اكتشف غطاس تركي شاب من صائدي الإسفنج حطام السفينة في عام ١٩٨٢.
وأفاد أنه رأى «قطع بسكويت معدنية لها آذان» قابعة في قاع البحر أثناء
إحدى أولى الغطسات التي قام بها في حياته. أدرك قائده أن الوصف يُناسب
سبيكة جلد الثور النحاسية من العصر البرونزي (يُطلق عليها هذا لأنها
تبدو مثل جلد مقطوع من ثور أو بقرة مذبوحة). كان علماء الآثار من
معهد علم الآثار البحرية، بجامعة تكساس إيه آند إم، قد أروه صورًا
لأغراض كهذه وأخبروه أن يَنتبه لها.
كان علماء الآثار الباحثون عن هذه الأغراض تحت قيادة جورج باس، الذي
كان رائدًا لمجال علم الآثار الغارقة في ستينيات القرن العشرين في
الوقتِ الذي كان لا يزال فيه طالب دراسات عليا بجامعة بنسلفانيا. في
ذلك الوقت، كانت عدة جهاز التنفُّس تحت الماء الحديثة القائمة بذاتها
(جهاز التنفس تحت سطح الماء) تطورًا حديث العهد نسبيًّا، ومثَّل
تنقيب باس لحطام سفينة في منطقة رأس جليدونيا قبالة ساحل تركيا أول
تنقيب بحري رسمي لحطام سفينة من العصر البرونزي على الإطلاق يُجريه
أثريون مُحترفون في تلك المنطقة.
(١) سفينة أولوبورون
يَقترح الفكر السائد حاليًّا أن سفينة أولوبورون ربما كانت قد
بدأت رحلتها إما من مصر وإما من كنعان (ربما في منطقة أبو الهوام في
إسرائيل المعاصرة)، وقامت بتوقُّفات عند أوغاريت في شمال سوريا
وربما في ميناء على جزيرة قبرص. وتوجَّهت بعد ذلك غربًا إلى منطقة
إيجه، متتبعة الشريط الساحلي الجنوبي للأناضول (تركيا الحالية).
خلال الطريق، كان طاقم السفينة قد أخذ على مَتنها زجاجًا خامًا،
وجِرارَ تخزين مملوءة بالشعير، والراتِينَج، والتوابل، وربما الخمر،
وأثمن ما في تلك الحمولة كان حوالي طنٍّ من القصدير الخام وعشرة
أطنان من النحاس الخام، اللذَين كانا سيُمْزَجان معًا لتشكيل ذلك
المعدن المدهش، المسمَّى بالبرونز.
من حمولة السفينة، نحن متأكِّدون بدرجة معقولة من أنها كانت
مسافرة غربًا من بلاد الشام، وربما كانت في طريقها إلى ميناء في
منطقة إيجه؛ ربما واحد من الاثنين أو الثلاثة على البر الرئيسي
لليونان التي كانت تخدم العاصمة المركزية ميسيناي، أو ربما إحدى
المدن الكبرى الأخرى، مثل بيلوس على البر الرئيسي لكوموس أو حتى
كنوسوس على جزيرة كريت. مجرد حقيقة أنه كان ثمَّة سفينة أخرى تُبحر
من الشرق إلى الغرب أثناء العصر البرونزي المتأخِّر كانت كافية
لتأكيد نظريات باس وتغيير أفكار الباحثين المعاصرين تمامًا حول مدى
التجارة والاتصالات التي كانت تحدث منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام.
عُثِر حينئذٍ على ثلاث سفن من العصر البرونزي، ولكن حطام السفينة
عند أولوبورون كان هو الأضخم، والأكثر ثراءً، والأكثر إنجازًا من
ناحية التنقيب.
لا يَزال مالك السفينة ورعاتها مجهولين. يُمكن للمرء أن يتكهن
حول الاحتمالات المختلفة ليفسر الجهة التي غادرَت منها السفينة
وموقع محطَّتها النهائي. ربما كانت حمولة تجارية، أرسلها تجار من
الشرق الأدنى أو مصريُّون، ومن المحتمل أن ذلك كان بمباركة فرعون
مصري أو ملك كنعاني. أو ربما أُرسِلَت مباشرة من قِبَل فرعون أو
ملك، كهدية تحية من ملك إلى آخر، مثلما جرى كثيرًا أثناء عصر
العمارنة قبل ذلك بعقود قليلة. ومن المحتمَل أن تكون السفينة قد
أُرسِلَت من قِبَل الميسينيين في «بعثة تسوُّق» إلى شرق المتوسط
وغرقت أثناء رحلة العودة. ربما يكون التجار على متن السفينة قد
جلبوا موادَّ خامًا وبضائع أخرى لم تكن متاحة في اليونان نفسها،
مثل القصدير والنحاس، بالإضافة إلى طن الراتِينَج التَّرَبَنْتِيني
(من أشجار الفستق) الذي يُمكن استخدامه في العطور التي تُصنَّع في
بيلوس على البر الرئيسي لليونان ثم تُشحن عائدة إلى مصر ومنطقة شرق
المتوسط. ومن الواضح أن السيناريوهات المحتملة ليست قليلة. إذا كان
الميسينيون هم المتلقُّون المقصودون، فربما كانوا إذن ينتظرون
بفارغ الصبر الشحنة التي على السفينة، لأنها كانت تحتوي معدنًا
خامًا كافيًا لتجهيز جيش من ثلاثمائة رجل بالسيوف، والتروس،
والخوذات، والدروع البرونزية، بالإضافة إلى العاج الثمين والأشياء
الغريبة الأخرى. من الواضح أنه عندما غرقت السفينة في ذلك اليوم في
عام ١٣٠٠ق.م تقريبًا، فقدَ شخصٌ ما أو مملكةٌ ما ثروةً كبيرة.
•••
غرقت سفينة أولوبورون في مياه عميقة إلى حدٍّ ما؛ فمؤخَّر
السفينة موجود حاليًّا على عمق ١٤٠ قدمًا تحت السطح، وبقية السفينة
مائلة بزاوية إلى الأسفل أكثر، حتى ١٧٠ قدمًا تحت السطح. ويتَّسم
الغطس إلى عمق ١٤٠ إلى ١٧٠ قدمًا بالخطورة؛ لأنه يتجاوز حد الغطس
الآمن بجهاز تنفُّس مُستقِل. كان مسموحًا لغطاسي معهد علم الآثار
البحرية بغطستين فقط في اليوم، لمدة عشرين دقيقة في كل مرة. أضف
إلى ذلك أنه، في تلك الأعماق، يُمكن للمستويات المتزايدة من
الغازات المُستنشَقَة أن تُسبِّب تأثيرًا مخدرًا. وقال باس إنه
أثناء العمل في هذا العمق كانوا يشعرون وكأنهم احتسوا كأسَين من
المارتيني قبل البدء؛ لذا كان يتعيَّن التخطيط مسبقًا لكل غطسة وكل
حركة كانوا سيقومون بها تحت الماء.
على مدى اثنَي عشر موسمًا تقريبًا، من ١٩٨٤ إلى ١٩٩٤، غاص الفريق
إلى الحطام أكثر من اثنين وعشرين ألف مرة دون حدوث إصابة خطيرة
واحدة، مما يَشهد على التدابير الوقائية التي اتخذوها وحقيقة أن
غطساتهم كانت تحت إشراف ضابط سابق في قوة العمليات الخاصة التابعة
للبحرية الأمريكية.
3 كانت النتيجة النهائية عبارة عن مخطط للحطام القديم
وحمولته يوازي في دقَّته، التي تصل إلى الملِّيمتر، أي مخططٍ
مُنَفَّذٍ للتنقيب على البر، رغم الأعماق الكبيرة التي كانوا
يعملون فيها. أيضًا أسفرت الغطسات عن استعادة آلاف من الأغراض،
التي ما زالت تحت الدراسة.
كان طول القارب نفسه يبلغ في الأصل حوالي خمسين قدمًا. وكان محكم
البناء، وبه ألواح خشبية وعارضة مصنوعان من خشب الأَرْز اللبناني
ويستخدم تصميم النَّقرة واللسان للهيكل.
4 قبل ذلك، كان أقدم حطام معروف في البحر المتوسط
يَستخدِم تقنية النقرة واللسان هذه هو حطام كيرينيا الذي عُثِر
عليه قبالة ساحل قبرص، ويرجع تاريخه إلى أكثر من ألف عام لاحقة،
إلى حوالي ٣٠٠ق.م.
اتسمت سبائك النحاس، التي كان يوجد منها أكثر من ٣٥٠ سبيكة،
بصعوبة خاصة في التنقيب عنها وجلبها إلى السطح. وأثناء مدة الثلاثة
آلاف عام التي قبعت فيها تحت الماء، متراصة بطريقة متعرِّجة في
أربعة صفوف مُنفصِلة، كان كثير منها قد تحلَّل بقدرٍ كبيرٍ وصار
حينئذٍ في حالة هشَّة للغاية. وفي نهاية الأمر، تعيَّن على المرمِّمين
الأثريين الذين كانوا يعملون في فريق باس استخدام نوع جديد من
الغراء؛ والذي كان عبارة عن مادة لاصقة يُمكن حقنها في بقايا
السبيكة، ومن شأنها أن تجمد وتتصلَّب تحت الماء على مدى عام. وفي
النهاية يلحم الغراء معًا الأجزاء المنفصلة من السبيكة المتحلِّلة
جيدًا بما يكفي حتى يُمكن سحبها إلى السطح.
ولكن كان يوجد على متن السفينة أكثر بكثير من سبائك النحاس. اتضح
أن الحمولة التي تحملها سفينة أولوبورون كانت تتكوَّن من تشكيلة
رائعة من البضائع، كانت بالفعل قائمة بضائع دولية. عمومًا، كان على
متن السفينة منتجات من سبعة بلدان، ودول، وإمبراطوريات مختلفة على
الأقل. بالإضافة إلى شحنتها الأساسية التي كانت عبارة عن عشرة
أطنان من النحاس القبرصي، وطنٍّ من القصدير، وطنٍّ من الراتِينَج
التَّرَبَنْتِيني، كان يوجد أيضًا دزينتان من جذوع خشب الأبنوس من
النوبة؛ ومائتا سبيكة تقريبًا من الزجاج الخام من بلاد الرافدين،
معظمها مطليٌّ بلونٍ أزرق غامق، أما البعض الآخر فمطليٌّ باللون
الأزرق الفاتح، والأرجواني، وحتى إحدى درجات اللون العسلي/الأصفر
العنبري؛ وحوالي ١٤٠ جرة تخزين كنعانية، بحجمَين أو ثلاثة أساسية،
احتوت على الراتِينَج التَّرَبَنْتِيني، وبقايا من العنب، والرمان،
والتين، بالإضافة إلى توابل مثل الكزبرة والسماق؛ وآنية فخارية
جديدة من قبرص وكنعان، تشتمل على مصابيح زيت، وصحاف، وأباريق،
وجِرار؛ وجعارين من مصر وأختام أسطوانية من منطقة أخرى في الشرق
الأدنى؛ وسيوف وخناجر من إيطاليا واليونان (التي ربما كان بعضها
يخص أفراد الطاقم أو الركاب)، من ضمنها واحد له مقبض مُطعَّم من
الأبنوس والعاج؛ وحتى صولجان حجري من البلقان. كان يوجد أيضًا
مجوهرات ذهبية، تشمل قلائد وكأسًا ذهبية؛ وحاويات مُستحضرات تجميل
عاجية على هيئة بطَّة؛ وصحاف وأوعية أخرى من نحاس، وبرونز، وقصدير؛
وأربع وعشرون مرساة حجرية؛ وأربع عشرة قطعة من عاج فرس النهر وناب
فيل واحد؛ وتمثال طوله ست بوصات لإله كنعاني مصنوع من برونز مكسو
بالذهب في مواضع منه، والذي لم يُقَم بعمله على نحو جيد جدًّا، إن
كان من المفترض أن يكون بمثابة الإله القائم بحماية
السفينة.
5
من المحتمَل أن القصدير جاء من إقليم بَدَخشان في أفغانستان، أحد
الأماكن القليلة التي كان متاحًا فيها أثناء الألفية الثانية قبل
الميلاد. جاء اللازورد الذي كان على متن السفينة من نفس المنطقة،
مسافرًا آلاف الأميال برًّا قبل أن يُجلَب إلى السفينة. كانت قطع كثيرة، مثل الأختام
الأسطوانية المصنوعة من اللازورد، صغيرة
ويسهل إغفالها أثناء عمليات التنقيب، وبخاصة عندما كانت أنابيب
الشفط الضخمة تُستخدَم لإزالة الرمال التي تغطي البقايا. إن
استعادتها بأي حال من الأحوال هي بمثابة شهادة على مهارة علماء
آثار تحت الماء، كانوا يُنقِّبون في الحطام تحت قيادة باس في
البداية ثم خليفته المختار، سيمال بولاك.
أحد أصغر الأغراض التي عُثِر عليها على متن السفينة كان أيضًا
واحدًا من أهمها؛ وهو جِعْران مصري مصنوع من الذهب الخالص. بقدرِ ما
كان غرض كهذا نادرًا، جعلتْه الرموز الهيروغليفية المنقوشة عليه
أكثر ندرةً؛ لأنها كانت تؤلِّف اسم نفرتيتي، زوجة الفرعون المهرطق
إخناتون. كان اسمها مكتوبًا على الجِعْران على صورة «نفر نفرو آتون»؛
وهي تهجئة لم تستخدمها نفرتيتي إلا أثناء السنوات الخمس الأولى من
حكمها، في وقتٍ ربما كان فيه زوجها في ذروة إدانته المُهَرْطِقة
لكل إله مصري عدا آتون، قرص الشمس، الذي كان مسموحًا له هو، وهو
وحده، أن يتعبَّد إليه مباشرةً.
6 استخدم الأثريون الجعران ليساعدهم في تحديد الفترة
الزمنية المنتمية إليها السفينة؛ لأنه لم يكن من المُمكن أن يكون
قد صُنِع — ومن ثَمَّ لم يكن من الممكن أن تكون السفينة قد أبحرت — قبل وصول نفرتيتي
إلى السلطة في حوالي ١٣٥٠ق.م.
كان بمقدور الأثريين تحديد تاريخ غرق السفينة بثلاث طرق أخرى
أيضًا. إحدى الطرق كانت تتعلق باستخدام الكربون المشع لتحديد تاريخ
الأغصان والفروع القصيرة العمر التي كانت مستخدمة فيما مضى على سطح
السفينة. وتعلَّقت طريقة أخرى بالتأريخ الشجري (عد حلقات الأشجار)،
مُستفيدين من العوارض الخشبية التي تكون منها هيكل السفينة. أما
الطريقة الثالثة فكانت الأواني الفخارية الميسينية والمينوية والتي
كانت موجودة على متن السفينة، والتي بدا للمتخصِّصين أن تاريخها
يرجع إلى نهاية القرن الرابع عشر قبل الميلاد. تشير آليات التأريخ
المنفصلة الأربع معًا إلى عام ١٣٠٠ق.م تقريبًا — بداية القرن
الثالث عشر قبل الميلاد، أو يُمكن أن يكون قبل ذلك العام أو بعده
ببضع سنوات — باعتباره العام الذي غرقت فيه السفينة.
7
عُثِر في السفينة على شُدَف من لوح كتابة خشبي صغير، كان في
الأصل له مفصلات من العاج، محفوظة داخل جرة تخزين ربما تكون قد
سبحت إلى داخلها بينما كانت السفينة تتعرض للغرق. اللوح، الذي
يُذكِّرنا ﺑ «اللوح الذي عليه علامات شريرة» الخاص بهوميروس
(الإلياذة، الكتاب السادس، البيت ١٧٨)، أقدم بأكثر من خمسمائة سنة
من ألواح كتابة مماثلة عُثِر عليها في نمرود في العراق. ربما كان
اللوح يحتوي يومًا ما على تسجيل لمسار رحلة السفينة، أو ربما بيان
الشحنة التي كانت على ظهرها. غير أن الشمع، الذي كانت تُنقَش عليه
الكتابة على جانبَي اللوح، قد تلاشى منذ زمن بعيد، دون أن يترك
أثرًا لما كان مسجلًا.
8 ولذلك لا يزال من المستحيل معرفة ما إذا كان الغرض من
الشحنة التي كانت على متن السفينة أن تكون هدية ملكية، ربما كانت
من ملك مصر إلى ملك ميسينيا، أو ما إذا كانت تخص تاجرًا خاصًّا،
يَبيع البضائع في الموانئ الرئيسية في أنحاء البحر المتوسط. ومثلما
افترضنا سابقًا، يُمكن أيضًا أن الشحنة عبارة عن مُشتريات جرت في
رحلة تسوُّق طويلة؛ لأن المواد الخام الموجودة على سطح السفينة ناسبت
ما احتاجه العمال وورش الحرف التابعة لقصور ميسينية مثل بيلوس من
أجل صنع أشياء عليها طلب مرتفع، بما في ذلك العطور والزيوت، إلى
جانب المجوهرات مثل القلائد الزجاجية.
يُمكن ألا نعرف أبدًا هُويَّة من أرسل سفينة أولوبورون إلى رحلتها
أو إلى أين كانت ذاهبة ولماذا، ولكن من الواضح أن السفينة احتوت
على نموذج مصغَّر للتجارة والاتصالات الدولية التي كانت تَجري في
منطقة شرق المتوسط، وعبر منطقة إيجه، أثناء أوائل القرن الثالث عشر
قبل الميلاد. لم تكن السفينة تضمُّ بضائع مما لا يقلُّ عن سبع
مناطق مختلفة فحسب، بل — استنادًا إلى الأغراض الشخصية التي عثَر
عليها الأثريون في حطام السفينة — كان يوجد أيضًا شخصان ميسينيَّان
على الأقل على متن السفينة، على الرغم من أنه يبدو أنها كانت سفينة
كنعانية. من الواضح أن هذه السفينة لا تَنتمي إلى عالَم يضمُّ
حضارات، وممالك، وإقطاعيات منعزلة، وإنما إلى عالم مُترابِط فيه
التجارة، والهجرة، والدبلوماسية، ومع الأسف، الحرب. كان هذا حقًّا
أول عصر عولمة فعلي.
(٣) معركة قادش وتوابعها
في الوقت الذي كان فيه سينارانو وتجار آخَرُون نَشِطين، كانت
أوغاريت تحت سيطرة الحيثيين في الأناضول، وكانت مملكةً تابعة لهم.
كانت كذلك منذ زمن سابيليوليوما الأول في منتصف القرن الرابع عشر
قبل الميلاد، عندما وُقِّعَت معاهَدة تُفَصِّل التزامات أوغاريت
باعتبارها تابعة للحيثيين.
11 امتدت سيطرة الحيثيين جنوبًا حتى منطقة قادش، التي تقع
بعيدًا إلى الجنوب في سوريا، ولكنهم لم يذهبوا أبعد من ذلك. منع
المصريون جهود الحيثيين في مزيد من التوسع. وجرت معركة كبرى بين
الحيثيين والمصريين في قادش في عام ١٢٧٤ق.م، قبل أن يُرسل سينارانو
سفينتَه إلى كريت بنحو خمس عشرة أو عشرين سنة. يتردَّد صدى هذه
المعركة باعتبارها إحدى المعارك العظيمة في العصور القديمة
وباعتبارها إحدى الأمثلة الأولى من العالم القديم التي استُخْدِم
فيها عن عمد المعلومات المضلِّلة المُعَدَّة لإرباك العدو.
دارت معركة قادش بين مواتالي الثاني ملك خاتي، الذي كان يُحاول
توسيع الإمبراطورية الحيثية أكثر جنوبًا في أرض كنعان، ورمسيس
الثاني ملك مصر، الذي كان مصممًا على إبقاء حدود تلك الإمبراطورية
عند قادش، حيث كانت موجودة لعقود عديدة في هذه المرحلة. على الرغم
من أننا لا نملك جانب الرواية الحيثية للقصة، فإننا نعرف تقريبًا
كل تفصيلة من تفاصيل المعركة ونتيجتها؛ لأن النسخة المصرية من
القصة مسجَّلة بطريقتَين مختلفتَين في خمسة معابد مختلفة في مصر:
الرامسيوم (معبد رمسيس الثاني الجنائزي بالقرب من وادي الملوك)
والمعابد الموجودة في الكرنك، والأقصر، وأبيدوس، وأبو سمبل.
تُعْرَف أقصر نسخة، وهي التي عُثِر عليها بمصاحبة نقْش بارز يُصوِّر
المعركة، باسم «التقرير» أو «النشرة». ويُطْلَق على النسخة الأطول
اسم «القصيدة» أو «التسجيل الأدبي».
12
نعرف أن المعركة كانت بوجه خاص عنيفة، وأن كل طرف من الطرفَين
كان يُمكن أن يربحها في مرحلة أو أخرى. ونعرف أيضًا أنها انتهَت دون
حسم، وأن النزاع بين القوتَين سُوِّي في نهاية المطاف عن طريق
توقيع معاهَدة سلام.
13
جرى الجزء الأكثر درامية من المواجهة بعد أن أرسل الحيثيون
رجلَين — من بدو شوشو، حسبما تُخبرنا الرواية المصرية — للتجسُّس
على القوات المصرية، ولكن بطريقة متعمَّدة على نحوٍ أدَّى إلى أن
يأسر المصريون الرجلين على الفور تقريبًا. تحت التعذيب، على ما
يبدو، أدلى الجاسوسان بمعلوماتهما المُضلِّلة (ربما كانت تلك هي
واحدة من أولى الحالات الموثَّقة في تاريخ البشرية في هذا الشأن)
وأخبرا المصريين أن القوات الحيثية لم تكن بعدُ قريبةً من قادش وأنها
ما زالت بعيدة شمالًا، في منطقة عمورو في شمال سوريا. لدى سماع
رمسيس الثاني بالأنباء، ودُون محاولة التأكُّد منها على نحوٍ
مُستقل، مضى بأقصى سرعة مع الفرقة الأولى من فرقه الأربعة، فرقة
آمون، مستهدفًا الوصول إلى قادش قبل الحيثيين.
14
في حقيقة الأمر، كان الحيثيون بالفعل في قادش، وكانوا قد جمعوا
قواتهم في أجمة ضيقة شمال وشرق المدينة مباشرة، مختبئين في ظل
أسوار المدينة حيث لم يكن من المُمكن أن تراهم القوات المصرية التي
كانت تقترب من الجنوب. وبينما كان فوج طليعة القوات المصرية يَنصِب
مخيمًا شمال المدينة مباشرةً، أمسك رجال رمسيس بجاسوسَين حيثيين
آخرَين وهذه المرة عرفوا منهما الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان.
تحرَّكت القوات الحيثية بسرعة في اتجاه عقارب الساعة مُطوِّقةً
محيط أسوار المدينة كله تقريبًا واشتبكت مباشرةً مع الفرقة المصرية
الثانية، المعروفة باسم رع، آخذةً أفرادها على حين غرة تمامًا
ومبيدةً إياهم إبادةً فعلية. فرَّت الشرذمة الباقية من فرقة رع
المُمزَّقة إلى الشمال، يُطاردها الجيش الحيثي بأكمله، وانضمت إلى
رمسيس ورجال فرقة آمون عند معسكرهم قبل المجابهة.
15
تأرجَحَت الغلبة في المعركة بين الطرفين، إلى أحدهما تَارَةً
وإلَى الآخَرِ تَارَةً أُخْرَى. تخبرنا الرواية أنه في مرحلة ما
كان الجيش المصري مشرفًا على الهزيمة وكاد رمسيس نفسه أن يُقْتَل،
إلا أنه بمُفرده ودون مساعدة من أحد أنقذ نفسَه ورجاله. تقول
الرواية المنقوشة على جدران المعبد المصري:
ثم ركَب جلالته مسرعًا، واندسَّ في أعماق الأعداء من
خاتي، وكان بمفرده وليس معه أي أحد … ووجد ٢٥٠٠ عربة حربية
تُضيِّق الخناق عليه من الخلف، يقودها جميع أنواع
المحاربين الخاسئين من خاتي وكذلك البلاد الأجنبية الكثيرة
التي كانت معهم.
وبعد ذلك تتحوَّل الرواية إلى صيغة المتكلِّم، لتروي على لسان
الفرعون نفسه:
لقد ناديتُك، يا أبي آمون، عندما كنتُ وسط جموع لا
أعرفها … وجدتُ آمون قد أتى عندما دعوته؛ مدَّ لي يده
وحينها ابتهجت … كل ما فعلته كان مصيره النجاح … كنت أشد
قوسي بيميني وأُحارب بيساري … وجدت اﻟ ٢٥٠٠ عربة، التي
كنتُ وسطها، ممدَّدة أمام حصاني. ولم يكن بمقدور أيٍّ
منهم أن يجدَ يده ليُقاتلَ بها … وقد جعلتُهم يتساقطون في
الماء تمامًا كما تسقط التماسيح، وقد خروا على وجوههم
الواحد فوق الآخر. وأعملت القتل فيهم كما شئت.
16
على الرغم من أن الرواية الخاصة ببسالته بمفرده ودون مساعدة من
أحد مبالَغ فيها بالتأكيد؛ لأنه لا شك في أن الفرعون قد تلقَّى بعض
المساعدة؛ فالأعداد المشمولة قد لا تكون منافية للحقيقة، لأنه في
موضع آخر في النقش نجد أن حجم القوات الحيثية المشار إليه هو ٣٥٠٠
عربة، و٣٧٠٠٠ جندي مشاة، وما مجموعه ٤٧٥٠٠ من القوات
إجمالًا.
17 رغم المبالغة المحتمَلة، من الواضح من المشاهد
المصاحبة ونتيجة المعركة أن رمسيس الثاني والفرقتَين المصريتَين
الأوليين تمكَّنُوا من الصمود حتى لحقت بهم الفرقتان المصريتان
الأخيرتان ودحرت القوات الحيثية.
18
في النهاية، كانت نتيجة المعركة هي حالة من الجمود في الموقِف،
وظلَّت الحدود بين القوتين عند قادش، ولم تتغيَّر ولا جرى التعرض
لها ثانية. بعدئذٍ بخمسة عشر عامًا، في نوفمبر/ديسمبر من عام
١٢٥٩ق.م، في نفس الوقت الذي كان فيه سينارانو يرسل سفينته إلى كريت
من أوغاريت، كان يَجري إبرام معاهدة سلام — واحدة من أشهر
المعاهدات في العالم القديم والتي حفظها لنا التاريخ على أفضل وجه
— بين رمسيس الثاني والملك الحيثي في ذلك الوقت حاتوسيلي الثالث؛
إذ إن مواتالي الثاني كان قد مات بعد عامين فحسب من المعركة. هذا
الاتفاق، الذي يُعرف باسم «المعاهدة الفضية»، ما زال موجودًا في
نسخ عديدة، نظرًا لأن نسختين صيغتا منه، واحدة على يد الحيثيين
وواحدة على يد المصريين. أُرسِلَت النسخة الحيثية، المكتوبة في
الأصل باللغة الأكادية والمنقوشة على لوح من الفضة الخالصة، إلى
مصر، حيث تُرْجِمَت إلى اللغة المصرية ونُسِخَت على جدران معبد
الرامسيوم ومعبد آمون في الكرنك. وعلى نحو مماثل، تُرجِمَت النسخة
المصرية إلى اللغة الأكادية ونُقِشَت على لوح من الفضة الخالصة، ثم
أُرْسِلَت إلى حاتوسا، حيث اكتشفها الأثريُّون منذ بضعة عقود
فحسب.
19 تُستَهَل النسخة الحيثية المنقوشة على جدران المعابد
في مصر بما يلي:
جاء [المبعوثون الملَكيُّون الثلاثة من مصر …] ومعهم
المبعوثان الملكيان الأول والثاني لخاتي، تيلي تيشوب،
ورعموسي، ومبعوث من كركميش هو يابوسيلي، يحملون لوحًا
فضيًّا كان الملك العظيم ملك خاتي، حاتوسيلي، قد أمر
بجلبِه إلى الفرعون، على يد مبعوثه تيلي تيشوب ومبعوثه
رعموسي، ليطلب الصلحَ من جلالة ملك جنوب وشمال مصر، أوسر
ماعت رع-ستب إن رع، ابن الشمس، رمسيس الثاني.
20
بعد ذلك بثلاثة عشر عامًا، ومن المحتمَل أن يكون ذلك بعد أن زار
حاتوسيلي شخصيًّا مصر، تزوَّج رمسيس الثاني من ابنة حاتوسيلي في
احتفال زواج ملكي، موطِّدًا بذلك المعاهدة بينهما
وعلاقتهما:
21
ثم أمر (حاتوسيلي) بإرسال ابنته الكبرى، مع هدية تحيَّة
رائعة [تسبقها] من الذهب، والفضة، والنحاس بوفرة، وعبيد،
وقطعان بلا حد من الخيول، وعشرات الآلاف من الأبقار،
والماعز، والماشية؛ بلا حدٍّ كانت المنتجات التي جلبوها
لملك جنوب وشمال مصر، أوسر ماعت رع-ستب إن رع، ابن الشمس،
رمسيس الثاني، مُعطي الحياة. ثم جاء أحدهم ليخبر جلالته،
قائلًا: «انظر، لقد أرسل حاكم خاتي العظيم ابنته الكبرى،
مع هدية تحية من كلِّ صنف … أميرة خاتي، وبصحبتها كل عظماء
أرض خاتي.»
22
ربما كان أيضًا السبب الذي جعل الحيثيِّين والمصريِّين يُعلنون
السلام ويتوقَّفون عن قتال بعضهما لبعض، هو أنهم احتاجوا على
الأرجح إلى توجيه اهتمامهم إلى حدثين آخرين ربما يكونان قد وقَعا
في حوالي ١٢٥٠ق.م على الرغم من أن الحدثين كليهما أسطوريان، وعلى
الرغم من أنه لم يَثبُت بعد أنهما قد وقعا بالفعل، فلا تزال
أصداؤهما تتردَّد في العالم الحديث الذي نعيش فيه اليوم؛ في
الأناضول، ربما اضطرَّ الحيثيون أن يُواجهوا حرب طروادة، وفي الوقت
نفسه ربما اضطر المصريون إلى أن يتعامَلُوا مع الخروج العبري. ومع
ذلك، قبل أن نناقش كلًّا من هذَين الأمرين، يَجب أن نمهد الطريق
أولًا.
(٤) حرب طروادة
في الفترة التي سبقت معركة قادش تقريبًا، كان الحيثيون منشغلين
أيضًا بجبهة ثانية، في غرب الأناضول، حيث كانوا يُحاولون احتواء
تابعين متمرِّدين كان الميسينيون، على ما يبدو، يدعمون
أنشطتهم.
23 قد يكون هذا أحد أقدم الأمثلة التي لدينا عن قيام
حكومة عن عمد بالانخراط في أنشطة موضوعة للنَّيل من أخرى (فكِّر في
المساندة الإيرانية لحزب الله في لبنان، بعد ثلاثة آلاف ومائتي سنة
من معركة قادش).
أول ذكْر يردُ بشأن تابع حيثي متمرِّد يُسمى بيامارادو كان
يُحاول زعزعة الوضع في منطقة ميليتوس في غرب الأناضول، نجده في
نصوصٍ محفوظةٍ في سجلات الدولة في العاصمة حاتوسا يرجع تاريخُها إلى
فترة حكم الملك الحيثي مواتالي الثاني، في فترة أوائل إلى منتصف
القرن الثالث عشر قبل الميلاد. كان بيامارادو قد نجح بالفعل في
هزيمة ملك تابع للحيثيين في نفس المنطقة، وهو رجل يُسمى مانابا
تارهونتا. يُعتقد أن بيامارادو ربما كان يعمل نيابةً عن، أو
بالتواطؤ مع، الأخياويين (أي، الميسينيين في العصر
البرونزي).
24
استمرت أنشطة التمرُّد التي كان يقوم بها بيامارادو أثناء حكم
الملك الحيثي التالي، حاتوسيلي الثالث، في مُنتصَف القرن الثالث
عشر قبل الميلاد، كما نعرف من مراسلةٍ أطلق عليها الباحثون «رسالة
تاواجالاوا». أرسل الملك الحيثي الرسالة إلى ملك لأخياوا لا ذكر
لاسمه، والذي كان يُخاطبه بوصفه «الملك العظيم» و«الأخ»، مما يوحي
ضمنًا بدرجة من التكافؤ بين الاثنين. رأينا بالفعل أن ألفاظًا
مشابهة استُخْدِمَت عندما كان الفرعونان المصريان أمنحتب الثالث
وإخناتون يكتبان إلى ملوك بابل، وميتاني، وآشور قبل ذلك بقرن أو
نحوه. قدم تفسير هذه النصوص معلومات مهمة بشأن حالة العلاقات بين
منطقة إيجه والشرق الأدنى في ذلك الوقت.
25
تُعنى رسالة تاواجالاوا بأنشطة بيامارادو، الذي استمرَّ في
الإغارة على الأراضي الحيثية في غرب الأناضول، والذي، كما نَعرف
الآن، كان قد مُنِح حق اللجوء وسافر بحرًا إلى أراضي أخياوا؛ ربما
إلى جزيرة قبالة الساحل الغربي للأناضول.
26 نتعرَّف أيضًا، فيما كان ذات يوم الصفحة الثالثة/اللوح
الثالث من الرسالة (اللوحان الأول والثاني مفقودان)، على
تاواجالاوا نفسه، الذي يُعَرَّف بأنه شقيق ملك أخياوا، والذي كان
موجودًا في غرب الأناضول في تلك اللحظة، يجند أفرادًا مُعادين
للحيثيين. ومما يُثير الحيرة والفضول، أنه في إشارة إلى أن
العلاقات بين الحيثيين والميسينيين كانت في السابق أفضل مما كانت
في هذه المرحلة، تُخبرنا الرسالة أن تاواجالاوا كان في وقت سابق قد
ركبَ (امتطى العجلة الحربية) مع السائق الشخصي للعجلة الحربية
للملك الحيثي نفسه.
27
تُشير الرسالة أيضًا إلى نزاع بين الميسينيين والحيثيين على
إقليم يُعْرَف باسم ويلوسا، يقع في شمال غرب الأناضول. ورد ذكر هذا
الإقليم في مناقشتنا لتمرد أسوا الذي وقع قبل ذلك بمائتي سنة
تقريبًا، ويبدو أن الحيثيين والميسينيين كانوا على خلاف من جديد
بشأن الإقليم، الذي يَعتبرُ معظم الباحثين أنه طروادة و/أو إقليم
ترواس. عند الأخذ في الاعتبار تاريخ الرسالة، في منتصف القرن
الثالث عشر قبل الميلاد، من المنطقي بالتأكيد أن نتساءل عمَّا إذا كانت
ثمة صلة مع الأساطير اليونانية التي ظهرت لاحقًا بخصوص حرب
طروادة.
28
•••
إن قصة حرب طروادة، حسب الرواية التقليدية للشاعر اليوناني
الكفيف هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد، وحسبما تُستكمَل فيما
يُطلَق عليه «دائرة الملاحم» (شذرات أدبية من قصائد ملحمية إضافية
مفقودة حاليًّا) وكذلك في أعمال الكتاب المسرحيِّين اليونانيين
اللاحقين، لهيَ قصة معروفة جيدًا. أبحر باريس، ابن الملك بريام ملك
طروادة، من شمال غرب الأناضول إلى البر الرئيسي لليونان في مهمَّة
دبلوماسية إلى منيلاوس، ملك إسبرطة. وبينما كان هناك، أُغرِم بزوجة
منيلاوس الجميلة، هيلين. عندما عاد باريس إلى الديار، صاحبته
هيلين؛ إما طوعًا، حسب رواية الطرواديِّين، وإما كرهًا، حسب رواية
اليونانيين. أقنع منيلاوس، في فورة غضبه، شقيقه أجاممنون، ملك
ميسيناي وقائد اليونانيين، بإرسال أسطول حربي من ألف سفينة وخمسين
ألف رجل إلى طروادة لاستعادة هيلين. في النهاية بعد حرب دامت عشر
سنوات، كان النصر حليفًا لليونانيِّين. نُهبت طروادة وخُرِّبَت،
وقُتِل معظم سكانها، وعادت هيلين إلى الديار في إسبرطة مع
منيلاوس.
ثمة، بالطبع، عدد من الأسئلة التي لا إجابة لها. هل كان ثمة وجود
بالفعل لما يُسمى حرب طروادة؟ بل، هل كان ثمة وجود لطروادة نفسها؟
ما مقدار الحقيقة الكامنة وراء قصة هوميروس؟ هل كانت هيلين حقًّا
ذات وجه فائق الجمال لدرجة أنه كان يُمكن أن يؤدِّي إلى أن
«تُبْحِر من أجله ألف سفينة؟» هل نشبَت حرب طروادة بسبب حبِّ رجل
لامرأة … أم أن ذلك كان مجرد مبرِّر لحربٍ نشبت لأسباب أخرى؛ ربما
من أجل الأرض أو السلطة أو المجد؟ لم يكن اليونانيون القدماء
أنفسهم متيقِّنين من التاريخ الذي جرت فيه حرب طروادة؛ إذ يوجد ما
لا يقلُّ عن ثلاثة عشر تخمينًا بشأن التاريخ خمَّنها الكُتاب
اليونانيون القدماء.
29
بحلول وقتِ مُضيِّ هاينريش شليمان في رحلة البحث عن موقع طروادة
في منتصَف القرن التاسع عشر الميلادي، كان معظم الباحثين المعاصرين
يَعتقدون أن حرب طروادة كانت مجرَّد أسطورة، وأن موقع طروادة لم
يكن له وجود قطُّ. شرع شليمان في إثبات خطأ اعتقادهم. ونجح في ذلك
مما أثار دهشة الجميع. رُويَت القصة مرات كثيرة ولذلك لن
نُكرِّرَها بالتفصيل هنا.
30 يكفي أن نقول إنه عُثر على تسع مدن، واحدة فوق الأخرى،
في موقع هيسارليك، الذي يَحظى بقبول معظم العلماء حاليًّا
باعتبارِه موقع طروادة القديمة، لكنه لم يتمكَّن من تحديد أي المدن
التسع كانت طروادة بريام. منذ أعمال التنقيب الأولية التي قام بها
شليمان، كان ثمة العديد من بعثات الاستكشاف إلى طروادة، ومن بينها
بعثات قام بها مهندسه المعماري، فيلهلم دوربفلد؛ وبعثات قام بها
كارل بليجِن وجامعة سينسيناتي في ثلاثينيات القرن العشرين؛ وأخيرًا
بعثات قام بها مانفريد كورفمان، وحاليًّا يوجد بعثات استكشاف يقوم
بها إرنِست بيرنيكا وجامعة توبنجن منذ أواخر ثمانينيات القرن
العشرين وحتى يومِنا هذا.
ما زال دمار المدينة السادسة، طروادة السادسة، محلَّ جدل. ربما
تكون المدينة، التي اعُتبِر أنها ترجع إلى حوالي عام ١٢٥٠ق.م، قد
دُمِّرَت في الحقيقة قبل ذلك بقليل، في حوالي عام ١٣٠٠ق.م
31 كانت هذه المدينة مدينة ثرية، بها منتجات مستوردة من
بلاد الرافدين، ومصر، وقبرص، وكذلك من اليونان الميسينية. وأيضًا
كانت ما يُمكن أن يدعوه المرء «منطقة حدودية متنازع عليها»؛ بعبارة
أخرى، كانت تقع على طرف العالم الميسيني وعلى طرف الإمبراطورية
الحيثية؛ ولذلك كانت عالقة بين قوتَين من أعظم قوى عالم منطقة
البحر المتوسط القديمة في العصر البرونزي.
اعتقد دوربفلد أن الميسينيين قد استولوا على هذه المدينة (طروادة
السادسة) وأحرقوها عن بكرة أبيها، وأن هذا الحدث هو الذي شكل
الأساس الذي اعتمدت عليه حكايات هوميروس الملحمية. خالفه بليجِن،
الذي قام بالتنقيب بعده بعقود عديدة، في الرأي ونشر ما قال إنه
دليل لا يَقبل الجدل على أن الدمار لم يقع بفعل بشر، وإنما جراء
زلزال. تضمَّنت حجته أدلة إيجابية، مثل جدران مهدَّمة على نحو غير
متناسب وأبراج منهارة، بالإضافة إلى أدلة سلبية، فهو لم يَعثُر على
أي سهام، ولا سيوف، ولا أي مخلَّفاتٍ من بَقايا الحرب.
32 في الحقيقة، من الواضح حاليًّا أن نوع الضرر الذي وجده
بليجِن كان مشابهًا لما يُرى في مواقع كثيرة في منطقتَي إيجه وشرق
المتوسط، من بينها ميسيناي وتيرنز في البر الرئيسي لليونان. من
الواضح أيضًا أن هذه الزلازل لم تَحدُث كلها في نفس الوقت أثناء
العصر البرونزي المتأخر، كما سنرى أدناه.
اعتقد بليجِن أيضًا أن المدينة التالية، طروادة السابعة (أ)،
كانت مرشحًا أرجح لأن تكون طروادة بريام. من المحتمَل أن تكون هذه
المدينة قد دُمِّرَت حوالي ١١٨٠ق.م، وربما تكون قد تعرَّضت
للاجتياح من قِبَل شعوب البحر وليس الميسينيين، على الرغم من أن
هذا ليس مؤكدًا إطلاقًا. سنتوقَّف عن الحديث عن القصة هنا في الوقت
الراهن وسنتابع الحديث عنها مجددًا في الفصل التالي، عندما نُناقش
أحداث القرن الثاني عشر.
(٥) الصلات الأجنبية والبر الرئيسي لليونان في القرن الثالث عشر قبل
الميلاد
ينبغي أن نلاحظ أن هذا هو الوقت الذي شُيِّدَت فيه أسوار تحصين
ضخمة، ما زالت آثارها ظاهرة للعيان، في حوالي ١٢٥٠ق.م، هناك في
ميسيناي في البر الرئيسي لليونان. شُيِّدَت هذه الأسوار في نفس
الوقت تقريبًا الذي جرت فيه مشروعات أخرى، ربما كانت تُمثِّل
إجراءات دفاعية، تشمل نفقًا تحت الأرض يقود إلى مصدر للماء يُمكن
للسكان أن يصلوا إليه دون التخلِّي عن حماية المدينة.
أُنشئت بوابة الأسد الشهيرة عند مدخل قلعة ميسيناي في هذه
الفترة، كجزء من أسوار التحصين الجديدة التي أحاطت بالمدينة. هل
كانت أسوار التحصين هذه مجرَّد جزء من إجراءات الحماية للمدينة، أم
بُنيَت إظهارًا للسلطة والثروة؟ أُنْشِئَت أسوار التحصين وبوابة
الأسد بحجارة ضخمة؛ حجارة بلغت من ضخامتها أنها يُشار إليها
حاليًّا بوصف «البناء السايكلوبي»؛ لأن اليونانيين اللاحقين
اعتقدوا أن عمالقة السايكلوب الأسطوريين أصحاب العين الواحدة،
بقوتهم الغاشمة، هم وحدَهم الذين كان من الممكن أن يكونوا بالقوة
الكافية لتحريك كتل الحجارة ووضعها في موضعها.
الأمر المُثير للاهتمام والفضول أن ثمة عمارة مماثلة، تشمل
دهاليز مقوسة الأسقف وأنفاقًا سرية مؤدِّية إلى شبكات مياه جوفية،
موجودة، ليس في العديد من مواقع القصور الميسينية، بما في ذلك
ميسيناي وتيرنز، فحسب، بل أيضًا في بعض الأبنية الحيثية، التي
يرجع تاريخها أيضًا إلى نفس الفترة تقريبًا.
33 إن اتجاه تدفُّق التأثيرات لهو مسألةٌ محلُّ جدال
علمي، ولكن أوجه التشابه المعماري تُوحي بأن المنطقتين كانتا على
اتصال وكان بينهما تأثيرات متبادلة.
نعرف، من المكتَشَفات الفخارية الميسينية في منطقة شرق المتوسط
التي يَرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد والواردات
المصرية والقبرصية والكنعانية وغيرها من الواردات التي عُثِر عليها
في منطقة إيجه أثناء نفس الفترة، أنه كان ثمة تبادُل تجاري نشط بين
الميسينيين، ومصر وقبرص وقوى أخرى في منطقة شرق المتوسط خلال تلك
السنوات. كانوا قد استولوا من المينويين على طرق التجارة بحلول ذلك
الوقت، وازدادت في الواقع التجارة في هذه الفترة، حسبما ذُكِر
أعلاه.
في الواقع، مؤخرًا قام الأثريون الذين يُنقِّبون في موقع تيرنز،
الذي يقع في إقليم بيلوبونيز في البر الرئيسي لليونان، بتوثيق أدلة
تشير إلى أن ربما كان يوجد مجموعة معينة من القبارصة تعيش في تيرنز
خلال أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهو ما يتَّفق تمامًا مع
اقتراحات تقدم بها الباحثون مفادُها أنه كان يوجد نوع ما من
العلاقة التجارية الخاصة بين تيرنز وجزيرة قبرص أثناء هذه الفترة.
وتحديدًا، يبدو أنه كان يوجد نوع ما من أشغال المعادن، وربما أيضًا
أشغال الخزف أو الخزف المزخرف، التي كان يَضطلع بها القبارصة في
تيرنز. كان ذلك هو الوقت الذي كانت تُوضَع فيه علامات مينوية
قبرصية على حاويات النقل الطينية الميسينية، التي كانت تُستخَدم
لشحن الخمور، وزيت الزيتون، وسلع أخرى، قبل تقسيتها بالنار. وعلى
الرغم من أن اللغة المينوية القبرصية لم تُتَرجَم بعدُ ترجمةً كاملة،
فإنه يبدو واضحًا أن هذه الأوعية كانت تُصَنَّع لسوقٍ معيَّنةٍ في
قبرص.
34
ومن المثير للدهشة أن ألواح النظام الخطي بي التي عُثِر عليها في
بيلوس ومواقع متنوعة أخرى على البر الرئيسي لميسينيا لا تذكر
تحديدًا التجارة أو الاتصال مع العالم الخارجي. أقرب ما تصل إليه
يشمل ما يبدو أنه كلمات أجنبية مُستعارة من الشرق الأدنى، حيث جاء
الاسم الأجنبي على ما يبدو مع الصنف. هذه الكلمات تشمل الكلمات
المرادفة للسمسم، والذهب، والعاج، والكمُّون؛ فعلى سبيل المثال،
كلمة «سمسم» في النظام الخطي بي هي
sa-sa-ma، المأخوذة من الكلمة
الأوغاريتية
ššmn، والكلمة
الأكادية
šammaššammu، والكلمة
الحورية
sumisumi.
35 على هذه الألواح يوجد أيضًا مصطلحات مثل
ku-pi-ri-jo، التي فُسِّرَت
على أنها تعني «قبرصي». يظهر هذا المصطلح ست عشرة مرة على الأقل في
الألواح في كنوسوس، حيث تُستخدَم لوصف التوابل، ولكنها تُستخدَم
مضافة مباشرة إلى كلمات صوف، وزيت، وعسل، وآنية، ومكونات مراهم
أيضًا. وتُستخدَم أيضًا في بيلوس كصفة عرقية لوصفِ أفرادٍ
مُرتبِطين برعي الماشية، وأشغال البرونز، وسلع مختلفة تشمل الصوف،
والقماش، والشب، وهو ما قد يعني أنه كان يوجد طائفة عرقية قبرصية
تعيش في بيلوس في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
36 ومن قَبيل ذلك، قد تكون لفظة ثانية، هي
a-ra-si-jo، بمثابة إشارة إلى
قبرص، حسبما كانت معروفة في منطقة شرق المتوسط، أي، باسم ألشية:
حيث كانت تُعْرَف باسم
a-la-ši-ia
باللغة الأكادية، وباسم
‘irsȝ باللغة المصرية،
وباسم
a-la-ši-ia باللغة الحيثية،
وباسم
altyy باللغة
الأوغاريتية.
37
يوجد أيضًا مجموعة من الأسماء العرقية التي فُسِّرَت على أنها من
غرب الأناضول، وهي بالدرجة الأولى لعاملات إناث، والتي عُثِر عليها
في نصوص النظام الخطي بي في بيلوس. وكلها تشير إلى مناطق تقع في
الساحل الغربي للأناضول، بما في ذلك ميليتوس، وهاليكارناسوس،
وكنيدوس، وليديا (آسيا). أشار أكثر من باحث إلى أنه قد يكون ثمة
ذكر أيضًا لنساء طرواديات في ألواح بيلوس تلك. وقد افتُرِض أن
هؤلاء النساء جميعهن ربما وقعن في الأسر أثناء الهجمات الميسينية
على الساحل الغربي للأناضول أو جزر دوديكانيسيا المجاورة.
38
يوجد أيضًا بضع كلمات محل جدال في نصوص النظام الخطي بي في كل من
بيلوس وكنوسوس، والتي أشار بعض الباحثين إلى أنها قد تكون أسماء
مشتقة من أسماء أماكن كنعانية تصف مُواطِني هذه الأماكن. هذه
الأسماء تشمل
Pe-ri-ta، ويعني
«الرجل الذي من بيروت»؛ و
Tu-ri-jo،
ويعني «الرجل الذي من صور»؛
و
po-ni-ki-jo، وتعني
«الفينيقي» (سواء الرجل أو التوابل). بالإضافة إلى ذلك، نجد أن اسم
A-ra-da-jo، ويعني «الرجل الذي
من أراد (أرواد)» موجود فقط في الألواح المكتشفة في
كنوسوس.
39 يوجد أسماء تبدو مصرية الأصل ولكنها ربما جاءت عن طريق
كنعان، ألا وهي:
mi-sa-ra-jo،
ويعني «مصري» و
a3-ku-pi-ti-jo،
ويعني «مَنفي (نسبة إلى مدينة منف)» أو «مصري». يأتي اللفظ الأول،
على ما يبدو، من الكلمة السامية
Miṣraim،
والتي تعني مصر، والتي من الشائع أكثر أن نجدها في الوثائق
الأكادية والأوغاريتية في بلاد الرافدين وكنعان. أما اللفظ الثاني،
فربما يكون هو الآخر مشتقًّا من إشارة من إحدى لغات الشرق الأدنى
إلى مصر، لأن الاسم الأوغاريتي الذي كان يستخدم لكل من مصر ومدينة
منف هو
Ḥikupta. ومن الغريب
بمكان أن الكلمة موجودة في لوح مكتوب عليه بالنظام الخطي بي في
كنوسوس بصفته اسم شخص كان مسئولًا عن قطيع من ثمانين من الغنم في
موقع كريتي؛ فهل من المحتمَل أنه كان معروفًا باسم
«المصري»؟
40
تُظْهِر كل هذه الكلمات الأجنبية المستعارة، الموجودة في الألواح
المكتوبة بالنظام الخطِّي بي، على نحوٍ مثيرٍ للاهتمام والفضول، أن
العالم الإيجي كان على اتصال بمصر ومنطقة الشرق الأدنى أثناء العصر
البرونزي المتأخِّر. قد يكون عدم امتلاكنا لأي سجلات توثق بيانات
وعمليات تبادل معينة أمرًا مستغربًا وقد لا يكون كذلك؛ لأنه ليس
بحوزتنا سوى السنة الأخيرة فقط من الأرشيف على أيِّ حال؛ إذ إنه من
الطبيعي في حالة الألواح التي كانت تتعرَّض لعمليات التدمير
وتُحْرَق عرضًا، أنه من الممكن أنها قد مُسِحَت (بدعك سطح الطين
بالماء) وأُعيد استخدامها كل عام أو حسب الحاجة. علاوة على ذلك،
نعرف أن الميسينيين استخدموا هذه الألواح فقط لتسجيل بعض الأنشطة
الاقتصادية للقصور. ومن المقبول تصور أن «أرشيف وزارة الخارجية»
كان له مقرات في أماكن أخرى في مواقع ميسينية متعدِّدة، مثل
السجلات المماثلة في العمارنة في مصر وفي حاتوسا في
الأناضول.
(٦) الخروج وفتوحات بني إسرائيل
فيما يختص بحرب طروادة، ومدينة طروادة، حوالي ١٢٥٠ق.م، لدينا كم
هائل من البيانات، حتى وإن كانت لا تزال غير قاطعة. غير أنه فيما
يتعلَّق بالحدث الآخر الذي يقال إنه جرى في نفس الفترة الزمنية
تقريبًا، فنملك أدلة أقل بكثير، بل إن ما نملكه أقل قطعًا. ذلك
الحدث يتعلق بخروج العبرانيين من مصر، الحكاية التي يرويها الكتاب
المقدس العبري.
حسب الرواية التوراتية، في أثناء حكم فرعون مصري لا يُعرَف اسمه،
قاد النبي موسى بني إسرائيل للخروج من العبودية في مصر. كانوا قد
استُعْبِدوا، حسبما يُخبرنا الكتاب المقدس العبري، بعد أن عاشوا
أحرارًا في مصر طيلة قرون عديدة. يقول سفر الخروج إنه كان قد مضى
على وجودِهم في مصر أربعمائة سنة من وقتِ أول وصول لهم في أثناء
حياة يعقوب، أحد الآباء الأجلَّاء التوراتيِّين، ربما في حوالي
القرن السابع عشر قبل الميلاد. إن كان الأمر كذلك، فسيكونون قد
قدموا إلى مصر أثناء عصر الهكسوس ثم بقوا في مصر أثناء أوج العصر
البرونزي المتأخِّر، بما في ذلك حقبة العمارنة. في عام ١٩٨٧، اكتشف
عالم المصريات الفرنسي آلان زيفي مقبرةَ رجل يُسمى أبير إل، وهو
اسم سامي، عَمِل وزيرًا (أعلى مسئول مُعَيَّن) للفرعونَين أمنحتب
الثالث وإخناتون أثناء القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
41
على أيِّ حال، كما تمضي الرواية التوراتية، خرج العبرانيون،
يقودهم موسى، من مصر على عجل بعد أن أدَّت الضربات العشر، التي
أحاقها إله العبرانيِّين بالمصريين، إلى اقتناع الفرعون المصري
أنه من غير المجدي الإبقاء على هذه الأقلية من السكان مُستعبَدةً.
حسب الرواية، شرع بنو إسرائيل بعد ذلك في رحلة دامت أربعين سنة
وقادتْهم في نهاية المطاف إلى أرض كنعان والحرية. أثناء فترة
التِّيه، يقال إنهم تبعوا عمود دخان نهارًا وعمود نار ليلًا،
ويأكلون من حين لآخر المنَّ الآتيَ من السماء. وبينما هم في طريقهم
إلى كنعان، تلقَّوا الوصايا العشر على جبل سيناء وصنعوا تابوت العهد
ليَحملوها فيه.
أصبحت قصة الخروج هذه إحدى أشهر حكايات الكتاب المقدس العبري
وأكثرها ثباتًا، وما زال يُحْتَفَل بها في وقتنا هذا أثناء عطلة
عيد الفصح اليهودي. ومع ذلك فهي أيضًا واحدة من أصعب القصص من
ناحية التثبُّت منها سواء عن طريق النصوص القديمة أو الأدلة
الأثرية.
42
تُشير الأدلة في القصص التوراتية إلى أنه «إذا» كان الخروج قد
حدث بالفعل، فإنه حدث أثناء منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛
لأن الكتاب المقدس يروي أن العبرانيِّين في ذلك الوقت كانوا
مشغولين ببناء «مدينتَي مخازن» تُسمَّيان فيثوم ورعمسيس للفرعون
(سفر الخروج، الإصحاح ١، الآيات ١١–١٤). تُشير التنقيبات الأثرية
في مواقع هاتين المدينتَين القديمتين إلى أن سيتي الأول، الذي ربما
كان «الفرعون الذي لم يعرف النبي يوسف»، شرع فيهما في حوالي
١٢٩٠ق.م، وأكملهما رمسيس الثاني (حوالي ١٢٥٠ق.م)، الذي ربما يكون
هو فرعون الخروج.
رمسيس الثاني معروف جيدًا لدى السائحين المعاصرين الذين يزورون
مصر، وهواة أدب القرن التاسع عشر؛ لأن تمثاله الساقط في الرامسيوم —
معبده الجنائزي في مصر بالقرب من وادي الملوك — هو الذي دفع بيرسي
بيش شيلي لكتابة القصيدة الشهيرة «أوزيماندياس»:
قابلتُ مسافرًا من بلدٍ قديم
قال: «ساقان حَجَريان كبيران بلا جذع
يقفان في الصحراء. وبجوارهما على الرمال
يستلقي وجهٌ مُهشَّم نصفُ غارقٍ، يدل
عبوسه
وشفاهه المجعَّدة، وسخرية أوامره
الفاترة،
أن نحاته قرأ تلك المشاعر جيدًا،
والتي بقيَت مطبوعة على هذه الأشياء التي لا
حياةَ فيها،
بعد فناء اليد التي صوَّرت ذلك بسخرية، والقلبِ
الذي غذَّى هذا.
وعلى قاعدة التمثال تظهر هذه الكلمات:
«اسمي أوزيماندياس ملك الملوك:
انظروا إلى أعمالي أيها الجبابرة
واعتبروا!»
لا شيء سيَبقى بعدُ. وحول تحلُّل
ذلك الحطام الضخم، بلا حدودٍ ولا غطاء،
تمتد الرمال المنعزلة المستوية على مد
البصر.»
نُشِرَت القصيدة في عام ١٨١٨، قبل خمسة أعوام فقط
من نجاح جان-فرانسوا شامبليون في فك شفرة الكتابة الهيروغليفية
المصرية. فاضطرَّ شيلي إلى أن يعتمد على الترجمة غير الصحيحة
للمؤرخ اليوناني القديم ديودوروس الصقلي للاسم الذي حمله رمسيس
الثاني عند اعتلاء العرش والذي كان «أوزيماندياس»، وليس الاسم
الصحيح أوسر ماعت رع-ستب إن رع.
43
لسوء الحظ، لا يُجدي تحديد هوية فرعون الخروج على أنه رمسيس
الثاني — وهو تحديد الهوية الأكثر شيوعًا في كلٍّ من الكتب
الأكاديمية والشعبية — إذا ما أراد المرء أن يتتبع التسلسل الزمني
الذي يقدمه الكتاب المقدس. تُحدِّد الرواية التوراتية الفترة
الزمنية للخروج على أنها في حوالي عام ١٤٥٠ق.م، استنادًا إلى
التصريح الوارد في سفر الملوك الأول (الإصحاح ٦، الآية ١) بأن
الحدث وقع قبل نحو ٤٨٠ سنة من بناء سليمان للهيكل في أورشليم
(والذي يُحدد تاريخه بحوالي سنة ٩٧٠ق.م). غير أن تاريخ ١٤٥٠ق.م هذا
يقع قرب نهاية حكم الفرعون تحتمس الثالث، في وقتٍ كانت فيه مصر قوة
جبارة للغاية في منطقة الشرق الأدنى. كما رأينا، كان تحتمس الثالث
مسيطرًا سيطرة مُحكمة على أرض كنعان، بعد أن خاض معركة كبرى عند
موقع مجِدُّو سنة ١٤٧٩ق.م من المستبعد للغاية أن يكون قد سمح لبني
إسرائيل بالهروب من مصر إلى ذلك الإقليم، أو يكون خلفاؤه قد سمحوا
لهم بأن يهيموا على وجوههم مدة أربعين سنة قبل أن يستقرُّوا،
وبخاصة لأن مصر كانت تحتفظ بسيطرة محكمة على الإقليم حتى بعد حكم
تحتمس الثالث. بالإضافة إلى ذلك، ليس ثمة أدلة على وجود لبني
إسرائيل/العبرانيين في أرض كنعان أثناء القرن الخامس عشر قبل
الميلاد ولا أثناء القرن الرابع عشر قبل الميلاد، الأمر الذي كان ينبغي
أن يحدث لو كان الخروج قد حدث حوالي سنة ١٤٥٠ق.م.
لذلك، يفضِّل معظم الأثريين العلمانيين تاريخًا بديلًا هو عام ١٢٥٠ق.م للخروج، وهو
ما يتجاهل التسلسل الزمني التوراتي ولكنه أكثر
منطقية من وجهة نظر أثرية وتاريخية. وهو أكثر منطقية لأن التاريخ
يقع في نطاق فترة حكم رمسيس الثاني، الفرعون الذي أتمَّ بناء
مدينتي فيثوم ورعمسيس الوارد ذكرهما في الكتاب المقدس. وهو أيضًا
يتماشى مع التاريخ التقريبي لدمار عدد من المدن في كنعان على يد
جهة غير معلومة ويَسمح بفترة تصل إلى أربعين سنة لأن يهيم بنو
إسرائيل على وجوههم في الصحراء قبل أن يدخلوا كنعان ويُخضِعوها،
حسبما تصور الرواية التوراتية، ومع ذلك لا يزالون يصلون في الوقت
المناسب لأن يذكرهم الفرعون مرنبتاح فيما يُطْلَق عليه «لوح
إسرائيل»؛ وهو نقش يرجع تاريخه إلى عام ١٢٠٧ق.م وهو أقدم ذِكرٍ
خارج الكتاب المقدس لكيان يُعْرَف باسم إسرائيل.
44
يرجع تاريخ هذا النقش، الذي ذكرته بشكل عابر في الفقرة السابقة،
إلى العام الخامس من حكم الفرعون مرنبتاح. اكتشفه السير ويليام
ماثيو فلندرز بتري في فبراير من عام ١٨٩٦ دَاخِل معبد مرنبتاح
الجنائزي، الذي يقع بالقرب من وادي الملوك على ضفة نهر النيل مقابل
مدينة الأقصر الحديثة. على اللوح، يزعم نقش مرنبتاح أنه أخضع شعبًا
يُعرَف باسم «إسرائيل»، في إقليم كنعان. ونصه، على وجه التحديد،
كما يلي:
يقول الملوكُ خاضعين: «الرحمة!»
ولم يعدْ أحد يرفع رأسه من أقوام الأقواس التسعة.
تحنو قد خربت؛ وخاتي أصبحت مسالمة؛
وكنعان أُسرت مع كل خبيث؛
وقُضي على أشْقَلُون؛ واسْتُولي على جِزِر؛
جُعِلَت ينوعام كأنما لا وجود لها؛
وإسرائيل دُمِّرُوا، ولم يعدْ لهم نسل؛
وخارو أمست أرملةً لمصر!
كل البلاد قاطبة صارت مسالمة؛
كل من كان هائمًا، صار موثقًا.
45
على الرغم من أن أعمال تنقيب أُجريت في مواقع عديدة يُحتمَل أن
تكون ذات صلة بالخروج، ومن بينها أعمال الحفر الحديثة العهد
الجارية في حاصور في إسرائيل وفي تل البرج في شمال سيناء،
46 فإنه حاليًّا لا يوجد تقريبًا شيء يسلط ضوءًا محدَّدًا
على الصحة التاريخية للخروج؛ فكل ما هو موجود حتى الآن عبارة عن
استدلالات.
من ناحية أخرى، ما الذي يتوقع المرء أن يجده من قطع أثرية لبني
إسرائيل الذين كانوا يعيشون في خيام في الصحراء مدة أربعين عامًا
منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام؟ إذا كانوا يهيمون على وجوههم،
بدلًا من العيش في أبنية دائمة، فمن المحتمل أنهم كانوا سيستخدمون
خيامًا وحُفرًا للأوتاد، مثلما يفعل البدو في وقتنا الحاضر؛ ولذلك
فالأثري الذي يبحث عن بقايا منظورة للخروج من المحتمل ألَّا يعثر على
بقايا أبنية دائمة، كما أن حُفر أوتاد الخيام ستكون قد محيت من
الوجود منذ أمد بعيد.
وبالمثل، فإن جهودًا كثيرة لتحديد الضربات العشر التوراتية التي
ابتُلي بها المصريون، والتي اشتملت على ضربة الضفادع، وضربة
الجراد، وضربة الدمامل، وضربة الذباب، وضربة البَرَد، وضربة موت
الأبكار من أطفال المصريِّين، قد باءت بالفشل، أو كانت غير مقنعة،
رغم أن ذلك بالتأكيد لم يكن راجعًا إلى التقاعس عن
المحاولة.
47 أيضًا لا يوجد دليل يؤكد الرواية التوراتية الخاصة
بانشقاق البحر الأحمر (بحر الغاب). إجمالًا، رغم المحاولات التي لا
تُحصى (التي عُرِض كثير منها على قنوات تليفزيون كابل) لاقتراح
فرضيات من شأنها أن تعلِّل الظاهرة التي وصفها الكتاب المقدس، ومن
بينها جهود لربط الأمر بثَوَران بركان سانتوريني في منطقة إيجه،
ظلت الأدلة القاطعة، سواء كانت أثرية، أو جيولوجية، أو غيرها،
بعيدة المنال.
قد يتساءل المرء عن الدليل الذي يمكن أن يأمل أثريٌّ في العثور
عليه لإثبات انشقاق البحر: هل البقايا التي غمرتها المياه لقائدَي
عجلات الفرعون الحربية الغارقَين، مع خيولهم، وعرباتهم، وأسلحتهم؟
حتى الآن، لم يظهر أي شيء للنور، رغم ظهور مزاعم بين الحين والآخر
تدَّعي العكس.
48 لا يُمكننا حتى قبول الزعم القائل بأن انشقاق البحر
نتج عن أمواج تسونامي (موجة مدية) نجمت عن ثوران بركان سانتوريني
في منطقة إيجه، لأن تاريخ ثوران البركان قد تراجع إلى عام ١٥٥٠ على
الأقل، وعام ١٦٢٨ق.م على الأرجح، استنادًا إلى تواريخ مستقاة من
تجارب الكربون المشع والعيِّنات اللبِّية الجليدية، بينما من
المرجح أن يرجع تاريخ الخروج في أقرب تقدير إلى ١٢٥٠ق.م، أو
١٤٥٠ق.م
49 ومن ثَمَّ، فإن قرنًا على الأقل (من ١٥٥٠ق.م إلى
١٤٥٠ق.م) أو على الأرجح أربعة قرون (من ١٦٢٨ق.م إلى ١٢٥٠ق.م) تفصل
بين الحدثَين، وهو ما يَعني أن الجهود لتفسير انشقاق البحر الأحمر
والضربات التوراتية على أنها ظواهر مرتبطة بثوران البركان هي جهود
خاطئة تمامًا.
يصف سفر يشوع في الكتاب المقدس العبري بالتفصيل فتح المدن
الكنعانية على يد بني إسرائيل الغزاة. استنادًا إلى هذه الرواية،
كان يُمكِن للمرء أن يتوقَّع أن يجد أدلة على دمار واسع النطاق في
المواقع الكنعانية التي جرت فيها أعمال تنقيب، مثل مجدُّو، وحاصور،
وبيت إيل، وآي، وغيرها. مع ذلك، يجب ألَّا يغيب عن أذهاننا الرواية
المناقضة نوعًا ما في سفر القضاة، التي تعطي صورة مختلفة قليلًا
(أطول وأقل دموية) عن الفتح، والتي فيها عاش بنو إسرائيل
والكنعانيون معًا في مدن مختلفة. تكمن المشكلة، كما أبرزنا في موضع
آخر،
50 في أنه يوجد أدلة أثرية قليلة جدًّا تدعم حكايات
الكتاب المقدس عن تدمير المدن الكنعانية في ذلك الوقت. يُعتقد
حاليًّا أن موقعي مجِدُّو ولاخيش قد دُمِّرا بعد ذلك بأكثر من قرن،
في حوالي ١١٣٠ق.م، كما سنرى لاحقًا، ولا يوجد دليل في مواقع أخرى،
مثل أريحا، على حدوث تدمير في أي وقت من القرن الثالث عشر ولا حتى
في القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
لا تزال حاصور وحدها تشكل احتمالًا ممكنًا، لأنه من الواضح أن
القصر (أو المعبد) في المدينة العالية الذي يَرجع تاريخه إلى العصر
البرونزي المتأخِّر قد احترق وعلى الأقل جزء من المدينة قد دُمِّر،
حسبما يُستدَل على ذلك من عوارض الأسقف الخشبية الساقطة والجِرار
المملوءة بقمح محروق. هذه الصروح، التي بُنيت أثناء ما كانت حاصور
في أوجها في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقتما ورد ذكرها في
رسائل العمارنة المصرية، تضرَّرت بشدة أثناء التدمير، كما تضررت
بوابة المدينة، التي دُمِّرَت «في «حريق رهيب ومدمر»، ممثَّل في
أكوام من الطوب اللَّبِن الساقط والرماد يصل ارتفاعه إلى ١٫٥
متر.»
51 كشفت أحدث التنقيبات في التل العلوي للمدينة عن المزيد
من نفس الشيء: «طبقات كثيفة من الرماد، وعوارض خشبية محترقة،
وألواح بازلت متصدِّعة، وطوب لَبِن تحول إلى زجاج، وجدران منهارة،
وتماثيل بازلتية مشوهة.»
52 بوجه خاص، كانت بقايا الأبنية العامة والدينية من
«طبقة ١إيه» في منطقة الشعائر وفي مواضع أخرى في حاصور «مغطاة
تمامًا ومُغلَقة بإحكام بحطام الدمار الكثيف.»
53
مع ذلك لا يزال تاريخ هذا التدمير مثار جدال، وإن كان المنقِّب
الأصلي، يجائيل يادين، وأمنون بن تور، أحد المنقِّبين الحاليِّين
المشاركين في الموقع، يفضلان كلاهما تاريخ ١٢٣٠ق.م تقريبًا. ومع
ذلك، من المحتمل أن يكون التدمير قد حدث لاحقًا، ربما حتى في أوائل
القرن الثاني عشر قبل الميلاد. سيكون علينا أن ننتظر نتائج
اختبارات الكربون المشع على جِرار التخزين المملوءة بالقمح، التي
عُثِر عليها في الموقع خلال صيف ٢٠١٢، للوصول إلى إجابة علمية
قاطعة.
هوية مرتكبي التدمير غير مؤكدة هي الأخرى. قدَّمَ المُنقِّبون
الحديثو العهد حُجةً جيدةً للقول بأنهم لم يكونوا المصريِّين ولا
الكنعانيين؛ لأن تماثيلَ تنتمي إلى كلتا الحضارتين تعرَّضَت للتشويه
أثناء التدمير، الأمر الذي ما كان ليفعلَه جنود هذَين الجيشَين.
استُبْعِدَت شعوب البحر هي الأخرى من أن تكون هي مَن فعَلَتها،
استنادًا إلى عدم وجود أوانٍ فخارية تعريفية وبُعدِ المسافة عن
البحر، رغم أن مثل هذه الحُجَج تبدو أقلَّ إقناعًا. يتَّفق بن تور
عمومًا مع المنقِّب السابق في الموقع يجائيل يادين على أنَّ أرجح
وأكثر معاول التدمير منطقية هم بنو إسرائيل، بينما ترى المديرة
المشاركة الأخرى، شارون زوكرمان، أن ثمَّة فترة تَدهوُر تَسبِق
مباشرةً التدمير وتَقترح أن الدمار ربما يكون قد تسبَّب فيه تمرُّد
داخلي لسكان المدينة أنفسهم، ظلَّت بعده المدينة مهجورةً حتى وقتٍ
ما خلال القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
54
باختصار، على الرغم من أنه من الواضح أن حاصور دُمِّرَت في القرن
الثالث عشر أو الثاني عشر قبل الميلاد، وبقيَت مهجورةً لقرن أو
أكثر بعد ذلك، فإنه ليس من الواضح بالضبط متى أو على يد مَن
دُمِّرَت. وبالمِثل، فإن سؤال ما إذا كان الخروجُ العِبري من مصر
حدثًا فعليًّا أم مجرد جزء من أسطورة وخرافة — يهتم بها الكثير من
الناس من مختلف أنحاء العالم — يظلُّ بلا إجابة في الوقت الحالي.
لن يسفر إفراغ الأدلة المتاحة في قوالب جديدة عن جواب نهائي. من
الجائز أن يتأتَّى حلُّ السؤال في اكتشافٍ مُستقبَلي إما عن طريق
بحث أثري دءوب أو كشف وليد الصدفة. وقد يكون أحد التفسيرات البديلة
لقصة الخروج صحيحًا. هذه البدائل تشمل احتمال أن يكون بنو إسرائيل
قد استغلوا الخراب الذي تسبَّبت فيه شعوب البحر في كنعان ليحتلوا
المنطقة ويُسيطروا عليها؛ أو احتمال أن بني إسرائيل كانوا في
الواقع جزءًا من جماعة الكنعانيِّين الأكبر عددًا الذين كانوا
بالفعل يعيشون في الأرض؛ أو احتمال أن بني إسرائيل كانوا قد
هاجَرُوا بسلام إلى المنطقة على مدى قرون. إذا كان أحد هذه البدائل
هو التفسير الصحيح لكيفية انتهاء المطاف بالعبرانيِّين بالاستقرار
في أرض كنعان، فعندئذٍ من المحتمل أن تكون قصة الخروج قد اختُلِقَت
بعد قرونٍ لاحقة، كما اقترح العديد من الباحثين. في نفس الوقت،
سيكون من الأفضل أن نظلَّ واعين باحتمال الغش؛ لأن كثيرًا من
الادعاءات السيئة السمعة قد ابتُدِعَت بشأن أحداث، وأشخاص، وأماكن،
وأشياء متَّصلة بالخروج. ومما لا شك فيه أن المزيد من المعلومات
المغلوطة، سواء عن قصد أو لا، سيَصدُر في المستقبل.
55
في الوقت الحاضر، كلُّ ما بوسعنا قوله جازِمين هو أنَّ الأدلة
الأثرية، المتمثِّلة في الأواني الفخارية، والعمارة، وجوانب
الثقافة المادية الأخرى، تدلُّ على أن بني إسرائيل باعتبارهم جماعة
محدَّدة لها خصائصها التي يُمكن التعرف عليها منها كانوا قَطعًا
موجودين في كنعان بنهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وأن
حضارتهم، إلى جانب حضارة الفلستيين والفينيقيين، هي ما ينبثق من
رماد دمار الحضارة الكنعانية في وقتٍ ما خلال القرن الثاني عشر قبل
الميلاد. هذا، جزئيًّا، هو السبب وراء كون مسألة الخروج وثيقة
الصِّلة في هذا السياق؛ لأنَّ بني إسرائيل يأتون ضمنَ مجموعات
الشعوب التي سوف تُشكِّل نظامًا عالميًّا جديدًا، ينبعث من الفوضى
التي كانت هي نهاية العصر البرونزي المتأخِّر.
(٧) الحيثيون والآشوريون، والعموريون، والأخياويون
آخر ملوك الحيثيين — وبخاصة توداليا الرابع (١٢٣٧–١٢٠٩ق.م)
وسابيليوليوما الثاني (١٢٠٧–؟ق.م) — كانوا نَشِطين للغاية أثناء
الربع الأخير من القرن الثالث عشر، من حوالي ١٢٣٧ق.م، على الرغم من
أن علامات اقتراب نهاية عالَمهم وحضارتهم كانت قد بدأت في الظهور.
أمَرَ توداليا بأن يُنْحَت بانثيون كامل للآلهة والإلهات في صخرة
نتوء كلسي في يازليكايا (والتي تعني «الحجر المنقوش»)، إلى جانب
تمثيلٍ له هو نفسه، على بُعدِ كيلومتر أو نحوه فحسب من العاصمة
الحيثية حاتوسا.
في ذلك الوقت، كان الحيثيون في حالة حرب مع الآشوريِّين في بلاد
الرافدين. سبق وأن التقَينا بالآشوريِّين في فصل سابق، في سياق
تناول آشور أوباليط الأول، الذي حكم آشور في عصر فراعنة العمارنة،
والذي نهب وخرب بابل بعد أن باء بالفشل تحالفٌ بين القوتين عن طريق
الزواج.
56 كان الآشوريُّون، بعد فترة قصيرة من الخمود النِّسبي
الذي أعقب حكم آشور أوباليط، قد عاودُوا الظهور من جديد تحت حكم
مَلِكهم، أداد نيراري الأول (١٣٠٧–١٢٧٥ق.م). وتحت قيادته وقيادة
خلفائه، برَز الآشوريون بصفتهم قوة كبرى في منطقة الشرق الأدنى في
بداية القرن الثالث عشر.
من بين إنجازات أخرى، حارب أداد نيراري الأول الميتانيِّين،
واستولى على واشوكاني ومدن أخرى. ووضَع ملكًا تابعًا له على عرشهم
ووسَّع الإمبراطورية الآشورية إلى الغرب بصورة كافية لدرجة أن
حدودها بلغت في ذلك الوقت بلاد الحيثيين وكادت تصل إلى البحر
المتوسط. ربما لم يكن ذلك بالصعوبة التي يبدو عليها، لأن الحيثيين
في ظل حكم سابيليوليوما الأول كانوا قد سبق وأن ألحقوا بالميتانيين
هزيمة ساحقة قبل ذلك بعقود عديدة.
57
بعد حكم شلمنصر الأول (١٢٧٥–١٢٤٥ق.م)، الذي تابع الكثير من
سياسات أداد نيراري وربما يكون هو من قضى أخيرًا على المملكة
الميتانية،
58 ظهر على الساحة الدولية واحد من أعظم «ملوك آشور
المُحارِبين»، وهو توكولتي نينورتا الأول، الذي حكم من حوالي ١٢٤٤
إلى ١٢٠٨ق.م سار توكولتي نينورتا الأول على خُطى سلَفه في القرن السابق، آشور أوباليط
— ولكنه ربما كان أيضًا يحاكيهم — عندما قرَّر
أن يُهاجم بابل. ومع ذلك، تجاوز توكولتي نينورتا الأول إنجازات
آشور أوباليط؛ فلم يَهزم الملك البابلي الكيشي كشتيلياش الرابع في
الحرب ويَجلبه إلى آشور مكبَّلًا في الأغلال فحسب؛ بل استولى أيضًا
على مملكتِهم بحلول عام ١٢٥٥ق.م تقريبًا ليَحكمهم ويُولِّي نفسه
ملكًا عليهم قبل أن يُنَصِّب مَلِكًا دميةً ليحكم نيابة عنه، ولكن
هذه الخطوة لم تكن ناجحة بقدر كبير؛ لأن الملك الدمية، إنليل نادين
شومي، تعرَّض بعد ذلك مباشرة تقريبًا للهجوم عليه وأُطيح به على يد
جيش عيلامي زحَف جنودُه من موطنِهم في الشرق على الهضبة الإيرانية،
في جنوب غرب إيران حاليًّا. لن تكون تلك هي المرة الوحيدة التي
يَحدُث فيها هذا؛ إذ سنَلتقي بالعيلاميِّين مرة أخرى
قريبًا.
59
بالإضافة إلى إنجازاته الأخرى، هزم توكولتي نينورتا الأول، الملك
الآشوري المحارب، أيضًا الحيثيين تحت حكم توداليا الرابع، محدثًا
بذلك تغييرًا جذريًّا في ميزان القوى في الشرق الأدنى القديم. حتى
إنه اقْتُرِح أنه بلَغ من القوة حد أنه بعث مَنًّا (وحدة قياس وزن
في الشرق الأدنى، ربما تعادل ما يزيد قليلًا على الرطل الأمريكي
المعاصر) من اللازورد هديةً إلى الملك الميسيني في ثيفا في إقليم
بيوتيا في البر الرئيسي لليونان، بعيدًا جدًّا عبر بحر
إيجه.
60
نتيجة لذلك، بحلول وقتِ وقوع أول هجوم لشعوب البحر على منطقة شرق
المتوسط في ١٢٠٧ق.م، بعد عام واحد فقط من اغتيال توكولتي نينورتا
على يد أحد أبنائه، كانت آشور قد أصبحت واحدة من القوى الفاعلة
الرئيسية في المشهد الدولي في الشرق الأدنى القديم لما يَقرُب من
مائتي سنة. كانت مملكةً متَّصلة عبر القرون بالمصريِّين،
والبابليين، والحيثيين، والميتانيين عن طريق الزواج، والسياسة،
والحرب، والتجارة. وكانت، بلا شك، واحدة من القوى العُظمى أثناء
العصر البرونزي المتأخِّر.
خلال حكم الملك الآشوري توكولتي نينورتا، واجهت إمبراطورية
الحيثيين تهديدًا واضحًا وخطيرًا وكان الحيثيون عازِمين على إيقاف
محاوَلة أيِّ أحد في التحرُّك إلى الداخل من الساحل إلى الأراضي
الآشورية في الشرق. تضمَّنت إحدى الاستراتيجيات معاهَدة وُقِّعَت
في ١٢٢٥ق.م تقريبًا بين توداليا الرابع، ملك الحيثيين، وشوشجاموا،
صهره عن طريق الزواج. كان شوشجاموا ملك عمورو، الذي سيطر على
المناطق الساحلية لشمال سوريا التي أتاحَت منفذًا محتمَلًا إلى
الأراضي الآشورية. في المعاهدة، يُستدعى الولاء الذي أصبح مألوفًا
لدينا؛ فعدوُّ صديقي هو عدوي أنا أيضًا؛ وصديق صديقي هو صديقي أنا
أيضًا. لذلك، كتب توداليا الرابع (الذي يُشير إلى نفسه بصيغة
الغائب بقوله «جلالتي») إلى شوشجاموا مصرِّحًا:
إذا كان ملك مصر صديقًا لجلالتي، فعندئذٍ يكون صديقًا لك.
ولكن إذا كان عدوًّا لجلالتي، فعندئذٍ يكون عدوًّا لك. وإذا
كان ملك بابل صديقًا لجلالتي، فعندئذٍ يكون صديقًا لك، ولكن
إذا كان عدوًّا لجلالتي، فعندئذٍ يكون عدوًّا لك. وحيث إن
ملك آشور عدوٌّ لجلالتي، عندئذٍ يكون بالمثل عدوًّا لك. لن
يذهب تاجرك إلى آشور، ولن تسمح لتاجرِه أن يدخلَ أرضك. ولن
يمرَّ من أرضك، ولكن إذا دخَل أرضك، فاقبض عليه وأرسله
إلى جلالتي. فلتُقسِم على ذلك الأمر.
61
في دراستنا للعالم القديم، يوجد عنصران لهما أهمية خاصة في
معاهدة التقدير المتبادل هذه. العنصر الأول هو أن توداليا الرابع
يقول لشوشجاموا: «[لن تسمح (؟)] لأي سفينة [تخص] أخياوا أن تصل إليه
(يقصد إلى ملك آشور)».
62 يعتقد كثير من الباحثين أن هذه إشارة إلى حظر؛ الحظر
المذكور في نهاية الفصل السابق. إن كان الأمر كذلك، رغم أنه يُعتقد
عادةً أن الحظر مفهوم عصري إلى حدٍّ كبير، فيبدو أن ثمة حظرًا قد
فرضه الحيثيون على الآشوريِّين منذ أكثر من ثلاثة آلاف
عام.
63
العنصر الثاني هو حقيقة أن توداليا الرابع كان قد كتب قبل ذلك
ببضعة سطور: «والملوك المساوون لي من ناحية المرتبة هم ملك مصر،
وملك بابل، وملك آشور، و
»
64 الشطب على كلمتي «ملك أخياوا» ليس خطأ في الطباعة في
هذا الكتاب؛ وإنما هو شطب موجود على اللوح الطيني الخاص بتوداليا
الرابع. بعبارة أخرى، ما لدينا هنا هو عبارة عن مسودة أولية
للمعاهَدة، والتي لا يَزال من الممكن أن يُحْذَف منها، أو يُضاف
إليها، أو تُعَدَّل فيها بنود. الأهم من ذلك، أن بحوزتنا عنصرًا
يدلُّ على أن ملك أخياوا لم يعد يُعتبر مساويًا في المرتبة للقوى
الكبرى الأخرى في عالم العصر البرونزي المتأخِّر؛ وهم ملوك مصر،
وبابل، وآشور، والحيثيين.
من المنطقي أن نسأل عما حدث في منطقة إيجه، أو في الساحل الغربي
للأناضول، ليتسبب في هذا الوضع. لا بد وأنها واقعة حديثة العهد إلى
حدٍّ كبير؛ إذ نذكُر أنه أثناء حكم حاتوسيلي الثالث، والد توداليا
الرابع، كان الحاكم الحيثي قد أشار إلى ملك أخياوا على أنه «الملك
العظيم» و«الأخ». ربما يُمكن العثور على دليل في أحد نصوص أخياوا،
المعروف باسم «رسالة ميلاواتا». تُوضِّح الرسالة، التي ترجع على
الأرجح إلى زمن توداليا الرابع، بجلاء أن مدينة ميلاواتا (ميليتوس)
والمنطقة المحيطة بها على الساحل الغربي للأناضول، والتي كانت
يومًا ما تُمثِّل الوجود الرئيسي للميسينيين في المنطقة، لم تعد
تتبَع ملك أخياوا وإنما كانت حينئذٍ تحت سيطرة الحيثيين.
65 ربما كان ذلك يعني أن ملك أخياوا لم يعد ملكًا عظيمًا
في نظر الملك الحيثي. ومع ذلك، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار احتمال
أن تخفيض الملك الحيثي لمرتبة الحاكم الميسيني ربما كان نتيجةً
لحدث ما أكبر حجمًا، وأنه ربما يكون أمرًا ما قد حدث في منطقة
إيجه؛ أي في البر الرئيسي لليونان، كما سنرى في الفصل
التالي.
(٨) الغزو الحيثي لقبرص
في غضون ذلك، وبينما كان كل ذلك يجري، قرَّر توداليا الرابع أن
يُهاجم جزيرة قبرص. كانت الجزيرة مصدرًا رئيسيًّا للنحاس طوال
الألفية الثانية قبل الميلاد، ومن المحتمل أن الحيثيين قرَّروا أن
يُحاولوا السيطرة على هذا المعدن الثمين، الذي يشكل العنصر الأساسي
لصنع البرونز. ومع ذلك، لسنا متيقنين بشأن دوافعه للهجوم على قبرص.
ربما كان لها، بدلًا من ذلك، علاقة بالظهور المحتمل لشعوب البحر في
المنطقة أو بالجفاف الذي يُعتقَد أنه قد حدث في منطقة شرق المتوسط
في ذلك الوقت، كما دلت اكتشافات علمية حديثة وكذلك نصوص معروفة منذ
عهد بعيد تذكر شحنة مساعدات طارئة من الحبوب أُرسلت من أوغاريت في
شمال سوريا إلى ميناء أورا في كِيلِيكِيَّةَ (الواقعة في جنوب شرق
تركيا).
66
ثمة نقش، كُتب في الأصل على تمثال لتوداليا لكنه أُعيد نسخه بعد
ذلك على لوح من زمن ابن توداليا، سابيليوليوما الثاني، مكتوب فيه:
«قبضتُ على ملك ألشية وزوجاته، وأبنائه، … كل الأغراض، بما في ذلك
الفضة والذهب، وكل الأسرى أخذتهم وجلبتهم عائدًا إلى حاتوسا.
استعبدتُ بلد ألشية، وجعلتها تابعة على الفور.»
67 لم يُعِدْ سابيليوليوما الثاني نسخ نقش توداليا الرابع
فحسب، بل زيادةً على ذلك أخضع هو نفسُه قبرص. ونصَّ النقش
المتعلِّق باستيلائه عسكريًّا على قبرص كالتالي: «أنا،
سابيليوليوما، الملك العظيم، [ركبت] بسرعة البحر. وحاربت سفن ألشية
في معارك بحرية ثلاث مرات. فقضيتُ عليهم. واستوليتُ على السفن
وأشعلت فيها النيران في عرض البحر. وعندما وصلتُ إلى اليابسة من
جديد، عندئذٍ هاجمني العدو من أرض ألشية في حشود [فقاتلتهم].»
68
من الواضح أن التوفيق كان حليف سابيليوليوما في هجماته البحرية
وربما في غزو قبرص، ولكن ليس واضحًا السبب الذي جعله يُقاتل ويغزو
الجزيرة مجددًا، بعد أن كان توداليا الرابع قد استولى عليها
بالفعل. ربما كان الغرض من محاولته ببساطة هو السيطرة (أو استعادة
السيطرة) على مَصادر النحاس أو على طرق التجارة الدولية في أوقات
كان الاضطراب فيها آخذًا في التصاعد. ولكنَّنا قد لا نعرف أبدًا
السبب في ذلك. أيضًا ليس واضحًا أين جرت المعركة البرية الأخيرة؛
اقترح الباحثون احتمالَين هما قبرص وساحل الأناضول.
أخذ سابيليوليوما الثاني، عند اعتلائه العرش بعد وفاة والده، اسم
سلفه الشهير من القرن الرابع عشر قبل الميلاد سابيليوليوما الأول
(رغم أن اسم الملك الجديد كان يُتَهَجى على نحو مختلف:
سابيليولياما وليس سابيليوليوما). ربما كان يأمل في تكرار بعض
نجاحات سلفه. إلا أنه انتَهى به الأمر إلى أن يكون هو المسئول عن
انهيار الإمبراطورية الحيثية. في سياق القيام بذلك، إلى جانب غزو
قبرص، قام هو ومعه الجيش الحيثي بحملة مرة أخرى في غرب
الأناضول.
69 يذكر أحد الباحثِين، في مقالة نُشِرَت مؤخرًا، ملاحظة
مفادها أن وثائق كثيرة ترجع إلى زمن سابيليوليوما الثاني «تشير إلى
تزايد عدم الاستقرار في العاصمة الحيثية وتزايد الشعور بانعدام
الثقة»، ولكن ربما كان من الأفضل استخدام كلمة «الاضطراب»، بالنظر
إلى ما كان على وشك أن يحدث.
70