيةَ فستجد أنه مفيد جدًّا؛ فهو لا يُرشِدك إلى كيفية اختيار محفظتك الاستثمارية فحسب، فالأهم من وجهة نظر القطاع المالي أنه يُرشِدك كذلك إلى كيفية تسعير المشتقات المالية؛ أي المطالبات المستحَقَّة على المطالبات. وقد أدَّتْ بساطةُ النظرية الجديدة وفائدتها الظاهرية إلى حصولِ واضعيها على سلسلةٍ من جوائز نوبل، كما حصل العديدُ من خبرائها على مكافآتٍ لها طابعٌ أكثرُ ماديةً؛ فبواسطة النماذج الجديدة والبراعة الفائقة في الرياضيات — إذ إن الاستخدامات الأكثر سرِّية للنموذج تتطلَّب عملياتٍ حسابيةً على مستوى الفيزيائيين — صار في إمكان أساتذة كلية إدارة الأعمال الدَّمِثِي الخُلُق أن يصيروا من خبراء وول ستريت، ويتقاضوا رواتبَ منها؛ وقد حدَثَ.
ولكي نكونَ مُنصِفين، لم يتقبَّلْ واضعو النظريات المالية فرضيةَ كفاءةِ الأسواق لمجرد أنها كانَتْ بسيطةً ومناسِبة ومُربِحة؛ فقد توصَّلوا كذلك إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من الأدلة الإحصائية التي بَدَتْ في البداية داعمةً بقوة للفرضية، إلا أن هذه الأدلة كانَتْ محدودةَ النطاق بصورة غريبة؛ فنادرًا ما كان خبراءُ الاقتصاد المالي يطرحون السؤالَ الذي يبدو بديهيًّا (وإنْ كان لا تسهل الإجابة عليه) عمَّا إذا كانَتْ أسعار الأصول تبدو منطقيةً في ضوء العوامل الأساسية لعالم الواقع، مثل الأرباح؛ وعوضًا عن ذلك، تساءلوا فقط عمَّا إذا كانَتْ أسعارُ الأصول منطقيةً في ضوء أسعار الأصول الأخرى. وقد سخر لاري سامرز — كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس أوباما خلال سنواته الثلاث الأولى — من أساتذة التمويل ذات مرة من خلال قصة «خبراء اقتصاد الكاتشب» الذين «أثبتوا أن زجاجات الكاتشب سعة النصف جالون تباع دائمًا بضعف سعر زجاجات الكاتشب سعة الرُّبع جالون»، ويستنتجون من ذلك أن سوق الكاتشب تعمل بكفاءة تامة.
غير أن هذا الاستهزاء لم يكن له تأثيرٌ يُذكَر، مَثَله في ذلك مَثَل الانتقادات الأكثر تهذيبًا التي وجَّهَها غيره من الاقتصاديين؛ فقد استمرَّ المنظِّرون الماليون في اعتقادهم أن نماذجهم صائبةٌ في أساسها، وكذلك فعَلَ الكثيرُ من صانِعي القرار في عالم الواقع؛ من أبرزهم ألان جرينسبان، الذي استنَدَ رفْضُه دعواتِ كبْحِ جماحِ الإقراض أو معالجة التضخُّم المستمر لفقاعة الإسكان جزئيًّا؛ إلى اعتقادِ أن الاقتصاد المالي الحديث وضَعَ كلَّ شيء تحت السيطرة.
قد تتصوَّر الآن أن حجمَ الكارثة المالية التي ضربَتِ العالمَ عام ٢٠٠٨ — وتحوَّلَ كلُّ ما يُفتَرَض أنه أدوات مالية متطوِّرة إلى مسبِّبات للكارثة — كان يجب أن يرخي قبضة نظرية كفاءة الأسواق، ولكنك ستكون مُخطِئًا في هذا التصوُّر.
صحيح أنه في أعقاب سقوط ليمان براذرز، أعلَنَ جرينسبان أنه في حالةٍ من «الذهول وعدم التصديق»؛ لأن «الصَّرْحَ الفكري بأكمله» قد «انهار»، إلا أنه عاد إلى موقفه القديم بحلول مارس ٢٠١١، داعيًا إلى إلغاء المحاولات (الشديدة التواضع) لتشديد التنظيم المالي في أعقاب الأزمة، وكتب في صحيفة فاينانشال تايمز أن الأسواق المالية بخيرٍ، وأضافَ أنه: «فيما عدا بعضِ الاستثناءات النادرة جدًّا (مثل عام ٢٠٠٨)، حقَّقَتِ «اليد الخفية» العالمية استقرارًا نسبيًّا في أسعار الصرف والفائدة ومعدلات الأسعار والأجور.»
وما الضير في أزمة عرضية مدمِّرة للاقتصاد العالمي؟ جاء الردُّ السريع للعالم السياسي هنري فاريل — في تدوينة — بأنْ دَعَا القُرَّاءَ لإيجاد استخدامات أخرى لصيغة «استثناءات نادرة جدًّا»؛ على سبيل المثال: «باستثناءات نادرة جدًّا، كانت المفاعلات النووية اليابانية آمِنةً من الزلازل.»
الشيء المحزِن هو أن ردَّ فعل جرينسبان شارَكَه فيه كثيرون؛ فقد كانت إعادةُ التفكير في النظريات من جانب المنظِّرين الماليين ضئيلةً بصورة ملحوظة؛ فَيوجين فاما — صاحب فرضية كفاءة الأسواق — لم يتزحزح عن فكرِهِ قيدَ أنملة؛ فهو يؤكِّد أن الأزمة حدثَتْ بسبب التدخُّل الحكومي، وخاصةً الدور الذي لعبتْه مؤسَّستَا فاني وفريدي (وهذه هي الكذبة الكبرى التي تناولتُها في الفصل الرابع).
يمكن تفهُّمُ ردِّ الفعل هذا، وإنْ لم يكن من الممكن التسامُح معه؛ إذ إن إقرارَ جرينسبان أو فاما على حد سواء، بمدى انحراف النظرية المالية عن المسار الصحيح، سيكون معناه أن يُقرَّا بأنهما أمضيَا جزءًا كبيرًا من حياتهما المهنية سائرَيْن في طريقٍ مسدود. نفس الشيء يمكن قوله عن بعض روَّاد الاقتصاد الكلي، ممَّن أمضوا عقودًا من الزمان أيضًا في الدفع برؤيةٍ لكيفية عمل الاقتصاد، دحضَتْها تمامًا الأحداثُ الأخيرة، وهم أيضًا ظلُّوا رافضين الاعتراف بسوء تقديرهم.
ولكن هذا ليس كل شيء؛ ففي خضمِّ انشغالهم بالدفاع عن أخطائهم، لَعِبوا دورًا هامًّا في تقويض الاستجابة الفعَّالة التي يقتضيها الكسادُ الذي نحياه.
هَمْزٌ ولَمْزٌ
في عام ١٩٦٥، نقلَتْ مجلة تايم قولًا عن ميلتون فريدمان دون سواه، أعلَنَ فيه أننا «صرنا جميعًا من أتباع كينز الآن.» حاول فريدمان أن يتراجع عمَّا قاله بعضَ الشيء، ولكنه كان صحيحًا؛ فعلى الرغم من أن فريدمان كان قائدَ المذهب المعروف بالمدرسة النقدية التي رُوِّجَ لها بوصفها بديلًا لكينز، فإن هذا المذهب لم يختلف حقًّا في أُسُسِه المفاهيمية. في الواقع، عندما نشَرَ فريدمان ورقةً علميةً عام ١٩٧٠ تحت عنوان «الإطار النظري للتحليل النقدي»، صُدِم العديدُ من الاقتصاديين بمدى التشابُهِ بينها وبين النظرية الكينزية كما تُدَرَّس في الكتب. والحقيقة أنه في ستينيات القرن العشرين، اشترَكَ خبراءُ الاقتصاد الكلي في رؤيتهم لتعريف نوبات الركود، بينما اختلفوا فيما بينهم بشأن السياسات المناسبة للتعامُل معه، كان ذلك الاختلافُ يعكِسُ خلافاتٍ عمليةً وليس انقسامًا فلسفيًّا متأصِّلًا.
إلا أنه منذ ذلك الحين، انقسَمَ خبراءُ الاقتصاد الكلي إلى فصيلَيْن كبيرين: الأول هو اقتصاديو «المياه المالحة» (ويتركَّزون بالأساس في الجامعات الأمريكية بالمناطق الساحلية) الذين يمتلكون رؤيةً كينزيةً إلى حدٍّ ما لماهية الركود. أما الفصيل الثاني فهم اقتصاديو «المياه العذبة» (ويتركزون بالأساس في جامعات المناطق غير الساحلية)، الذين يَعتبرون أن هذه الرؤية محض هراء.
اقتصاديو المياه العذبة — في الأساس — من الداعمين الأصوليين لمذهبِ «دَعْه يعمل، دَعْه يمر»؛ فهُمْ يعتقدون أن التحليل الاقتصادي المُجدِي ينبع من أساسِ أن الناس عقلانيون والأسواق تعمل بكفاءة؛ وهو أساس يستبعد افتراضَ إمكانية انهيار الاقتصاد لمجرد عدم كفاية الطلب.
ولكن ألَا تبدو فتراتُ الركود كما لو أنها فتراتٌ لا تكفي فيها طلباتُ التوظيف كلَّ مَن يرغب في العمل؟ يقول منظِّرو المياه العذبة أن المظاهِر قد تكون خادعةً؛ فوفقًا للاقتصاد السليم — من وجهة نظرهم — الانهيارُ الكلي للطلب لا يمكن أن يحدث؛ وهذا يعني أنه لا يحدث.
إلا أن الركود يحدث بالفعل؛ فما السبب؟ في سبعينيات القرن العشرين، قال خبير الاقتصاد الكلي البارز المنتمي لفصيل المياه العذبة — روبرت لوكاس الحائز على جائزة نوبل — إن الركود يَنتج عن ارتباكٍ مؤقَّتٍ؛ إذ يجد العمالُ والشركاتُ صعوبةً في التمييز بين التغييرات الإجمالية في مستوى الأسعار بسبب التضخُّم، وتغيُّرِ وضعهم التجاري. وحذَّرَ لوكاس من أنَّ أيَّ محاولةٍ لمحاربة دورة الأعمال من شأنها أن تأتي بنتائج عكسية؛ وقال إن كلَّ ما ستفعله السياساتُ التنشيطية هو زيادة الارتباك.
وقتَ صدورِ تلك الأعمال، كنتُ طالبًا في مرحلةِ الدراسات العليا، وأتذكَّرُ كَمْ بدَتْ مثيرةً، وتحديدًا كَمْ كانَتْ دقَّتُها الرياضية جذَّابةً بالنسبة إلى الكثير من الاقتصاديين الشباب، إلا أن «مشروع لوكاس» — كما اشتُهِرَ — سرعان ما انحرَفَ عن الطريق الصحيح.
فماذا حدث؟ سرعان ما تمادَى الاقتصاديون في محاولةِ تطعيمِ الاقتصاد الكلي بأدوات التحليل الجزئي، حتى أكسبوا مشروعَهم نوعًا من الروح النضالية الحماسية التي لا تَلِين؛ على وجه التحديد، فقد أعلنوا في نصرٍ وفاةَ الاقتصاد الكينزي، دون أن يكونوا قد تمكَّنوا فعليًّا من توفيرِ بديلٍ عمليٍّ له. ومن المعروف أن روبرت لوكاس أعلَنَ في عام ١٩٨٠ — ولاقَى استحسانًا! — أن المشاركين في الحلقات الدراسية سيأخذون في «الهمز واللمز» كلما قدَّمَ أحدٌ أفكارًا كينزية، ومُنِع ذِكْرُ كينز — وأيِّ شخصٍ يَستشهد به — من كثيرٍ من الفصول الدراسية والمجلات المتخصِّصة.
أثناء إعلان أعداء نظريات كينز عن انتصارهم، كان مشروعُهم على أبواب الفشل بالفعل؛ فقد اتَّضَحَ أن نماذجهم الجديدة عجزَتْ عن تفسير الحقائق الأساسية للركود؛ إلا أنهم كانوا في الواقع قد قطعوا على أنفسهم خطَّ الرجعة؛ فبعدَ كلِّ ذلك الهمز واللمز أصبحوا لا يستطيعون أن ينكصوا على أعقابهم ويَقْبلوا بالحقيقة الواضحة التي تشير إلى أن الاقتصاد الكينزي بَدَا معقولًا جدًّا في نهاية المطاف.
ثم توغَّلوا أكثرَ، مبتعِدِين أكثرَ فأكثر عن أي نهجٍ واقعيٍّ لتناوُل الركود وكيفية حدوثه، وتُهَيْمِن الآن على معظم الجانب الأكاديمي للاقتصاد الكلي نظريةُ «دورة الأعمال الحقيقية»، التي تقول إن الركود استجابة عقلانية — بل فعَّالة أيضًا — للصدمات التكنولوجية الضارة، وتركَتِ النظريةُ هذه النقطةَ دون تفسير؛ وإن تخفيضَ العمالة الذي يحدث خلال فترة الركود هو قرار طوعي يتَّخِذه العمالُ بأخذ إجازة حتى تتحسَّنَ الأوضاع. إذا كان الكلامُ هذا يبدو سخيفًا، فهذا لأنه سخيف فعلًا، ولكنها نظرية ملائمة للنماذج الرياضية البارعة، التي جعلَتِ الأبحاثَ المعنِيَّة بدورة الأعمال الحقيقية طريقًا مناسِبًا للترقِّي والتثبيت الوظيفي. وقد اكتسَبَ منظِّرو الدورةِ التجارية في نهاية المطاف من النفوذ ما يكفي ليصبح من الصعب على الاقتصاديين الشباب اليوم ممَّن يعرِضون وجهةَ نظر مختلفة، أن يحصلوا على عملٍ في أيٍّ من الجامعات الكبرى. (كما أخبرتكم، فإننا نعاني جموحَ علم الاجتماع الأكاديمي.)
إلا أنَّ اقتصاديِّي المياه العذبة لم يتمكَّنوا من تسيير كلِّ شيءٍ وفقًا لأهوائهم؛ فقد استجاب بعضُ الاقتصاديين للفشل الواضح في مشروع لوكاس بإعادة النظر في أفكار كينز وتحديثها، ووجدَتْ نظريةُ «الكينزية الجديدة» مكانًا لها في جامعاتٍ وكُلِّيَّاتٍ مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفرد وجامعة برنستون — نعم، بالقرب من المياه المالحة — وكذلك في مؤسَّساتِ صنْعِ السياسات مثل بنك الاحتياطي الفيدرالي وصندوق النقد الدولي. كان أتباعُ النظريةِ الكينزية الجديدة على استعدادٍ للحيد عن فرضية الأسواق الكاملة أو العقلانية الكاملة — أو كلتيْهما — بإضافةِ أوجهِ قصورٍ تكفي لاستيعاب وجهة النظر الكينزية، إلى حدٍّ ما، في مسألة الركود. ومن وجهة نظر خبراءِ المياه المالحة، ظلَّتِ السياساتُ التنشيطية لمكافحة الركود مستحَبَّةً.
غير أنَّ خبراءَ المياه المالحة لم يكونوا حصينين ضد إغراء عقلانية الفرد وكمال الأسواق، ولكنهم حاولوا الحدَّ من انحرافهم عن العقيدة الكلاسيكية قدر الإمكان؛ وهذا يعني أنه لم يكن ثمة مساحةٌ في النماذج السائدة لأشياء مثل الفقاعات وانهيار النظام المصرفي، على الرغم من أن مثل هذه الأمور ظلَّتْ تَحدثُ في عالم الواقع. ومع ذلك، لم تقوِّض الأزمةُ الاقتصادية رؤيةَ أتباع الكينزية الجديدة الأساسية للعالم؛ فعلى الرغم من أنهم لم يُنعموا النظرَ في مسألة الأزمات طوال العقود القليلة الماضية، لم تستبعِدْ نماذجُهم إمكانيةَ حدوث أزمات؛ ونتيجةً لذلك، استطاع أتباعُ الكينزية الجديدة — مثل كريستينا رومر أو حتى بن برنانكي — أن يقدِّموا استجاباتٍ مفيدةً للأزمة، لا سيما من خلال الزيادة الكبيرة في الإقراض من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي، وارتفاع الإنفاق المؤقَّت من قِبَل الحكومة الفيدرالية؛ ولكن للأسف، لا يسرِي ذلك على خبراء المياه العذبة.
بالمناسبة — في حالِ كنتم تتساءلون — أنا أرى نفسي من المنتمين للكينزية الجديدة إلى حدٍّ ما؛ حتى إنني نشرْتُ أوراقًا بحثيةً تتبع نمطَ الكينزية الجديدة إلى حدٍّ بعيدٍ، وفي الواقع أنا لا أقبل فرضيَّتَيِ العقلانيةِ والأسواقِ اللتين تمثِّلان جزءًا لا يتجزَّأ من العديد من النماذج النظرية الحديثة — بما في ذلك نماذجي — وكثيرًا ما ألجأ إلى الأفكار الكينزية القديمة، وإنْ كنتُ أرى بعضَ الفائدة في مثل هذه النماذج باعتبارها وسيلةً للدراسة المتمعِّنة لبعض القضايا، وهو موقف يشاركني فيه العديدُ من الخبراء على جانب المياه المالحة من الفجوة الكبيرة. وعلى نحو مُبسَّط جدًّا، فإن الاختلاف بين خبراء المياه المالحة وخبراء المياه العذبة يعبِّر عن الخلاف بين الواقعية واليقين شبه العقائدي الذي لم تزِدْهُ الأدلةُ التي تحدَّتْ فكرةَ «العقيدة الواحدة السليمة» إلا قوةً.
وكانَتِ النتيجةُ أنه عوضًا عن أن يمدَّ الاقتصاديون يدَ العون عندما ضربَتِ الأزمةُ الاقتصادَ، انخرَطَ عددٌ كبيرٌ منهم في حربٍ عقائديةٍ شعواء.
الاقتصاد الرديء
لفترة طويلة من الزمن، لم يَبْدُ محتوى ما يدرَّس — أو ما لا يُدَرَّس، وهو الأهم — لطلبة الدراسات العليا في أقسام الاقتصاد مهمًّا، لماذا؟ لأن الأمور كلها كانت تحت سيطرة بنك الاحتياطي الفيدرالي والمؤسسات الشقيقة.
وكما شرحتُ في الفصل الثاني، محارَبةُ الركود العادي أمرٌ هيِّن إلى حدٍّ ما؛ فليس على بنك الاحتياطي الفيدرالي سوى طباعةِ المزيد من المال؛ مما يدفع أسعارَ الفائدة للانخفاض؛ أما في الممارسة العملية، فالمهمة ليسَتْ بالبساطة التي قد تبدو لكم؛ لأن بنك الاحتياطي الفيدرالي عليه أن يقيس مقدارَ العلاج النقدي الذي سيقدِّمه ومتى يوقفه، وكلُّ ذلك في بيئةٍ تتغيَّر فيها المعطيات باستمرار، ويمرُّ وقتٌ طويل قبل رصْدِ نتائج أيِّ سياسة بعينها. لكن تلك الصعوبات لم تمنع بنك الاحتياطي الفيدرالي من محاولةِ القيام بعمله؛ فبينما راح العديدُ من خبراء الاقتصاد الكلي الأكاديميين يَهِيمون في أرض الخيال، لم يفقد بنكُ الاحتياطي الفيدرالي ارتباطَه بالواقع، واستمرَّ في رعاية الأبحاث ذات الصلة بمهمته.
لكن ماذا لو واجَهَ الاقتصادُ ركودًا شديدًا جدًّا لا يمكن احتواؤه باستخدام السياسة النقدية؟ حسنًا، لم يكن من المفترض أن يحدث هذا، والحقيقة أن ميلتون فريدمان قال إنه لا يمكن أن يحدث.
وحتى أولئك الذين كرهوا العديدَ من المواقف السياسية التي اتخذها فريدمان، يظلُّ عليهم أن يعترفوا بأنه كان اقتصاديًّا نابغًا، أصابَ في العديد من الأمور الشديدة الأهمية؛ ولكن للأسف، أحدُ أكثرِ تصريحاته تأثيرًا — أن الكساد الكبير لم يكن لِيحدثَ لو كان بنك الاحتياطي الفيدرالي أدَّى وظيفته، وأن السياسة النقدية المناسبة يمكن أن تمنع حدوثَ أيِّ أمرٍ مماثِل — كان خاطئًا بالتأكيد، وكان لهذا الخطأ نتيجةٌ خطيرةٌ؛ حيث لم تَدُرْ نقاشاتٌ تُذكَر — سواء أكانت داخل بنك الاحتياطي الفيدرالي والمؤسسات الشقيقة أم في أوساط الأبحاث المِهَنية — حول ماهية السياسات التي يمكن استخدامها عندما تصبح السياسةُ النقدية غيرَ كافية.
لإعطائكم فكرةً عن الحالة الذهنية السائدة قبل الأزمة، إليكم ما قاله بن برنانكي عام ٢٠٠٢ في مؤتمرٍ لتكريم فريدمان بمناسبةِ عيد ميلاده التسعين: «اسمحوا لي أن أختتِمَ حديثي باستغلالٍ طفيفٍ لمنصبي باعتباري الممثِّل الرسمي لبنك الاحتياطي الفيدرالي. أودُّ أن أقولَ لميلتون وآنَّا: فيما يتعلَّق بالكساد الكبير، أنتما على حقٍّ، نحن تسبَّبنا فيه، نحن آسِفون جدًّا؛ ولكن بفضلكما لن نكرِّرَ فعلتَنا هذه أبدًا.»
ولكنْ طبعًا ما حدث فعليًّا كان أنه في ٢٠٠٨-٢٠٠٩، فعل بنك الاحتياطي الفيدرالي كلَّ ما قال فريدمان أنه كان ينبغي أن يفعله في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن الاقتصاد ظلَّ محاصَرًا في متلازمة أمراضٍ، لم تصل إلى درجة الكساد الكبير، إلا أنها كانت تحمِل شبهًا واضحًا به. وعلاوة على ذلك، عوضًا عن أن يقفَ الاقتصاديون متأهِّبين للمساعدة في تصميم خطواتٍ إضافيةٍ والدفاع عنها، وضع العديدُ منهم المزيدَ من العراقيل أمام الحركة.
وما كان لافتًا ومحبِطًا فيما يتعلَّق بهذه العراقيل هو الجهلُ المطْبِق الذي أظهرتْه، ولا أجد طريقةً أفضلَ من ذلك لوصفها. هل تذكرون حين اقتبستُ من أقوال براين ريدل — من مؤسسة هيريتيج — حتى أوضِّحَ مغالطةَ قانون ساي الذي يقضي بأن الدخْلَ يُنفَق بالضرورة، والعرض يخلقُ الطلبَ المقابِلَ له؟ في أوائل عام ٢٠٠٩، قدَّمَ اقتصاديَّان بارزَان من جامعة شيكاجو — يوجين فاما وجون كوكرِن — الحجةَ نفسها فيما يتعلَّق بسبب عجز التدابير التنشيطية المالية عن تقديم أيِّ نفع، وقدَّمَا هذه المغالَطةَ التي فُنِّدَتْ منذ فترةٍ طويلةٍ على أنها رؤيةٌ نافذةٌ فشِلَ الاقتصاديون الكينزيون في استيعابها لسببٍ ما على مَرِّ الأجيال الثلاثة الماضية.
ولم تكن تلك الحجة الجاهلة الوحيدة التي قُدِّمَت ضد التدابير التنشيطية؛ فعلى سبيل المثال، قال روبرت بارو من جامعة هارفرد إن كثيرًا من التدابير التنشيطية سوف يقابِلها انخفاضٌ في الاستهلاك والاستثمار الشخصيَّين، مشيرًا إلى أن هذا ما حدَثَ عندما ارتفَعَ معدلُ الإنفاق الفيدرالي خلال الحرب العالمية الثانية. على ما يبدو، لم يقترح أحدٌ أمامَه أن إنفاق المستهلكين قد يكون انخفَضَ خلال الحرب بسبب نظامِ الحصص مثلًا، أو أن الإنفاق الاستثماري ربما يكون انخفَضَ لأن الحكومة حظرَتْ مؤقتًا عملياتِ الإنشاءِ غيرَ الضرورية. وفي الوقت نفسه قال روبرت لوكاس إن التدابير التنشيطية لن تكون فعَّالةً استنادًا إلى المبدأ المعروف باسم «التكافؤ الريكاردي»، وأثناء تقديمه حجتَه أثبَتَ أنه إما لا يعرف كيفيةَ عمل ذلك المبدأ فعليًّا وإما أنه نسِيها.
وأودُّ أن أضيف ملاحظةً هامشيةً: حاوَلَ العديدُ من الاقتصاديين الذين خرجوا علينا بمثل هذه النظريات أن يُعمِلوا نفوذَهم ضدَّ أنصار التدابير التنشيطية؛ فقد أعلَنَ كوكرِن — على سبيل المثال — أن التدابير التنشيطية «لم تكن جزءًا من منهج أيِّ شخصٍ درَّسَ لطلاب الدراسات العليا منذ ستينيات القرن العشرين؛ فالأفكار الكينزية حكاياتٌ خياليةٌ ثَبَتَ زيفها. من المطَمْئن أن نعودَ في أوقاتِ الشدة إلى الحكايات الخيالية التي سمعناها في طفولتنا، ولكن هذا لا يقلِّل من زيفها.»
وفي الوقت ذاته، سَخِر لوكاس من تحليل كريستينا رومر — كبيرة المستشارين الاقتصاديين لأوباما وإحدى الباحثين المتميِّزين في موضوع الكساد الكبير (في جملة أمور أخرى) — واصِفًا إياه «بالاقتصاد الرديء»، واتهمها بأنها قوَّادة، تقدِّم «تبريرًا مَعيبًا لسياساتٍ اتُّخِذَ القرارُ بشأنها فعلًا — كما تعلمون — لأسبابٍ أخرى.»
نعم، وحاوَلَ بارو أن يشير إلى أنني غير مؤهَّل للحديث عن الاقتصاد الكلي.
وفي حالِ كنتم تتساءلون، فجميع الاقتصاديين الذين ذكرْتُهم للتوِّ من التيار السياسي المحافظ. فإلى حدٍّ ما، كان هؤلاء الاقتصاديون يقومون فعليًّا مقامَ الممثلين الثانويين للحزب الجمهوري، لكنهم لم يكونوا لِيُبْدُوا هذا القدْرَ من الاستعداد لقول مثل هذه الأمور، ولم يكونوا لِيُبْدُوا كلَّ مظاهِر الجهل تلك، لو لم تكن المهنةُ بأسرها ضلَّتْ طريقها تمامًا على مدى العقود الثلاثة السابقة.
ولأكون واضحًا، لا بد أن أشير إلى أن بعض الاقتصاديين لم ينسوا الكساد الكبير وتبعاته قطُّ، ومنهم كريستينا رومر. وفي المرحلة الحالية — في السنة الرابعة من الأزمة — صار لدَيْنا متنًا متناميًا من الدراسات الممتازة في مجال السياسة المالية، كثيرٌ منها يُجريه الاقتصاديون الشباب؛ وهي تؤكِّد إلى حدٍّ كبيرٍ فعاليةَ التنشيط المالي، وتشير ضمنيًّا إلى أنه كان ينبغي تطبيقه على نطاقٍ أوسع بكثيرٍ ممَّا حدث.
ولكن في اللحظة الحاسمة — حين كان ما نحتاجه حقًّا هو وضوح الفكر — قدَّمَ الاقتصاديون وجهاتِ نظرٍ متنافِرةً، تقوِّض الحجةَ الداعيةَ إلى الحركة عوضًا عن تعزيزها.