ملوك غسَّان
بنو غسَّان عرب منتصرة كانوا عمالًا لقياصرة الرُّوم في الشام وأَصلهم يمنيون من بني قحطان هاجروا اليمن بعد سيل العرم، والعرم سد كان بجوار مدينة مأرب باليمن يعرف بسد مأرب تهدَّم في القرن الأوَّل للميلاد وطافت مياههُ على ما جاورهُ من البلاد والقرى فقلَّ سبيل الناس إلى الاستقاء فنزح أهلها إلتماسًا للرزق ومنهم الغساسنة نزلوا ضواحي الشام بقرب ماء اسمهُ غسَّان فنسبوا إليه واعتنقوا الديانة المسيحية ويسميهم مؤَرخو الإسلام العرب المنتصرة ويعرفون أيضًا بملوك غسَّان. وأوَّل من عرف منهم جفنة عاش في القرن الثاني للميلاد واتصل الملك بعده بنسلهِ فحكم منهم نحو ٢٧ ملكَّا آخرهم جبلة بن الأيهم وفى أيامهِ ظهر الإسلام وفتحت الشام على عهد الخليفة أبى بكر الصديق وانقرضت دولتهم كما سترى. ولكن منهم الآن بقية متبعثرة في ضواحي البلقاء واليرموك وحمص.
ومن العرب المنتصرة ملوك الحيرة ويقال لهم المناذرة (جمع المنذر) أو الملوك اللخميون نسبة إلى لخم بن عدي وهم من عرب اليمن نزحوا أيضا بعد السيل وأقاموا في العراق وكانوا عمالًا للفرس هناك ونسبتهم إلى ملوك الفرس كنسبة ملوك غسَّان إلى قياصرة الرُّوم أي أن كلًّا من الفريقين كانوا عمالًا لإحدى هاتين الدولتين.
فالغسَّانيون كانوا يقيمون في حوران والبلقاء وما جاورهما وكانوا أشبه شيء بالولاة المستقلين تحت رعاية الرُّومانيين فيمتازون عن ولاة الرُّوم باستقلالهم في حكومتهم الداخلية تحت شروط معلومة فيؤَدون الجزية ويمدون الرُّومانيين بالجند من قبيلتهم عند الحاجة وخصوصًا في حروبهم مع الفرس. أو لعلهم كانوا من قبيل أَصحاب الإقطاعات والمتعهدين.
وكان العالَم قبيل الإسلام تتنازعه دولتان عظيمتان الفرس في الشرق والرُّومان في الغرب لا يكاد يفتر النزاع بينهما فيستعين الفرس بالمناذرة ويستعين قياصرة الرُّوم بالغساسنة فتولد بين تينك القبيلتين العربيتين المسيحيتين ضغائن توارثها الأبناء عن الآباءِ وكثيرًا ما كانت تقوم الحرب بينهما حتى يكاد يبيد أحدهما الآخر.
والنزاع بين الفرس والرُّوم قديم وكأَنهُ طبيعي بين المشرق والمغرب فقد كانت الحروب متواصلة قبلًا بين الفرس واليونان ثم بين الفرس والرُّومان وكانت عاصمة الفرس المداين بالعراق وعاصمة الرُّومان القسطنطينية فقضوا أجيالًا متوالية وهم بين حرب وصلح تارة يجردون الجند وطورًا يعقدون الصلح. ففي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد كان ملك الفرس كسرى رويز وإمبراطور الرُّوم موريسيوس (والعرب تسميهِ موريقى) فثارت في بلاد الفرس ثورة داخلية آلت إلى خلع كسرى فالتجأَ إلى موريسيوس فساعده وأعاده إلى ملكهِ وكان ذلك داعيًا إلى مصالحة وهدنة. وفي سنه ٦٠٢م قتل موريسيوس هذا قتلهُ فوكاس (فوقا) وتولى هو الملك مكانهُ وكان على الفرس كسرى برويز المذكور وكان صهرا لموريسيوس قد تزوَّج ابنتهُ ماريا فلما سمع بمقتل حميهِ اعتبر معاهدة الصلح بينهما لاغية وحمل بجيشهِ على القسطنطينية متظاهرًا بالانتقام من قاتل حميهِ وهو يضمر الاستيلاء على مملكة الرُّوم فظلَّت القسطنطينية أثناء حكم هذا الإمبراطور في حصار دائم فملَّ الناس حكومته فثاروا عليهِ وأرادوا خلعهُ فاستدعوا هراكليوس (هرقل) ابن والى القيروان عن الرُّوم فجاءَ سنة ٦١٠م بعمارة بحرية ودخل القسطنطينية عنوة وقتل فوقا وتولى مكانهُ والفرس قد قاموا على الرُّوم قومة واحدة فكان كسرى محاصرًا القسطنطينية بنفسهِ وكان قائد من قواده محاصرًا بيت المقدس وآخر محاصرًا الإسكندرية والناس يفرُّون من وجه الفرس من كل صوب فلم تأتِ السنة الخامسة من حكم هرقل حتى استولى الفرس على القدس وفى الثامنة (سنة ٦١٨) دخلوا الإسكندرية واستولوا على مصر السفلى فلاقوا من أَهل الشام ومصر ترحابًا وارتياحًا لارتباطهم معهم ومع جندهم اللخميين برابطة الوطن الشرقي والعوائد الشرقية فلبثوا تحت نيرهم عشر سنوات ثم اشتغل الفرس بعصيان بعض ولاياتهم فضعف أَمرهم فاغتنم هرقل تلك الفرصة وحمل عليهم بجنده فأخرجهم من الشام ومصر وأعاد المملكتين إلى حوزة الرُّوم ولم يكد يستريح هرقل من هذه الحروب حتى جاءه المسلمون في أوائل الهجرة مفتتحين وهو لا يزال في سوريَّا وحصونهُ لا تزال متهدمة وجيوشهُ متبعثرة وسائر قواتهِ متضعضعة.
وكان بنو غسَّان تحت سيطرة الوالي الروماني المقيم بدمشق بأَمر إمبراطور المملكة الرومانية الشرقية المقيم في القسطنطينية فترد الأوامر الإمبراطورية من الإمبراطور إلى والي دمشق وهو يبلغها إلى ملك غسَّان.
وكان كرسي حكومة الغسَّانيين تارة في عمان بالبلقاءِ وطورًا في تدمر وأحيانًا في الجولان وتارة في بصري عاصمة حوران في ذلك العهد.
ففي نحو السنة السابعة للهجرة (٦٢٩) كان على الغسَّانيين في الشام ملكان في وقت واحد أحدهما الحارث بن أبى شمر والآخر جبلة بن الايهم وكان الحارث يقيم في بصرى وفى مكانها الآن قرية صغيرة اسمها اسكي شام أي الشام القديمة وسيأتي ذكرها وبجوار بصرى هذه دير بحيراء الذي نزل عنده أبو طالب ومعهُ ابن أخيهِ صاحب الشريعة الإسلامية يوم قدموا الشام للتجارة قبل ظهور الدعوة الإسلامية ببضع وعشرين سنة.
وأما جبلة فهو ابن عم الحارث المشار إليه وكان يقيم بالبلقاء.