وماذا عن العجز؟
قد تكون ثمة بعض الأحكام الضريبية التي يمكن استخدامُها لتشجيع الشركات على التوظيف العاجل عوضًا عن الاكتفاء بالجلوس على مقاعد المتفرِّجين؛ وإننا ننظر في هذا الأمر.
إلا أنني أعتقد أنه من المهم أن ندرِكَ أننا إذا ما واصَلْنا مراكمةَ الديون — حتى في خضمِّ هذا التعافي — فسيفقد الناسُ ثقتَهم في الاقتصاد الأمريكي عند مرحلةٍ معينةٍ، بطريقةٍ من شأنها أن تفضي إلى وقوعنا في ركود مزدوج.
بحلول خريف عام ٢٠٠٩، كان قد اتَّضَح بالفعل أنَّ مَن حذَّروا من كون خطة التدابير التنشيطية الأصلية ضئيلةً جدًّا كانوا على حقٍّ. صحيح أن الاقتصاد كان قد تجاوَزَ مرحلةَ السقوط الحر، إلا أن الانخفاض كان حادًّا، ولم تكن ثمة أيُّ علامات تشير إلى حدوثِ تعافٍ سريع بما يكفي للتعجيل بخفض نسبةِ البطالة الذي كان يحدث بوتيرة بطيئة جدًّا.
وكان هذا هو تحديدًا الوضعَ الذي دفَعَ المساعدين في البيت الأبيض في البداية إلى التفكير في اللجوء إلى الكونجرس لطلب المزيدِ من التدابير التنشيطية. ولكن ذلك لم يحدث؛ لماذا؟
أحد الأسباب التي أدَّتْ إلى ذلك كان خطأَ حُكْمهم على الأوضاع السياسية؛ فقد تحقَّقَتْ مخاوف البعض عندما خرجَتِ الخطةُ الأصلية للوجود؛ إذ قوَّضَ قصورُ التدابير التنشيطية الأولى فكرةَ التدابير التنشيطية بأكملها في أذهانِ معظم الأمريكيين، وشجَّعَ الجمهوريين على الإنعام في المعارضة الضارية.
إلا أنه كان ثمة سببٌ آخَر؛ فقد تحوَّل الكثير من النقاشات الدائرة في واشنطن من التركيز على البطالة إلى التركيز على الديون والعجز، وأصبحَت التحذيرات المتشائمة من خطر العجز المفرط عنصرًا رئيسيًّا في اتخاذ المواقف السياسية، وبدأ يستخدمها مَن يرون أنفسَهم مهِمِّين لإظهار أهميتهم. وكما يوضِّح الاقتباسُ الذي استخدَمْتُه في مقدمة هذا الفصل، فقد انخرَطَ أوباما نفسه في هذه اللعبة؛ ففي أول خطابٍ ألقاه عن حالة الاتحاد — في أوائل عام ٢٠١٠ — اقترَحَ تخفيضَ الإنفاق عوضًا عن طرح تدابير تنشيطية. وبحلول عام ٢٠١١، انتشَرَتْ في أنحاء البلاد تحذيراتٌ مروعة بوقوع كارثةٍ إن لم نعالج العجزَ على الفور (في مقابل اتخاذِ تدابير طويلة الأمد من شأنها ألَّا تزيد ركودَ الاقتصاد).
والغريب في الأمر أنه لم يكن ثمة دليلٌ — سواء أكان حينئذٍ أم في الوقت الحالي — يدعم تحوُّل التركيز من مشكلة الوظائف إلى قضية العجز؛ فبينما يُحدِث انعدامُ فُرَصِ العمل ضررًا حقيقيًّا ورهيبًا، فإن الضرر الذي يُلحقه العجزُ بأمةٍ مثل الولايات المتحدة في وضعها الحالي افتراضيٌّ في مجمله؛ فعبءَ الديون القابل للقياس أصغر بكثيرٍ ممَّا يمكن أن تصوِّرَه لنا تلك الخُطَبُ العصماء، كما أن التحذيرات المتعلِّقة بوقوعنا في نوعٍ من أزمات الديون ليس لها أيُّ سندٍ على الإطلاق. في الواقع، لقد أثبتَتِ الأحداثُ مرارًا وتكرارًا خطأَ توقُّعات صقور العجز، في حين أنَّ مَن جادَلوا بأن العجز لا يمثِّل مشكلةً في اقتصاد الكساد قد أثبَتُوا صحةَ أفكارهم باستمرارٍ؛ وعلاوةً على ذلك، فأولئك الذين اتخذوا قراراتٍ متعلِّقةً بالاستثمار بناءً على تنبؤات المتشائمين من العجز — مثل مورجان ستانلي في عام ٢٠١٠، أو بيمكو في عام ٢٠١١ — انتَهَى بهم الأمرُ إلى خسارة الكثير من النقود.
إلا أن الخوف المبالَغَ فيه من العجز ظلَّ محكِمًا قبضتَه على خطاب السياسة والسياسات، وسأحاول أن أشرح سببَ حدوث ذلك لاحقًا في هذا الفصل؛ ولكن اسمحوا لي أولًا أن أتحدَّثَ عمَّا قاله صقور العجز، وما حدث في الواقع.
حُرَّاس السندات الخَفِيُّون
كنتُ أعتقد أنه إذا كان ثمة تناسُخٌ للأرواح، فسوف أرغب في أن أعود إلى الحياة في جسد رئيسٍ أو بابا أو لاعبِ بيسبول متميِّز. أما الآن، فأريدُ أن أعود في شكلِ سوقِ سندات، لأتمكَّنَ من إثارة ذُعْر الجميع.
في ثمانينيات القرن العشرين، صاغ إد يارديني، الخبير في اقتصاد الأعمال، مصطلحَ «حرَّاس السندات» للمستثمرين الذين يتخلَّون عن سندات البلاد — ما يقود إلى ارتفاعِ تكاليف الاقتراض — عندما يفقدون الثقةَ في سياسات البلاد النقدية أو المالية أو كلتيْهما. والدافع الرئيسي وراء الخوف من عجز الميزانية هو الخوف من هجوم حرَّاس السندات، وغالبًا ما يذهب دعاةُ التقشُّف المالي — الذي يتمثَّل في تخفيضاتٍ حادةٍ في الإنفاق الحكومي حتى في مواجهة حالة البطالة الجماعية التي تشهدها البلاد — إلى أنه يجب علينا أن ننفِّذَ ما يطالِبون به لإشباع سوق السندات.
إلا أن السوق نفسها لا يبدو أنها تتَّفِق مع هذا الرأي، بل إنها تقول إنه على الولايات المتحدة أن تزيد من الاقتراض؛ حيث إن تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة منخفضة جدًّا في الوقت الحالي، بل إنها صارت بالسالب — بعد تعديلها وفقًا للتضخُّم — بحيث صارَ المستثمرون يدفعون رسومًا للحكومة الأمريكية فعليًّا للحفاظ على ثرواتهم. وبالمناسبة، هذه هي أسعار الفائدة الطويلة الأجل؛ ومن ثم فإن السوق لا تقول إن الأمور على ما يرام في الوقت الراهن فحسب، بل تضيف أيضًا أن المستثمرين لا يستشرفون أيَّ مشكلات كبيرة لأعوام قادمة.
يقول صقور العجز: لا بأس، سوف ترتفع تكاليفُ الاقتراض قريبًا إذا لم نخفض الإنفاقَ في الوقت الراهن؛ هذا يعني اتهام السوق بأنها مخطئة، وهذا مسموح به. ولكنَّ الغريبَ هنا — وهذا أرقُّ وصفٍ يمكن استخدامه في هذه الحالة — هو أنْ تبْني مطالِبَكَ على ادِّعَاء أنه لا بد من تغيير السياسة لإشباع السوق، ثم ترفض الأدلةَ الواضحةَ على أن السوق نفسها لا تشارِكُكَ مخاوفَك.
ولم يكن في استمرار انخفاض أسعار الفائدة ما يشير إلى قُرْبِ انتهاء هذا العجز الكبير؛ فعلى مدار ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ و٢٠١٠ و٢٠١١، تسبَّبَ مزيجٌ من الإيرادات الضريبية المنخفضة وإنفاق الطوارئ — وكلاهما ناتج عن كساد الاقتصاد — في إجبارِ الحكومة على اقتراض أكثر من ٥ تريليونات دولار؛ ومع كل ارتفاعٍ طفيفٍ في هذه المعدلات خلال تلك الفترة، كانت بعضُ الأصوات المسموعة تُعلِن أن حرَّاس السندات قد وصلوا، وأن الولايات المتحدة على وشكِ أن تجد نفسها غيرَ قادرةٍ على الاستمرار في اقتراضِ كلِّ تلك النقود؛ إلا أن كلَّ تلك الارتفاعات الطفيفة عكسَتْ مسارَها بعد ذلك، وفي بداية عام ٢٠١٢ أصبحَتْ تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة قريبةً من أدنى مستوياتٍ لها على الإطلاق.
- (١)
كَتبَتْ صحيفةُ وول ستريت جورنال مقالًا افتتاحيًّا تحت عنوان «حرَّاس السندات: عودة مراقِبِي سياسات الولايات المتحدة»، يتنبَّأ بارتفاعٍ كبيرٍ في أسعار الفائدة ما لم يُخَفَّض العجزُ.
- (٢)
صَرَّح الرئيس أوباما لقناة فوكس نيوز بأننا قد نتعرَّض لركودٍ مزدوجٍ إذا واصَلْنا مراكمةَ الديون.
- (٣)
يتوقَّع مورجان ستانلي أن يدفعَ العجزُ أسعارَ سندات الخزانة ذات العشر سنوات إلى الارتفاع حتى تصل إلى ٥٫٥ في المائة بحلول نهاية عام ٢٠١٠.
- (٤)
نشرَتْ صحيفة وول ستريت جورنال — هذه المرة في قسم الأخبار وليس في المقال الافتتاحي — مقالًا بعنوان «مخاوف الديون تدفع أسعارَ الفائدة إلى الارتفاع»، ولا يقدِّمُ المقالُ أيَّ دليلٍ على أن الخوف من الديون — وليس آمال التعافي — كان هو المسئول عن الارتفاع البسيط في أسعار الفائدة.
- (٥)
يحذِّر بيل جروس في صندوق سندات بيمكو من أن الشيء الوحيد الذي يقيِّدُ أسعارَ الفائدة في الولايات المتحدة هو مشتريات بنك الاحتياطي الفيدرالي من السندات، ويتوقَّع حدوثَ ارتفاعٍ كبيرٍ في الأسعار عند انتهاءِ برنامج شراء السندات في يونيو ٢٠١١.
- (٦)
خَفضَتْ وكالةُ ستاندرد آند بورز تصنيفَ الحكومة الأمريكية، ساحِبةً بذلك التصنيفَ الممتاز الذي سبق أنْ منحَتْها إياه.
ومع حلول أواخر عام ٢٠١١، كانَتْ تكاليف الاقتراض في الولايات المتحدة قد بلغَتْ حدًّا أقلَّ من أي وقتٍ مضَى.
ومن المهم أن ندرِكَ أن المسألة لم تقتصِرْ على توقُّعاتٍ خاطئة، وهو ما يمكن أن يحدث للجميع بين الحين والآخَر؛ بل كانت بالأحرى تتعلَّق بكيفية النظرِ إلى العجز في ظلِّ ركود الاقتصاد. دعونا نتناوَل إذَنْ سببَ اعتقاد كثيرٍ من الناس صِدقًا أن الاقتراض الحكومي من شأنه أن يرفع أسعارَ الفائدة، ولماذا توقَّعَ الاقتصاد الكينزي — مُصِيبًا — أن هذا لن يحدث ما دام الاقتصادُ راكدًا.
فهْم أسعار الفائدة
لا يمكن أن يناصِرَ المرءُ النظريتين النقدية والكينزية في آنٍ واحد؛ على الأقل لا أستطيع تخيُّلَ كيف يمكن لأيِّ شخصٍ أن يفعل ذلك؛ لأنه إذا كان الهدفُ من السياسة النقدية هو إبقاء أسعار الفائدة منخفضة والسيولة مرتفعة؛ فالسياسة الكينزية لا بد أن تؤدِّي إلى رفع أسعار الفائدة.
في نهاية الأمر، فإن ١٫٧٥ تريليون دولار من سندات الخزانة المسكوكة حديثًا لَهِيَ أكثر مما يمكن طرحه في سوق السندات في وقت الركود، وما زلتُ لا أعرف مَن الذي سيشتريها. بالتأكيد، لن يشتريها الصينيون؛ كان ذلك سَيُسدِي نفعًا في أوقات الرخاء، أما الآن فما أُطلِق عليه «صيمريكا»، أو الاتحاد القائم بين الصين والولايات المتحدة، قد اقترَبَ من نهايته، وربما ينتهي بهما الأمرُ إلى شقاقٍ مريرٍ.
المشكلة هي أنه لا أحدَ سوى بنك الاحتياطي الفيدرالي يستطيع أن يشتري هذه السندات المسكوكة حديثًا، وأتوقَّعُ أنه ستشبُّ في الأسابيع والأشهر المُقبِلة معركةٌ طاحنةٌ بين سياستنا النقدية وسياستنا المالية، حين تدرك الأسواقُ الكميةَ الهائلة من السندات التي سيكون على النظام المالي أن يستوعِبَها هذا العام؛ ومن ثَمَّ، سيؤدِّي ذلك إلى دفع أسعار السندات إلى الهبوط، وأسعار الفائدة إلى الارتفاع؛ مما سيؤثِّر على فوائد قروض الرهن العقاري؛ وهو عكس ما يحاوِل بن برنانكي تحقيقَه في بنك الاحتياطي الفيدرالي تمامًا.
يعبِّر هذا الاقتباسُ المنقول عن نيال فيرجسون — وهو مؤرِّخ وضيف مألوف في البرامج التليفزيونية يكتب كثيرًا عن الاقتصاد — باقتضابٍ عمَّا كان الكثيرون، ولا يزالون، يعتقدونه بشأن الاقتراض الحكومي؛ فهُم يظنون أنه سيرفع أسعارَ الفائدة بلا ريب؛ لأنه يمثِّل طلبًا إضافيًّا على موارد شحيحة — وهي القروض في هذه الحالة — وستؤدِّي هذه الزيادةُ في الطلب إلى رفْعِ أسعار الفائدة. ويمكن اختصار ذلك كله في سؤالٍ واحدٍ هو: من أين تأتي النقود؟
في الواقع، من المنطقي طرح هذا السؤال عندما يكون الاقتصاد في حالةِ تشغيلٍ كاملٍ أو قريبٍ منها، لكن حتى في ذلك الحين، من غير المنطقي أن نقول إن الإنفاق بالاستدانة يعمل في غير صالح السياسة النقدية، وهو ما بَدَا أنَّ فيرجسون يزعمه. ومن الخطأ تمامًا توجيه هذا السؤال عندما يكون الاقتصادُ في حالة كسادٍ، على الرغم من خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعارَ الفائدة التي يستطيع التحكُّم بها وصولًا إلى الصفر؛ أيْ عندما نقع في فخِّ السيولة، الذي كنَّا قد وقَعْنا فيه بالفعل عندما أدلى فيرجسون بتلك التصريحات (في مؤتمر برعاية نادي القلم ومجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس)، وما زلنا واقعين فيه حتى يومنا هذا.
وكما ذكرتُ في الفصل الثاني، يحدث فخُّ السيولة عندما تصل الفائدةُ إلى الصفر، ويظلُّ سكَّانُ العالم جميعًا مُحجِمين عن شراء ما يوازي حجْمَ إنتاجهم. وبالمِثل، يصبح ما يرغَبُ الناسُ في ادِّخَاره — أيْ حجم الدخل الذي لا يرغبون في إنفاقه على الاستهلاك الحالي — أكبرَ من كميةِ الأعمال التي يُبْدُون استعدادًا للاستثمار فيها.
في الواقع، بدأَتْ تلوح أمامنا بوادرُ فائضٍ في المعروض مِن المدَّخَرات، حتى في ظلِّ انخفاض أسعار الفائدة إلى الصفر؛ وهذه هي مشكلتنا.
فما الذي يفعله الاقتراض الحكومي؟ يعطي الاقتراضُ الحكومي بعضَ تلك المدَّخرات الفائضة مكانًا للذهاب إليه؛ وفي تلك الأثناء، يزيد من الطلب الكلي، والناتج المحلي الإجمالي بالتبعية؛ فهو «لا يزاحِم» الإنفاقَ الخاص، على الأقل ليس حتى يُمتَصَّ الفائض المعروض من المدَّخَرات؛ وهو ما يعني خروجَ الاقتصاد من فخِّ السيولة.
ثمة مشكلات حقيقية متعلِّقة بالاقتراض الحكومي الواسع النطاق؛ تتمثَّل في الأساس في أثره على عبء الدَّيْن الحكومي. لا أودُّ أن أهوِّنَ مِن أمر هذه المشكلات؛ فبعض البلدان — مثل أيرلندا — أُجبِرت على الانكماش المالي حتى في مواجهة ركود شديد، ولكن تظلُّ حقيقةُ مشكلتنا الحالية هي — في الواقع — مشكلةَ فائض مدَّخَرات في جميع أنحاء العالم يبحث عن جهةٍ يستقِرُّ فيها.
فمن أين جاءَتِ النقودُ اللازمة لتمويل كلِّ هذا الاقتراض؟ من القطاع الخاص في الولايات المتحدة، الذي كان ردُّ فعْلِه إزاءَ الأزمة المالية هو زيادة الادِّخار وتقليل الاستثمار؛ فالميزان المالي للقطاع الخاص — أيِ الفارق بين الادِّخَار والإنفاق الاستثماري — ارتفَعَ من −٢٠٠ مليار دولار في السنة قبل الأزمة إلى تريليون دولار في السنة في الوقت الراهن.
قد تتساءلون: ماذا كان سيحدث لو لم يقرِّرِ القطاعُ الخاص زيادةَ الادِّخار وتقليل الاستثمار؟ ولكن الإجابة هي: في هذه الحالة ما كان الاقتصاد ليُصبح راكدًا؛ وما كانت الحكومة لِتَجدَ نفسها أمام هذا العجز الكبير. باختصارٍ، لقد كان الأمرُ بالضبط كما تنبَّأ أولئك الذين فهموا منطقَ فخِّ السيولة؛ ففي اقتصادِ الكساد، لا يتنافَسُ عجزُ الميزانية مع القطاع الخاص على التمويل؛ ومن ثم لا يدفع أسعارَ الفائدة إلى الارتفاع؛ كل ما في الأمر أن الحكومة تحاوِل أن تجد استخدامًا لفائض مدَّخَرات القطاع الخاص؛ أيِ الجزء الفائض ممَّا يريد القطاعُ الخاص أن يدَّخِره بعد اقتطاع الجزء الذي يرغب في استثماره. وكان لأداء الحكومة هذا الدورَ تأثيرٌ حاسمٌ؛ لأنه من دون العجز في الموازنة العامة، كانَتْ محاولةُ القطاع الخاص تقليلَ ما ينفق عمَّا يكسب ستتسبَّب في الوقوع في كساد عميق.
ولسوء حظِّ حالة الخطاب الاقتصادي — وواقع السياسة الاقتصادية بالتبعية — كان المنذرون من الفناء المالي لا يلينون في آرائهم؛ فعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، قدَّموا عذرًا تلو الآخَر لعدم ارتفاع أسعار الفائدة — فتارةً يعلِّلون ذلك بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي يشتري الديونَ، وتارةً أخرى يُلقون باللائمة على المتاعب في أوروبا، وهكذا دواليك — بينما يرفضون بإصرارٍ الاعترافَ بأنَّ كلَّ ما في الأمر هو أنهم قدَّموا تحليلًا اقتصاديًّا خاطئًا.
وقبل أن أمضي قدمًا، اسمحوا لي أن أجيب على سؤالٍ ربما خَطَر ببالِ بعض القرَّاء فيما يتعلَّق بالشكل السابق؛ أَلَا وهو: ما الذي تسبَّبَ في تذبذُبِ أسعار الفائدة الذي يظهر في هذا الرسم البياني؟
تكمن الإجابةُ على هذا التساؤل في التمييز بين أسعارِ الفائدة الطويلة الأجل وأسعار الفائدة القصيرة الأجل؛ فأسعار الفائدة القصيرة الأجل هي ما يمكن لِبَنْك الاحتياطي الفيدرالي أن يتحكَّمَ به، وقد ظلَّتْ قريبةً من الصفر منذ أواخر عام ٢٠٠٨ (في وقتِ كتابة هذه السطور، كان سعرُ الفائدةِ على أذونِ الخزانة التي تصدر لثلاثة أشهر هو ٠٫٠١ في المائة)، إلا أن العديد من المقترضين — بما في ذلك الحكومة الفيدرالية — يرغبون في تثبيت سعرٍ معيَّنٍ لأجلٍ أطول، ولن يشتري أحدٌ سندًا مدته عشر سنوات مثلًا بفائدةٍ قدرها صفر، حتى إن كانَتْ أسعار الفائدة القصيرة الأجل هي صفر. لماذا؟ لأن هذه المعدلات من الممكن — ومن المؤكَّد في نهاية المطاف — أن ترتفع من جديدٍ؛ ومن ثَمَّ فلا بد من تعويض الشخص الذي يربط نقودَه في سنداتٍ طويلةِ الأجل عن احتمال ضياع فرصة الحصول على عائداتٍ أعلى عند ارتفاع معدلات الفائدة القصيرة الأجل مرةً أخرى، هذا إنِ ارتفعَتْ.
إلا أن حجم ما يطلبه المستثمرون تعويضًا عن نقودهم في سنداتٍ طويلةِ الأجل يعتمد على متى يتوقَّعون لمعدلات الفائدة على السندات القصيرة الأجل أن ترتفع، وإلى أيِّ مدًى؛ ويعتمد هذا بدوره على توقُّعات التعافي الاقتصادي، وتحديدًا على توقُّع المستثمرين لتوقيتِ خروج الاقتصاد من فخِّ السيولة، وازدهاره بما يكفي لبدء بنك الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة منعًا لاحتمال التضخُّم.
إذَنْ فأسعار الفائدة التي رأيناها في الشكل السابق تعكس وجهاتِ النظر المتغيِّرة حول مدى استمرار الاقتصاد في وضع الركود. كان ارتفاع أسعار الفائدة خلال ربيع عام ٢٠٠٩ — الذي ارتأَتْ فيه صحيفةُ وول ستريت جورنال قدومًا لحرَّاس السندات — يُعزَى في الواقع إلى التفاؤل بأن الأسوأ قد مضى وأن التعافي الحقيقي أصبح على مرمى حجر؛ ومع تلاشي هذا الأمل، تراجَعَتْ أسعارُ الفائدة؛ ثم دفعَتْ موجةٌ ثانية من التفاؤل في أواخر عام ٢٠١٠ أسعارَ الفائدة إلى الارتفاع، ولكنها ما لبثَتْ أنْ خبَتْ بدورها. وفي وقتِ كتابة هذه السطور، الأمل ضعيف، وتُقابله أسعارُ فائدة منخفضة.
ولكن مهلًا، هل هذا هو كلُّ ما في الأمر؟ يبدو ذلك صحيحًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ولكن ماذا عن اليونان أو إيطاليا؟ إنهما أبعدُ منَّا عن الوصول للتعافي، ولكنَّ أسعارَ الفائدة لدَيْهما ارتفعَتْ كثيرًا؛ فلماذا؟
سأقدِّم الإجابةَ الكاملة على هذا السؤال عندما أتناوَلُ أوروبا بالمناقشة المتعمِّقة في الفصل العاشر، ولكنني سأقدِّم لكم فيما يلي لمحةً مختصرةً.
إذا قرأتم ردِّي على فيرجسون الموجود أعلاه، فسوف تلاحظون أنني قد اعترفْتُ بأن عبءَ الدَّيْن العام يمكن أن يمثِّلَ مشكلةً؛ ليس لأن اقتراضَ الحكومة الأمريكية سيتنافس مع القطاع الخاص للحصول على التمويل عمَّا قريب، وإنما لأن الدَّيْن الحكومي إذا ارتفَعَ بالقدر الكافي قد يضع ملاءتها المالية موضعَ تساؤلٍ، ويَثني المستثمرين عن شراء سندات الحكومة خشية تخلُّفها عن الدفع في المستقبل؛ وهذا التخوُّف من العجز عن السدادِ هو السببُ الكامِنُ وراءَ ارتفاع أسعار الفائدة على بعض الديون الأوروبية.
إذَنْ هل تقع الولايات المتحدة حاليًّا في خطر العجز عن السداد، أو هل من المحتمل أن يُنظَر إليها على هذا الأساس عمَّا قريب؟ وفقًا لسوابق التاريخ، لا؛ فعلى الرغم من ضخامة العجز والديون في الولايات المتحدة، فكذلك الاقتصاد الأمريكي ضخم؛ ونسبةً إلى حجم هذا الاقتصاد الهائل، نجد أننا لم نغرق في الديون مثلما غرقت بلدان عدة مسبقًا — ومنها الولايات المتحدة — دون أن يجتاح الذُّعْرُ سوقَ سنداتها. الطريقة المعتادة لقياس الدَّيْن الحكومي للدولة هي أن نَقْسِمَه على الناتج المحلي الإجمالي لهذا البلد — وهو القيمة الإجمالية للسلع والخدمات التي ينتجها اقتصادُ البلاد سنويًّا — وذلك لأن الناتج المحلي الإجمالي في الواقع يمثِّل القاعدة الضريبية للحكومة أيضًا. يوضِّح الشكلُ التالي المستوياتِ التاريخيةَ للدَّيْن الحكومي كنسبةٍ مئويةٍ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان؛ وعلى الرغم من ارتفاع ديون الولايات المتحدة كثيرًا في الآونة الأخيرة، فهي لا تزال دونَ المستويات التي شهدناها في الماضي، وأقلَّ بكثير من المستويات التي شهدَتْها بريطانيا في جزءٍ كبيرٍ من تاريخها الحديث، والتي مرَّتْ كلها دون أن تواجِهَ أيَّ هجمةٍ من حرَّاس السندات.
وإن حالة اليابان — التي ما برحَتْ ديونها ترتفع منذ تسعينيات القرن العشرين — لَتستوجِبُ الذِّكْرَ؛ فاليابان — مَثَلها في ذلك مَثَل الولايات المتحدة اليوم — أُشِيرَ إليها مرارًا وتكرارًا على مدى العقد الماضي أو ما يزيد عنه، على أنها بلد على شفا أزمةِ ديونٍ؛ غير أن الأزمة الموعودة لا تأتي، ووصَلَ سعرُ الفائدة على سندات العشر سنوات اليابانية حاليًّا إلى حوالي ١ في المائة، وخسر المستثمرون الذين راهنوا على ارتفاع أسعار الفائدة اليابانية في المستقبل أموالًا طائلة، لدرجة أن بيع السندات الحكومية اليابانية على المكشوف أصبَحَ معروفًا باسم «تجارة الموت». وكان لمَنْ دَرَسَ التجربةَ اليابانية أن يتصوَّرَ ما يمكن أن يحدث عندما خفضت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيفَ الائتماني للولايات المتحدة العامَ الماضي — فعليًّا لا شيء — ذلك لأنها خفضَتِ التصنيفَ الائتماني لليابان عام ٢٠٠٢ ولم يحدث شيءٌ أيضًا.
ولكن ماذا عن إيطاليا وإسبانيا واليونان وأيرلندا؟ كما سنرى، لم تغرق أيٌّ منها في الدَّيْن كما فعلَتْ بريطانيا لجزءٍ كبيرٍ من القرن العشرين، أو كما أصبحَتِ اليابان الآن؛ ولكن من المؤكَّد أنها تواجِهُ هجمةً من حرَّاس السندات. فما هو الفارق؟
والإجابة — التي سوف تحتاج إلى الكثير من الشرح — هي أنَّ ثمة اختلافًا كبيرًا بين أنْ تقترض بعملتك المحلية وأن تقترض بعملة أجنبية؛ فكلٌّ من بريطانيا والولايات المتحدة واليابان تقترض بعملتها المحلية؛ أيِ الجنيه الاسترليني والدولار والين بالترتيب. وعلى النقيض من ذلك، فإيطاليا وإسبانيا واليونان وأيرلندا لا تمتلك عملات خاصة بها من الأساس في هذه المرحلة، وديونها باليورو؛ وهو — كما تبيَّنَ — ما جعَلَها عرضةً لنوبات الذُّعْر المصرفي، وسوف نتناول هذه القضيةَ بمزيدٍ من التفصيل لاحقًا.
وماذا عن عبء الديون؟
لنفترِضْ أن حرَّاس السندات لن يظهروا ويتسبَّبوا في حدوث أزمة؛ حتى إذا افترَضْنا هذا، أَلَا ينبغي أن يساوِرَنا القلقُ إزاءَ عبء الديون الذي سنتركه للمستقبل؟ الإجابة القاطعة هي «نعم، ولكن …» نعم، فالديون التي نراكمها الآن — بينما نحاوِلُ أنْ نتعايَشَ مع تداعيات الأزمة المالية — ستمثِّل عبئًا على المستقبل؛ ولكنَّ العبءَ أقلُّ بكثيرٍ ممَّا يشير إليه الخطابُ الحماسي الذي يتبنَّاه صقورُ العجز.
الأمر المحوري الذي يجب وضعه في الاعتبار هو أن الخمسة تريليونات دولار أو نحوها من الديون التي ركمَتْها الولايات المتحدة منذ بداية الأزمة، والتريليونات الأخرى التي سنركمها بالتأكيد قبل أن ينتهي هذا الحصارُ الاقتصادي؛ لن يلزم تسديدُها بسرعةٍ، بل لن يلزم تسديدها من الأساس. في الواقع، لن تحدث مأساةٌ إنِ استمَرَّ الدَّيْنُ في النمو واقعيًّا، ما دام أنه ينمو بمعدلٍ أقلَّ من التضخُّم والنموِّ الاقتصادي مجتمعَيْن.
لتوضيح هذه النقطة، فَلْنُنْعم النظرَ فيما حدَثَ لديون الحكومة الأمريكية التي بلغَتْ ٢٤١ مليار دولار عند نهاية الحرب العالمية الثانية؛ لا يبدو ذلك مبلغًا كبيرًا وفقًا للمعايير الحديثة، ولكن الدولار كان قيمته أكبر بكثيرٍ في ذلك الوقت، وكان الاقتصاد أصغرَ كثيرًا؛ لذلك بلغ حجم ذلك الدَّيْن نحو ١٢٠ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي (مقارَنةً بالديون الفيدرالية والحكومية والمحلية مجتمعةً التي بلغت ٩٣٫٥ في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام ٢٠١٠). كيف سُدِّدَ ذلك الدَّيْن؟ الإجابة هي أنه لم يُسَدَّد.
عوضًا عن ذلك، كانت ميزانيات الحكومة الفيدرالية شبه متوازنة في السنوات التالية؛ ففي عام ١٩٦٢، كان الدَّيْن بنفس الحجم الذي كان عليه تقريبًا في ١٩٤٦، إلا أن نسبة الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي كانَتْ قد انخفضَتْ ٦٠ في المائة، وذلك بفضل مزيجٍ من التضخُّم الطفيف والنمو الاقتصادي الكبير؛ وظلَّتْ نسبةُ الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي في تراجُعٍ خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، على الرغم من أن الحكومة الأمريكية تعرَّضَتْ لبعض العجز في تلك الحقبة؛ ولم تبدأ الديونُ في النموِّ بوتيرةٍ أسرع من الناتج المحلي الإجمالي إلا عندما زادَ العجزُ كثيرًا في عهدِ رونالد ريجان.
الآن دعونا ننظر إلى ما يعنيه كلُّ هذا بالنسبة إلى العبء المستقبلي من الديون التي نركمها الآن؛ لن يكون علينا تسديد تلك الديون أبدًا، كل ما علينا فعله هو دفع ما يكفي من الفائدة على تلك الديون بحيث يكون معدل نمو الديون أبطأ كثيرًا من معدل نمو الاقتصاد.
إحدى طرق تحقيقِ ذلك ستكون من خلال دفْعِ ما يكفي من الفائدة حتى تظلَّ القيمةُ الحقيقية للديون — بعد تعديلها وفقًا للتضخُّم — ثابتةً؛ ما يعني أن نسبةَ الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض باطِّرادٍ مع نموِّ الاقتصاد. وللقيام بذلك، سيكون علينا دفْعُ قيمةِ الدَّيْن مضروبةً في السعر الحقيقي للفائدة، وهو سعر الفائدة بعد طرْحِ نسبةِ التضخُّم. والواقع أن الولايات المتحدة تبيع «أوراقًا ماليةً محميةً من التضخُّم» تعوِّض أثرَ التضخُّم تلقائيًّا؛ ومن ثَمَّ، يقيس سعرُ الفائدة على هذه السندات سعرَ الفائدة الحقيقي المتوقَّع للسندات العادية.
في الوقت الراهن، وصَلَ سعرُ الفائدة الحقيقي على سندات العشر سنوات — المقياس المعتاد لتناوُلِ مثل هذه الأمور — إلى نسبةٍ تقلُّ قليلًا عن الصفر. حسنًا، يعكس هذا الوضعُ الاقتصادي المتردِّي، وأن هذا السعرَ سوف يرتفع يومًا ما؛ لذلك ربما يتعيَّن علينا أن نستخدم سعرَ الفائدة الحقيقي الذي كان سائدًا قبل الأزمة، والذي كان نحو ٢٫٥ في المائة. ما مقدار العبء الذي سيمثِّله الدَّيْنُ الزائد الذي أضفناه منذ بداية الأزمة، والبالغ ٥ تريليونات دولار، إذا اضطرَّتِ الحكومةُ لدفع هذا القدر من الفائدة؟
الإجابة هي ١٢٥ مليار دولار سنويًّا. قد يبدو هذا رقمًا كبيرًا، لكنْ داخلَ اقتصاد يبلغ حجمه ١٥ تريليون دولار سنويًّا يعادل هذا الرقم نسبةً مقدارُها أقل من واحد بالمائة من الدخل القومي. ليست الفكرة هنا هي أن الدَّيْن لا يفرض أي عبء على الإطلاق، وإنما أن أرقام الديون الصادمة ليسَتْ كارثيةً بالقدر المزعوم في كثيرٍ من الأحيان. وبمجرد أن تدركوا ذلك، ستدركون كذلك مدى خطأ تحويلِ محور المشكلة من فُرَصِ العمل إلى العجز.
حماقة التركيز على العجز القصير الأجل
عندما تحوَّلَ تركيزُ الخطاب السياسي عن فُرَصِ العمل إلى العجز — وهو ما حدَثَ في أواخر عام ٢٠٠٩ كما رأينا، وفي الواقع شاركَتْ إدارةُ أوباما فيه — نتَجَ عن هذا وضْعُ حدٍّ لمقترحات زيادة التدابير التنشيطية والتحرُّك فعليًّا نحو خفض الإنفاق. ومن الجدير بالذكر أن حكومات الولايات والحكومات المحلية أُجبِرتْ على خفض الإنفاق بدرجةٍ كبيرةٍ تزامُنًا مع نفاد نقود التدابير التنشيطية، فاتجهتْ إلى تقليص الاستثمارات العامة وتسريح مئات الآلاف من المعلمين، وكانت ثمة مطالِبُ بتخفيضاتٍ أكبر بكثيرٍ؛ نظرًا لاستمرار العجز الضخم في الميزانية.
هل كان ذلك التصرُّفُ منطقيًّا من المنظور الاقتصادي؟
فَلْنفكِّر في الأثر الاقتصادي لخفض الإنفاق بمقدار ١٠٠ مليار دولار عندما يقع الاقتصاد في فخِّ السيولة؛ ما يعني — مجدَّدًا — استمرارَ الكساد على الرغم من أن أسعار الفائدة التي يستطيع بنكُ الاحتياطي الفيدرالي التحكُّم بها قد وصَلَتْ بالفعل إلى الصفر، ولم يَعُدْ بإمكانه أن يقلِّلَ أسعارَ الفائدة أكثرَ من ذلك لتعويض الكساد الناتج عن خفض الإنفاق. وَلْنتذكرْ أن الإنفاق يساوي الدخل؛ ومن ثم فإن انخفاض المشتريات الحكومية يقلِّل الناتجَ المحلي الإجمالي ١٠٠ مليار دولار مباشَرةً، ومع انخفاض الدخل، سيعمد المواطنون إلى تخفيض نفقاتهم الخاصة؛ ما يؤدِّي إلى مزيدٍ من الانخفاض في الدخل، والمزيد من الخفض في النفقات، وهكذا دواليك.
حسنًا، فَلْنتوقف هنا قليلًا: سوف يحتجُّ بعضُ الناس على الفور قائلين إن انخفاضَ الإنفاق الحكومي يعني انخفاض العبء الضريبي في المستقبل؛ أليس من الممكن إذنْ أن يزداد إنفاق القطاع الخاص عوضًا عن أن ينخفض؟ ألَنْ يؤدِّي خفضُ الإنفاق الحكومي إلى ارتفاع الثقة، بل ربما يفضي أيضًا إلى التوسُّع الاقتصادي؟
حسنًا، لقد لجأ أصحاب النفوذ إلى هذه الحجة، التي أصبحَتْ تُعرَف باسم مبدأ «التقشُّف التوسُّعي»، وسأتناول هذا المذهبَ بشيء من التفصيل في الفصل الحادي عشر، وخاصةً كيف صار يسيطر على زِمام النقاشات الدائرة في أوروبا. ولكن خلاصة القول هنا هي أنه لا منطق هذا المبدأِ ولا الأدلة المزعومة التي قُدِّمت سندًا له ثبتَتْ صحتهما؛ فالسياسات الانكماشية هي في الواقع انكماشية.
إذَنْ دعونا نعُدْ إلى موضوعنا؛ إن خفض ١٠٠ مليار دولار في الإنفاق بينما نحن في فخِّ السيولة سيؤدِّي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، سواء أكان مباشَرةً عن طريق تخفيض المشتريات الحكومية، أم بصورة غير مباشرة؛ لأن ضعف الاقتصاد يؤدِّي إلى خفض إنفاق القطاع الخاص. وقد أُجرِيتْ أبحاثٌ ميدانية كثيرة على هذه الآثار منذ حلول الأزمة (لَخَّصتُ بعضَها في تذييل هذا الكتاب)، وتشير إلى أن النتيجة النهائية ستكون انخفاض الناتج المحلي الإجمالي ١٥٠ مليار دولار أو أكثر.
يخبرنا هذا على الفور أن خفض الإنفاق ١٠٠ مليار دولار لن يؤدِّي في الواقع إلى خفض الديون في المستقبل ١٠٠ مليار دولار؛ وذلك لأن ضعف الاقتصاد سيؤدِّي إلى خفض الإيرادات (كما يؤدِّي كذلك إلى زيادة الإنفاق على برامج المساعدات الطارئة، مثل قسائم الغذاء وتأمين البطالة). في الواقع، من المحتمل ألَّا يزيد صافي الانخفاض في الدَّيْن عن نصف الانخفاض الأصلي في الإنفاق.
ولكن حتى هذا قد يحسِّن الوضعَ المالي على المدى الطويل، أليس كذلك؟ ليس بالضرورة؛ فالكساد الذي يشهده اقتصادُ بلادنا حاليًّا لا يسبِّب معاناةً على المدى القصير فحسب، بل له تأثيرٌ هدَّام على آفاق المستقبل على المدى الطويل أيضًا؛ فالعمال الذين يَظَلُّون فترة طويلة بلا عملٍ معرَّضون إما لفقد مهاراتهم وإما إلى اعتبارهم غير صالحين للتوظيف على الأقل. كذلك فالخريجون الذين لا يجدون فُرَصَ عمل يوظِّفون فيها ما تعلَّموه، يصير قدرَهم الدائم العملُ بوظائف متواضِعة على الرغم من مستواهم التعليمي. وبالإضافة إلى ذلك، بما أن الشركات لا تلجأ إلى توسيع قدرتها الإنتاجية بسبب عدم وجود زبائن، فسيصطدم الاقتصاد بقيود على تلك القدرات في وقتٍ أقرب مما ينبغي عندما يبدأ التعافي الحقيقي في نهاية المطاف؛ وأيُّ شيء من شأنه أن يزيد كسادَ الاقتصاد سوف يفاقِم من هذه المشكلات، ويقلِّل فُرَصَ الاقتصاد على المدى الطويل فضلًا عن المدى القصير.
والآن فَلْننظر إلى ما يعنيه هذا بالنسبة إلى التوقُّعات المالية؛ فحتى إنْ كان خفض الإنفاق سيقلِّل من الديون المستقبلية، فقد يقلِّل كذلك من الدخل المستقبلي؛ ولذلك فمن المحتمل أن تنخفض قدرتنا على تحمُّل عبء الديون، عند قياسها بنسبةِ الدَّيْن إلى الناتج المحلي الإجمالي مثلًا. إذَنْ فمِن الممكن أن تؤدِّي محاولةُ تحسين المستقبل المالي عن طريق خفض الإنفاق في اقتصادٍ يعاني من الكساد إلى نتائجَ عكسيةٍ، حتى من المنظور المالي الضيِّق. وليس هذا احتمالًا مستبعدًا؛ فقد دَرَسَ باحثون مهمُّون في صندوق النقد الدولي الأدلةَ المتاحة، وأشاروا إلى أن هذا الاحتمال حقيقي.
من وجهة نظر السياسات، لا يهم فعليًّا ما إذا كان تنفيذُ إجراءات التقشُّف في اقتصادٍ يعاني الكساد سيضر فعليًّا بالوضع المالي للبلاد أم أنه لن يقدِّم له مساعدةً تُذكَر؛ كل ما نحتاج إلى معرفته هو أن مردودَ التخفيضات المالية في مثل هذه الأوقات سيكون ضئيلًا، وربما منعدمًا من الأساس، في حين أن تكلفتها باهظة؛ فليس هذا هو الوقت المناسب إطلاقًا لتستحوذ علينا هواجسُ العجز.
ولكن، حتى مع كلِّ ما ذكرتُه، ثمة حجة واحدة ذات فعالية ظاهرية يواجِهها دائمًا كلُّ مَن يحاول محاربة هَوَس العجز؛ وعليه أن يجيبَ عليها.
هل يمكن للدَّيْن معالجة مشكلة تسبَّبَ فيها الدَّيْن؟
تتمثَّل إحدى الحجج الشائعة — التي تبدو معقولةً — ضد استخدام السياسة المالية في الوضع الراهن في الآتي: «أنت نفسك تقول إن هذه الأزمة ناتجةٌ عن كثرة الديون، والآن تقول إن الحلَّ ينطوي على مراكمة المزيد من الديون. ليس في ذلك ذرَّةٌ من المنطق.»
في الواقع، هذا كلام منطقي؛ ولكنَّ شرْحَه يستوجب أمرَين: تفكيرًا متمعِّنًا ومراجعةَ السجلات التاريخية.
صحيح أن الأشخاص من أمثالي يعتقدون أن سبب الكساد الذي وقعنا فيه يعود بدرجةٍ كبيرةٍ إلى تراكُمِ ديونِ قطاعِ الأُسَرِ، الذي مهَّدَ الطريق أمام لحظة مينسكي، حين أُجبِرت الأُسَر المُثقَلة بالديون على خفض إنفاقها. كيف يمكن إذَنْ للمزيد من الديون أن يكون جزءًا من السياسات المناسبة للاستجابة؟
النقطة الرئيسية هي أن هذه الحجة المقاومة للإنفاق بالعجز تفترض — ضمنًا — أن الدَّيْن هو الدَّيْن، ولا يهم مَن هو الطرف المَدين، إلا أن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ لأنه لو كان صحيحًا، لما كانَتْ لدَيْنا مشكلة من الأساس؛ ففي نهاية المطاف، عند إلقاء نظرة أولية نجد أن الدَّيْن هو مالٌ نَدِين به لأنفسنا. هذا صحيح، فالولايات المتحدة مدينة للصين ودول أخرى، ولكن كما رأينا في الفصل الثالث، فصافي دَيْن الولايات المتحدة للدول الأجنبية صغير نسبيًّا، ولا يمثِّل محورَ المشكلة. ومع تجاهُلِ العنصر الأجنبي — أو بالنظر إلى العالم ككلٍّ — سنجد أن المستوى الإجمالي للدَّيْن لا يصنع فارقًا بالنسبة إلى صافي القيمة الكلية؛ فديون شخصٍ ما هي نفسها أصول شخص آخَر.
وعليه، فمستوى الدَّيْن مهمٌّ فقط إذا كان توزيعُ القيمة الصافية مهمًّا؛ أيْ إذا واجهَتِ الأطرافُ المثقلة بالديون معوقاتٍ مختلفةً عن التي تواجِهُها الأطرافُ المنخفضة الدَّيْن؛ هذا معناه أن الديون لم تنشأ متساويةً؛ ولهذا السبب يمكن لاقتراض بعض الجهات في الوقت الراهن أن يساعِدَ في علاج المشكلات الناجمة عن الاقتراض الزائد لجهات أخرى في الماضي.
فَلْننظر إلى الأمر من هذه الزاوية: عندما يزيد الدَّيْن، لا يكون الاقتصادُ بأَسْره بصددِ اقتراضِ المزيد من النقود، بل هو بالأحرى لجوء البعضِ ممَّن لا يتحلَّوْن بالصبر — بعضِ الناس الذين يريدون لسببٍ ما أن ينفقوا عاجلًا وليس آجلًا — إلى الاقتراض ممَّنْ هم أكثر صبرًا. وتتمثَّل القيود الأساسية أمام هذا النوع من الاقتراض في قلقِ أولئك المقرضين الصبورين من إمكانية سداد نقودهم من عدمها، وهو ما يضع نوعًا من الحد الأقصى لقدرة كلِّ فرد على الاقتراض.
ما حدث في عام ٢٠٠٨ كان انحدارًا مفاجئًا لهذا الحد الأقصى، وقد أجبَرَ هذا التعديلُ المدينين على سداد ديونهم بسرعةٍ؛ وهو ما يعني تقليلَ الإنفاق كثيرًا. المشكلة هي أن الدائنين لم يجدوا أيَّ حافز يدعوهم لإنفاق المزيد. تساعد أسعارُ الفائدة المنخفضة على تحسينِ الوضع، ولكن بسبب شدة «صدمة تخفيض الديون»، حتى الصفر لم يصبح سعرًا منخفضًا بما يكفي لِحَمْلهم على ملء الفجوة التي تسبَّبَ فيها الانهيارُ في الطلب من جانب المدينين. ولم تكن نتيجةُ ذلك هي كسادَ الاقتصاد فحسب؛ فقد تسبَّبَ انخفاضُ معدلات الدخل والتضخُّم (بل وانكماش الأسعار) في زيادةِ صعوبةِ سداد الديون على المدينين.
ماذا يمكننا أن نفعل؟ أحد الحلول هو العثور على وسيلةٍ ما لخفض القيمة الحقيقية للدَّيْن، ويمكن لتخفيف عبء الديون أن يؤدِّي هذا الدورَ — وكذلك التضخُّم، إذا ما استطعْنا الوصولَ إليه — أن يقوم بدورين: يمكنه أن يتسبَّب في الحصول على سعرِ فائدةٍ حقيقيٍّ أقلَّ من الصفر، كما أنه سيعمل على تقليل الديون القائمة تلقائيًّا. صحيح أن هذا سيكون بطريقةٍ ما بمنزلةِ مكافأةِ المدينين على تجاوزاتهم في الماضي، ولكن الاقتصاد ليس مسرحية أخلاقية. وسأتناول التضخُّم بمزيدٍ من التفصيل في الفصل التالي.
سأعود لِلَحظةٍ إلى وجهةِ نظري بأن الدَّيْن ليس كله سواءً؛ صحيح أن تخفيف عبء الديون من شأنه أن يقلِّل أصولَ الدائنين، وبقدرٍ ما يقلِّل التزاماتِ المدينين، ولكنَّ المدينين يُجبَرون على خفض إنفاقهم، في حين أن الدائنين لا يضطرون لهذا؛ وبذلك يكون التأثيرُ في مجمله إيجابيًّا على الإنفاق في كافة قطاعات الاقتصاد.
ولكن ماذا لو لم يمكن، أو لم يُقبَل، الوصولُ إلى التضخُّم أو تخفيف عبء الديون بما فيه الكفاية؟
حسنًا، لنفترِضْ أنه ثمة طرف ثالث يمكن أن يتدخَّلَ، وهو الحكومة؛ لنفترِضْ أنه يمكن للحكومة أن تقترض لفترةٍ من الوقت، وتستخدم النقودَ المقترَضة لشراء أشياء مفيدة مثل أنفاق السكك الحديدية تحت نهر هدسون، أو دفع رواتب معلِّمي المدارس؛ إن التكلفة الاجتماعية الحقيقية لهذه الأشياء ستكون منخفضةً جدًّا؛ لأن الحكومة سوف توظِّف المواردَ التي كانت ستصبح معطَّلةً لولا تدخُّلُها، كما أن هذا من شأنه أن ييسِّرَ على المدينين سدادَ ديونهم. وإذا حافظَتِ الحكومةُ على معدلات إنفاقها لفترةٍ كافيةٍ، يمكنها أن تصل بالمدينين لمرحلةٍ لا يضطرون فيها إلى اللجوء للتخفيض الطارئ للديون؛ حيث لا تعود ثمة حاجة إلى اللجوء إلى المزيد من الإنفاق بالاستدانة للوصول إلى التوظيف الكامل.
صحيح أن جزءًا من الدَّيْن الخاص سيكون قد استُعِيض عنه بالدَّيْن العام، ولكن المهم هو أن الدَّيْن سيكون قد تحوَّلَ بعيدًا عن الجهات التي تضرُّ ديونُها بالاقتصاد، وبذلك تقلُّ مشكلاتُ الاقتصاد، حتى إنْ ظلَّ المستوى العامُّ للدَّيْن كما هو.
إذَنْ فخلاصة القول هي أن الحجة التي قد تبدو معقولةً ظاهريًّا، والتي تقول بأن الدَّيْن لا يمكنه علاج الدَّيْن؛ خاطئةٌ. على العكس من ذلك، يمكن للدَّيْن علاج الدَّيْن فعلًا، والبديل هو فترة طويلة من الضعف الاقتصادي الذي يجعل مشكلةَ الديون أكثرَ استعصاءً على الحل.
حسنًا، هذه مجرد قصة افتراضية؛ فهل ثمة أيُّ أمثلة على ذلك على أرض الواقع؟ في الواقع ثمة عدد من الأمثلة؛ فَلْننظر لِمَا حدث خلال الحرب العالمية الثانية وفيما بعدها.
طالما كان سببُ انتشالِ الحرب العالمية الثانية للاقتصاد الأمريكي من الكساد الكبير واضحًا جليًّا؛ فالإنفاق العسكري حلَّ مشكلةَ عدم كفاية الطلب، وبامتيازٍ. أما السؤال الصعب فهو: لماذا لم تتعرَّضِ الولاياتُ المتحدة لانتكاسةٍ وتسقط مجدَّدًا في هوَّةِ الكساد بعد انتهاء الحرب؟ في ذلك الوقت، ظنَّ كثيرون أن هذا ما سيحدث؛ وثمة حالةٌ شهيرةٌ؛ هي حالة متجر مونتجومري وارد — أحد أكبر مَتاجِر التجزئة في الولايات المتحدة آنذاك — الذي تراجَعَ نشاطُه عقب الحرب، بسبب أن رئيسه التنفيذي ظلَّ يكتنز النقودَ السائلة اعتقادًا منه بأن الكساد سيعود، وخسر أمام منافِسِيه الذين استغلوا فترةَ الازدهار التالية للحرب.
فلماذا لم يَعُدِ الكسادُ؟ ثمة إجابة محتملةٌ مفادُها أن التوسُّعَ الذي حدث في وقت الحرب — بالإضافة إلى التضخُّم الكبير نسبيًّا أثناء الحرب، وخاصةً في أعقابها — خفَّفَ عبءَ الديون عن كاهل الأُسَر إلى حدٍّ هائلٍ؛ فأصبَحَ عبءُ ديون العمَّال الذين كانوا يَحْصلون على أجورٍ جيدةٍ خلال الحرب — في حين أنهم كانوا غير قادرين على الاقتراض إلى حدٍّ كبيرٍ — أقلَّ بكثيرٍ بالنسبة إلى دخولهم؛ مما ترك لهم حريةَ الاقتراض والإنفاق على منازل جديدة في الضواحي. وسادَتِ الطفرةُ الاستهلاكية مع تراجُع الإنفاق على الحرب، ومكَّنَ الاقتصادُ الأقوى، الذي تلا الحربَ، الحكومةَ من السماح للنموِّ والتضخُّم بخفض دَيْنها بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
باختصارٍ، كان ارتفاع الدَّيْن الحكومي السابق لخوضِ الحرب هو ما جاء بالحلِّ للمشكلة التي تسبَّبَتْ فيها زيادةُ ديون القطاع الخاص أكثر من اللازم. إذَنْ فالشعار الذي يبدو مُقنِعًا بأن الديون لا يمكنها معالجة الديون لا أساسَ له من الصحة.
لماذا هذا الهوس بالعجز؟
لقد رأينا للتوِّ أن «التحوُّلَ» الذي حدث في الولايات المتحدة (وكذلك في أوروبا، كما سنرى) عن الاهتمام بالوظائف إلى العجز كان خطأً كبيرًا، إلا أن الاستغراقَ في الذُّعْر من شبح العجز سيطَرَ على ساحات النقاش، ولا يزال محكِمًا قبضته عليها.
يحتاج هذا بالتأكيد لبعض التفسير، وسوف أقدِّمه لاحقًا، ولكن قبل أن نصل إلى هذه المرحلة، أودُّ أن أتناول ذُعْرًا آخَر كان له تأثيرٌ قويٌّ على الخطاب الاقتصادي — حتى رغم دحْضِ الأحداث الجارية له باستمرار — وهو الذُّعْر من التضخُّم.