الكافر
التقيتُه للمرة الأولى في إعصارٍ جارف؛ ومع أننا خُضْنا الإعصار على مَتْن السفينة الشراعية نفسها، لم تقَع عيناي عليه لأول مرة إلا بعدما تحطَّمَت السفينة. من المؤكَّد أنني رأيتُه قبل ذلك على متن السفينة مع بقية أفراد الطاقم، الذين كانوا من العاملين بالمستعمرات البريطانية من سكان جزر المحيط الهادي الذين يُطلق عليهم «الكاناكا»، لكني لم أشعُر بوجوده؛ لأنَّ السفينة «بيتيت جان» كانت مكتظةً عن آخرها. فبالإضافة إلى أفراد طاقَمها من الكاناكا الذين كان عددُهم ثمانيةً أو عشرة، وربَّانها الأبيض، ومساعده، ومشرف الشحن، ورُكَّاب الكابينة الستة، أبحرَت السفينة من جزيرة رانجيروا وهي تحمل على سطحها نحو ٨٥ راكبًا من الباوموتانيين والتاهيتيين بمُختلف فئاتهم؛ سواءٌ رجال أو نساء أو أطفال، يحمل كلٌّ منهم صندوقًا من البضاعة، فضلًا عن فَرش النوم والبطانيات وحُزم الملابس.
انتهى موسم صيد اللؤلؤ في جُزر تواموتو، وكان الجميع عائدًا إلى تاهيتي. كنتُ أنا والركاب الخمسة الآخرون في الكابينة من مُشتَري اللؤلؤ. وقد تألَّفَت مجموعتُنا من رجلَين أمريكيَّين، ورجل صيني يُدعى آه تشون (وهو أكثر من قابلتهم على الإطلاق من الصينيين بياضًا) ورجلٍ ألماني، وآخرَ يهوديٍّ بولندي، بالإضافة إليَّ أنا.
وأذكر أنَّ موسم الصيد كان زاخرًا بالخيرات؛ لذا لم يكن ثمَّة ما يدعو للاستياء بالنسبة لنا ولباقي رُكَّاب السفينة الخمسة والثمانين أيضًا. فكلٌّ نال مُرادَه، وصار يتطلع إلى الراحة وقضاء وقتٍ طيب في بابيتي.
وهكذا سِرْنا بالسفينة وهي مُحمَّلة بأكثر مما ينبغي بالطبع. فوزنُها كان ٧٠ طنًّا فقط، ولم يكن مسموحًا لها حتى بحمل عُشْر الحشد الذي كان على متنها. كانت عنابرُها مكتظةً ومحشوةً بأصداف اللؤلؤ ولُباب ثمار جَوز الهند. وحتى غرفة البضائع اكتظَّت بالأصداف. كانت مُعجزةً أن استطاع أفرادُ الطاقم تسييرَها. كان يستحيل التحرُّك على سطحها من شدة الزحام. لذا لجَئوا إلى تسلُّق درابزينها والتنقُّل عليه ذهابًا وإيابًا.
وفي الليل، كانوا يسيرون على النيام الذين يَفترشون سطح السفينة ويغطونه كالسجَّاد، وأُقسِم أنهم كانوا طبقتَين من كثرة عددهم. يا ربَّاه! وأذكُر أيضًا أنَّ سطح السفينة كان مليئًا بخنازيرَ ودجاج، وأجولةٍ من البطاطا، فضلًا عن وجود سلاسل من ثمارِ جَوز الهند المربوطة معًا وسباطاتٍ من الموز في كل مكانٍ يُمكِن تخيُّله. وعلى كلا الجانبَين بين مقدِّمة السفينة وحبال الشراع الرئيسي، شُدَّت حبال على ارتفاعٍ منخفِض لئلَّا تعوق حركة عارضة الصاري، يتدلى من كل حبلٍ منها ما لا يقلُّ عن ٥٠ سباطة موز.
وهكذا توقَّعتُ أن تكون رحلتُنا فوضوية، حتى لو كنا أنجزناها في يومَين أو ثلاثةٍ كما كان مُقدَّرًا لو كانت الرياح الجنوبية الشرقية قوية. لكنها لم تكن كذلك. فبعد الساعات الخمس الأولى، تلاشَت الرياح واقتصَرَت على بضع نسماتٍ متقطعة. واستمر السكون طَوالَ تلك الليلة ونهار اليوم التالي؛ حتى إنَّ سطح البحر بدا لامعًا ومُتوهجًا كالزجاج من شدة السكون، وكان مجرد التفكير في النظر إليه يُصيب المرء بالصُّداع.
وفي اليوم الثاني مات راكبٌ من جزيرة إيستر، وكان أحدَ أفضلِ الغوَّاصِين في البحيرة ذلك الموسم. كان ذلك بسبب الجُدري؛ أجل، وإن كنت لا أفهم كيفَ وصلَ المرضُ إلى متن السفينة، خصوصًا وأننا لم نسمع بأي حالاتِ إصابةٍ به على البَر عندما غادرنا رانجيروا. ولكن على كل حال، كان الجُدري موجودًا بين الرُّكَّاب بالفعل، وقد قضى على حياة رجلٍ وأعيا ثلاثةً آخرين ظلوا راقدين على ظهورهم من شدة المرض.
لم يكن باليد حيلة. فلم نتمكَّن من عزل المرضى، ولا الاعتناء بهم. كنَّا مكدَّسين مثل السردين المعلَّب. لم يسَعْنا سوى أن نستسلم للتعفُّن أو الموت، وخصوصًا بعد الليلة التي أعقبَت الوفاة الأولى. ففي تلك الليلة، تسلَّل مساعدُ الربان ومُشرِفُ الشحنِ واليهوديُّ البولندي وأربعةُ غواصين محليين وهرَبوا في قارب النجاة الكبير. ولم يُسمع عنهم أي خبرٍ بعد ذلك. وفي الصباح، أقدَم القبطان فورًا على خرقِ القواربِ المتبقية، وبذلك صِرْنا عالقينَ في السفينة.
في ذلك اليوم كانَت هناك حالتَا وفاة، وفي اليوم التالي ثلاثُ حالات؛ ثم قفز الرقم إلى ثماني حالات. كان الغريب في الأمر هو كيفية تعامُلنا معه. انتاب السكان المحليِّين مثلًا هلعٌ شديد أصابهم بحالةٍ من الخرس والبلاهة. أما قبطان السفينة — أودوز — فعلى العكس تمامًا صار عصبيًّا وكثير الكلام. وفي الواقع أصابته رجفة. كان ضخمًا سمينًا، يكاد وزنُه يصل إلى ٢٠٠ رطل، فصار أشبه بجبلٍ من الهُلام المُرتعِش.
أمَّا أنا والألماني والأمريكيان، فاشتَرَينا كُل كمية الويسكي الاسكتلندي، وعكَفْنا على البقاء ثَمِلِين. كانت نظريتُنا وجيهة؛ إذ افترضنا أننا إذا أبقَينا أجسادنا مُشبعةً بالكحول، فستحترق أي جرثومة جدري تُلامِسنا، ستحترق فورًا وتُباد. وبالفعل ثبتَت صحةُ نظريتنا، ولكن يجب أن أعترفَ بأن القبطانَ أودوز ورفيقَنا الصيني آه تشون لم يُصابا بالمرض أيضًا. هذا بالرغم من أنَّ الفرنسي لم يشرب الويسكي على الإطلاق، بينما اكتفى آه تشون بمشروبٍ واحد يوميًّا.
عشنا وقتًا رائعًا آنذاك. فالشمس كانت متعامدة علينا مباشرة. وكانت الرياح ساكنة، باستثناء عصفاتٍ متكررة كانت تدوم لمدد تتراوح بين خمسِ دقائقَ ونصفِ ساعة، تنتهي بهُطول المطر. وبعد كُل عَصفة، كانت الشمس الحارقة تسطع، وتُبخِّر المياه المتراكمة على سطح السفينة.
غير أنه لم يكن بخارًا صافيًا. فقد كان مُعبَّقًا بالموت ومُحمَّلًا بملايين وملايين الجراثيم. ودائمًا ما كنا نتجرَّع كأسًا أخرى من الويسكي، عندما نرى البخار يتصاعد من بين الأموات والمُحتضَرين، ثم نُتبعه بكأسَين أخريَين أو ثلاثٍ من الشراب الممزوج المُركَّز. واعتَدنا أيضًا أن نشرب عدة كئوسٍ إضافية كلما رأيناهم يُلقون جثث الموتى لأسماك القرش التي تحُوم حولنا.
ظَلِلْنا على هذه الحال أسبوعًا كاملًا نَفِد بعده الويسكي. من حُسن حظِّي أنه نَفِد، وإلا لما بقيتُ حيًّا حتى الآن. فقد تطلَّبَت النجاةُ مما حدث بعدئذٍ الرصانة والتيقُّظ، ولعلكم ستتفقون معي في ذلك حين تعرفون أنَّ رجلَين فقط نجَحا في ذلك. أنا و«الكافر»؛ وهذا هو الاسم الذي سمعتُ القبطان أودوز يُنادِيه به عندما أدركت وجوده لأول مرة. لكني سأعود إلى هذه النقطة فيما بعدُ.
في نهاية الأسبوع، بعدما نَفِد الويسكي، واستفاق مشترو اللؤلؤ من سُكرهم، صادف أن وقعَت عيني على مقياس الضغط المعلَّق في مدخل الكابينة. كانت قراءتُه الطبيعية في أرجاء جزر تواموتو هي٢٩٫٩٠، وعادةً ما كنت أراها تتراوح بين ٢٩٫٨٥ و٣٠ بل قد ترتفع إلى ٣٠٫٠٥، لكني في تلك اللحظة رأيتُها قد انخفضَت إلى ٢٩٫٦٢، وهذا كان كفيلًا بإفاقة أشد الرجال سُكْرًا في العالم.
نبَّهتُ القبطان أودوز إلى ذلك، لكنه أخبرني بأنه بدأ يُلاحِظ بالفعل انخفاضه منذ عدة ساعات. لم يكن بوسعه فعلُ الكثير، لكنه تعامل مع الموقف ببراعةٍ قَدْر الإمكان في ظل الظروف. فقد أنزل الأشرعة الخفيفة، وأبقى على الأشرعة الثقيلة لتصمُد أمام الرياح، ومَدَّ حبال النجاة بطُولِ سطحِ السفينة، وانتظر الريح. لكنه أخطأ فيما فعله بعد قدوم الريح. فقد قرَّر أن يُدير السفينة ليجعل جانبَها الأيسر تجاه الريح، وهو بالفعل التصرُّف السليم عندما تكون السفينةُ جنوبَ خط الاستواء، ولكن بشرط ألَّا تكونَ السفينةُ في مسار الإعصار مباشرة، وهنا كانت المشكلة.
كنا في مسار الإعصار مباشرة. استنتجتُ ذلك من الزيادة المستمرة في قوة الريح والانخفاض المتواصِل في قراءةِ مقياسِ الضغط. فأردتُ منه أن يستدير ليجعل الجزء الخلفي الأيسر مواجهًا للريح ويمضي مع التيار حتى تتوقَّف قراءةُ مقياسِ الضغط عن الانخفاض، ثم يُوقِف السفينةَ بعد ذلك. وهكذا تجادَلْنا حتى تملَّكه انفعالٌ هستيري، لكنه لم يتزَحزَح عن موقفه. وأسوأ ما في الأمر أنني لم أستطِع إقناعَ بقية تجار اللؤلؤ بتأييد موقفي. من المؤكَّد أنهم رأَوا في قرارة أنفسِهم أنني لستُ أدْرَى بالبحر والإبحار من قبطانٍ مؤهَّل كما ينبغي.
بالطبع ارتفع الموجُ ارتفاعًا رهيبًا مع هبوب الريح. ولن أنسى أبدًا أولَ ثلاثِ موجاتٍ عاتية ضربَت السفينة. فقد مالت السفينة بشدة، كما يحدُث أحيانًا عند محاولة الوقوف في مواجهة الريح؛ فقد اكتسحَتها الموجة الأولى تمامًا. ومن شدة الموجة، لم تُنقِذ حبالُ النجاة أحدًا من الانجراف سوى الأصحَّاء الأقوياء، بل حتى أولئك لم تنفعهم عندما جرفَت المياهُ النساءَ والأطفالَ وسباطاتِ الموز وثمارَ جَوز الهند والخنازيرَ وصناديقَ البضائع والمرضى والمُحتضَرين، ودفعَتْهم جميعًا ككتلةٍ صُلبة وسط الصُّراخ والأنين.
أمَّا الموجة العاتية الثانية، فغمرَت سطحَ السفينة بالماء حتى فاضَ عن سورها، فغاصت المؤخِّرة في الماء بينما ارتفعَت المقدمة في الهواء، وهكذا اندفَع كل الرُّكَّاب البائسين والأمتعة إلى الخلف. كان ذلك طوفانًا بشريًّا. انجرفَت أجسادهم بوضعياتٍ مختلفة، وراحوا يتدحرجون ويدورون ويتلوون ويقفزون أثناء انجرافهم. استطاع بعضهم أن يتشبَّثوا بدعامة أو بحبل، لكن ثقل الأجساد المندفعة من خلفهم كان يُرغِمهم على إفلات قبضتهم.
رأيتُ رأسَ أحدهم يصطدم بمربط الحبال في ميمنة السفينة مباشرة. تهشَّم رأسه كالبيضة. عندئذٍ توقعتُ ما سيحدُث بعد لحظات، فقفزتُ فوق الكابينة، ومن هناك وثَبتُ إلى الشراع الرئيسي نفسه. حاول آه تشون وأحد الأمريكيَّين اللحاقَ بي، لكني كنتُ أسبقهما بقفزة. فانجرَف الأمريكي بعيدًا وطار من فوق مؤخِّرة السفينة كالريشة. أمَّا آه تشون، فأمسك بأحد قضبان الدفَّة وتشبَّث به. لكنه فُوجئ بامرأة راروتونجية ضخمة — لا يقلُّ وزنها حتمًا عن ٢٥٠ رطلًا — تنجرفُ نحوه وتلفُّ ذراعها حول رقبته. تشبَّث بقائد الدفَّة بيده الأخرى، وفي تلك اللحظة، مالت السفينة بشدة على جانبها الأيمن.
عندئذٍ تغيَّر اتجاهُ اندفاعِ الأجساد المنجرفة والمياه المتدفِّقة بين الكابينة وسور ميسرة السفينة فجأةً، وبدأَت تنهال على ميمنة السفينة. فانجرفَت المرأة وآه تشون وقائد الدفة؛ وأُقسِم أنني رأيتُ آه تشون يبتسم لي بإذعانٍ رزين وهو يتجاوزُ سور السفينة ويغوصُ أسفل الماء.
أمَّا الموجة الثالثة — وهي أشدُّهن — فلم تسبِّب ضررًا كبيرًا. فحين ضربَت السفينة، كان الجميع تقريبًا متشبثًا بالأشرعة والصواري. لم يتبقَّ على السطح سوى نحو ١٢ رجلًا بائسًا لاهثًا ذاهلًا نجا بأعجوبة من الموجتَين الأوليَين، وكانوا في تلك اللحظة يتدحرجون أو يُحاوِلون الزحف إلى مكانٍ آمن. فجرفَتْهم الموجة من فوق مَتْن السفينة مع حطام القاربَين المُتبقِّيَين. وقد تمكَّنتُ أنا وبقية المشترين الآخرين، بين كل موجة والأخرى، من إدخال نحو ١٥ طفلًا وامرأة إلى الكابينة، وأغلَقناها بإحكامٍ لحمايتهم. لكن ذلك لم يُنقِذ هؤلاء المساكين في النهاية.
فيا لها من رياح تلك التي عصفَت بنا. رغم كل ما مررتُ به في حياتي، لم أتخيَّل قَطُّ أن الكونَ قد يَشهَد رياحًا كهذه. لا أستطيع وصفَها. فكيف للمَرء أن يصف كابوسًا؟ كذلك كانت تلك الرياحُ كابوسًا يعجزُ عنه الوصف. فقد مزَّقَت الثيابَ عن أجسادنا. أقول «مزَّقَتها»، وأنا أعني ذلك حرفيًّا. لا أطلب منكم أن تصدِّقوا ذلك. أنا نفسي لا أصدِّقه في بعض الأحيان. كل ما هنالك أنني أحكي شيئًا رأيتُه وشعرتُ به. كفَى أني نجوتُ منها. فهذه رياحٌ يستحيل أن يواجها المرء وينجو. لقد كانت شيئًا فظيعًا، وأفظعُ ما فيها أنها ظلَّت تشتد وتشتد.
تخيَّل ملايينَ وملياراتٍ لا تُعَد ولا تُحصَى من الأطنان من الرمال. وتخيَّل أن هذه الرمالَ تندفع بسرعة ٩٠ أو ١٠٠ أو ١٢٠ أو أي عددٍ آخر من الأميال في الساعة. ثم تخيَّل أن ذرات الرمال هذه غيرُ مرئية وغيرُ محسوسة، لكنها محتفظةٌ بوزنها وكثافتها. تخيَّل كل ذلك، وعندئذٍ قد يصبح لديك تصورٌ بسيط جدًّا عن طبيعة تلك الرياح.
لكن لعل التشبيه بالرمال غير دقيق. لذا هَب أنَّها وحل، ليس لها مظهرُ الوحل ولا ملمسُه، لكنها ثقيلةٌ مثله. كلا، بل هي أدهى من ذلك وأمَر. هَبْ أنَّ كل جُزَيء من الهواء بحد ذاته في كثافةِ ضفةٍ كاملة من الوحل. ثم حاوِل أن تتخيل التأثير الهائل لاصطدام كل هذه الضفاف الوحلية بك. كلا كلا؛ لا أستطيع وصفَها كما ينبغي. ربما تكون اللغة كافية للتعبير عن ظروف الحياة العادية، لكنها تعجزُ عن التعبير عن أيٍّ من ظروفٍ عاصفة كهذه من الريح العاتية الهوجاء. كان من الأفضل أن ألتزمَ بما نويتُه في البداية وألَّا أحاول وصفَها من الأساس.
سأكتفي بالقول إنَّها، من شدة قوَّتها، طَغَت على هيَجان البحر وكبحَتْه. وبدا وكأن الإعصار قد ابتلع المحيط بأكمله، ثم لفَظَه فإذا به يحلُّ محل الهواء من حولنا.
بطبيعة الحال، كانت الأشرعة قد تمزَّقَت منذ وقتٍ طويل. لكن القبطان أودوز كان يحمل على متن السفينة شيئًا لم أرَه من قبلُ على أي مركبٍ شراعي في بحر الجنوب؛ وهو مرساةٌ عائمة. وجدتُها عبارةً عن كيسٍ قماشي مخروطي الشكل مثبَّت في فتحته حلقةٌ حديدية ضخمة لتُبقيَه مفتوحًا. كانت أطرافُ تلك المرساة مربوطةً معًا بعدة حبالٍ مجتمعة كالطائرة الورقية، بحيث تشُق الماء كما تشُق الطائرة الورقية الهواء، ولكن مع الفارق بالطبع. فالمرساة العائمة ظلَّت تحت سطح المحيط مباشرة في وضعيةٍ عمودية. وكان هناك حبلٌ آخرُ طويلٌ يربطها بالسفينة بدوره. نتيجةً لذلك دارت السفينة لتُواجِه الرياح والأمواج بمقدِّمتِها.
كان هذا سيُجدي نفعًا لو لم نكن في مسار العاصفة. صحيحٌ أن الريح نفسها قد مزَّقَت شِراعَنا من الأربطة التي تثبِّته، وخلعَت الصواري العلوية، وأحدثَت تشابُكًا شديدًا في الحبال المتحركة، ولكن مع ذلك كان من المُمكن أن ننجو بسلام لو لم نكن في مواجهة مركز العاصفة التي كانت تتقدَّم نحونا مباشرة. كان هذا هو المأزق. أصابني انهيارٌ تام وسط شعورٍ بالذهول والخدَر والشلَل من شدة الريح، وأظن أنني كنتُ على شفا الاستسلام والموت عندما انجذَبنا إلى مركز العاصفة. عندما حدث ذلك، حلَّت فترةٌ من السكون التام. فداخل المركز لم يكن يُوجَد ولو نسمة من الهواء. فشعرتُ بالغثَيان.
تذكَّروا أننا كنا في حالة من الشد العضلي الفظيع طوال الساعات التي تحمَّلنا فيها الضغطَ الرهيبَ لتلك الرياحِ التي تَضربُنا. وعندئذٍ زال الضغطُ فجأة. فشعَرتُ بأن جسدي يوشك أن يتمدَّد حتى ينفجر وتتطايَر أشلاؤه في كُلِّ الاتجاهات. خُيِّل إليَّ أن جميع الذرات في جسدي تتنافَر وأنها تكاد تتناثَر في الجو بلا أي مقاومة. لكن ذلك لم يدُم إلا لبُرهة. إذ حلَّ علينا الدمار بعد ذلك.
نتيجة لانعدام الرياح والضغط داخل مركز العاصفة، ارتفع البحر في ذلك الموضع. بل وثَب وعلا نحو السماء. تذكَّروا أن الرياح العاتية كانت تهبُّ من كل اتجاهٍ نحو مَركَز العاصفة الهادئ. وكانت النتيجة أن تعالت الأمواجُ من كُل صوب. ولم يكن هناك حينئذٍ أي رياح لتكبحَها. لذا اندفعت بكل قوةٍ كما تندفع سِدَاداتُ الفلِّين من قاعِ دلوٍ مملوءة بالماء. وتعالت بمُنتَهى العشوائية والاضطراب. كانت أمواجًا جامحة. بلَغ ارتفاعُها ٨٠ قدمًا على الأقل. لم تكُن عاديةً على الإطلاق. ولا تشبه أيَّ أمواجٍ شَهِدَها البشر من قبلُ.
لم تكن أمواجًا بقَدْرِ ما كانت نُثارًا هائجًا عملاقًا من الماء … مجرَّد نُثارٍ هائل. نُثار بلَغ ارتفاعُه ٨٠ قدمًا. هل تتخيَّل! بل ربما أكثر من ٨٠. فقد تجاوَز قِممَ صوارينا. أو يُمكِنُني القول إنها كانت نفثاتٍ هائجة كأنما تنبثقُ من انفجاراتٍ تحت الماء. كانت مُتخبِّطة. إذ كانت تَضرِبُنا بعشوائية من شتى الاتجاهات. وأخذَت تتدافَع وتتصادم. وراحت تتراكَب وتتكسَّر بعضها فوق بعض، أو تنهالُ علينا كألف شلالٍ دفعةً واحدة. كانت مياهُ المحيط في مركز الإعصار هائجةً إلى حدٍّ لا يتصوَّره بشر. ساد اضطرابٌ هائل. وعمَّت فوضَى عارمة. كانت كبركانٍ فائرٍ من المياه.
ماذا كان مصير السفينة؟ لا أعرف. وقد أخبرَني «الكافر» لاحقًا أنه أيضًا لا يعرف. لقد مُزِّقَت حرفيًّا وانفلقَت، تشظَّت وانسحقَت إلى رُفاتٍ خشبي، تدمَّرَت ولم يَبقَ منها شيء. عندما استعدتُ وعيي، وجدتُ نفسي أطفو مع التيار، يغمُر الماءُ أغلبَ جسدي. لا أدري كيف وصلتُ إلى حيث وجدتُ نفسي. كان آخر شيءٍ أتذكَّره قبل أن أغيبَ عن الوعي هو رؤيتي حطام السفينةِ يتطايَر في اللحظة التي فقدتُ فيها وعيي حتمًا. لكن على أية حال كنتُ هناك، ولم يكن أمامي سوى أن أتعاملَ مع الموقف بأفضلِ طريقةٍ ممكنة، وإن بدا الوضع ميئوسًا منه. بدأَت الرياحُ تهبُّ مرةً أخرى، وانخفَض ارتفاعُ البحر وصار أهدأ، فأدركتُ أنني تخطَّيتُ مركزَ الإعصار. ومن حُسن حظِّي أن خلَت المياهُ في هذه اللحظة من أسماكِ القرش. فقد بدَّد الإعصارُ الحشدَ المفترس الذي كان يُحيط بسفينةِ الموت ويلتهم جثثَ الموتى.
أتذكَّر أنَّنا كنا في مُنتصف النهار تقريبًا عندما تحطَّمت السفينة، وحتمًا مرَّت ساعتان حين عثَرتُ على غطاء إحدى كوَّاتِ التخزينِ على السفينة. كان مطرٌ غزير يَهطل آنذاك؛ وأعتقد أنَّ الحظ وحده هو الذي ساق إليَّ ذلك الغطاء. كان طرَفُ خيطٍ قصيرٍ يتدلى من مَقبِض الغطاء؛ وعلمتُ أنني سأعيش ليومٍ واحد على الأقل، إذا لم تعُد أسماك القرش. بعد ثلاث ساعات أو يزيد، بينما كنتُ مُلتصِقًا بالغطاء، ومُغمِضًا عيني محاولًا تسليطَ كل ذرة من تركيزي على استنشاق ما يكفي من الهواء لأبقى حيًّا، وتجنُّب استنشاق ما يكفي من الماء حتى لا أغرق، هُيِّئ لي أنني سمعتُ أصواتَ أشخاص. كان المطر قد توقَّف حينئذٍ، وهدأَت الرياح والبحر سريعًا. وعلى بعد أقلَّ من ٢٠ قدمًا مني، وجدتُ القبطان أودوز و«الكافر» متشبثَين بغطاء كوَّة آخر. كانا يتقاتلان على الغطاء، أو بالأحرى كان الفرنسي هو مَن يُقاتِل الآخر. سمعتُه يصرخ قائلًا: «أيها الكافر الأسود!»، وفي الوقت نفسِه رأيتُه يركُل الرجل الكاناكي.
كان القبطان أودوز في ذلك الوقت قد فقد ثيابه كلها، باستثناء حذائه، الذي كان ثقيلًا غليظًا. ولا بد أنَّ الركلة كانت شديدة؛ لأنها أصابت «الكافر» في فمه وطرف ذقنه، فكادَت تُفقِده وَعيَه. انتظرتُ منه أن يرُد الضربة، لكنه اكتفى بالسباحة في حزن حتى ابتعد ١٠ أقدام وصارَ في مأمن. وكلما رماه موجُ البحر قُرب الغطاء، كان الفرنسي المُتشبِّث بالغطاء بيدَيه يركله بكلتا قدمَيه. وظل ينعتُه ﺑ «الكافر الأسود» مع كل ركلة.
صرختُ قائلًا: «بربي لآتيَنَّ إليك ولأُغرقنَّك أيها البهيمُ الأبيض!»
لكن السبب الوحيد الذي منعَني من الذهاب هو الإعياء الشديد. مجرَّد التفكير في بذلِ جهدٍ للسباحة كان يُثير غثَياني. لذا ناديتُ الرجل ليأتي إليَّ، وجعلتُه يُشارِكُني الغطاء. أخبرَني بأنَّ اسمه أوتوأو (يُنطق أو-تو-أو)؛ وأخبرني أيضًا بأنه أصلًا من مواطني جزيرة بورا بورا، التي تقع في أقصى غرب مجموعة جزر سوسايتي. عرفتُ منه لاحقًا أنه هو الذي وجد غطاء الكوَّة أولًا، ثم صادف القبطان أودوز بعد مرور بعض الوقت، فعرَض عليه أن يُشاركه الغطاء، لكن أودوز ردَّ إليه الجميل بركله بعيدًا.
هكذا التقينا أنا وأوتوأو لأول مرة. لم يكن عدوانيًّا. بل كان مفعمًا بالعذوبة والوداعة والمحبة، رغم قامته الطويلة التي بلغَت ستَّ أقدام تقريبًا وعضلاته المفتولة كالمصارع. لم يكن عدوانيًّا، لكنه أيضًا لم يكن جبانًا. بل كان شجاعًا كالأسد، وفي السنوات التالية رأيتُه يخوضُ مخاطر لم أجرؤ حتى على تخيُّل خوضها بنفسي. المقصد هنا أنه، وإن لم يكن عدوانيًّا وكان يحرص دومًا على تجنُّب خوض المشاحنات، فإنه لم يهرب قط من المتاعب عندما يجد نفسه واقعًا فيها. وأذكرُ أنَّ الوضع كان في غاية الخطورة حينما قرَّر ذاتَ مرة أن ينخرط في قتال. لن أنسى أبدًا ما فعلَه ببيل كينج. حدث ذلك في ساموا الألمانية. كان بيل كينج معروفًا آنذاك بأنه بطل البحرية الأمريكية للملاكمة في الوزن الثقيل عن جدارة. وبجانب أنه كان رجلًا متوحشًا وضخمًا كالغوريلا، اشتُهر أيضًا بفظاظته وعنفه ودقة لكماته. كان هو من افتَعل الشجار حينئذٍ، وركَل أوتوأو مرتَين ولكمه مرةً واحدة، قبل أن يشعُر الأخير بأنه مُضطَر إلى خوض القتال. وبعد أقلَّ من أربع دقائق، كان بيل كينج قد سقط مهزومًا بائسًا ومصابًا بكسور في أربعِ أضلاع وأحد ساعدَيه، وخلعٍ في لوح الكتف. لم يكن أوتوأو يعرف شيئًا عن رياضة الملاكمة وقوانينها. كان يُسدِّد ضرباتٍ عشوائيةً بكل قوَّته فحسب؛ وقد أمضى بيل كينج بعد ذلك نحو ثلاثة أشهُر يتعافَى من تلك الضَّرباتِ العشوائيةِ القاسية التي تلقَّاها بعد ظُهر ذلك اليوم على شاطئ آبيا.
لكن هذا سابقٌ لأوانه؛ لذا سأعود إلى ذِكْر ما حدَث ونحن في الماء. تشارَكْنا غطاءَ الكوَّة فيما بيننا. أخذنا نتناوَب عليه، فكان أحدُنا يستَلقي عليه ويستريحُ تارة، بينما يتشبَّث به الآخر بيدَيه وهو مغمورٌ في الماء حتى رقبته. وهكذا ظَلِلْنا ننجرف في المحيط يومَين وليلتَين، تارةً على الغطاء وتارةً في الماء. وقُرب نهاية تلك المدة، صِرتُ أَهذِي معظَم الوقت، وأحيانًا كنت أسمَع أوتوأو أيضًا يَهْذي بلغته الأصلية. حمانا انغمارُنا في الماء من الموتِ عطشًا، لكنَّ كلًّا من ملوحة ماء البحر وحرارة الشمس الملتهبة أصابَنا بحروقٍ بالغة.
وفي النهاية، أنقَذ أوتوأو حياتي؛ لأنني فقدتُ وعيي، وحينما استعَدتُه لاحقًا وجدتُ نفسي مستلقيًا على الشاطئ على بعد ٢٠ قدمًا من الماء، تحجُب عني أشعةَ الشمسِ بضعُ أوراقٍ من شجر جَوز الهند. لم يكن أحدٌ ليَسحبَني إلى هناك ويضعَ تلك الأوراق لأستظلَّ بها سوى أوتوأو. رأيتُه مستلقيًا بجواري. ثم فقدتُ وعيي مرةً أخرى؛ وفي المرة التالية التي استفَقتُ فيها، وجدتُ نفسي تحت سماء الليل البارد المرصَّعة بالنجوم، وكان أوتوأو يُقرِّب من شفتي ثمرةَ جَوزٍ مفلوقة لأشرب ماءها.
كنا الناجيَين الوحيدَين من السفينة. أمَّا القبطان أودوز فلا بُد أنه استسلم للإرهاق؛ لأننا بعد ذلك ببضعة أيام وجَدْنا الغطاء الذي كان مستلقيًا عليه في البحر قد انجرف إلى الشاطئ من دونه. عشتُ أنا وأوتوأو مع أهل الجزيرة أسبوعًا كاملًا، قبل أن تُنقِذَنا سفينةٌ حربيةٌ فرنسية وتأخُذنا إلى تاهيتي. لكننا في خلال ذلك الأسبوع كنا قد أدَّينا طقسَ تبادُل الأسماء. ومن المتعارَف عليه في بحار الجنوب أنَّ ذلك يربط بين أيِّ رجلَين برباطٍ أقوى من الأخوة بالدم. كنتُ أنا مَن بادر بذلك، ووجدتُ أوتوأو سعيدًا جدًّا بمبادرتي.
قال باللغة التاهيتية: «لا بأس؛ فقد واجهنا الموت معًا طيلة يومَين.»
ابتسمتُ قائلًا: «لكنَّنا أفلَتْنا منه.»
ردَّ قائلًا: «كان تصرُّفُك معي شجاعًا يا سيدي، فلم يجرؤ الموتُ على مجابهتك.»
فسألتُه مبديًا التأثُّر: «لماذا تدعوني بكلمة «سيدي»؟ لقد أدَّينا طقسَ تبادُل الأسماء. لذا فلتُنادِني بأوتوأو. وأنا سأناديك بتشارلي. وهكذا سيظل اسمك تشارلي بالنسبة لي وسيظل اسمي أوتوأو بالنسبة لك إلى الأبد. هكذا هو العُرف. وإذا حدث أن بُعثنا بعد الموت وعشنا مرةً أخرى في مكانٍ ما وراء النجوم والسماء، فسأظل أناديك بتشارلي، وستظلُّ تناديني بأوتوأو.»
لمعت عيناه من الفرحة، وقال: «حسنًا يا سيدي.»
صحتُ غاضبًا: «أتكرِّرها مرةً أخرى!»
عندئذٍ جادلَني قائلًا: «وهل يهم ما تنطق به شفتاي؟ إنهما مجرد شفتَين. لكني في قرارة نفسي سأظل أعتبرك أوتوأو دائمًا. وكلما فكَّرتُ في نفسي، خطرت ببالي. وكلما ناداني الآخرون باسمي، تذكَّرتك. وإذا صرنا وراء السماء والنجوم، فسأظل أعتبرك أوتوأو دائمًا وإلى الأبد. أيُرضيك هذا يا سيدي؟»
أخفيتُ ابتسامتي، وقلتُ إنه يرضيني.
افترقنا في مدينة بابيتي. بقيتُ على اليابسة أتعافى، بينما واصَل هو رحلته في زورقٍ صغير إلى جزيرته بورا بورا. وبعدئذٍ بستة أسابيع عاد مجددًا. فوجئتُ بذلك؛ لأنه كان قد حكى لي من قبلُ عن زوجته، وقال إنه سيعود إليها، ولن يُبحِر إلى أماكنَ بعيدةٍ مُجددًا.
سألَني بعدَما تبادَلنا التحية: «إلى أين ستذهبُ يا سيدي؟»
هزَزتُ كتفي في حيرة. كان سؤالًا صعبًا.
ثم أجبتُ قائلًا: «سأجوب العالمَ كلَّه، والبحارَ كلَّها، وكلَّ الجُزُر الموجودة فيها.»
فقال بعَفْوية: «سأذهب معك. لقد ماتت زوجتي.»
لم يكن لي أخٌ قط، ولكن مما رأيتُ من إخوة رجالٍ آخرين، لا أظن أنَّ العلاقة بين أي أخوَين في الدنيا كانت أوثقَ من علاقتي بأوتوأو. لقد كان لي أخًا وأبًا، بل أمًّا أيضًا. أنا متيقِّن من أن حياتي صارت أفضل وأكثر استقامةً بفضله. لم أكن أبالي بآراء الرجال الآخرين، لكني كنت مُلزَمًا بعيشِ حياةٍ شريفةٍ صالحة في نظر أوتوأو. فبسببه لم أجرؤ على فِعْل ما يشوِّه ذاتي. لقد جعلَني مثلَه الأعلى بعدما عظَّمني في مُخيِّلته، وأخشَى أن يكونَ ذلك بسبب حُبه الشديد وتقديسه لي، وقد مرَّت عليَّ لحظاتٌ كنت واقفًا على باب الشيطان، وكِدتُ ألِجُه بالفعل لولا أن منعَنى التفكير في أوتوأو. لقد تسلَّل إليَّ فخرُه بي، حتى صرتُ حريصًا كل الحِرص على ألَّا أفعلَ أيَّ شيءٍ قد يُلوِّث هذا الفخر.
بطبيعة الحال لم أفطِن فورًا إلى حقيقة مشاعره تجاهي. لكن لمَّا وجدتُ أنه لا ينتقدني أبدًا، ولا يلومني أبدًا؛ بدأتُ رويدًا رويدًا أُدرِك المكانة الرفيعة التي كنتُ أحتلُّها في نفسه، وحينئذٍ بدأتُ أُدرِك حجم الأذى الذي قد أُلحِقه به لو توانيتُ لحظةً عن الحفاظ على الصورة المثالية التي رسَمَها لي في ذهنه.
ظَلِلْنا معًا ١٧ عامًا؛ وبقي بجانبي طَوالَ تلك الفترة، يسهَر ليحرُسَني في أثناء نومي ويُطبِّبني إذا أُصِبتُ بالحُمَّى أو الجُروح، بل ويَفْديني بنفسه في أي قتالٍ ليتلقَّى الجروح بدلًا مني. كان ينضَم معي إلى طاقم كل سفينةٍ عَمِلتُ عليها؛ ومعًا طُفنا كل أرجاء المحيط الهادي، من هاواي إلى رأس سيدني، ومن مضيق توريس إلى جزر جالاباجوس. جلبنا عمالًا بالسُّخرة من أرخبيل نيو هيبرديس وجزر لاين إلى الغرب مرورًا بجزر لويساديس، ونيو بريتن، ونيو أيرلند، ونيو هانوفر. وتحطَّمَت بنا سفنٌ مختلفة ثلاثَ مرات؛ مرة في جزر جيلبرت، وأخرى في مجموعة جزر سانتا كروز، ومرةً ثالثة في جزر فيجي. وحيثما كنا نجد فرصةً سانحة لجَنْي الدولارات، كنا نقتنصُها بالمتاجرة في اللؤلؤ وأصداف اللؤلؤ ولُب جَوز الهند وخيار البحر، وأصداف السلاحف البحرية النادرة والأغراض القيِّمة من بقايا حُطام السفن، أو انتشال تلك الأشياء من البحر ثم بيعها.
بدأ كل ذلك في بابيتي، حالما أعلن أنه سيجوبُ معي البحر كله وسيذهب إلى كل الجزر الواقعة فيه. كان في بابيتي آنذاك نادٍ يتجمع فيه صيادو اللؤلؤ والتجار والقباطنة ورعاع المغامرين في بحر الجنوب. وهكذا كنا ننهمك في اللعب والسُّكْر هناك؛ وكثيرًا ما كنتُ أطيل السهر فيه حتى وقتٍ متأخر عمَّا ينبغي، مع الأسف. لكني كلما خرجتُ من النادي كنتُ أجد أوتوأو في انتظاري، مهما كان الوقت متأخرًا، ليُوصلَني إلى منزلي سالمًا.
في المرة الأولى ابتسمتُ؛ وفي المرة الثانية وبختُه. ثم قلتُ له صراحةً إنني لستُ طفلًا يحتاج إلى مُرضِعة. بعد ذلك لم أعُد أراه عند خروجي من النادي. وبمحضِ الصدفة، اكتشفتُ بعد نحو أسبوع أنه ما زال يحرص على ملازمتي للاطمئنان على وصولي إلى المنزل، لكنه كان يختبئ في الجانب المقابل من الشارع بين ظلال أشجار المانجو، ويُراقبني خلسة. لم أدرِ حينذاك ماذا ينبغي أن أفعل؟ لكني أعرفُ ما فعلتُه.
وجدتُ نفسي، من دون أن أشعر، أُقلِع رويدًا رويدًا عن إطالة السهر. ففي الليالي المُمطِرة العاصفة، وفي خِضَم لحظات العربَدة والمرَح، كان يخطُر ببالي أوتوأو وهو سهران ينتظرني في بؤسٍ تحت أشجار المانجو التي تقطُر عليه ماءً. لذا أقول إنه جعلَني إنسانًا أفضل فعلًا. لكنه لم يكن متزمتًا. لم يكن يعرف شيئًا عن الأخلاق المسيحية الشائعة. صحيحٌ أنَّ كل أهالي بورا بورا كانوا مسيحيين، لكنه كان كافرًا، كان الكافر الوحيد على الجزيرة، كان ماديًّا صِرفًا، حتى إنه لم يكن يؤمن بوجود حياةٍ بعد الموت. لم يؤمن إلَّا بالنزاهة والأمانة في كل تعاملاته. في منظومته الأخلاقية، كانت الخسَّة والوضاعة جريمةً كالقتل العمد؛ بل أعتقد أنه كان يحترم القاتلَ أكثر مما يحترمُ الرجلَ الدنيء الوضيع.
كان أوتوأو يهتم بمصلحتي وسعادتي دائمًا. كنتُ أجدُه يفكر فيما قد يحدث لي في المستقبل ويدرُس قراراتي التي أعتزم تنفيذها، ويُوليها عنايةً أكثر مني أنا شخصيًّا. في البداية لم أكن أدري أنه مُهتم بشئوني؛ لذا لم يكن أمامه سوى التكهُّن بما أنوي فعله، مثلما حدث في بابيتي، عندما كنتُ أفكِّر في مشاركة رجلٍ محتال من أبناء بلدته في مشروعٍ لجمع زبل الطيور. لم أكن أعرف أنه محتال. كذلك لم يكن أي رجلٍ أبيض في بابيتي على علمٍ بذلك. وحتى أوتوأو لم يكن يعرف، لكنه رأى التقارُب الشديد الذي بدأ ينشأ بيننا، فراح يتحرَّى الحقيقة من أجلي، دون أن أطلُب منه. كان مرتابًا فقط ليس إلَّا، ولما وجد بحارةً محليين من جزرٍ نائية يتسكَّعون على الشاطئ في تاهيتي؛ قرَّر أن يُخالِطَهم حتى جمع معلوماتٍ تؤكِّد شكوكه. اتَّضح له أن ذلك الرجل المدعو راندولف ووترز لديه ماضٍ بشع. لم أصدِّق ذلك حينما أخبرَني به أوتوأو في البداية، ولكن عندما واجهتُ ووترز به، اعترَف من دون جدال، وغادر على أوَّل باخرةٍ إلى أوكلاند.
أعترفُ بأنني في البداية كنت مستاءً من تدخل أوتوأو في شئوني. لكني كنتُ أعلم أنه يفعل ذلك بدافع الإيثار، وسرعان ما أدركتُ حكمتَه وحصافتَه. فطَوالَ الوقتِ كنت أجدُه متيقظًا لرصد أي منفعةٍ قد تُفيدني، وكان ثاقب البصر والبصيرة. وبمرور الوقت أصبح مستشاري، حتى صار أدرى بشئوني مني. كان أكثر مراعاةً لمصلحتي مني. لقد كنتُ شديد التهور واللامبالاة في شبابي، حتى إنني كنتُ أفضِّل الإثارة على جمعِ المال، والمغامرة على المبيتِ في مسكنٍ مريحٍ طوال الليل. لذا فمن حُسن حظي أنني حظيتُ بشخصٍ يعتني بي. ولولا أوتوأو، لما كنتُ حيًّا اليوم.
سأذكُر هنا مثالًا لإحدى المرات الكثيرة التي أنقذ فيها حياتي. كنتُ قد عملتُ فترةً في جلب العمالة بالسُّخرة من جُزُر المحيط الهادي قبل أن أذهبَ إلى جُزُر تواموتو لصيد اللؤلؤ. وبينما كان القارب عالقًا بي أنا وأوتوأو على شاطئ ساموا ذات يوم، سنحَت لي فرصة للانضمام إلى سفينةٍ شراعية للعمل في جلب عمالة بالسُّخرة. انضَم أوتوأو معي إلى السفينة نفسها للعمل بحارًا على متنها، وعلى مرِّ السنوات الست التالية، جُبنا أخطر المناطق في ميلانيزيا على متن ستِّ سُفُنٍ مختلفة. كان أوتوأو يحرص دومًا على أن يتولى مجداف القيادة في قاربي عند الذهاب إلى الشاطئ. فقد اعتَدنا في هذا العمل إنزالَ الرجل المُكلَّف بجلب العمالة؛ أي أنا، على الشاطئ. كان قارب الحماية يتوقف على بُعد مئاتِ الأقدامِ من الشاطئ ويبقَى مكانه، بينما يظل قاربُ جالب العمالة طافيًا على حافة الشاطئ مباشرةً بعدما يتوقَّف عن التجديف هو الآخر. وحينما كنتُ أنزل إلى الشاطئ مع بضائعي، تاركًا مجدافَ التوجيه، كان أوتو يتركُ مكانه ويذهبُ إلى مؤخرة القارب؛ حيث كنا نُخبِّئ بندقيةً من طراز وينشستر تحت طيةٍ من قماش الأشرعة. كذلك كان أفرادُ طاقم القارب أيضًا يَبقَون مسلَّحين؛ إذ كانوا يُخبِّئون بنادقَ من طرازِ سنايدر تحت طياتٍ قماشيةٍ ممتدة بطول حوافِّ القارب الجانبية. وبينما كنتُ أنشغل بالجدال مع الهمجيِّين الشُّعث لإقناعهم بالقدوم والعمل في مزارعِ كوينزلاند، كان أوتوأو يبقى متيقظًا ويراقب الموقف. وكثيرًا ما كان يُحذِّرني بصوتٍ خفيضٍ حالما يلمح أي تصرفاتٍ مريبة تُوحي بغَدرٍ وشيك. وفي أحيانٍ أخرى، كان التحذير يأتي بطلقةٍ سريعةٍ من بندقيته تُردي أحد الهمجيين. وحينما كنتُ أُهرَع إلى القارب، دائمًا ما كنتُ أجد يدَه ممدودةً لترفَعني على مَتْنه. أتذكَّر، حين كنا في سانتا آنا ذاتَ مرة، أن القارب غرَز في الأرض في اللحظة نفسها التي بدأَت فيها المتاعب. صحيحٌ أنَّ قاربَ الحماية هُرِع لمساعدتنا، لكن عشرات الهمجيين كانوا سيقضُون علينا قبل وصوله لولا ما فعلَه أوتوأو. لقد قفز إلى الشاطئ، وغرَز كلتا يدَيه وسط البضائع، وبعثَر التبغَ والخرزَ والفئوس والسكاكين والأقمشة القطنية في كل الاتجاهات.
لم يستطع ذوو الشعر الأشعث تمالُك أنفسِهم أمامَ كُل هذه الخيرات. فتدافَعوا للحصول عليها، وعندئذٍ انتهَزنا فرصةَ انشغالِهم وخلَّصنا القاربَ من الرمال التي كان عالقًا فيها، ثم ركِبناه وابتعَدنا عنهم ٤٠ قدمًا. وبعدئذٍ تمكَّنتُ من جلب ٣٠ عاملًا من ذلك الشاطئ نفسه في الساعات الأربع التالية.
على كل حال، وقعَت الحادثة المعيَّنة التي أقصدها في مالايتا، الجزيرة الأخطر في جزر سليمان الشرقية. كان أهلها ودودين بشكلٍ لافت، لكننا لم نكن نعرفُ أن القريةَ كلَّها كانت تجمعُ الأموالَ على مرِّ أكثر من عامَين مكافأةً لمن يحصُد رأسَ رجلٍ أبيض، وكيف كان لنا أن نعرف؟ اتضح أن كل هؤلاء الشحَّاذين كانوا من صيَّادي الرءوس، وأنهم يُقدِّرون رءوس الرجال البيض بالأخص دون غيرها. وقرَّروا أن تكون الغنيمة كلها من نصيبِ مَن يحصُد الرأس التالي. وهكذا بدَوا ودودين جدًّا كما قلت؛ وفي ذلك اليوم كنتُ قد وصلتُ إلى الشاطئ وصار يفصِلُني عن القارب ١٠٠ ياردة. حذَّرني أوتوأو قبل ذهابي إلى هناك، وكما هي العادة دومًا عندما لا أُصغي إلى تحذيراته، وقعتُ في مأزق.
فوجئتُ بوابلٍ من الرماح ينطلق نحوي من مستنقع المانجروف. أُصيب جسَدي بما لا يقل عن ١٠ رماح. فبدأتُ أركُض، لكني تعثَّرتُ في رمحٍ كان منغرزًا بإحكامٍ في ربلة ساقي، وسقَطتُ أرضًا. عندئذٍ ركَض ذوو الشعر الأشعث نحوي، وكان كلٌّ منهم يحمل فأسًا طويلة المقبض ليقطَعَ رأسي بها. كانوا متلهِّفين جدًّا لحصد الجائزة لدرجة أنهم عَرقَلوا بعضهم بعضًا. وفي خِضَم تلك الفوضى، تفاديتُ عدة ضرباتٍ بالتلوِّي بجسَدي يمينًا ويسارًا على الرمال.
ثم وصل أوتوأو؛ المقاتل القوي الشرس. وجدتُه حاملًا هِراوةً حربيةً ثقيلة، لا أعرف كيف حصَل عليها، لكنها في القتال عن قُربٍ كانت أشدَّ فتكًا من البنادق حتى. كان يتوسطهم؛ لذا لم يتمكَّنوا من طعنه بالرماح، وبدت فئوسهم بلا جدوى. ظل يُقاتِلهم ليُنقِذني، وكان في غاية العنف والهياج. رأيتُه يستخدم الهِراوة ببراعةٍ مذهلة. فراحت جماجمُهم تنهرس كثمارِ البرتقال الناضجة. أمَّا هو، فلم يُصَب بأي جرحٍ إلا بعدما أبعدهم وحملَني بين ذراعَيه وبدأ يركُض. وصل إلى القارب مصابًا بأربعِ طعناتٍ بالرماح، وأمسَك البندقية، وبكل طلقةٍ أطلقَها منها قتَل رجلًا. ثم صَعِدنا على متن السفينة الشراعية وداوَيْنا جراحنا.
أمضينا ١٧ عامًا معًا. لقد غيَّر حياتي. فلولاه لأصبحتُ مُشرفًا على شحناتِ السفن، أو متعهدًا لجلبِ عمالةٍ بالسُّخْرة، أو مجرد ذكرى عابرة.
قال لي ذات يوم: «أنت تُنفِق أموالك، ثم تخرُج للسعي وتجني أموالًا أخرى غيرها. يسهُل عليكَ الحصول على المال الآن. ولكن عندما تكبَرُ في السن وتَنفَد أموالُك، لن تتمكَّن من الخروج وجَنْي غَيرِها. أنا متيقِّن من ذلك يا سيدي. لقد تأمَّلتُ عاداتِ الرجالِ البيض. يُوجَد على الشَّواطئ العديد من الرجال المُسنِّين الذين كانوا شبابًا ذاتَ يوم، وكانوا قادرين على جَنْي المال مثلك تمامًا. أمَّا الآن، فأصبَحوا مُسنِّين وليس لديهم أي شيء، وصاروا ينتظرون الشبابَ أمثالَك حتى يأتوا إلى الشاطئ ويشتَروا لهم المشروبات.
يعمل الصبيُّ الأسودُ عبدًا في المزارع. ويتقاضَى ٢٠ دولارًا أمريكيًّا في السنة. هو يعمل بجِد. أمَّا المُشرِف، فلا يعمَل بجِد. إنما يركَب حصانًا ويكتفي بمراقبة الصبي الأسود وهو يعمل. ومع ذلك يحصُل على ١٢٠٠ دولار أمريكي في السنة. إنني أعمل بحَّارًا على متن السفينة الشراعية. أحصُل على ١٥ دولارًا أمريكيًّا في الشهر. هذا لأنني بحَّارٌ جيد. وأعمل بجِد. أمَّا القبطان، فيجلس تحت مظلةٍ مزدوجة، ويشرب الجِعَة من زجاجاتٍ طويلة. لم أرَه قَطُّ يشُد حبلًا أو يُجدِّف بمجداف. ومع ذلك يتقاضَى ١٥٠ دولارًا أمريكيًّا في الشهر. الفَرقُ أنني بحَّار. هو ملَّاح. سيدي، أظن أنك ستستفيد بشدةٍ إذا تعلَّمتَ المِلاحة.»
وهكذا شجَّعَني أوتوأو على العمل بالمِلاحة. أبحَر معي كمساعدٍ ثانٍ في رحلتي الأولى بالسفينة الشراعية، وكان أكثر فخرًا منِّي بقيادتي. ثم قال لي فيما بعدُ:
«قبطان السفينة يتقاضى أجرًا جيدًا يا سيدي، لكن السفينة تبقَى في عُهْدته، ولا يتحرَّر أبدًا من العبء. أمَّا مالكُها، فهو الذي يتقاضى أجرًا أفضل، وهو الذي يبقَى على البَر محاطًا بالعديد من الخدَم ويستثمرُ أموالَه باستمرار.»
اعترضتُ قائلًا: «هذا صحيح، لكن ثمن أرخصِ مركبٍ شراعي لا يقلُّ عن ٥٠٠٠ دولار أمريكي. يستحيل أن أدَّخِر مبلغًا كهذا قبل عمرٍ طويل.»
قال وهو يُشير إلى الشاطئ المحفوف بأشجار جوز الهند: «أعرف طرقًا تُحقِّق ربحًا سريعًا للرجال البيض.»
كنا آنذاك عند جُزر سليمان نُجمِّع شحنةً من حبَّات العاج على امتداد الساحل الشرقي لجزيرة وادي القنال.
قال لي: «تبلغ المسافة بين هذا المصَب النهري والمصَب التالي ميلَين. وتمتد الأرض المسطَّحة الواقعة هناك على مساحةٍ شاسعة. صحيحٌ أنها لا تُساوِي شيئًا الآن. لكن ثمنها سيُصبِح باهظًا في العام المقبل أو الذي يليه، من يدري؟ فالمرسى ملائم. ويُتيح للبواخر الكبيرة أن ترسُوَ بالقرب من البَر. يُمكِنك شراء الأرض التي تمتد بطول أربعةِ أميالٍ من الزعيم الكبير مقابلَ ١٠ آلاف عُودٍ من التبغ، و١٠ زجاجاتٍ من الشراب الرخيص، وبندقيةٍ من طراز سنايدر، وهو ما سيُكلِّفك ١٠٠ دولارٍ أمريكي تقريبًا. ثم عليك أن توثِّق سند الملكية لدى المفوَّض المختص، وفي العام التالي أو العام الذي يليه، تبيعُها وتشتري بثمنِها سفينة.»
عملتُ بنصيحته وتحقَّقَت توقُّعاتُه بالفعل، لكن بعد ثلاثة أعوام، وليس عامَين كما قال. ثم أبرمتُ صفقةً لاستئجار ٢٠ ألفَ فدان من الأراضي العُشبية في جزيرة وادي القنال بعقدِ إيجارٍ حكومي لمدة ٩٩٩ عامًا بمبلغٍ رمزي. وظَلِلْتُ أملكُ عقد الإيجار ٩٠ يومًا بالضبط، ثم بعتُه لإحدى الشركات مقابلَ مبلغٍ طائل. وهكذا دائمًا ما كان أوتوأو هو الذي يستشرفُ المستقبل ويلمَحُ الفُرص السانحة. هو صاحب الفضل في إصلاح سفينة دونكاستر، التي اشتريناها في مزادٍ بنحو ١٠٠ جنيهٍ إسترليني، وجنَينا من ورائها ربحًا صافيًا بلغ ٣٠٠٠ جنيهٍ إسترليني. وهو الذي أرشَدَني إلى إنشاء مزرعةٍ في سافاي ومشروعِ زراعةِ الكاكاو في أوبولو.
لم نعُد نُبحِر كثيرًا مثلما كُنا في الماضي. فقد صرتُ ميسور الحال وأصبحتُ في غنًى عن الإبحار. تزوَّجتُ وتحسَّن مستوى معيشتي، لكن أوتوأو بقي على حاله؛ إذ ظل يتجوَّل في أرجاء المنزل أو يتسكَّع في أنحاء المكتب واضعًا غَلْيونَه الخشبي في فمه، ومرتديًا قميصَه الداخلي الرخيص وتنُّورتَه الزهيدة حول خصره. لم أستطع أن أحمَله على إنفاق المال. ولم أجد سبيلًا إلى رد الجميل له إلا بالمحبة، والله يعلم أنه نال كل المحبة منَّا جميعًا. الأطفال كانوا مفتونين به؛ وزوجتي كانت تُفرِط في تدليله حتى كادت تُفسِده.
الأطفال! إنه بحق من أرشَد خُطاهم في الحياة العملية. كان هو من علَّمهم المشي. كان يسهَر على راحتِهم عند مرضِهم. واصطحبَهم واحدًا تلو الآخر منذ نعومة أظفارهم إلى البُحَيرة، وجعلَهم يُتقِنون السباحة. علَّمهم أكثَر مما عرفتُه طَوالَ حياتي عن عادات الأسماك وطُرق اصطيادها. وفعَل معَهم الشيء نفسه في الأدغال. وهكذا صار ابني توم، في سن السابعة، يعرف عن الحياة في الغابات مهاراتٍ لم تخطُر ببالي من قبلُ قط. أمَّا ماري، فاستطاعت في سن السادسة أن تقفز من فوق شلَّال «سلايدنج روك» دون أي خوف، مع أنني رأيتُ رجالًا أشداء يتراجعون عن الإقدام على فعلٍ كهذا. وعندما بلغ فرانك السادسةَ من عمره، كان قادرًا على الغوصِ إلى قاع البحر على عمق ١٨ قدمًا وجَلبِ الشلنات من هناك.
قال لي ذات يوم: «أهلي في بورا بورا لا يُحبُّون الكافرين. كلهم مسيحيُّون؛ وأنا لا أحبُّ مسيحيي بورا بورا»، وذلك عندما كنتُ أُحاوِل — في سبيل حثه على إنفاقِ بعضِ الأموال التي كانت من حقه — تشجيعَه على زيارة جزيرته في إحدى سفُننا الشراعية، وكنت أنوي أن أُنفِق على هذه الرحلة ببذخٍ لا مثيل له.
أقول إحدى سُفننا الشراعية، مع أنها كانت مِلكي أنا وحدي بموجب القانون آنذاك. فقد عانيتُ طويلًا لإقناعه بالدخول معي في شراكة.
قال لي أخيرًا بعد إلحاحٍ طويل: «إننا شريكان منذ اليوم الذي غرقَت فيه سفينة «بيتيت جان». ولكن إذا كان ذلك سيُريح قلبك، فسنُصبِح شريكَين بموجب القانون أيضًا. أنا عاطلٌ عن العمل، لكني أنفقُ نفقاتٍ باهظة. أنا أشرب وآكل وأدخِّن بشراهة، وأعلم أن هذا يُكلِّف مالًا طائلًا. وصحيحٌ أنني لا أدفع مقابل لعب البلياردو، لأنني ألعبُ على طاولتك، لكن المال يتبَدَّد. وفوق ذلك، فصيدُ الأسماك عند الشِّعاب المرجانية متعةٌ مقصورة على الأغنياء فقط. فتكلفة الخطَّافات والخيط القُطني باهظة. نعم؛ من الضروري أن نُصبِح شريكَين بموجب القانون. أنا بحاجةٍ إلى المال. سأحصُل عليه من مدير الحسابات في المكتب.»
وهكذا أعدَدنا الأوراق اللازمة ووثَّقناها. ولكن بعد عامٍ اضطُررتُ إلى إبداء شكواي.
قلتُ له: «تشارلي، يا لك من محتالٍ خبيث وبخيل وشحيح. انظر، نصيُبك الإجمالي في شراكتنا عن هذا العام بلغ آلاف الدولارات. لقد أعطاني رئيس الموظَّفين هذه الورقة. مذكورٌ فيها أنك لم تسحَب طوال العام سوى ٨٧ دولارًا أمريكيًّا وعشرين سنتًا فقط.»
سألني بقَلَق: «وهل من حقي ما هو أكثر؟»
فأجبتُه قائلًا: «أقول لك إن نَصيبَك آلاف الدولارات.»
انفرجَت أساريرُه وكأنه صار يشعُر بارتياحٍ هائل.
قال: «هذا جيد. احرِص على أن يُسجِّل مدير الحسابات كل سنتٍ من هذا المال. قد أحتاجُ إليه في أي وقت، وعندئذٍ يجب ألَّا يكون ناقصًا ولو سنتًا واحدًا.»
ثم أضاف بنبرةٍ عنيفةٍ بعدما سكَت لحظة: «إذا وجدتُ فيه أيَّ نقصان، فيجب أن يُخصَم من راتبِ مدير الحسابات.»
علمتُ بعدئذٍ أنه طَوالَ هذا الوقت كان محتفظًا بوصيَّته، التي كتَبها عند مكتب كاروثرز للمحاماة، في خزانة القُنصُل الأمريكي والتي جعلَني فيها المستفيدَ الوحيدَ من ثروته.
لكن النهاية جاءت، ولاقت صداقتُنا المصير الحتمي الذي تئول إليه كلُّ العلاقات البشرية. حدث ذلك في جُزر سليمان، التي نفَّذنا فيها أخطَر أعمالنا في أيام صِبانا وعُنفوان شبابنا، والتي عُدنا إليها مرةً أخرى لنقضي عطلة، وبالمناسبة نُتابِع آخرَ شئونِ ممتلكاتِنا في جزيرة فلوريدا ونتفقَّد إمكانيةَ صَيد اللؤلؤ في مضيق مبولي. كنا راسيَين عند جزيرة سافو في ذلك الوقت، بعدما أبحَرنا إلى هناك لنشتري بعض التحف.
كانت سافو آنذاك تعجُّ بأسماك القرش. فأهلُ الجزيرة البدائيون اعتادوا دفنَ جُثث موتاهم في البحر؛ لذا صارت المياهُ المحيطة بها مَرتعًا للقروش. ومن حظِّي العَثِر في ذلك اليوم أنني كنتُ في زورقٍ صغير مُكتَظ، فانقلَب بي في الماء. كان معي أربعةٌ من ذوي الشعرِ الأشعثِ في الزورق، أو بالأحرى كنا كلنا معلَّقين به بعدما انقلَب. وكانت السفينةُ الشراعية على بُعد ١٠٠ ياردة. شرَعتُ أَصيحُ لأستدعيَ قاربَ الإنقاذ وفي تلك اللحظة بدأ أحدُ البدائيين يصرُخ. كان متشبثًا بطَرَف الزَّورق، ورأيتُه يُسحَب هو وذاك الجزءُ من الزورق تحت الماء عدَّة مرات. ثم أفلَت قَبضتَه واختفى. نال منه أحدُ القروش.
حاول البدائيون الثلاثة المُتبقُّون أن يصعَدوا فوق الزورق المقلوب ليخرُجوا من الماء. فبدأتُ أصرُخ وألعنُهم وضربتُ الرجلَ الأقربَ بقبضتي، لكن دونَ جدوى. كانوا فاقدين صوابَهُم من شدة الذعر. لم يكن الزورقُ ليتحمَّل سوى واحدٍ منهم بالكاد. لذا انقلب على أحد جانبَيه تحت ثقل الثلاثة، فسقطوا مرةً أخرى في الماء.
تركتُ الزورق وبدأتُ أسبح نحو السفينة الشراعية، على أمل أن ينتشلني قارب الإنقاذ في طريقي إليها. اختار أحدُ الزنوج أن يرافقني، وسبَحْنا جنبًا إلى جنبٍ في صمت، وظَلِلْنا بين الحين والآخر نضَع وجوهنا في الماء ونُمعِن النظر حولَنا بحثًا عن أي قروش. عرفنا من صرخات الرجل الذي بقي بجوارِ القارب أن قرشًا قد افترسه أيضًا. وبينما كنتُ أتطلَّع تحت الماء، رأيتُ قرشًا كبيرًا يمُر تحتي مباشرة. كان طوله ١٦ قدمًا. ورأيتُ المشهدَ كلَّه من البداية إلى النهاية. أمسك القرشُ بالبدائي من منتصف جسده، وانطلق به بعيدًا، وراح المسكين، الذي ظل رأسه وكتفاه وذراعاه فوقَ الماء، يصرُخ صُراخًا مُفجِعًا. ظل القرشُ يسحَبه هكذا عدة مئاتٍ من الأقدام، قبل أن يغوص به تحت السطح.
واصلتُ السباحة بإصرار، على أمل أن يكون هذا آخرَ قرشٍ جائع. لكني رأيتُ واحدًا آخر. لا أدري ما إن كان هو الذي هاجَم رفاقي من أهل الجزيرة في وقتٍ سابق، أم واحدًا غيره قد التهم أناسًا آخرين في مكانٍ آخر. على أي حال، لم يكن في عَجَلة من أمره كالقروش الأخرى. لم أكن قادرًا آنذاك على السباحة بسرعة، لأن أغلبَ جهدي صار مكرَّسًا لمتابعة تحرُّكاته. وبالفعل كنتُ أراقبه عندما هجَم عليَّ للمرة الأولى. ومن حُسن حظي أنني استطعتُ وضع كلتا يديَّ على أنفه، ومع أنه كاد يدفعني تحت الماء بقوة اندفاعه، تمكَّنتُ من التصدي له. انحرف بعيدًا، وبدأ يدور حولي مرةً أخرى. وفي المرة الثانية، أفلتُّ منه بتَكْرار تلك المناورة. ولكن في الهجمة الثالثة، أخطأ كلانا هدفَه. فقد انحَرف القرشُ في اللحظة التي كان من المُفترَض أن تنزل فيها يداي على أنفه، لكن جلده الخشن (الذي احتَكَّ بي ولم أكن أرتدي سوى قميصٍ داخلي بلا أكمام) كشَط الجلد عن إحدى ذراعيَّ من المِرفَق حتى الكتِف.
حينئذٍ كنتُ خائرَ القوى وفاقدَ الأمل. كانت السفينةُ الشراعيةُ لا تزال على بُعد ٢٠٠ قدم. وضَعتُ وجهي في الماء، وأخذتُ أُراقِبه وهو يُناوِر ليُحاوِل الانقضاض عليَّ مرةً أخرى، وفي تلك اللحظة رأيتُ جسدًا أسمر يمُر بيننا. واتضَح لي أنه أوتوأو.
قال: «اسبَح نحو السفينة يا سيدي!» كان يتكلَّم بنبرةٍ مَرِحة، وكأن الأمرَ كله مجرد مزْحَة. وأضاف: «إنني أعرفُ القروشَ جيدًا. القروشُ إخوتي.»
أطعتُه وسبَحتُ ببطء، وظل هو يسبَح حولي حائلًا بيني وبين القرش طَوالَ الوقت، وأخذ يتصدَّى لهجماته ويشجِّعني على المضي.
قال لي بعد نحو دقيقة: «لقد أُزيلَت حبالُ الرافعة التي تُنزِل قارب الإنقاذ، وهُم الآن يُجهِّزون حبال الانتشال»، ثم غطَس تحت الماء ليصُدَّ هجمةً أخرى.
ظَللتُ أسبح حتى صِرتُ على بعد ٣٠ قدمًا من السفينة، وعندئذٍ خارت قُواي. لم أعد أستطيع التحرُّك. ظلُّوا يُلقون إلينا بحبالٍ من فوق مَتْن السفينة، لكنها لم تكُن تصل إلينا. وفي تلك الأثناء ازداد القرشُ جرأة بعدما أدرَك أنه لا يتعرَّض لأيِّ أذًى. كاد أن ينال مني عدةَ مرات، ولكن في كل مرة كان أوتوأو يُنقِذني في اللحظة الأخيرة قبلَ فوات الأوان. بالطبع كان بإمكان أوتوأو أن ينجُو بنفسه في أي لحظة. لكنه ظلَّ بجانبي يَحمِيَني.
قلتُ لاهثًا بشِق الأنفُس: «وداعًا يا تشارلي! لقد قُضي أمري!»
كنتُ أعلَم أن النهاية قد حانت، وأنني في اللحظة التالية سأستسلِم للغرق.
لكن أوتوأو ضَحِك في وجهي وقال:
«سأُريك حيلةً جديدة. سأجعل ذلك القرش يشعُر بالدُّوار!»
ثم جاء خَلْفي، حيث كان القرشُ يستعدُّ للانقضاضِ عليَّ.
بعدئذٍ صاح قائلًا: «اتجه إلى اليسار قليلًا! يُوجَد حبلٌ هناك على سطح الماء. إلى اليسار يا سيدي؛ إلى اليسار!»
اتجَهتُ يسارًا وظَللْتُ أضربُ الماء بيديَّ على غير هدًى. كنتُ في ذلك الوقت شبه فاقد الوعي. ثم وصلتُ إلى الحبل أخيرًا، وفي اللحظة التي قبضتُ فيها عليه بيدي، سمعتُ صيحةً عالية على مَتْن السفينة. فاستدَرتُ ونظَرت. لم أجد أيَّ أَثَر لأوتوأو. لكنه في اللحظة التالية خرَج إلى السطح. وجدتُ كلتا يدَيه مقطوعةً من عند الرسغ، وكان الجزء المتبقِّي من ذراعَيه ينزف دمًا.
ناداني بصوتٍ خافت قائلًا: «أوتوأو!» ورأيتُ في نظراتِه الحبَّ الذي نَبَض به صوتُه.
لم يُنادِني قَط بهذا الاسمِ إلا في تلك اللحظة، في آخر لحظةٍ من سنوات صَداقتِنا.
صاح قائلًا: «وداعًا يا أوتوأو!»
ثم سُحِب إلى أسفل، ورفعوني أنا إلى مَتْن السفينة، حيث فقَدتُ الوعي بين ذراعَي القبطان.
وهكذا مات أوتوأو، الذي أنقذَني وجعلني رجلًا بمعنى الكلمة، والذي أنقذَني مرةً أخرى في النهاية. التقَينا وسط براثنِ إعصارٍ جارف، وافترَقْنا وسط براثنِ قرشٍ مُفترسٍ بعد رُفقةٍ دامت ١٧ عامًا، وأكاد أَجزِم بأنها رُفقةٌ لم يسبق لها مثيل بين رجلٍ أسمر وآخرَ أبيض. وإذا كان الربُّ مُطلعًا من عَلْيائه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ في الدنيا، فسيَحْظى أوتوأو بمكانةٍ عالية في جنَّته، وإن كان «الكافر» الوحيدَ في بورا بورا.